ووهان...شيكاغو الصين مدينة رؤوس الطيور التسعة!

ووهان...شيكاغو الصين مدينة رؤوس الطيور التسعة!

استقبلتني السيدة  د.تشن المستشارة الثقافية الصينية في مكتبها بشارع ابن بطوطة بالجيزة، وأخبرتني أن مقاطعة هوبيه في الصين وبصفتها الملتقى الثقافي لهذا العام (2015) قد اختارتني للسفر لألتقط صوراً فوتوغرافية للإقليم، على أن أعود لأقيم معرضاً عن هذه المقاطعة. وعلى الرغم من أنني لم أسمع في حياتي بمكان اسمه هوبيه، ويعلم الله وحده بما سأقابله هناك من أناس وأساطير، فقد رأيت أنني لست أقل من ابن بطوطة، أمير الرحالة المسلمين، الذي ذهب للصين بالرغم من أن أحداً من قبله لم يكن قد ذهب ولو حتى لمدة يومين.

قابلني بعدها الأستاذ ليو شيبنج المدير التنفيذي، وأجرى معي لقاء لوضع برنامج الرحلة، وليتأكد أنني سأتحمل مشاق السفر، وبخاصة أن المدة طويلة إلى حد ما. سألني عمّا إذا كانت صحتي جيدة وإذا كنت سأتحمل الطعام الصيني وإذا كنت أحمل معدات تصوير ثقيلة، وأخبرني أن الفنانين الذين سافروا من قبلي من مصر اشتكوا من هذه المسائل. 
ضحكت وأخــــبرته أن صحــــتي جيــدة طالما أنني لن أتــــورط في مباراة تايكـــونــدو، وأنني أسافر بكاميــــرا صغــــيرة وحامــــل تصوير، وأنــني كنت في بلاد كثيرة لم يتسـبب طعامـــها في مشاكل تذكر. كان الرجل لطيفاً وأهداني كـــتاباً مصوراً، وناقش طلبي لزيارة سور الصيـــن العظيم الذي ظن ابن بطوطة (خالد الذكر) أنه السور الذي بناه ذو القرنين لحجز يأجوج ومأجوج.
وافق ليو شيبنج على أن أزور بكين خمسة أيام، بالإضافة إلى رحلة هوبيه، وأوصلني لباب المركز وسرنا معاً وتأكد أن صحتي جيدة وأنني أسير بلا مشاكل. وصلت مطار بكين العظيم الواحدة ظهراً، وسرت مسافات طويلة حتى وصلت لأطول طابور جوازات شاهدته في حياتي وأكثرها ازدحاماً، وبعد أن انتهيت من الطابور، هبطت سلماً طويلاً لآخذ حقائبي وأنطلق. ولكن بدلاً من الحقائب وجدت قطاراً أوصلني لقاعة هائلة تسع العشرات من سيور الحقائب، وبعدها بمسافة طويلة جداً، تم تفتيش الحقائب تفتيشاً دقيقاً لأخرج بعدها للهواء الطلق، وأبدأ رحلتي الصينية. 
استقبلتني مرشدة سياحية قالت إن اسمها الإنجليزي هو بيتي، في حين أن اسمها الصيني طويل ولا ضرورة لاستعماله. 
وصلت لفندق فاخر يقع في شارع رئيس، ولفت نظــري أنه لا يوجـد في بكيــــن التي شاهدتها أي مبانٍ مبنية على الطراز الصيني ذي الأسطح المنحدرة، فكل ما شاهدته كان مباني حديثة للغاية وشــوارع متسعة جـــداً وأرصفة أوسع من شوارع مدننا.

