عزيزي العربي

عزيزي العربي
        

جرْحُ انتظاري..

كنافذةٍ مفتّحة..
فهل في العمرِ بقيّة؟
كي أشرب النسيانَ والقهوةَ
وحبوب الضغطِ كي أقوى
فألقي على الأطفالِ حلوى..
أو تحية!
بينما شَعري..
يشربُ الشيبَ كلَّ ليلة
ويغيبُ في ثلجِ انتظارٍ لعيونٍ عسلية؟
عد إلينا يا عزيز الدارِ كي..
يتسلّقُ الياسمينُ جدارَ قلبي فيعود حيّا
عد إلينا بالندى..
كي تتبلّلُ الأوقات بالأفراحِ
وأعود صبيةً!

نوار سكجها
عمان - الأردن

تقدم الأمم يقاس بتقدمها العلمي

          الأستاذ الدكتور سليمان إبراهيم العسكري - رئيس تحرير مجلة العربي..

          تحية طيبة وبعد..

          أقدّر جهودكم الجبّارة في بناء وصياغة مجلة العربي الرائعة وفي تنوّع مواضيعها، حيث تمثل هذه المجلة مرجعًا لكثير من الباحثين العرب والبؤرة التي عندها يلتقي المثقفون العرب وسط التحديات العالمية الصعبة، خصوصًا في جانب التقدم العلمي والبحث العلمي والابتكار.. إنني معجب بما تستهل به مقدمة «العربي» والملحق العلمي في الحديث عن جانب الابتكار العلمي، وأثمّن عملكم الدؤوب لإبراز جانب التقدم العلمي والابتكار، واعتبار تقديمه على الأهداف الأخرى، وأعيش الحزن لتأخر الاكتشافات والابتكارات العلمية في العالم العربي، باعتبار أنه لا تقدم للأمة إلا بتقدم الجانب العلمي أولاً وخلق الإبداع والابتكار العلمي، وهذا معيار رئيسي لتقدم الأمم.

          إنني على يقين بأن هناك في الدول العربية عيونا متطلعة للمستقبل وعقولاً واعدة وحبا للإبداع، وهذا شيء فطري وهي مستعدة للعمل الجاد إذا تمت تهيئة الظروف المناسبة والمدروسة من قبل الدولة والتخطيط الدقيق والسليم الصادق وإظهار الحقيقة، وبعيدًا عن الاستغلالية وابتزاز الأفكار.

          ويتطلب ذلك تسخير الإمكانات العالية لتربية الشباب وخصوصًا في مرحلة الطفولة، والطفولة المبكّرة نفسيًا وخلقيًا وجسديًا، وذلك لكي تشق هذه الطاقات طريقها بشدة وبصورة أسرع وسط الابتكارات العالمية المذهلة والمزدحمة، خصوصًا ونحن حملة قرآن ومبادئ وأخلاق إسلامية سامية وراسخة.

موسى محمد علي المصباحي
الحديدة - اليمن

تعقيب على مقال «العاكفون على شعر شوقي»

          سعدتُ كثيرًا بمقالة الأستاذ وديع فلسطين التي نُشرت في العدد 629 (أبريل 2011) من مجلة «العربِي» الغراء، والتي حملت عُنوان: «العاكفون على شعر شوقي.. مسرحية «عروس فرعون» المنسوبة إلى روحه»، وأنا حريص منذ سنوات طويلة على قراءة كل ما يكتبه الأستاذ الكبير وديع فلسطين، سواء في مجلة الهلال أو «العربي» أو غيرهما، نظرًا لما تتضمنه مقالاته من أحداث تُعدُّ من تاريخنا الذي سكتتْ عنه كتبُ التاريخ، فقد عاصر أعلاما كثيرين كان لهم دورٌ كبيرٌ في أحداث أمتنا العربية، بالإضافة إلى أسلوبه الأدبي الرفيع.

