بحثاً عن الفلسفة... عن معنى الوجود الحق

بحثاً عن الفلسفة... عن معنى الوجود الحق

مبحث السعادة، أو التأمل في الغايات ومعنى الوجود الإنساني، من المباحث الرئيسة في الفلسفة العربية في مرحلتها الإسلامية، وهو المبحث الذي يعتبره الباحثون سمة مميزة من سمات الفلاسفة العرب في الفترة الممتدة بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلاديين، بدليل عناوين العدد الكبير من مؤلفاتهم، المفقود منها والباقي على حد سواء.

لأبي يوسف يعقوب الكندي (805-873) رسالة «الحيلة في دفع الأحزان»، ولأبي نصر محمد بن محمد الفارابي (874-950) كتابان، «التنبيه على سبيل السعادة» و«تحصيل السعادة»، ولأبي علي الحسين بن سينا (980-1037) كتابان يحملان عنوانين مماثلين، أما تلميذ الفارابي، أبوالحسن العامري (912-991) فله كتاب شهير عنوانه «السعادة والإسعاد». ومن جانبه يؤكد أبوحامد الغزالي (1058-1111) في كتابه «ميزان العمل» أن غرض الفلاسفة هو التنبيه على سبل تحصيل السعادة، وأنهم يرون في المعرفة الحقة والسيرة الصحيحة الطريق الموصل إليها.
ومن المعتقد أن هذا الموضوع انحدر إلى الفلاسفة العرب والمسلمين من الفلسفة اليونانية التي يترادف فيها مفهوما الكمال والسعادة. والفلسفة اليونانية المقصودة هنا هي تلك التي عرفتها الثقافة العربية آنذاك بين القرنين المشار إليهما، بما فيها من مؤلفات أصيلة وأخرى منحولة.
ويرد موضوع «السعادة»، بوصفها غاية سعي الإنسان العاقل، في تلخيص الفارابي لفلسفة أفلاطون (427-347 ق.م) في صيغة سؤال وجواب على النحو التالي:
ــ فيمَ يقوم كمال الإنسان؟
ــ في السعادة.
ــ كيف تحصل السعادة؟
ــ بالعلم والسيرة.
ــ ما ذلك العلم؟
ــ إنه العلم بجوهر كل موجود من الموجودات.
ــ ما تلك السيرة؟
ــ إنها السيرة الفاضلة.
ــ كيف يحصل ذلك العلم؟
ــ بالفحص والتعلم والتعليم.
ــ أي صناعة تعطي ذلك العلم؟
ــ الفلسفة. 
وهكذا تكون السعادة مبحثاً فلسفياً، لأن الصناعات الأخرى، مثل الألسنية وصناعة الشعر والخطابة والصناعة العملية، ليست كافية، وبخاصة الصناعة الأخيرة على سبيل المثال، فأصحابها ليس مقصدهم الكمال بل نيل الأمور النافعة والمربحة.
وهكذا فإن السعادة بهذا الوصف، أي كونها من مباحث الفلسفة، لا تعني الاستحواذ على الأشياء، لأن هذا الاستحواذ لا يمنح للإنسان العاقل معناه، أو معنى وجوده الحق، ولا تعني من جانب آخر الفرد المنعزل، لأن المبدأ الأساس لدى الفلاسفة العرب أن الإنسان اجتماعي بطبعه، وتحقيق السعادة لا يمكن أن يتم خارج الجماعة. ولهذا ارتبط مبحث السعادة بمبحث الاجتماع البشري وقيام المدن «الفاضلة» و«العادلة»... وما إلى ذلك من صفات لمدن متخيلة ابتكرها عدد من الفلاسفة ووضعوا نظمها وأهدافها، وميزوا بينها وبين المدن «الجاهلة» أو «الضالة» أو «الفاسدة»، وكان معيار التمييز هنا هو معرفة ماهية السعادة الحقة، والعمل بمقتضى هذه المعرفة.
وأعطى هذا الاتجاه الاجتماعي للفلسفة العربية سمات مميزة، أهمها العقلانية والموسوعية. ويقوم مبدأ العقلانية على أساس أن الإنسان صار إنساناً بفضل العقل. ويقوم مبدأ الموسوعية على ضرورة العلم بجوهر الموجودات، مع ما يعنيه هذا من بحث في تناسق العالم وأجزائه، وكان هذا المبدأ هو الذي يقف وراء اهتمام الفلاسفة بكل العلوم التي تدرس العالم وتبحث في شؤونه. ويمكننا أن نعد هذا الاهتمام بالرؤية الشاملة للكون دليلاً على الإيمان بوحدة الكون.
فإذا كانت «السعادة» هي الغاية القصوى للاجتماع البشري، بالدليل الفلسفي الذي يميز بين عالم الكون والفساد، وعالم الخلود والفناء، فإن تحصيلها هو تحصيل لسعادة روحية أو عقلية، وهذه السعادة هي الجديرة بالسعي وراءها، لأن الزائل لا يورث غير التعاسة والقلق كما سيرد عند الكندي، ولأن السعادة خير يؤثر لذاته كما هي عند الفارابي. 
ولكن الملحوظ أن مبحث السعادة لم يبق على حاله، طريقاً وغايةً، في القرون اللاحقة، كما كانت الحال في بواكير عصر الفلسفة العربية، فقد شهد الوطن العربي والبلدان المجاورة تقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية انعكست على مباحث الفلسفة وتوجهاتها، فطرأت على مبحث السعادة متغيرات، واعترى مفهومها شيء من التضييق في مباحث فلاسفة القرن الثاني عشرالميلادي. والسبب هو تضاؤل الحلم بالمدن «الفاضلة» الخيالية في ظل تشظي الممالك والحروب الداخلية والغزوات الخارجية، وما رافقها من تقلبات، بحيث انتهى الأمر إلى الاهتمام بأمر الإنسان  «المتوحد»، أو «المغترب» بالمفهوم المعاصر، وصلته بالوجود الحق، وتدبير شؤونه في خضم مدن «التخلف» و«الجهل»، كما تجلى في كتاب أبي بكر محمد