تِتِي تو
المرهق في تتبع حديث الصينيين بالإنجليزية هو أن عديداً من الحروف الصينية هي حروف صامتة تكتب ولكن لا تنطق، فمثلا حرف الـ «ج» أو الـ «G» هو حرف صامت يكتب فقط، وعلى سبيل المثال فإن كلمة  Peking  تنطق بالعربية «بكين» من دون هذا الحرف، وهذه كلمة عرفناها واعتدناها على مدى سنوات طوال، وتبدأ المشكلة حين نعرف أنه لا يوجد أحد في الصين اسمه «وانج» لأن الـ«ج» لا ينطق، وأنك يجب ألا تخطئ في اسم الزعيم العظيم «ماوتسي تونج»، الذي ينطق «ماوتسي تون»، بل وأكثر من ذلك فالصينيون يسمونه «تشايمان ماو» لأن هناك عدداً هائلاً من الحروف لا يعرفون كيف ينطقونها مثل الـ «ر». وكذلك الـ«ن» التي لا ينطقونها إذا جاءت في وسط الكلمة. ويمكنك أن تتخيل لغة لا يوجد بها حروف الـ«ج،ن،ر». ولئلا تقضي ليلتك مفكراً كيف تحولت ماوتسي تون لتصبح تشايمان ماو فسأخبرك بالسر. تشايمان هي كلمة إنجليزية تكتب «تشايرمان» Chairman  أي رئيس المجلس، وحذف الحرف R لأنهم لا يعرفون كيف ينطقونه فصارت كلمة بلغة لا هي صينية ولا هي إنجليزية، وقد قررت بعد محاولات عديدة أنه في حالة تعسر الفهم، أن أستخدم اللغة المصرية العامية، لأنه في جميع الحالات لن يفهم أحد شيئا. 
سألت عن قيمة الفاتورة في أحد المطاعم الغربية الشهيرة فقال «تِتِي تو»، سألته واستفسرت فأعاد «تِتِي تو». ولما كان الـR هو حرف صامت فقد استنتجت أنه يقصد «ثِرتي تو» أي اثنين وثلاثين. أعطيت البائع خمسين فأعطاني الباقي ثمانية وعشرين. أعدت له عشرة، فأصر وسألته أليس الحساب تِتِي تو؟ فأومأ برأسه موافقاً وكرر ورائي أنها تِتِي تو. بعد جدال طويل ممتلئ بالضحك فهمت أن «تِتِي تو» معناها «توينتي تو» وليس «ثرتي تو».
ذهبت لزيارة المدينة المحرمة والقصر الصيفي وسور الصين العظيم وأسواق الحرير وغيرها في خطوات سريعة متلاحقة انتهت برحلة في القطار النفاث إلى مدينة ووهان عاصمة إقليم هوبيه. يسير القطار بسرعة ثلاثمائة كيلومتر في الساعة، وعلى الرغم من أن مقاطعة هوبيه معروفة باسم «أرض الأرز والسمك»، وعلى الرغم من أنني شاهدت مزارع الأرز تلك من نافذة القطار، فإن جميع الصور التي التقطتها في أثناء سيره كانت «مهزوزة» نظراً لسرعته الفائقة، ومع ذلك، فإن سيدة عظيمة مبتسمة كانت مستمرة بلا توقف في تنظيف عربة القطار.
أما الأسماك فأشهرها سمكة الـ«ووشانج» أو ووشان، التي تطهى على البخار، وقد تناولتها أكثر من عشر مرات خلال زيارتي، نظراً لطعمها الشهي من ناحية خاصة عندما تمزجها بأنواع صلصة التوابل المختلفة، واقتداء بالزعيم تشايمان ماو من ناحية أخرى، لأنها كانت سمكته المفضلة. 
المقاطعة غنية بالمحاصيل الزراعية والمعادن المختلفة ومنها الحديد والفوسفور والنحاس والعقيق ومعادن أخرى فشل القاموس في ترجمة اسمها مثل الـWollastonite مثلاً.
وكما أن مواطني كل محافظة في مصر وفي العالم العربي مشهورون بصفات معينة، فإن أهل الصين يطلقون على مواطني هوبيه اسم «طيور التسعة رؤوس»، وهو اسم مشتق من طائر صيني أسطوري شرس وصعب أن يُقتَل، فيقولون «في السما تلاقي الطير أبو تسع رؤوس وفي الأرض تلاقي أهل هوبيه».
وصلت ووهان بعد أربع ساعات ونزلت في شارع رئيــــس مليء بالمطــــاعم اللذيـــــذة الصينية والغربية، وهو أمر مهم للغاية بعد أن عانيت من الطعام في بكين. وقد أدهشني أمران: الأول هو أن أهل ووهان يتحدثون مثلي بامتعاض عن طعام بكين وكأنها دولة أخرى تبعد مئات الألوف من الأميال، والأمر الثاني هو أن السيدات يتجمعن ليلاً على الأرصفة الواسعة ويرقصن في جماعات يصل عددها إلى ثلاثين سيدة ونحو رجل أو اثنين أو ثلاثة، ويعتبرون الرقص نوعاً لطــــيفاً مسلياً من أنواع الرياضة.