          في مقالته سالفة الذكر تحدَّث الأستاذ وديع فلسطين عن طبعات الشوقيات، وذكر أن «الشاعر محمود أبو الْوَفَا (ت 1399هـ - 1979م) اضطلع بالإشراف على الجزء الثانِي من الشوقيات، غير أن الأستاذ محمد سعيد العريان (ت 1384هـ - 1964م) - وكان له نُفُوذٌ لدى المطبعة - انتزع من أبو الْوَفَا هذا التكليف، وأشرف على الأجزاء التالية من الشوقيات». ومن المعروف أن الجزأين الأول والثاني صدرا في حياة شوقي، وصدر الجزء الثالث بإشراف محمود أبو الْوَفَا، وصدر الجزء الرابع بإشراف محمد سعيد العريان. يعرف هذا من يقرأ «الإيضاح» الذي كتبه محمود أبوالْوَفَا في نِهاية الجزء الثالث من الشوقيات، ومن يقرأ «المقدمة» التي كتبها محمد سعيد العريان للجزء الرابع من الشوقيات.

          ومع الأسف الشديد خلت الطبعاتُ التي تلت الطبعة الأولى والثانية للشوقيات من المقدمة التي كتبها شوقي للجزء الأول، واكتفتْ بمقدمة الدكتور محمد حسين هيكل (ت 1376هـ - 1956م)، ولم يتعرض الأستاذ وديع فلسطين لهذا الأمر، وقد اعتنى بنشر هذه المقدمة الدكتور طه وادي (ت 1429هـ - 2008م) في كتابين له عن شوقي، أولهما: «مختارات من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي» (ص 101-130)، وثانيهما: «أحمد شوقي والأدب العربي الحديث» (ص 124-156).

          وقد احتفظتْ طبعتان للشوقيات بِهذه المقدمة، أولاهما: طبعة الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان، حقَّقَها وبَوَّبَها وضبطها وعلَّقَ عليها الدكتور: علي عبدالمنعم عبدالحميد، وهي في مجلد واحد ضخم، وقد صدرت سنة 1999م. وقد أشاد بِهذه الطبعة الشاعر الكبير فاروق شوشة في كتابه «زمن للشعر والشعراء».

          وثانيتُهما: طبعة مكتبة الآداب بالقاهرة، وهي طبعة حديثة، صدرت سنة 2009م، وهي أيضا في مجلد واحد ضخم، دقَّقَ هذه الطبعة: محمد فوزي حمزة. وقد جمعتْ هذه الطبعة بين «الشوقيات» و«الشوقيات المجهولة». ولم يذكر الأستاذ وديع فلسطين هاتين الطبعتين.

          أما «الشوقيات المجهولة» التي جمعها الدكتور محمد صبري السُّرْبُونِي (ت 1398هـ - 1978م)، والتي صدرت في 1961 أو 1962م، فهي يدٌ لا تُنسى مدى الدهر للسُّرْبُونِي على تراث أحمد شوقي. بيد أن السُّرْبُونِي حذف من بعض القصائد بعضَ أبياتِها، مثل قصيدة «عيد الفطر، الشوقيات المجهولة 1/ 87»، وقد نُشرت فِي جريدة الأهرام، فِي 4 مارس سنة 1897م. وقد ذَكر السُّرْبُونِي أن القصيدة ثلاثون بيتًا، حذف منها أبياتَ المديح! وذكر سبعة عشر بيتًا منها فِي «الشوقيات المجهولة». وهذه القصيدة خاصة ومعها قصيدة أخرى بعُنوان: «وداع ودعاء، الشوقيات المجهولة 1/ 243» لهما أهميةٌ كبيرةٌ في شعر شوقي نظرًا لكونهما على «بحر المديد»، وهو بحرٌ عُرف عن شوقي أنه لم يكتب عليه أي قصيدة. وقد أحسن القائمون على سلسلة «ذاكرة الكتابة» - التي تُصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة - صُنْعًا، حين أعادوا نشر «الشوقيات المجهولة» في طبعة ثانية مصورة عن الطبعة الأولى، سنة 2003م، وذلك بعدَ مُضِيِّ 42 عامًا على صدورها. فرَوَوْا بذلك ظمأ الكثيرين من مُحِبِّي تراث أحمد شوقي.

