الفلسفة خارج الجامعة

الفلسفة خارج الجامعة

من المعضلات التي تواجه خرّيج قسم الفلسفة في الجامعات العربية والغربية أيضاً هي عدم توافر فرص عمل حالي أو حتى في المستقبل المنظور لهذا الحقل العلمي. ويمكن في هذا الصدد أن أستدعي للمثال ما ذكره د. مراد وهبة (ولد عام 1926) أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس المصرية خلال لقاء تلفزيوني من أنه عندما أراد الانضمام إلى قسم الفلسفة في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) سنة 1944 فاجأه رئيس القسم - آنذاك - واسمه لامونت، وهو أستاذ للفلسفة اليونانية معار من أسكتلندا، بأن خريجي تخصص الفلسفة لا يجدون عملاً بعد تخرّجهم أو بتعبيره «مش هتشتغل»!

انحصرت الوظائف الخاصة بخرّيج الفلسفة - في أحسن الأحوال - في وظيفة التدريس بالمدارس - الثانوية بالطبع - أو بعض المعاهد والجامعات. وعلى الرغم من محدودية هذا المجال، فإن كون «الفيلسوف» أو خرّيج الفلسفة يمارس التعليم في مؤسسة تربوية يعدّ تطوراً حديثاً نسبياً في تاريخ الفلسفة.
في الواقع الذي أدركه، لم تبدأ الفلسفة - التي أبصرت النور في اليون ان حوالي القرن السادس قبل الميلاد - كمادة أكاديمية على الإطلاق، فقد كانت تعتبر في الأصل ممارسة/أسلوب حياة، أو وسيلة يمكن من خلالها مساعدة الناس على عيش حياة أفضل.
قد يكون كثير من السّداد، اللجوء إلى الفيلسوف «العمدة» سقراط (469 - 399 ق.م) كشاهد في هذا الصدد، إذ نلاحظ أنه اعتقد بوجود أنواع شتى من «المعرفة Knowledge»، المهمة منها والتافهة، وقد اعترف بأن أكثرية الناس يعرفون كثيراً من «التفاهات»، كما أن «الحِرَفي Craftsman»، مثالاً، يمتلك معرفة مهمة، وهي ممارسة حرفته، لكنها مهمة لنفسه فقط، وليس هذا النوع من المعرفة التي كان يطلبها سقراط أو يشير إليها. فقد قرّر أن أهم المعارف هي معرفة أفضل السبل للعيش.
ومع بداية العصر المسيحي، كتب الفيلسوف الروماني سينيكا (55 ق.م - 40م) في «رسائل إلى لوسليوس Lucilius» ما ترجمته: سوف أقول لكم ما تحمل الفلسفة للبشرية، إنه الإرشاد. فلما كان هناك شخص يواجه الموت، وآخر ساخط بسبب الفقر، كانت الحياة تعيسة، غير أنها وهي في طريقها للخراب مواتية لبعض المساعدة، وهي تبحث لك عن الأمل والعون.
غير أن لا أحد من الناس - تقريباً - من الذين يواجهون الموت والهلاك، أو من الساخطين والناقمين بسبب الفقر والحاجة، يتصوّرون أنه يمكنهم أن يجدوا بعض المساعدة، أو الأمل، أو حتى الراحة البسيطة إذا ما توجهوا لزيارة «فيلسوف» أو أستاذ فلسفة أكاديمي، فالفلسفة الأكاديمية (الجامعية) اشتهرت بأنها جافة، شائكة، تفتقر إلى التعاطف والإحساس الإنساني، وأنها أكثر اهتماماً بالمسائل المجرّدة والافتراضية/النظرية من مشكلات الحياة الواقعية/ المعقدة المعيشة، كما أنها أيضاً غير مبالية بشؤون فئات المجتمع المختلفة كالمرأة، مثالاً، وتركز بصورة عامة على القضايا التخصصية/التقنية. ولا يفوتني أن الفلسفة في الإسلام كانت تعاني هي أيضاً - ومازالت - من تلك النظرة الخامدة، ليس لدى الناس فقط، وإنما لدى المشتغلين فيها والمعنيين بها أيضاً. ومن ذلك، على سبيل العيّنة، ما جاء في اسم أحد مؤلفات ابن السيد البطليوسي (1052-1127م)، الذي عنونه بـ«الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة»!
