وتنهال ذكريات الأحزان...

وتنهال ذكريات الأحزان...

في حديثنا لهذا الشهر، شهر أغسطس، نسترجع ذكريات الأحزان، وتفكك الصف العربي في أثناء الغزو الغاشم على الكويت، وتشتت الشعب الكويتي هنا وهناك... نسترجع الذكريات لتكون لنا مثلاً للصبر والصمود، والأمل والرجاء، والإيمان برحمة الله الذي أنزل السكينة على قلوب المظلومين... نسترجع الذكريات عبرة لذكرٍ آتٍ من التفكك والشتات، وندعو الله أن يرزقنا الصبر والثبات. 

منذ أن ولّى ذاك الاحتلال المشؤوم وحُرقت آبار النفط، ظلت الغمامة السوداء في السماء تحجب ضوء النهار لتغدو أيامنا كلها ليلاً وظلاماً، ولكن:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة 
فــــلا بــــدّ أن يسـتجـــيـب الـــقدر
ولا بـــدّ للـــــيــــل أن يــــنـــجـــلي 
ولا بـدّ للقـــيـــــد أن يــــنـكــــسر
عاد الشعب الكويتي كما كان، يبني صروح المجد بأنفاس الأمل، وعادت الدولة وعاد الحبّ. تلك دعوة الأوطان، تطرد الأحزان وترسخ الإيمان والأمان، نُذّكر بها الأحباء في كل مكان، ونخصّ فيها سورية والعراق واليمن، ونقول لهم إنّ لكم إخوة لم ولن ينسوكم، وهم دائماً معكم، يشاركونكم آلامكم وأحزانكم، {فإنّ مع العسر يسرا، إنّ مع العسر يسرا} . 
إن الألم العظيم الذي يعانيه الجريح العربي ليس ألم الجرح، إنما هو ألم العذاب الذي تجرعه من أهله وناسه في الوطن والانتماء، ليصبح غريبا مشرداً... 
وحيد من الخلان في كل بلدةٍ
إذا عظم المطلوب قلّ المُساعِدُ
وكم من ضحايا وثكالى وأيتام، تلك هي الحروب لا تخلف سوى الآلام والذكريات الحزينة، فطوبى لمن استشهد وطوبى لمن شُرّد وطوبى لمن صبر.
ربع قرن من الزمان مضى على غزو الكويت، واليوم، صيفنا لاهب وخريفنا عاصف وشتاؤنا حزين وربيعنا شؤم، أيُّ ربيع عربي هذا الذي تتقطع فيه أوصال الوطن العربي بسكاكين الإرهاب المذهبي والطائفي والديني؟! أيّ ربيع تذبل فيه الوجوه الناضرة وتنتشر فيه الوجوه الملثمة بأقنعة سواد الموت التي يروق لها أنين الجرحى وحشرجة القتلى وعويل الثكالى وصياح اليتامى وصراخ الآمنين؟! أيُّ ربيع هذا الذي يجوع فيه من كانت أرضه جنّة، ويظمأ فيه مَن جاور النهر؟! أيُّ ربيع هذا الملبد بسحب السواد من دخان البنادق والمدافع والحرائق... حرائق الموت التي أشعلت الأرض والعرض، ولوثت الماء والهواء، وغاب عن سمائها نور الحياة؟! أيُّ ربيع هذا الذي تنتشر فيه دبابير الرعب وتغيب عنه فراشات الرجاء، وتنثر على أرضه الأشواك بدلا من الزهور والورد؟!
في حديث طويل كنا قد أشرنا إليه من ضمن أحاديثنا الشهرية، أوردنا ضرورة تغيير الخطاب الديني، واليوم نؤكد وجوب اقتصاره على الوعظ والإرشاد الديني، بينما نحتاج في الخطاب السياسي للسياسيين، ونحتاج للاقتصاديين في الخطاب الاقتصادي، ولكل علماء الميادين العلمية الأخرى، كل حسب اختصاصه العلمي، بما لا يخالف ثوابت الدين، التي يأتي يقينها من كونها قطعية الدلالة وقطعية الرسوخ، دون شك أو ظنّ أو اختلاف بين الفقهاء، وحتى الاجتهادات الفقهية، التي نرى فيها رحمة واسعة على الناس، نراها مقصورة على العبادات فقط، أما المعاملات، فقوانين الدولة تكفل سَنَّها ووضعها بما يناسب أفراد المجتمع، بعيداً عن الإفراط والتفريط. ولابدّ أن يكون الخطاب الديني بعيداً عن اتهام الأفراد أو الجماعات بمعتقداتهم الدينية والفكرية والسياسية، فالمرء محاسب على اعتقاده من الله عز وجل فقط، فهو من آتاه عقلا ويعلم حدود تفكيره واستيعابه، وعلى مثل ذلك يحاسبه. أما حدود الله، التي هي قطعية الدلالة والثبوت، فلا يحكم فيها ولا ينفذها إلا ولي الأمر، أو من ينيبه لمثل هذا العمل، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عبارة نراها ارتبطت شرطيا بحديث الرسول : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان». وما يجهله العامة، وسكت عنه رجال الدين، أنّ هذا الحديث إنما وُجِهَ لولي الأمر، وولي الأمر هو المسؤول الأول عن الكيان الذي يجوز له الحكم فيه، ويأتي ذلك لمن يسمح له القانون بتطبيق العقوبة، فالأبُ هو ربُّ الأسرة، وهو المسؤول عنها، فإذا أنكر منكرا، حَقَّ له أن يغيره بفعل أو قول أو صمت بإنكار ذلك المنكر. ومثل ذلك ربُّ العمل، والوزير ضمن صلاحيات وزارته، وهكذا. أما سائر الناس، فلا يحق لهم إنكار المنكر بالفعل، وإنما بالقول، وهو إما التأنيب أو النصيحة، وإما إخبار ولي الأمر شفاهة أو كتابة بما أنكروه، ليتخذ ما يراه مناسباً بهذا الأمر. ولو عمل الناس على تغيير المنكر بأيديهم لما كانت الحاجة إلى القضاء أو الشرطة أو الحسبة (البلدية)، ولو أنيط مثل هذا الأمر إلى عامة الناس لحلت الفوضى في المجتمع والدولة.
إنّ تغيير الخطاب الديني لا بدّ أن يكون بيد المُشَرِّع، وليس على يد رجال الدين، من الذين صار لهم سلطة تشريعية، تزايدت عن طريق الفتاوى الشرعية، فالتشريع ليس فقهاً دينياً فقط، بل هو إلمام بالدساتير والقوانين الدولية والعالمية وحقوق الإنسان التي ما فتأت تتغير بتغير الزمان. ومعنى ذلك أننا لا نستطيع في ظلّ القوانين الدولية والعالمية أن نشتري أو نعتق اليوم عبيداً، حتى وإن كان مثل هذا العِتْقُ قد جاء بنص ديني، كحكم جزاء القتل الخطأ مثلا، فالقوانين الدولية تُجرّم بيع وشراء الرقيق، فصارت تلك سُنّة عالمية أولى بالاتباع. ولا نستطيع اليوم أن نرفع راية الجهاد من أجل الفتوحات الإسلامية، فالجهاد تغير هدفه ومفهومه إلى الدفاع عن الوطن والعرض والمال والشرف، وكل ذلك مقيد بقوانين اتفقت عليها الدول واتخذت بها عهداً، لتؤكد عدم الاعتداء وإقرار السلام العالمي. إن اللوائح والقوانين العالمية التي تبدّى صوغها على شكل معاهدات دولية تشرف عليها هيئة الأمم المتحدة قد غيَّرت العلل والمفاهيم التي بُني عليها مفهوم الجهاد فقهياً، ولا بدّ لنا أن نؤكد أنّ الفقه ليس سوى اجتهاد، والاجتهاد إما أن يكون إجماعاً أو قياساً أو استحساناً، ونستطيع تعريف الإجماع بأنّه: اتفاق مجتهدي الأمّة الإسلامية في زمنٍ معيّن على حُكْم شرعي في مسألة لم يرد بها نصّ في القرآن أو السنّة. قال : «إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة». ويشترط في الإجماع أن يأتي في ما لم يرد به نصّ شرعي، وأن يكون مبنياً على الشرع قياساً أو تفسيراً أو تعليلاً. أما معنى «القياس»، فهو قياس حادثة لم يرد فيها نصّ شرعي بحادثة أخرى مشابهة ورد فيها نصّ في القرآن أو السنة أو الإجماع، بشرط أن تشترك الحادثتان في علّة الحكْم. وقد اتفق علماء الأمّة على أنّ القياس حجّة شرعية، وهو نوع من الاجتهاد الفردي. وفي رسالة القضاء لعمر بن الخطاب  جملة تؤكد أنّ القياس كان متبعاً من قبل الصحابة رضي الله عنهم، وذلك من قوله:
«اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق في ما ترى». 
أما الاستحسان فيأتي غالبا من القياس، وهو أن يقوم المجتهد بترجيح رأي بقياسٍ خفيت علته عن قياسٍ واضح العلة. كما تأتي «المصلحة المرسلة» ضمن إطار القياس أيضاً، والمصلحة المرسلة هي التي تقتضيها أمور الحياة ولم يرد فيها نصّ بالاعتبار أو الإلغاء. ويشترط في تلك المصلحة أن تجلب النفع أو تدفع الضرر، وأن تكون عامة وليست خاصة، وألا تعارض نصاً شرعياً.
بهذا نقول وقد تبين لنا أنّ الخطابات الدينية قد جعلت من أمتنا العربية ثيوقراطية الهوى في عصر تحقق فيه الإجماع وتضافرت فيه الدول على نصرة الديمقراطية، لقد ولى زمن الثيوقراطية، وهي حُكم رجال الدين، بانقضاء سيطرة الكنيسة في العصور الوسطى على الدولة والشعب، فهل نطلب تقدماً بممارسة الرجعية؟!.