المدهش هو أن أولئك السيدات لا يتعرضن لأي مضايقات، وقد أجابت الرقصة عن تساؤلي بخصوص الطعام. فعلى الرغم من أن الصينيين يفرطون في إضافة الزيوت لكل أنواع الطعام، فإن السيدات المسكينات لا يتمتعن بأجساد ممتلئة. وقد أخبرتنى إيمي (وهو الاسم الإنجليزى للمرشدة الووهانية) أن ذلك يرجع للإكثار من الحركة وممارسة أنواع الرياضة المختلفة.

ووهان وشيكاغو وآخر الأباطرة
تقع ووهان عاصمة هوبيه في وسط ملتقى نهري اليانجتسي وهان. وتعرف بأسماء عدة، منها مثلاً «طريق المقاطعات التسع»، لأنها ملتقى عشرات من السكك الحديدية والطرق والطرق السريعة البرية والنهرية التي تمر عبر المدينة وتربط الأقاليم الرئيسة في الصــين. 
وبسبب دورها الرئيــــس في النــــقل الداخلــــي، فإنــــهـــا اكتــســـبـت أيــضـــاً اسم «شيكاغو الصين».
والمدينة لها دور وطني بارز في تاريخ الصين الحديث يبرر اسم «طيور التسعة رؤوس» الذي يطلق على سكان هوبيه. ففي عام 1911 كانت ووهان هي موقع الانتفاضة التي أطاحت بأسرة «كوينج» Qing الإمبراطورية وبالنظام الإمبراطوري الصيني بأكمله، وهو ما شاهدناه في الفيلم الشهير «الإمبراطور الأخير».
 وبعدها بعشر سنوات، كانت ووهان مرة أخرى مركزاً للمقاومة والثورة ضد حكومة شيانج كاي تشيك وأدت لإسقاط نظامه، وكانت بعد ذلك سبباً في ظهور الزعيم الأسطوري ماوتسي تونج.
وكانت آخر ثورات المدينـــة في عام 1967 ضد الضغط المتزايد لما عرف باسم «الثورة الثقافية» وكانت زوجــــة الزعيم ماو تقودها، وأدت لتراجع عجلة النهضة الصينــــية، التي استردت عافيتها الآن.  

اللواء الثعبان ورفيقه السلحفاة يهزمان الفيضان
تقع مدينة ووهان على ضفاف نهر اليانجتسي، وعلى الرغم من أن نهر النيل يفوقه طولا، إلا أن مجرى النهر في هوبيه يتسع أحياناً حتى تظنه بحراً، وقد هدد المدينة بالغرق مرات عدة، إلا أن تراكم الطمي على شكل ربوتين عاليتين قد حماها من هذا المصير.
ويخبرنا القدماء بأن إمبراطور السماء قد تأثر ببسالة «يو» إمبراطور الأرض في دفاعه عن أرضه ضد فيضان اليانجتسي، فأرسل اللواء الثعبان وزميله اللواء السلحفاة (زحلفة) ليتحكما في فيضان النهر. 
هبط اللواءان من السماء، وبعد دراسة مستفيضة لجغرافية المنطقة، تحولا إلى هضبتين وأحاطا بالنهر، فسيطرا عليه وأصبح السكان ينعمون بحياة هادئة مثمرة. 
وهبط طائرا كركي من السماء ليحتفلا مع السكان بهذا النصر، واستقرا فوق هضبتي الثعبان والسلحفاة اللذين يرمزان للحكمة وطول العمر، وهما السلاحان اللذان برزا فــــي معركتــهما مع الفيضان.