          وقد أشار الأستاذ وديع فلسطين إلى طبعة الدكتور أحمد الحوفي (ت 1403هـ - 1982م) للشوقيات، بيد أن هذه الطبعة - مع الأسف - بِها خطأ لا يُغتفر، وهو أن الدكتور الحوفي غيَّرَ عنوان «الشوقيات» إلى «ديوان شوقي»، وهو تغيير غير مقبول، إذ كيف يُغَيَّرُ عنوانا وضعه الشاعرُ بنفسه؟! وهي تسميةٌ «لا تُخَالَف»، كما قال شوقي في مقدمته التاريخية للشوقيات. فقد أشار الأمير شكيب أرسلان (ت 1366هـ - 1946م) حين التقى شوقي في باريس إلى تمنيه على أمير الشعراء أن يسمي ديوانه بِـ «الشوقيات». وقد ذكر شوقي قصة هذا اللقاء في مقدمته، فقال: «جمعتني باريس في أيام الصبا بالأمير شكيب أرسلان وأنا يومئذ في طلب العلم، والأمير - حفظه الله - في التماس الشفاء، فانعقدت بيننا الألفة بلا كلفة، وكنت في أول عهدي بنظم القصائد الكبرى، وكان الأمير يقرأ ما يَرِدُ عليه منها منشورًا في صحف مصر، فتمنَّى أن تكون لي يومًا مجموعة، ثم تمنَّى عليَّ إذا هي ظهرتْ أن أسميها الشوقيات... هذا أصلُ التسمية، سبقتْ به إشارةٌ لا تُخَالَف، ودَفَعَتْ إليه طاعةٌ واجبة، وأنا بين هاتين هدفٌ للقالِ والقِيل، يُظَنُّ بِي نسبةُ الأثر الضئيل إلى الاسم القليل».

          ويعلِّق الأستاذ فاروق شوشة على هذا التغيير قائلا: فإذا كانت «الشوقيات» هي التسمية التي ارتضاها شوقي - نزولا على رغبة شكيب أرسلان - لديوانه، فكيف يجوز تغييرُها، أو استبدال عنوان آخر بِها، والديوان قد اقتحم ذاكرة التاريخ وتداوله الناس جميعا باسمه الحقيقي «الشوقيات»؟! (زمن للشعر والشعراء، ص 344).

          بل إن الدكتور الحوفي غَيَّرَ عناوين كثير من القصائد التي سَمَّاها شوقي باسْمها وارتضى لها هذه الأسماء! وقد أشار إلى هذا الأستاذ فاروق شوشة في كتابه «زمن للشعر والشعراء، ص 344، 345» وقال: «فهل نحن - معشر الدارسين أو القراء - أدرَى من شوقي بحقيقة ما كان يريده لقصائده من مسميات؟ وهل من حقنا أن نسميها بما يتلاءم مع ذوقنا نحن واجتهادنا دون نظر أو اعتبار لما صنعه شوقي نفسه؟».

          وللشوقيات طبعة ثالثة لم يذكرها الأستاذ وديع فلسطين، وهي الطبعة التي أخرجها الأستاذ إبراهيم الأبياري (ت 1414هـ = 1994م)، ونشرَتْها مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة في 1982 أو 1983م.

          أما مسرحية «عروس فرعون» التي أملتها روح شوقي على وسيطة الإلهام السيدة حرم الدكتور سلامة سعد، (كُتب في المقالة: سعيد)، فقد قرأتُها للمرة الأولى أواخر عام 1996م، كنت حينذاك في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية، وقد تعجبتُ منها كثيرًا، وهي - كما يقول الدكتور رءوف عبيد الذي كتب عَرْضًا وتحليلا للمسرحية - «تَحَدٍّ كاملٌ» لمنكري الإلهام الروحي، بيد أن المسرحية بِها بعضُ الكسور العروضية، وسببُها - كما قال الشاعر العَوَضِي الوكيل (ت 1404هـ - 1983م) في تعليقه على المسرحية - وَهْمُ النقل وخطأُ الاستماع. وفي تعليقه على المسرحية يقول الشاعر الدكتور علي الجندي (ت 1393هـ - 1973م): «والذي لا شك فيه أنه لا يُمكن لأي شاعر مهما علا كعبُه - فضلا عن السيدة الوسيطة المحدودة الثقافة - أن يقلِّد شوقي بِهذا الشعر أو يأتي بما يُشبهه. وليس هناك ما يدعو سيدة جليلة إلى تحمُّل هذا العناء، وكان الأفضل مثلا أن تنسبه إلى نفسها فإنها تكسب بذلك شرفًا عظيمًا وتكونُ أشعرَ شاعرةٍ في هذه الأمة».