بن يحيى بن باجة الأندلسي (1080-1138) المعنون «تدبير المتوحد»، وانتهى الأمر إلى البحث في قيام وانهيار المدن والدول الواقعية وقوانين هذا القيام والانهيار، وهو ما تم على يد عبدالرحمن بن خلدون (1332-1406) في كتابته «المقدمة» الشهيرة.
ولكن هذه الأسباب والتقلبات لم تجعل مبحث السعادة نافلاً، بل ظل تأملاً في الغايات، أو في معنى الوجود الإنساني، وهو ما سيتبلور لاحقاً على نحو واضح في الفلسفة الغربية، التي ورثت التطور الفلسفي العربي وأضافت إليه ما سيصبح عنوانه «مبحث الوجود» كما هو مطروح في فلسفات عدة، في فلسفة مارتن هايدغر (1889-1976) تحت عنوان «البحث عن الوجود الحق»، وفي فلسفة إريك فروم (1900-1980) تحت عنوان «الوجود الجوهري»، على سبيل المثال لا الحصر.
إذاً، التساؤل عن غاية الإنسان من وجوده تجسّد في الفلسفة العربية/الإسلامية في صيغة البحث عن السعادة، والتأمل في شروط هذه السعادة وطرق السعي إليها، إما عبر المسعى الجماعي ممثلاً في تخيل المدينة الفاضلة، وإما عبر المسعى الفردي ممثلا في تدبير شؤون الإنسان المتوحد. واتخذ هذا المسعى نهجين؛ النهج العقلاني الذي يعتمد على تطور الإدراك، بدءاً من إدراك الذات وانتهاءً بإدراك العام المحيط، والنهج الصوفي الذي يقسم البشر إلى أصناف: الصنف غير الناطق الشبيه بصنف البهائم، الذي لا يدرك واجب الوجود، والصنف العارف بواجب الوجود. وتكمن السعادة الصوفية في دوام مشاهدة الموجود الواجب الوجود، أي إدراك «الحق».
نجد هذا الموقف الأخير عند أبي بكر محمد بن عبدالملك بن طفيل (1100-1185) الذي يعد الاجتماع البشري عائقاً أمام تحصيل السعادة في كتابه «حي بن يقظان». ولكن هذا الموقف ليس هو السمة الطاغية على الفلسفة العربية/الإسلامية، لأن الاتجاه الإنساني هو السمة الطاغية على هذه الفلسفة، وتمثل هذا الاتجاه في أعمال أعلامها الكبار بدءاً بالكندي مروراً بالفارابي، وصولا إلى ابن باجة وابن رشد (1126-1198)، وكلهم يرى أن الاجتماع البشري ضروري لتحصيل السعادة. 
وسواء تعلق الأمر بمدينة «فاضلة» أو «عادلة» من صنع الخيال، أو بشروط الاجتماع الإنساني الذي يقوم على عناصر طبيعية واقتصادية كما عند أبي الحسن الماوردي (974-1058) أو عند ابن خلدون، يظل هذا المبحث على علاقة بالواقع البشري وليس مفارقاً له.
وسنجد أطروحة «السعادة» تتنوع وتتغير تبعاً لاهتمامات كل عصر، وتبعاً للتقلبات الفكرية والمادية التي تلم به، وتبعاً لمصادر كل فيلسوف. ولهذا نجد أن تناول الكندي للسعادة في كتابه «الحيلة في دفع الأحزان» ينصرف إلى غاية هي تغيير موقف الإنسان من الحياة. أما الفارابي فهو أكثر طموحاً؛ فالغاية لديه الوصول إلى حالة شبيهة بحالة النيرفانا البوذية، وسنجد تنويعاً آخر على موضوعة السعادة لدى الجماعة الفلسفية المعروفة باسم «إخوان الصفاء وخلان الوفاء» التي دعت، في أواخر القرن العاشر الميلادي، إلى إقامة ما يشبه مدينة «روحية» محاطة بأسوار وخنادق تحميها من جهل وسوء أخلاق الناس في عصر كانت شمس الحضارة العربية فيه قد آذنت بالمغيب. 
وينفرد ابن باجة في الالتفات إلى واقع أن الإنسان الباحث عن الحقيقة يجد نفسه في المدن القائمة متوحداً (مغترباً)، ولذا وجه بحثه نحو تدبير شؤون هذا المغترب وتمكينه من  نيل «السعادة» إن لم تكن موجودة، أو إزالة العقبات التي تقف دونها. 
ويشير هذا التنوع إلى مسألتين مهمتين: الأولى تنوع الاتجاهات الفلسفية التي شاعت في الوطن العربي خلال مرحلة تحضره الإسلامية، بين اتجاهات عقلانية واتجاهات غير عقلانية، والثانية استجابة الفكر الفلسفي للمتغيرات الاجتماعية وحساسيته البالغة تجاهها. ولعل أحداث إحراق الكتب الفلسفية أو طمرها
 في الآبار، ومطاردة الفلاسفة واضطهادهم، وهي أحداث شهدتها أماكن وأزمان متباعدة ومختلفة، دليل على الجوهر الاجتماعي لهذه الفلسفة التي لم تكن كما يظن ضرباً من التخيلات أو الأطروحات الغامضة، أو مبحثاً نافلاً لا قيمة له كما يُعتقد على صعيد شعبي حتى الآن.