نابلس... حلوة المذاق ومرةُ الحياة!

نابلس...  حلوة المذاق ومرةُ الحياة!

بين جبلي عيبال وجرزيم عاش سكانها، وثلاث ديانات هي الإسلامية والمسيحية والسامرية.... يفوح منها عطر خاص يحكي تاريخها العريق مثل زيت الزيتون، والثري بالزعتر الساكن فيها والمنطلق بكرم لغيرها، والشهي مثل حلوياتها ومأكولاتها الشهيرة... هي فلافيا أنابوليس في عهد الرومان، وجبل النار كناية عن ثورة سكانها على المحتلين من فرنسيين وإنجليز وإسرائيليين، و«ملكة فلسطين غير المتوجة» لامتلاكها كل مقومات العاصمة الاقتصادية، وهي «دمشق الصغرى»، التي تشترك معها في كثير من صفاتها ولهجتها ومأكولاتها وحلوياتها، لارتباطهما بخط سكة حديد الحجاز، الذي يصل بين دمشق والمدينة المنورة. هي مدينة نابلس – كما سميت في العهد الإسلامي - التي صعدتُ فيها إلى القمة ونزلت إلى القاع، فكان «ضجيجها» هادئاً متسامحاً في كل طبقاتها الجبلية في تمازج بين مذاق المدينة الحلو، ومرارة ما يقوم به الاحتلال من تدمير لمعالمها.

استيقظت مبكراً، لأذهب إلى توأم دمشق التي ولدت فيها، ففي نابلس فقط أستطيع تذوق الحلاوة الطحينية تماماً كالتي في سورية، حيث طفولتي وعائلة والدتي قبل رحيل أغلبهم بسبب الحرب. أقترب من نابلس فأستنشق ربيع سورية الحقيقي، أسمع لهجتها الممتدة إلى الشام، أتبسّم لوجهها السمائي، مع شوق للزلابية ورغيف المشبك المحشو بمربّى اليقطين، أقترب من أجمل مذاق للبهارات، وأقوى عطر للزعتر، ثم أغتسل بالصابون النابلسي وأرتدي ثيابي وأنطلق. لست مغرمة بالطعام (أرجو عدم إساءة فهمي)، لكنني أعتقد أن الطعام هو الذي يرغبني ليس إلا! معادلة استثنائية، حلّها ليست بدانتي، فأنا رغم عشقي للحلويات نحيفة باختصار.

مزاج الطريق «المستقيمة»
من مدينة رام الله وسط فلسطين إلى مدينة نابلس شمالاً بمسافة خمسين كيلومتراً،  لكنها مع الحواجز تستغرق من ساعة وخمس وأربعين دقيقة فأكثر وفق المزاج الاحتلالي، انطلقت في طريق مستقيمة شكلاً وعوجاء واقعاً، لمرورها بأسوأ الحواجز في الضفة الغربية وهما حاجزا زعترة وحوارة، حيث الإغلاقات المستمرة واكتظاظ مئات السيارات منتظرة إفراج قوات الاحتلال، ليتسنّى للحامل الوصول إلى المشفى في الوقت المناسب والمرضى أيضاً، وللموظفين والطلبة والعمال الذهاب إلى أعمالهم. وما إن وصلت إلى حدود المدينة حتى وجدتها فتاة ثائرة بين جبلي عيبال وجرزيم الشاهقين، تفوح منها رائحة الصابون النابلسي، بهية مثل حلاوة كنافتها الشهيرة، فتاة قد تكون ابنة الشام في ملامحها والميول السورية للهجتها، فتمتد مرحبة مؤَهِّلة مُسهِّلة.