          وقد ذكر الأستاذ وديع فلسطين بيتين من المسرحية، وهما آخر بيتين فيها، وهما:

سَأَرْعَى الأَمَانَةَ حَيْثُ أَسُوسْ
                              وهَيْهَاتَ أُشْعِلُ حَرْبًا ضَرُوسْ
سَأُبْقِي السَّلامَ لأَمْنِ النُّفُوسْ
                              بِهَذَا سَيَهْنَأُ قَلْبُ الْعَرُوسْ

          وقد ورد الشطرُ الأوَّلُ من البيت الأوَّل - في المقالة - مكسورًا «سأرعى الأمة»، والصوابُ ما ذكرتُ، كما جاء في المسرحية.

محمد أحمد المعصراني
القاهرة مصر

مأساة العراق

          رسالة حزينة وصلتنا من البروفيسور حامد رمضان مسافر وهو أستاذ في كلية الملكة إليزابيث بالعاصمة البريطانية لندن يناجي فيها وطنه العراق ويبث هموم واقعه وحال الغربة في لندن لقراء «العربي»، ننشر أهم ما جاء فيها : لقد ضاقت بنا الدنيا في بلدنا فتركناه وتركنا أحلامنا وآمالنا تضيع ككثبان رمل تجتاحها عواصف هوجاء، فيا لبؤسنا ويا لحزن مراكبنا حين غادرت المرافئ ويا لحزن النخيل وهو يودعنا ذابلا بعد أن جفت دموع مآقينا وانتحرت الحسرات في صدورنا فكيف يعيش عراقي بلا حسرات؟!

          لندن أنت جميلة لكن أين جمالك من حزن عراقي بلا أنين ووجع عراقي بلا تنهدات.. أين أنت من ظلمة قاتمة نورها فجر كاذب كل مرة نظن أنه سيشرق لكنه يزداد عتمة وكأننا ننتظر كودو الذي لم يأت في مسرحية بيكت الشهيرة بانتظار كودو وبقينا ننتظره وننتظر الخلاص الذي لن يأتي؟

          الله أكبر كيف يجوع الناس في بلد به أكبر احتياطي للنفط في العالم؟ لماذا تموت الزهور العراقية قبل أن تتفتح وقبل أن ترى النور؟ لماذا يحجبون الشمس بأكاذيبهم ويبيعون هواء الله وماءه للفقراء والمحتاجين؟ أي دين هذا الذي يجمع رجاله الذهب والفضة لهم ولأحفاد أحفادهم ويحرمون حتى التراب عن موتانا؟! لماذا الحزن يتبعه حزن أشد منه والألم يتبعه ألم أمض من سابقه؟ لماذا تاهت القيم وضاعت المسافات وغرقت الآمال؟ لماذا جفت السواقي وسكتت حتى اغاني الحزن في دجلة والفرات وشط العرب؟ لماذا نسمي السارق شريفًا والأمين لصًا؟ ألا يوجد في العراق رجال مثل آبائنا وأجدادنا ماتوا ولم يدخلوا لبيوتهم فلسا حراما وبقي من بقي يحلف بأسمائهم؟ القلب موجوع والروح ماتت روحها فهل لي من مرفأ أستريح فيه قبل الغروب؟ صراحة أحبكم كلكم أيها الصامدون بوجه أشباح الغربة ورزايا الزمن، أنتم أمل لا يخيب، وضوء لن يخبو بإذن الله لبلادي الحبيبة التي استباحتها الذئاب وتنوح في أطلالها غربان اليوم.