برج الكركي الأصفر ومعركة البقاء
الجو في الصين بصفة عامة مليء بالضباب والتصوير فيه صعب، وكنت أختار المكان الذي نزوره بحسب الشمس التي أشرقت ذات صباح، فذهبنا إلى «برج طائر الكركي الأصفر». والكركي هو طائر أبيض ذو ساقين طويلتين كالبجع ويعرفه قراء كتاب «كليلة ودمنة» إذ جاء ذكره فيه مرات عديدة، وقد صار أصفر في هذا البرج لأنه طائر مسحور، وعلى مدى القرون تسببت الحروب والحرائق وخطط التعمير في هدم هذا البرج كلياً وجزئياً سبع عشرة مرة، ومع ذلك فقد بقي رمزا لمدينة ووهان. وعلىالرغم من أن الدولة قررت في عام 1957 إزالته وبناء جسر اليانجتسي على أنقاضه، فإن البرج قد بعث حياً من بين الأطلال بعد 24 عاماً في عام 1981، حين قررت سلطات مدينة ووهان إعادة بناء ذلك المبنى التراثي الجميل على تل الثعبان في مكان يبعد عن مكانه الأصلي بكيلومتر واحد.
وهناك أساطير عديدة عن أسباب بناء ذلك البرج، أشهرها أن راهباً طاوياً (الطاوية هي معتقد قديم لدى أهل الصين) جاء لمنزل يسكنه صانع جرار وطلب أن يشرب، فتجاهله الرجل، ولكن ابنه قدم له مشروباً، وبعد زيارات مجانية عدة قام الراهب بسداد دينه بأن رسم طائر كركي يرقص كلما صفق له الابن. وهكذا رقص الكركي وسمع أهل المدينة بذلك الراقص العجيب وصاروا يزورون المنزل وزادت ثروة العائلة التي بنت البرج تكريماً للراهب الطاوي.
ولأوضح الصورة، فأنا ذهبت للصين معتقداً أن جميع المباني كما نراها في الأفلام هي مبان صغيرة لها أسطح منحدرة بأطراف مدببة، وكانت الصدمة أن شركات المقاولات (كما هي الحال في بكين والقاهرة) تقوم بصورة منتظمة بهدم تلك المنازل وبناء مبان شاهقة حديثة مكانها، وهكذا فإن أي مبنى صغير ذي سقف منحدر يصبح أثراً بديعاً في عيون الزوار، وكائناً قبيحاً يجب هدمه في عيون شركات المقاولات. 
وصلنا للبرج ونزلت من السيارة وانهمكت في تصوير المبنيين البديعين الكائنين أمامي والزوار الصينيين المتناثرين عليهما إلى أن لفتت إيمي نظري إلى أنني أضيع الوقت في تصوير بوابة البرج! اجتزنا البوابة وركبنا حافلة تشبه الطفطف (مجموعة مقاعد يجرها سائق) تقوده صينية حسناء وصعدنا إلى قمة تل الثعبان حيث ظهر البرج الذي كان مختبئاً وراء الأشجار.
وجدت نفسي بين برجين أحدهما مرتفع والآخر أكثر ارتفاعاً. صعدت الأول مستبعداً حتى محاولة صعود الآخر. في أثناء صعودي سمعت صدى عميقاً لرنين جرس عملاق، وعلى الرغم من ارتفاع الصوت، فإنه لم يسبب أي إزعاج، فهو صوت متناغم تماماً مع المكان. وصلت إلى القمة فوجدت أن الأطفال والكبار يدفعون رسوماً رمزية لكي يدقوا ذلك الجرس الهائل.
وقد جذبني برج الكركي الأكثر ارتفاعاً إلى تسلقه وقد اجتذبني سور الصين والجبال التي رأيتها في ما بعد. الصعود لا يتسبب في أي إرهاق، واختلاف المشاهد والرسوم الحائطية ينسيك الدنيا وكل ما فيها. كل زاوية في كل طابق تختلف تماماً عن غيرها، وفي كل دور أشعر أنني ألتقط صوراً تختلف عما التقطته من الزاوية نفسها في الدور السابق، وسبحان الله في ذلك الإبداع المعماري المبتكر.
أهم ما رأيته هو تل السلحفاة في الطرف الغربي من ووهان، وكذلك تمثال الكركي الذي على الرغم من ضخامته، فإنه يظهر فجأة من اللامكان.