إن ما يطلق عليه «ممارسة» الفلسفة في الكليات والجامعات - بالنسبة للجزء الأكبر منه - انتكس في جوف علم طافح بالمصطلحات التخصصية/التقنية، و«اللعب» بألعاب فكرية أو ما يبدو كذلك. إن أحد المواقف أو التصريحات «النموذجية» لفيلسوف أكاديمي في هذا الشأن قد يتمثّل - بموجب الفيلسوف الكندي بيتر رابي - في ما قاله الفيلسوف البريطاني برتراند رسل  (1872 - 1970م)، الذي ذكر في محاضرة له بولاية بوسطن الأمريكية سنة 1914 أن الهدف من الفلسفة هو الفهم «النظري» للعالم، وهي مسألة ليست ذات أهمية كبيرة للحيوانات، أو للمتوحشين، أو حتى لأكثر الرجال تحضّراً.

الفلسفة المستترة
إلى ذلك، ألفى عالم النفس السويسري كارل يونج      (1961 - 1875)  أن في التخلي عن الفلسفة «العملية» تطوراً مؤسفاً حقاً. ففي سبتمبر عام 1942، وخلال الخطاب الافتتاحي لمؤتمر علم النفس في مدينة زيورخ في سويسرا، وصف كارل يونج الفلسفة الأكاديمية - في إحراج صريح للأطباء والمحللين النفسيين المشاركين - بقوله ما ترجمته: أنا بالكاد أستطيع استخلاص الحقيقة المستترة، ذلك أننا كأطباء نفسيين ينبغي علينا أن نكون فلاسفة أو أطباء فلسفة بكل معنى الكلمة، على الرغم من أننا غير مستعدّين لقبول ذلك بسبب التباين الصارخ بين عملنا وما تمرّ به الفلسفة في الجامعات.
إن رأي كارل يونج السابق يلمح إلى أن الفلسفة ضلّت طريقها عندما توقفت عن كونها في خدمة الإنسانية، وحين تنكّرت لطبيعتها العملية، وعندما أصبحت شيئاً يقوم به الأكاديميون لأكاديميين آخرين فقط. لقد أدرك يونج أن الأطباء النفسيين عندما يساعدون مرضاهم على التعامل مع مشكلاتهم، فإنهم في الواقع يمارسون الفلسفة - بمعناها العملي بالطبع - ولكن لا يجرؤ هؤلاء الأطباء على تسمية أنفسهم «فلاسفة»، بسبب «السمعة السيّئة» - إذا جاز التعبير - التي اكتسبتها الفلسفة حول فائدتها وجدواها. في هذا الصدد، يطرح السؤال الآتي: لماذا كان على هؤلاء المهنيين الذين تم تدريبهم في علم النفس أن يمارسوا «الفلسفة» - بموجب يونج - مع مرضاهم في المقام الأول؟ لعل مما يلقي بعض الضوء على الجواب المناسب أنه في ذلك الوقت من تاريخ الفلاسفة كان هؤلاء غير راغبين - أو أغلبهم - في إسعاف ومؤازرة الناس العاديين للتعامل مع مشكلاتهم الإنسانية اليومية المعيشة.
ومما لا يقبل الإنكار، أن الفلسفة تعمل بصورة أفضل من خلال الفلاسفة - وربما بعد حين مع الباحثين الجادين في الفلسفة - ثم مع القليل من الفلاسفة المدرّبين على الممارسة يتم تعليم الفلسفة للطلاب بحيث يتمكنون في المستقبل من تدريس طلاب آخرين يكونون مدرّسين للفلسفة أيضاً، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، وكل ذلك يتم من دون أي ممارسة للفلسفة «العملية» الحقة/المنشودة. هذا هو الموقف نفسه الذي يحدث إذا أراد الأطباء تعليم الطب، كمثال، للطلاب الذين سيعلِّمون الطب - لاحقاً - بالصورة نفسها لطلاب آخرين، وهلم جرّا، من دون أن يأخذ أحد بعين الاعتبار ممارسة الطب في الواقع المعيش عبر معالجة الأفراد الذين يكابدون مجتمعهم وعيشهم.