استقبال اللجوء 
قبل أن يصبح الزائر جزءاً من العمران المترامي بين الجبلين، عليه أن يشاهد أولاً مخيم بلاطة إلى اليسار الذي أُسس عام 1950 بتعداد خمسة آلاف نسمة، وعلى مساحة 167 دونماً وصلت اليوم إلى 460 دونماً، حيث يعيش فيه ثلاثة وعشرون ألف نسمة، ومنهم لاجئون من اللد والرملة وقرية كفر قاسم المعروفة بمذبحتها وطيرة دندن والمجدل وغيرها. 
ومثل كل المخيمات تبدو المنازل متراصة بوحي الماضي حين كانت مجرد خيام، أما الخيمة الكبيرة فهي بالتأكيد نادي المخيم المعروف اليوم باسم مركز شباب بلاطة، الذي ينظم اليوم مباريات كرة قدم حصل خلالها على جوائز منها كأس المملكة وكأس فلسطين، ويحتضن كافة أوجه النشاط الثقافي والرياضي والكشفي لأطفال وشباب المخيم، وأغلقته قوات الاحتلال مرات عدة لدوره النضالي، ولاسيما في الانتفاضة الأولى، وكان أطولها إغلاقه في الفترة بين 1982و1992. مواجهات كثيرة تقوم بين جنود الاحتلال وأطفال وشباب المخيم، وأصيب منهم أخيراً محمد السعودي في أكتوبر 2015 في قدمه واعتقلته قوات الاحتلال وحولته للاعتقال الإداري، الذي هو أحد الأسباب الرئيسة لإضراب الأسرى عن الطعام، فالإداري يعني اعتقالاً بلا مبرر قانوني ولا محاكمة لوجود ملف سري لدى المخابرات الإسرائيلية، فيبدأ الاعتقال ويتجدد بلا محــــددات زمنية. ولايـــــزال الأسير السعودي بلا علاج والمماطلة مستمرة.
في المدينة أيضاً مخيم عسكر الذي أُسس تزامناً مع بلاطة على مساحة 209 دونمات أضيف إليها 90 بسبب اكتظاظه الشديد، حيث يقطنه أكثر من سبعة عشر ألف لاجئ. فيه تناولت أجمل وجبة «مفتول» مطبوخة بأجنحة دجاج فقط... فقيرة من اللحم لكنها غنية بالحب والكرم، والمفتول بحبيباته المصنوعة يدوياً من الطحين أعدتها يدا لاجئة تراءت لها اللد وحيفا ويافا فتداخلت الشهـــية بالاشـــتهاء للعودة، حفرت الوجبة الفلسطينية الخالصة ببساطتها كل أحلام اللاجئين في المخيم وخارجه، وهي العودة، ولا شيء غيرها.

إلى «بيت فلسطين»
كان لقائي الأول في «بيت فلسطين» وهو قصر رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري (مواليد 1934)، الواقع على قمة جبل جرزيم، حيث مساحة تمتد إلى أربعمائة دونم يتوسطها بناء مكون من ثلاثة طوابق مساحة الواحد منها ألف متر، يفتح البيت أبوابه للزوار، فُتِحت البوابة الإلكترونية، واجتزتُ حدائق وأشجاراً إلى اليمين واليسار، إلى أن أوقفني الشاب محمد، الذي يعمل في القصر، ذهبنا مباشرة إلى «جناح الكون» حيث يجلس المصري ومجموعة من الشباب والصبايا القادمين من مدينة الناصرة داخل أراضي الـ 1948، أحدهم رسم صورة للمصري وحدثوه عن جوانب نشاط مؤسستهم.
في هذا الجناح كان مخطط الكون كله حولنا... كيف نشأ وتطور وكواكبه والطبقات الأرضية وقطع أثرية وأحفورية، أخبر المصري خريج قسم الجيولوجيا من جامعة تكساس الأمريكية «العربي» أنه جمع مكونات البيت الضخمة من قطع أثرية وبلاط وأبواب على مدى أربعين عاماً، وشحنها في 145 حاوية إلى فلسطين، البناء ملوكي على الطراز القديم، فيه يعيش مستمتعاً بكل ما استطاع اقتناءه من شتى بلاد العالم. 
لكل غرفة في البيت اسم يدل على معلم فلسطيني، والأبرز الأجنحة الأربعة، فبعد جناح الكون أخذنا محمد إلى جناح الأركيولوجيا أي علم الآثار، حيث دير بيزنطي عثر عليه في أثناء الحفر فحافظ عليه وتم ترميمه ليصبح أحد معالم القصر، وفي أرضه فسيفساء جميلة، ثم صالون الذاكرة الذي يوثق التجربة الفلسطينية منذ عام 1917، حيث أسماء كل القرى المدمرة الفلسطينية ورسومات لفنانين فلسطينيين تحكي عن المجازر والانتـــفاضتيـــــن وأهم الأعلام الفلسطينية والعربية، وطبعاً بحثت عن اسم قريتي «عنابة» ووقفت والتقطت صورة معها، تجولنا في أرجاء القصر، ودخلنا جناح الموانئ السبعة، في إشارة لموانئ فلسطين التاريخية.