تأمّلات في ثورة الكرامة في تونس

          مثّل الرابع عشر من يناير نقطة تحوّل تاريخي في سيرورة المجتمع التونسي، فقد نجحت حركة الاحتجاج الجماهيري على نظام القمع وآلة الاستبداد في الإطاحة برأس الديكتاتوريّة في تونس، وقد دفعته صيحاتُ الجماهير، وأصوات الشّعب، ودماء الشّهداء الزكّية الطاغية إلى الهروب من البلد برفقة عدد من أفراد عصابته، غير مبال بمصير النّاس، وغير آبه لمستقبل البلد، فكلّ آماله كانت معلّقة بالحفاظ على ثروة جمعها من عرق المتعبين، ومن إفقار المعدمين، ومن كدّ الكادحين وأموال المواطنين، لذلك فرّ إلى غير رجعة، يطلب مأوى يقيه انتفاضة شعب عانى الويلات، وتوزّعت نُخَبُهُ الحيّة بين السّجون والمنافي، وقوارب الموت والمقاهي، وأروقة جهاز إداري نخرته أدواء الفساد والرّشوة والمحسوبيّة، فعلى مدى عقود من الزّمن هُمّش أصحاب الكفاءة وانتشرت البطالة، وعمّ النّاسَ شعورٌ بالإحباط والإحساس بالضّيم بلغ درجة الإعلان عن إضرابات الجوع، وحرق الجسد احتجاجا على نظام همّش الإنسان، وعدّ أعوانُه البلدَ مزرعةً يعيثون فيها فسادًا صباح مساء.

          وكان أن واكب الإحساسَ بالقمع وعيٌ تاريخي بخطورة الظّلم وتوق أكيد إلى العدالة وشوق عظيم إلى الحرّية واسترجاع الكرامة وإقرار الحقّ في العمل، فقد أنتج استمرارُ القمع الثّورة على القمع وعلى رموزه، وولّد الكبتُ الانفجارَ، وتَرجمت ذلك عمليّا ثورة الكرامة التي أسّست لمرحلة جديدة في تاريخ المجتمع التونسي خصوصا، والمجتمع العربي عموما.

          والواقع أنّ الدّارس الموضوعي للثورة المباركة يمكن أن يتبيّن عدّة سمات وملامح وسمت هذا الحدث التاريخي، وجعلته علامة فارقة في المشهد العمراني التونسي، فقد بدأت انتفاضة النّاس بمبادرات فرديّة وصرخات احتجاج في وجه آلة القمع لتتطوّر تدريجيّا إلى حركة احتجاج جماعي، فقد التفّت جموع التونسيّين حول قضيّة محمّد البوعزيزي وغيره من أبناء تونس المهمّشين، وانتقلت المطالب بطريقة واعية وتلقائيّة من كونها قضيّة فرد إلى كونها قضيّة جيل، بل قضيّة مجتمع بكامله، لا يروم تحقيق التنمية الجهويّة وتفعيل الدّورة الاقتصاديّة وضمان القوت اليومي والشّغل فحسب، بل يروم لتأسيس دولة الحقّ والواجب، وإرساء دولة المواطنة والحقوق المدنيّة، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وبذلك انطلقت االثورة من رحم الشّعب، ونطقت بهواجس النّاس وأحلامهم، وعبّرت عن طموحهم إلى إرساء دولة يُعامل فيها النّاس على أنّهم مواطنون لا رعايا، وعلى أنّهم فواعل حيّة لا مجرّد أدوات أو دُمًى يحرّكها السّلطان. ومن ثمّ، فقد كانت حركة الشّارع حركة نابعة من الدّاخل لا مُسقطة من الخارج، وزاد في صِدْقِيَّتِها أنّها حركة شعبيّة، تنطق بهموم النّاس على اختلاف انتماءاتهم الفكريّة والاجتماعيّة والعمريّة والطبقيّة والسياسيّة، فقد نجحت ثورة الكرامة في الاستجابة لنبض الشارع، ووسّعت أفقها المطلبي من المطالبة بالشّغل والعدالة الاجتماعيّة إلى المطالبة بالحرّية والكرامة والدّعوة إلى محاسبة رموز الفساد والاستبداد، والمطالبة برحيل الديكتاتور فورا، وبإلغاء دولة الحزب الواحد وتأسيس مجتمع ديمقراطي تعّددي تفاعلي للإنسان فيه مكان.