بدأت المرشدة في استعجالي لأنهم معتادون على تناول الطعام في الثانية عشرة تماماً، وبمنتهى الدقة وبلا دقيقة تأخير، فشرحت لها أنني أتناول وجبة الغداء في الساعة الرابعة، والأهم أنني أنتظر الشمس حتى تضيء الجانب الغربي من البرج.
تابعنا الجدال حتى الواحدة ولم أستطع أن أجعلها تنتظر أكثر من ذلك. اكتشفت بعدها مشكلة عجيبة تنفرد بها الصين، هي أن المطاعم الصينية (وهي أغلبية هنا) تغلق أبوابها في الواحدة، وكان عليها أن تتصل بمطعم ليفتح أبوابه خصيصاً لنا، ووقفت سيدة محترمة لخدمتنا وحدنا وقررت بعد ذلك أن أتبع التوقيت الصيني، حتى لو أدى ذلك إلى أن أترك الشمس وزوايا الإضاءة والتصوير.
بعد الغداء الصيني جذب انتباهي سرب بديع مكون من أربع عرائس بفساتين الزفاف البيضاء، يمشين بسرعة في الطريق ويدخلن حديقة اسمها «تينجتاو للمناظر الخلابة»، فتتبعتهن بسرعة وأخبرت آني باللغة العربية أن تشتري لي تذكرة، ويا للعجب، فقد فهمت واشترت التذكرة. عرفت أن العرائس والعرسان يذهبون هناك لالتقاط الصور التذكارية. واكتشفت أيضاً أن «تينجتاو للمناظر الخلابة»  كانت هي الخطوة التالية في رحلتنا.
تبلغ مساحة «تينجتاو للمناظر الخلابة» 13.50 كم مربع، بالإضافة إلى 11 كيلومتراً من المساحات المائية، وتحتوي على غابات كثيفة وبحيرات واسعة وأبنية متناثرة وشواطئ جميلة متعرجة. وتشتهر البحيرة بتاريخ طويل لحضارة الـ Qu Yuan  (كما تقول اللافتات)، ومع الأسف لم تخبرنا المرشدة أي شيء عن هذه الحضارة، وأخبرتنا الشبكة العنكبوتية واسعة الاطلاع بأشياء كثيرة مختلفة تحمل الاسم نفسه. 
 ركبنا سيارة «طفطف» مع سائقة حسناء تشبه سائقة «طفطف» برج الكركي الأصفر للتنزه في الحديقة الشاسعة المطلة على البحيرات الواسعة كالبحر، وصرت مذهولاً من جمال ووهان التي لم نسمع عنها ولا عن جمالها أبداً. وفهمت أن «تشايمان ماو» له مكان منفصل في هذه الحديقة، ولكنه مغلق لأنه لا يجوز لكائن من كان أن يرى ما كان هو يراه، حتى بعد مرور أربعين عاماً على وفاته.
كانت نزهتنا بعد ذلك في منطقة الأسواق الشعبية، وهي مكان يشبه سوق العتبة بالقاهرة. بدأت الزيارة بأسواق العطارة والمكسرات، وقد أدهشني رخص الأسعار والأنواع التي لم نسمع عنها من قبل. بعدها كانت زيارة لمبنى الأحذية وحقائب السيدات، تبعتها بزيارة لمجمع هائل للملابس من خمسة أدوار، والنظام فيه هو أنك كلما صعدت ارتفعت معك الأسعار، فاكتفيت بالدور الرابع... (لاحظ أننا كنا في منطقة أسعار شعبية، ولكن الأسعار تتزايد بسرعة وكذلك النوعية تصبح ممتازة وليست كالبضائع الصينية الرخيصة التي نراها في بلادنا).
وفي جولتنا في مناطق الأسواق، لاحظت كيف أن الرجل الصيني لا يسعى للمساواة بالمرأة بأي شكل، فالأعمال الشاقة التي رأيتها، كتنظيف وكنس ومسح بلاط الأسواق التجارية والشوارع والقطارات وقيادة الطفطف تنفرد بها المرأة تماماً، بل وأحياناً تقوم السيدات بحمل البضائع الثقيلة في الأسواق. 