على عرش الخديو
 وفي إحدى الغرف لفت انتباهي أقدم آلة تصوير في العالم، إلى جانبها هذا الكرسي الأخضر والذهبي المزركش، الذي يعد وجوده في القصر أمراً جائزاً، لكن أن أجلس عليه في قفزة من شخصيتي اللاجئة، التي تدّعي الكتابة والإحساس هو اللافت! إنه عرش الخديو إسماعيل بحد ذاته، في البداية جلست مسكينة مستكينة قبل أن أتنبه وألتقط صورة أخرى وأنا فاردة ذراعي مدعية ما هو أكبر من إحساس الملوك بل ويتعداه إلى أباطرة وسلاطين العالم، فلحظات العز للاجئ لابد من اغتنامها بكل جمالياتها. وفي حديقة القصر، أشار لنا المصري إلى أنه يستقبل شهرياً نحو خمسين شخصاً على مدار العام عدا العرائس والعرسان الذين يأتون لالتقاط صور تذكارية قبل الزفاف. انتهت الزيارة بصورة جماعية معه، وكان هو على موعد لزراعة بعض الأشجار مع طلبة الجامعة في وادي الباذان، وهو منطقة سياحية تشتهر بالينابيع والطيور المقيمة والمهاجرة كالهدهد والسنونو وغيرهما، وفيها آثار تعود للعهد الآشوري، وهي أحد أبرز الأماكن السياحية لرحلات طلبة المدارس في فلسطين. 

«السُمَرَة»... وليس الصهاينة!
قرب القصر على قمة جرزيم منطقة يعيش فيها «السمرة» أو «السامريون»، وهم طائفة يهودية لا تؤمن بوجود هيكل سليمان في القدس كما يدعي الإسرائيليون، وقبلتهم هي جبل جرزيم حيث يقطنون، وهم أصغر طائفة دينية في العالم وعددهم 750 فرداً، أكثر من نصفهم يعيشون على قمة جرزيم. وتعاني الطائفة من مشكلة الزواج حيث يمنع الزواج من خارجها، وتشير الإحصاءات إلى وجود شابين لكل فتاة، لذا يدرج عندهم زواج البدل أي تزويج أخوين معاً لأختين من عائلة أخرى.
في أبريل يحتفلون بعيد الفسح (بالسين) فيرتدون ليلاً الأبيض وتبدأ مراسم ذبح القرابين فيختلط الدم باللباس. تعتبر الطائفة أن اليهود كانوا شعباً واحداً لكن بعد موت النبي سليمان عليه السلام انقسموا وأصبحوا أبناء «إسرائيل» الذين لم يتركوا فلسطين أبداً، أما اليهود الذين أقاموا دولة إسرائيل فهم يهود فقط، كانوا قد خرجوا وعادوا إليها بجيل جديد ولغة جديدة لا علاقة لها بـ«إسرائيل»، كما أن هناك كثيراً من الاختلافات بين توراة اليهود وتوراة السامريين.
في هذه المنطقة يأتي السياح للتعرف على الطائفة ومتحفها ومعبد جوبيتر الذي أقامه الرومان، الخاص بالسامريين، نلتقط صورة جميلة تطل على معالم نابلس من أعلى نقطة فيها.