          ومن العلامات الواسمة لثورة الكرامة في تونس أنّها حركة احتجاجيّة سلميّة، حرص المشاركون فيها على المطالبة بالحقوق مع تلافي كلّ أشكال العنف، وإلحاق الضّرر بالآخر، فقد واجه المتظاهرون الجيش بالزّهور، وواجهوا الشّرطة والقنّاصة وأعوان مكافحة الشّغب، والغاز المسيل للدّموع والرّصاص المطّاطي والرّصاص الحىّ بصدور عارية وأصوات عالية تقول: لا... لا لبن علي... لا للدّيكتاتوريّة، فأُريقت دماؤهم من أجل تونس الحرّة، وسقطوا شهداء في سبيل عزّة هذا الوطن وكرامة أبنائه، وهو ما نمّ عن الحسّ النّضالي للتونسي، ورقيّ سلوكه الحضاري، وحرصه على التمييز بين التّخريب والرّغبة في التّغيير من أجل البناء والتّعمير ومن أجل العدل وحرية التّعبير، فكان المتظاهرون على درجة عالية من الإحساس بالمسئوليّة، لذلك تفادوا الإضرار بالممتلكات العامّة، وتفادوا الوقوع في مطبّ الاستفزاز البوليسي، أو في أتون الاستفزاز الصّادر عن ميليشيات النّظام المستبدّ. فكان أن زاد الطّابعُ السّلمي للثورة من تعاطف النّاس معها، ومشاركتهم فيها والتفافهم حولها وطنيّا وعربيّا وعالميّا. وأكّد تشكيل اللّجان الشعبيّة أيّام الثورة حرص التونسيّين على التكاتف والتضامن، ورغبتهم في استتباب الأمن وحرصهم على التعاون من أجل الصالح العامّ، فتعارفوا وتآلفوا وتقاربوا وتآزروا، وانمحت بينهم الفوارق الحزبيّة والطبقيّة والجهويّة والفئويّة، ممّا مثّل سندا شعبيّا للثورة، وشرّع لانتشارها في كلّ نواحي البلاد من أقصاها إلى أقصاها.

          ومن الخصائص المميّزة لثورة تونس قدرة المشاركين فيها على هتك جدران التّعتيم الإعلامي وحملات التّشويه التي شنّتها أبواق دولة العنف المنظّم على المحتجّين، فقد وظّف التونسيّون التقنيات الرقميّة وفضاءات التواصل الاجتماعي على الشبكة ممّا جعل المواطن الإلكتروني في كلّ أصقاع العالم على بيّنة ممّا يحدث على أرض الوطن العزيز، فكشفوا ألاعيب الطاغية وزبانيته، وفضحوا ممارساتهم القمعيّة ضدّ مواطنين عزّل طالبوا بحقّهم في الحرّية والعيش الكريم، فأصبح كلّ مواطن مراسلا متطوّعا لوكالات الأنباء عبر العالم، ويكفي وجود هاتف جوّال وحاسوب لتفكّ شفرة التّعتيم، وتهزم سياسة الكذب المنظّم لنظام استبدادي مفلس. وقد ألهم وهج الانتفاضة المبدعين في تونس وخارجها، فتعدّدت أشكال التّعبير، وتطوّرت من الرّاب الثائر إلى الأغاني الملتزمة مرورا بالكاريكاتور والقصائد ولوحات الرّسم ولقطات الفيديو المعبّرة عن هموم النّاس، ومشاغلهم ومعاناتهم، وصرختهم المدوّية في وجه آلة القمع. لذلك فقد كان لاستيعاب التونسيّين للثقافة الرقميّة ونسبة تعلّمهم العالية دور كبير في توظيف وسائل الإعلام وتقنيات الاتّصال الحديثة لخرق جدران الصمت وفضح دولة القمع، ونشر نور الثورة في كل مكان.

          لقد ضحّى التونسيّون بالغالي والنّفيس، بالدّم والمال والعرض والرّوح والعقل والجسد والولد من أجل تحرير تونس الخضراء وضمان عزّتها وكرامتها. لذلك من المهمّ بمكان أن نحافظ على هذه الثورة وعلى روحها الحيّة، وعلى منجزاتها الرّائعة تأسيسًا لعصر أنوار جديد.