شيان شيان وأوشان
انتهت زيارة ووهان وركبت قطاراً بطيئاً يسير بسرعة مائتي كيلومتر في الساعة، متجها لمكان اسمه «إيشان». عند الوصول مررت بتجربة لابد أن تمر بها لتكتمل خبراتك الصينية. أولًا الاسم المكتوب على التذكرة يختلف عن الاسم الذي أعرفه، والاثنان يختلفان عن الاسم الذي ذكرته الإذاعة الداخلية، وكان من حسن الحظ أننى سأنزل في المحطة النهائية وبالتالي فلم يتحرك بي القطار. المهم، نزلت من القطار محملاً بحقيبتي الثقيلة والحقيبة الأخرى التي صارت محملة بالتذكارات والهدايا وقناع الوقاية من الغازات الذي يوزعونه في كل فنادق الصين، وحقيبة الكاميرا، التي على الرغم من وزنها الخفيف، فإنها تحتاج إلى ذراع ثالثة. لا أذكر بالضبط كيف ضللت طريقي في محطة القطار، ولكني أذكر معاناتي وأنا أهبط السلالم الطويلة محملاً بهذه الحقائب، والسيدة البالغة اللطف والرقة التي اقتربت وحملت عني أكبر الحقائب حجماً وهبطت بها السلم، وأنا أتمتم قائلاً «شيان شيان»، أي شكراً. وصلت أخيراً لباب في صالة هائلة، ممتلئة بالركاب الذين يدخلون، وكان واضحاً أنني وصلت لصالة المغادرة بدلاً من صالة الوصول، وأنني وصلت لمرحلة الـ«هوِندوِن» بالصينية أي «الهيول» بالعربية أو Chaos بالإنجليزية، أو الضياع بلغتنا العامية.
وقفت على البوابة والجميع يدخلون إلا أنا، فقد كنت بالداخل فعلا. جاءت سيدة من الشرطة وطلبت مني الخروج فرفضت خوفاً من الـ «هوِندوِن» وأخبرتها بالعربية أنني ضيف على الحكومة الصينية، فأشارت إلى مقعد بجانب البوابة وطلبت مني الجلوس. جاء رجل شرطة ليجلس في المكان الذي كنت جالساً فيه، وأشار إلي بالخروج فرفضت وجاءت السيدة فشَرَحَت له بالصينية ما كنت قد شرحته لها بالعامية المصرية، وفهم هو وأشار إلي بأن أتبعه. تبعته في ممرات داخلية مظلمة تحت السلالم الرئيسة، وتوجست خيفة أن يكونا قد أساءا فهم ما قلته، لكنه في الحقيقة أثبت كفاءة مذهلة إذ وصل بي إلى سيدة تحمل لافتة مكتوباً عليها اسمي. 
اختطفتني السيدة مبتسمة وقالت إننا نتأخر على آخر قارب. كان اسمها سيوالو، وكانت أول مرشدة لا تستخدم اسماً صينياً وآخر إنجليزياً. ركبنا عبّارة عبرت بنا محيط اليانجتسي وصولاً إلى فندق أنيق على الشاطئ، وبدأت رحلة المعاناة حاملاً الحقيبة الثقيلة صعوداً وأنقذني أحد البحارة إذ حملها ببساطة إلى فندق «أخدود ظلال المصباح»، وانصرف من دون أن ينتظر منحة أو أي شيء.
وصلت الفندق ووجدت ثلاث فتيات أنيقات في زي عسكري يجلسن وراء مكتب الاستقبال ويبتسمن، قمن بإعطائي غرفة تطل على النهر تقع في الدور الثالث. سألت عن المصعد فاعتذرن وقلن إنه لا توجد مصاعد. اعتذرت أنا الآخر وطلبت غرفة في الدور الأرضي فاعتذرن وقلن إنه لا يوجد في الدور الأرضي غرف. في النهاية حصلت على غرفة في الدور الأول. وقامت إحدى الفتيات وهي تبتسم بحمل حقيبتي التي يزيد وزنها على وزنها وحملتها نصف المسافة، ولم أستطع الموافقة على ذلك.