هنا حفر النبي يعقوب... وارتوى المسيح
نحو انحدار الجبل الشديد، اتجهت ومررت بين بيوت المدينة التي تملأ الجبلين، إلى بلدية نابلس، فهناك التقيت بالأصدقـــــاء زيد الأزهري من بلدة سبسطية المحاذية للمدينة، وعلاء الهموز الذي اعتاد قضاء وقــــته أيــام السبت متجولاً بعيداً عن ضغوط العمل، حصلنا على بعض المعلومات من البلدية عن المدينة، ثم انطلقنا إلى بئر يعقوب حيث شرب سيدنا عيسى عليه السلام الماء من المــرأة السامرية رغم أنه يحرم على هذه الطائفة الاخـــتلاط بغيرهم، مر المسيح بالمكان قادماً من بيــــت المقــــدس متــــجـــهاً إلى الجليل. 
وَلَجنا الكنيسة إلى البئر بعمق 40 متراً، التي حفرها سيدنا يعقــــوب عليه الســـلام عــــندما جاء إلى المدينة. 
أخبرني عـــلاء أن الكنيسة بنــــيت لأول مرة من قبل الملكة هيلانة والــــدة قسطنطين إمبراطور روما آنذاك، لكنها هدمت مرات عدة، واليوم يتولاها الأب فلامينوس، الذي كان يجلس في حديقتها حين وصلنا وشاهدنا قبره الذي أعده الأب على أمل أن يدفن فيه في حديقة الكنيسة التي أفنى حياته فيها، وهي في عهده حظيت بالرعاية المشهودة. 
ويبدو أن وجود القبر فيها يعود لما قامت به قوات الاحتلال الإسرائيلي حين اقتحمت الكنيسة عام 1967 وذبحت رئيسها الأرشمندريت فيليمينوس. 
إجمالاً عانى المسيحــــيون وتم تهجــــيرهم من قبل الاحتلال فبقي منهم 250 شخـــصاً فقط في المدينة، ومع ذلك يحافظ السكان على الإرث المسيحي والكنائس العديدة الموجودة فيها.

شكيم... الكنعانية
كان الذهاب إلى تل بلاطة الواقع بين جبلي جرزيم وعيبال يعني الذهاب إلى أقدم موقع أُسست عليه نابلس أو شكيم، أي المرتفع كما أطلق عليها العرب الكنعانيون الذين أسسوها أواسط الألف الثالث قبل الميلاد. على هذه التلة كانت البداية، وتقول الأدبيات إن المسيح عليه السلام مر بالمنطقة التي هُجِرَت في إحدى الفترات فأسس الرومان مدينتهم فلافيا أنابولس قبل أن تصبح نابلس في الحكم الإسلامي. شربنا كوباً من الشاي بالنعناع، وشاهدنا في الموقع فيلماً تاريخياً عنه وتاريخ المدينة، تجولت وعلاء وزيد في المكان شاهدين على الحجارة القديمة، أشار علاء إلى البوابة الشرقية للتل، وما بقي من بواباته المستندة إلى بقايا أعمدة ضخمة، تميز الموقع بوفرة المياه، لذا كان مسرحاً ميسراً للحياة والاستقرار وتأسيس المدينة، ومن نقطة حددها علاء استطعنا التقاط أفضل صورة للمكان.