طائل الفلسفة
لقد سبق أن ألمحتُ إلى أن فكرة وجوب أن تكون الفلسفة مفيدة من الناحية «العملية» ليست جديدة، فعديد من الفلاسفة العظام فهموا أن دور الفلسفة يتأتى في أن تمد يد المساعدة والسند لإخوتها في الإنسانية للتعامل مع الصعوبات التي تواجههم في حياتهم اليومية ودنياهم.
ومن النافع أن أستعير وصف الفيلسوف الإغريقي أبيقور (341 - 270 ق.م) للفلسفة - منذ أكثر من ألفي عام - بأنها «علاج الروح»، كما كان يؤكد أن الحجج التي يُدلي بها الفيلسوف عقيمة إذا كانت لا تُخفّف من معاناة الإنسان.
كذلك أوضح «الرواقيون  The Stoics» - بدءاً بالمؤسس زينو (334 - 262 ق.م) - أن الفلسفة ليست استظهاراً لنظريات مجردة، أو تأويلاً لبعض النصوص فقط، بل فنّ تعلّم العيش الكريم.
كما اعتمد الفيلسوف سقراط الفلسفة ليس لتعليم المفاهيم والمقولات، ولكن لتشجيع شركاء مناقشاته في طرح أسئلتهم وهواجسهم حول معتقداتهم وآرائهم وفحص تفكيرهم ومواقفهم حول كل قضية يمكن تخيّلها.
أما في التاريخ الحديث، فقد وبّخ الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 - 1900م)  الفلاسفة والمفكّرين في عصره، لأنه وجد أن الفلسفة قد تحوّلت إلى مهمة أكاديمية مملة، وذكر أنه كان ينتظر ما أطلق عليه «الطبيب الفيلسوف Philosopher Physician»، الذي يستجمع الشجاعة ويغامر لاقتراح أن ما كان على المحك في جميع مراحل «التفلسف» حتى هذه المرحلة لم يكن «حقيقة» أبداً، ولكنه شيء آخر، دعونا نقول: الصحة، المستقبل، النمو، القوة والحياة.
بــدوره تــــساءل لودفيـــك فتغــنشـــــتاين  (1889-1951م)،الفيلسوف الأكثر تأثيراً في القرن العشرين بموجب مجلة «تايم Time» الأمريكية، حول النّفع من دراسة الفلسفة إذا كان ما تفعله بالنسبة لنا هو تمكيننا من التحدّث إلى بعضنا بعضاً بصورة معقولة إزاء بعض الأسئلة المجرّدة في المنطق، على سبيل المثال، وإذا كانت لا تحسّن/تعزّز تفكيرنا حول الأسئلة المصيرية لعالمنا.
وفي هذا الموضوع أيضاً، كتب جون ديوي (1859 1952-م)، الفيلسوف الأمريكي صاحب التقدير الكبير في مجال التربية والتعليم، في وقت مبكّر من القرن الماضي، أن الفلسفة من شأنها أن تظهر قيمتها «الحقيقية» فقط عندما تتوقف عن أن تكون جهازاً للتعاطي مع مشكلات الفلاسفة، وتغدو منهجاً/وسيلة - تُنمّى من لدن الفلاسفة - للتعامل مع مشكلات البشر.
وإغْناء لهذا الموضوع أيضاً، يرى الفيلسوف الفرنسي المعاصر لوك فيري Luc Ferry (ولد عام 1591م) أن في الفلسفة ما يساعد على قهْر المخاوف التي تشلّ الحياة، علماً بأن تعلُّم الحياة، وتعلّم عدم الخوف من مختلف أوجه الموت، كانا مسبقاً الهدف الأول لمدارس التاريخ اليوناني القديم، ورسالتها التي تستحق الإصغاء.
لا يعدو ما سبق ذكره أن يكون دعوة لـ«محبّي الحكمة» في كل مكان لأخذ زمام التحدي وإخراج الفلسفة من حصْرها في قاعة المحاضرات وتقديمها إلى العالم «الحقيقي» المعيش. وعلينا ألا نغفل عمل الفلسفة «الصحيح» - في ظني وآخرين أيضاً - وهو مساعدة الأفراد لمواجهة شطر من متاعبهم على الأقل، أو بعض المسائل التي تبعث فيهم القلق. ويبقى بعد ذلك، أن من واجبها - أي الفلسفة - أن تعلّم الناس - عبر الفلاسفة أو «المستشارين الفلسفيين» - أنهم قادرون على حل كثير من مشكلاتهم يوماً بعد يوم من تلقاء أنفسهم، أو بمساعدة آخرين من ذوي «الوعي» الفائق.