في الصباح ذهبنا في مسيرة طويلة إلى ممشى مظلل وسرنا على النهر في جو بديع، واستمرت المسيرة حتى بدأت أشعر أنها قد طالت جداً. نظرت حولي مستغيثاً فوجدت رجلاً صغير الحجم جالساً على الأرض وبجواره مقعد خشبي، فسألت عنه وقالت سيوالو إنه يحمل الزوار مع رفيقه ويسير بهم. قام الرجل «الصغير» ونادى زميله الأصغر حجماً منه، وحملاني على المقعد الخشبي وانطلقا يجريان وصعدا السلالم بي ونزلا وهما يغنيان أغنية شعبية. وصلنا وأنزلاني وابتسما في سعادة وهما يتناولان أجرهما. قالت سيوالو إنني يجب ألا أشعر بالذنب فقد ساعدتهما على مواجهة مصاريف الحياة.
دخلنا أخدود «المياه البلورية» ولم أكد أخطو خطوات عدة حتى أدركت أنني أمام منظر من أجمل ما يمكن أن تشاهده عيون البشر. الأخدود عميق وسط منحدرين مغطيين بالخضرة والأشجار، وفي نهايتهما نبع ساكن يبدو كالكريستال وعليه صيادون. انتهى الكلام ولكني أشعر أن الكلمات خانتني ببساطة. لا يوجد كلام أستطيع قوله، وربما كانت كلمات واحد من الزوار هي خير ما يعبر عن المكان، إذ قال إن هذا المكان يبدو وكأنه أحد الأماكن التي صنعها الله سبحانه وتعالى ليعطينا لمحة عما ستكون عليه الجنة.
سرت والزوار على الجانب الأيسر من الينبوع، وإذا بكلب ضخم يعدو بسرعة متتبعاً سرباً من القرود على الأشجار، وسيدة جالسة على قارب في الينبوع بجوار شباك الصيادين، وأخرى جالسة على جسر تستمع لأشعار أحد العاشقين الواقف على أول الجسر، وسواقٍ خشبية وصياد عجوز كأننا في أسطورة قديمة عادت للحياة، وفي نهاية كل ذلك شلال ينساب على الصخور في هدوء، وقال أحد المارة إن الشلال ضعيف وهادئ لعدم سقوط أمطار.
وفجأة سمعنا تفجيرات على الجبال، وقال واحد من العالمين ببواطن الأمور إن خط الكهرباء انفجر، ونظر له واحد من السكان المحليين وقال إن هذا هو ما يقوله سكان المدينة. نظرت إليه في فضول فقال إن هذه ليست انفجارات وإنما هي صواريخ نارية يطلقها أحد سكان الجبل يدعونا بها للغداء أو العشاء لأنه أنجب طفلاً، أو لأن أحد أبنائه يتزوج. تذكرت أن الصينيين هم أول من اخترع الصواريخ النارية. ولا تسألني كيف استطعت تتبع الحوار الدائر باللغة الصينية.
بعد انتهاء اليوم عدت للفندق، حيث قضيت ليلة هادئة للغاية بعد أن علمت أنه للحصول على المياه الساخنة علي أن أفتح صنبور المياه والانتظار لمدة «تتي تو» دقيقة. يا سلام على الدقة!
في الصباح انطلقنا مرة أخرى إلى أخدود ثانٍ هو أخدود «ظلال المصباح». وصلنا إلى محطة التليفريك ولم ننتظر كثيراً، وفتح الرجل باب العربة وصاح «بسرعة». 
ركبت بسرعة وقبل أن يغلق الباب صاحت سيوالو: «اقفز بسرعة عندما تصل». المناظر خلابة كما هي دائماً عند ركوب التليفريك. عندما اقتربت من القمة هدأت العربة من سرعتها وقفز رجل وفتح الباب وركض بجانبي صائحاً «كيان» (مع ملاحظة أن حرفي الكاف والنون صامتان تقريباً)، فقفزت من العربة وهي سائرة وأخذت أراقب راكبة أخرى تقفز فيها وهي في طريقها للهبوط مرة أخرى. نظرت ورائي فإذا بسيوالو قادمة في العربة التالية، وهناك حوالي خمسون عربة تتحرك على التوالي كي تستوعب هذا العدد الهائل من الزوار، وأنه لا وقت لوقوف كل منها ثلاث دقائق حتى يهبط الركاب وثلاثاً أخرى ليصعد الركاب في طريقهم للنزول. وهكذا فالمجتمعات كبيرة العدد لها قوانينها الخاصة بها.