          لكن ما السّبيل للحفاظ على مكاسب الثورة؟ وما آليّات الانتقال السّلمي نحو الديمقراطيّة؟ وكيف يمكن أن نبني دولة الأنوار؟

          هذه أسئلة أخرى هي مشروع نصّ آخر.

أنور الجمعاوي
أكاديمي من المعهد العالي للإنسانيات
قفصة تونس

العولمة منحت القوميات والمذاهب أوكسجينًا

          تعقيبًا على افتتاحية «انفجار العالم العربي» لرئيس تحرير «العربي» الدكتور سليمان إبراهيم العسكري - «العربي» العدد 631 - يونيو 2011 - عندما بدأت الأنظمة العربية بالسقوط، لم يكن يعني ذلك أن العالم العربي يتحول من الفكر القومي والإثني والمذهبي والطائفي إلى عالم أكثر إدراكًا ووعيًا في عصر العولمة. فلو راجعنا بعض الثورات العربية لوجدنا أنها شبيهة بتلك التي تقوم اليوم، فثورة العراق عام 1920 ضد بريطانيا وقف المسلم السني والشيعي والكردي إلى جانب التركماني والآشوري والمسيحي، وانتفاضة لبنان ضد الانتداب الفرنسي عام 1943، وقف الكتائبي المتطرف مسيحيًا إلى جانب النجادة المتطرف إسلاميًا إلى جانب القومي السوري ضد الفرنسي، وثورات مصر على أيدي أحمد عرابي 1882 وسعد زغلول عام 1919 وجمال عبدالناصر عام 1952 كان المسلم والقبطي جنبًا إلى جنب، ولكن السؤال هنا: ما نتيجة هذه الثورات؟ هل وحدت المذاهب والطوائف والقوميات؟ وحدتهم مؤقتًا ضد قوة لم تحسن التعامل معهم، وأساءت التصرف وحكمت حكمًا ديكتاتوريًا مستبدًا لا يختلف عن حكم السلطات الفاسدة اليوم، إلا بالشكل والخلفية. ولكن الذي خلف المسرح الأصابع نفسها التي صنعت الانتداب ومن قبله الاستعمار، وهي نفسها التي صنعت رجالات الثورة! هؤلاء الذين تمردوا على شعبهم وأعادوا الاستعمار والانتداب بثوب الحكومة الوطنية، ولكن المستبدة. تعالوا لنتناقش في الوقائع، لو قبلنا بفكرة «المؤامرة»، فنحن الشعوب العربية نؤمن بـ «المؤامرة» دائمًا. ألم تكن الثورات العربية تطورا نوعيا رافق نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط هيبة دول الاستعمار بعد معركة دانكرك ودخول ألمانيا باريس 1940؟ أليس هذا موازيًا لثورة المعلوماتية من ناحية تشكيل صدمة للشعوب جعلتها تنتفض على الواقع وتسقط «خيال المآتي». هذا الذي هو شكل مستعمر ومنتدب وبثوب حكومة وطنية؟

          على الرغم من كل هذه الثورات بقي الكردي يريد الانفصال، والمسيحي يخشى المسلم.. فلا الثورات في أواسط القرن العشرين جمعت بشكل دائم المتفرقين كما لم تجمعهم ثورات بدايات القرن الواحد والعشرين. وها نحن نشاهد ما يحصل في مصر ولبنان والعراق والسودان. بل انظروا جيدًا إلى تهجير المسيحي من أرضه، إلى أين ولماذا؟ القصة أكبر من مجرد ثورات والوحدة العربية بالموزاييك الموجود اليوم أصعب من أن تخلق شعبًا موحدًا بوجود قوميات وطوائف لا تقبل بعضها بعضًا. وعصر العولمة يبدو أنه أعطى أوكسجينًا للقوميات والمذاهب على حساب الوحدة الوطنية لا العكس، لذلك سنشهد نموًا للقومية والتعددية المذهبية والطائفية، وهو ما لم نتهيأ له، لأننا أصبحنا بعيدين عن فكرة ما بعد العولمة، فنحن مازلنا نعيش الساعة والدقيقة واللحظة، ولا ننظر إلى الغد وما بعده وهو ما سوف يدهشنا على ما يبدو.

د. طارق شمس
النبطية - لبنان