دُرْبة فلسفية
إن دور الفلسفة يتضح أكثر عندما تصبح المشكلات معقدة جداً، فعلى سبيل الشاهد، عندما يبدو أن هناك صراعاً بين القيم أو المواقف الأخلاقية، أو عندما تظهر «الحقائق» متناقضة، أو عندما يصبح العقل - في مواجهة مشكلة ما - محاصراً داخل دائرة، أو حتى عندما تبدو الحياة - بشكل غير متوقّع - بلا معنى أو غير منصفة...إلخ، في كل هذه الحالات وأكثر، يمكن للفيلسوف أو لـ«الممارِس الفلسفي»، أو لـ«المستشار الفلسفي» أن يكون أكثر جدوى، نفْعاً وعوْناً من الصديق، أو حتى من أحد أفراد الأسرة.
إن «المشورة الفلسفية» - التي أرنو أن «تتوقعْن» في حياتنا الكويتية/العربية المعاصرة في القادم من الأيام - لا تذهب مباشرة إلى مُهجة القضية الفلسفية، أو إلى المخاوف التي ليست ذات اهتمام مشترك بين الناس فقط، ولكن أيضاً إلى الأمور ذات الأهمية الشخصية لفرد معين من الأفراد. إنها - أي المشورة الفلسفية - تقدّم أفضل المعلومات النظرية المتاحة، بالإضافة إلى الأسلوب الحيوي الأكثر عملية للمشكلات غير الأكاديمية للأفراد الذين يبحثون عن السند تجاه الصعوبات والكثير من التحديّات في واقع حياتهم الخاصة/المعيشة. ولأن «المستشار الفلسفي» لا يشخّص المشكلات الفلسفية على غرار المرشِد/الاختصاصي النفسي، فإنه قادر على تقديم «مشورة فلسفية» أكثر فائدة في بعض الحالات من كثير من أشكال العلاج النفسي. من زاوية النظر هذه، جدير بالذكر أن تعامل «المستشار الفلسفي» مع بعض المسائل «العاطفية Emotional» وما إليها، لا يعني أبداً أنه لا يقوم أو يمارس الفلسفة «الحقيقية»، فكل سؤال يطرحه «المستشار الفلسفي» على «المريض»، المراجع/القلق، كما أن كل اقترح يتم إعلام «المريض» به يعزِّز الخبرة الفلسفية في هذا الصدد، مثل تلك التي تنشأ بين الزملاء في المعهد أو الجامعة.
إن «الاستشارة الفلسفية» (ممارسة الفلسفة عبر الإرشاد الفلسفي)، لا تحل محل الفلسفة الأكاديمية، أو بديلاً عن المحاضرات العلمية في الفصول الدراسية أبداً، بل هي «تعاونية Collaborative»، أي حوار خلاّق بين شخصين، أحدهما المستشار الفلسفي الذي تدرّب على نطاق واسع وبشكل مكثّف في التاريخ والممارسة الفلسفية على حد سواء، أما الآخر فهو «المريض»، الذي يرغب في الاستفادة من هذه الخبرة، فهدفه النهائي تحسين حياة هذا المراجع/القلق.
وعلى عكس التعليم في الفصول الدراسية الأكاديمية، فإن تقديم «المشورة الفلسفية» ليس معنياً في المقام الأول بالنقل المباشر للمعارف من الخبير (المستشار الفلسفي) إلى المبتدئ (المريض)، أو من «العارف» إلى «طالب المعرفة»، لكن هناك أوقاتاً عندما يريد «المريض» أن يتعلّم من «المستشار الفلسفي» بعض الأمور، مثل مهارات التفكير النقدي والإبداعي، أو ما قاله الفلاسفة العظام حول مجموعة من القضايا المختلفة، أو كيفية اتخاذ قرار أخلاقي، أو صحة اعتناق هذه العقيدة (دينية، سياسية...) أو تلك، وغيرها من شؤون الدنيا الكثيرة، فإن «الاستشارة الفلسفية» تصبح حينها نوعاً من التدريس والتعليم عندما تُشدّد على تبادل القدرات/الهمّة والمعلومات .