وصلنا القمة وأشارت سيوالو إلى صخرة هائلة ضخمة تقف على سن مدبب، تسمى بالمصباح وسمي الأخدود باسمها. مع الأسف الصورة لن تكون واضحة لأنها مغطاة بالأشجار، وبدأنا النزول. على قمة أخرى قريبة يجلس فتى يعزف على ناي صيني منتفخ كالبالونة، يرتدي ملابس تقليدية ولا يتوقف عن العزف. ظننت أنه يستجدي بعض النقود فحاولت الصعود له ولكن كانت كل الطرق مسدودة. تعجبت من هذا الشحاذ الذي يجلس في مكان مستحيل كهذا، ولكن اتضح أنه فنان وعمله هو أن يجلس هناك ليعزف مرحّباً بالضيوف، فالأخدود هو قلعة للحرف التقليدية تعرض فيها الصناعات المنقرضة... إلخ.
هبطت سلماً طويلاً وجدت فيه مقهى بسيط يبيع الشاي الصيني الأخضر الصحي الذي لا أحتمل طعمه، وبعض المشروبات المثلجة. تابعت النزول على مهل حتى صاحت سيوالو لكي أسرع فالعرض على وشك أن يبدأ. هبطت بسرعة ووجدت عرضاً لبعض الفنون التقليدية الصينية كالأكروبات، وبعد أن انتهى جلست لألتقط بضع صور ولكن سيوالو صاحت ثانية، فذهبت مسرعاً لمشاهدة عرض حزين عن كيف كانت الفتيات ينعزلن جانباً لصناعة الحرير، وما إن انتهى حتى نظرت لي سيوالو وفهمت ما تريده، فقمت مسرعاً متجهاً للعرض الثالث، الذي كان عرضاً لعرائس الظل، وهو فن اخترعته الصين القديمة، تماماً كالصواريخ النارية.
بعد العرض نظرت لسيوالو محذراً من أنني لن أتحرك وسأجري لقاء صحفياً مع الفنان. وسرنا بعدها في شوارع القرية القديمة التي تحتوي على الحرف والمنازل القديمة والفنانين، وانتهى اليوم بمسيرة طويلة لقارب للفندق وصنبور المياه المثلجة لمدة «تتي تو» دقيقة.
وجاء دور الاقتصاد بعد ذلك، إذ إن الصين قد شيدت أعظم وأكبر سد في العالم في هذه المنطقة فوق اليانجتسي وسمته «سد الأخاديد الثلاثة». زيارة السد متعة في حد ذاتها، وتبدأ بصعود أعلى سلم كهربائي رأيته في حياتي وصولاً إلى نصب تذكاري هائل يقف أمامه جميع الزوار ليلتقطوا صوراً «سيلفي» وغيرها، وبعد مسيرة جميلة وسط حقول الورد ونزول ثم الحافلة ثم السد، الذي لم أستطع التقاط صورة واضحة له نظراً لأن نسبة الضباب كانت أعلى من العادي بكثير (ويقال إنه تلوث، وإن كنت لا أفهم كيف يمكن لهذا التلوث أن يوجد في مساحات مائية هائلة كهذه)، وأخيراً تصل لمحلات تجارية شعبية ورسمية لبيع المحاصيل الزراعية ومعها التذكارات. تستقل خلال هذه الرحلة حوالي ستة أنواع من المواصلات حتى تخرج. السد ينتج كهرباء تكفي للمنطقة بالكامل، بالإضافة لتوفير المياه للزراعة.
وفي النهاية، أمضيت ليلتين في إيشان في فندق فاخر وطعام غربي كالذي نأكله في كل أنحاء العالم، ونزهة جميلة ثم قطار ثم طائرة لبكين، وبعد وجبة صينية لذيذة في المطار طرت للقاهرة متمنياً أن أزور بقية مقاطعات الصين التي لم نسمع عنها شيئاً.

إيشان - أخدود المياه البللورية

عربات التليفريك فى الطريق لأخدود ظلال المصباح

إيشان - أخدود المياه البللورية

ووهان... محلات الياميش

إيشان... أخدود المياه البللورية

فتيات الزي العسكري في فندق إيشان