بالليمون... فهمنا التاريخ والحضارات
في هذا الطقس الحار، مررنا بمقهى الحموز وهو لأقارب علاء، وهناك افترقنا فغادر زيد مضطراً للعودة إلى بلدته البعيدة عشرة كيلومترات استعداداً لليلة مقدسية تراثية تقام فيها، كان عصير الليمون بالنعناع تحت الظل كافياً ليشحذ همتنا لمتابعة الجولة في البلدة القديمة، التي أُسست سابقاً في تل بلاطة، وبعد أن دمرها الرومان بسبب تمرد سكانها، بنيت غربه البلدة القديمة عام 71م، للبلدة بوابتان رئيسيتان، عبرنا من بوابتها الغربية أي من جهة كنيسة القديس فيلبس الأسقفية وبجانبها تظهر مئذنة جامع الخضر، الذي بني على أرض تبرعت بها الكنيسة، فصار الناس يربطون الجامع بالكنيسة والكنيسة بالجامع ليدللوا على مكانها، وهكذا فُتِح لنا عالم البلدة القديمة في المدينة التي تعيـــش فيها ثلاثة أديان؛ الإسلامية والمسيحية والسامرية. سرت في شوارعها فتذكرت شوارع البلدتين القديمتين في الخليل والقدس. 
تحدث علاء عن وفرة المياه، ففيها خمسة وثلاثون سبيلاً للمياه، شاهدت عدداً منها والمارة يشربون وعابري السبيل يستمتعون بها، وعند منزل علي جاد الله (أبو حسام) توقفنا، وهو يشبه بيوت الشام في تصميمه، والساحة التي تتوسطه، كانت بساطة الحياة أيام زمان تختصر في حالة حددها «أبو حسام»، قائلاً إن سلة البيض في دكان الحارة كانت تكفي الجميع.
جلسنا في غرفة تضـــم مقتنيــــات أثرية جمعها «أبو حسام» وهو أمر طبيعي لشخص يعيش داخل بلدة محاطة بســور من المباني القديمة وست عشرة بوابة منها بوابتان رئيستان، يجد قطعاً قديمة حوله ويشعر بقيمتها ليس إلا، بل وصار يحب شراءها واقتناءها، فهذا «البيرو» كانت تستخدمه النساء قديماً للتزيّن ووضع عطرها والكحل العربي وفساتينها وربما الذهب. وصدف أن الدرج الأخــير استحال فتحه إلى أن تم ذلك عام 1965 وفوجئ «أبو حسام» بكرتونة من مكعبات السكر. قد تكون حبات السكر لفتاة مراهقة أو عروس كانت تسترق لحظات في غرفتها في أثناء التزين فتتناولها. 
في المنزل بعض أشغال «أبو حسام» اليدوية مثل مجسم القدس من الفخار بإضاءته الجذابة، وما إن غادرنا حتى جاءت مجموعة من طلبة المدارس، فأي مكان في هذه البلدة هو محط للسياحة وللتعلم.

القصور داخل السور
كانت رائحتها تملأ خطواتي داخل هذه البلدة، أنتظر لحظة رؤية قصر آل طوقان، إحدى عائلات نابلس القديمة، حيث عاشت وأصبحت الأديبة والشاعرة فدوى طوقان، حاولت البحث في تفاصيل روايتها «رحلة جبلية... رحلة صعبة» وكيف كانت نظرة ابن الجيران لها نهاية قصة ذهابها إلى المدرسة على سبيل العقاب وبداية مشوارها الأدبي على يد أخيها الشاعر إبراهيم طوقان. 
تعرض القصر للتدميــــر من قـــــوات الاحتــلال كما تعرض لهذا عديد من المنازل والقصور والمساجد والكنائس في البلدة. بني القصر قبل ثلاثمــــائة عام على نمط الحصن المنيع، في إشارة إلى الصراعات على السلطة بين عائلات المدينة، وهو مبني على النمط الحلبي، لأن جذور آل طوقان تعود إلى حماة في سورية.

القهوة والزعتر... الرائحة النفّاذة للغاية
عند دكانة «قهوة بريك» وقفنا، أخذتني الرائحة، ولأنني لست «مدمنة» قهوة، جذبتني رائحة البهارات والزعتر أكثر، الزعتر هنا هو ذهب فلسطين الأخضر وتنتشر زراعته شمالها بما مساحته 5500 دونم، أنتجت العام الماضي 11 ألف طن منه، تشتهر نابلس به، استنشقته وكأنني أمر على كل طفولتي التي كانت في الغربة تفتقد وتنتظر أي زائر من فلسطين أو بلاد الشام ليحضر الزعتر، وأنا الطفلة النحيفة التي تعيش وتنمو عليه. كان المكان يمتلئ بالزوار، لاسيما الأجانب، جلست مع المالك باسل بريك (1962)، الذي تعمل عائلته في المهنة منذ عام 1936، جلسنا في زاوية تراثية وحدثنا كيف تطورت خبرة العائلة، لاسيما في مجال العطارة والأعشاب الطبية فصارت تمازج بين الخبرة والدراسة، لديهم نحو 90 صنفاً من البهارات. وأكد لمجلة «العربي» أن البلدة قديمة تتعرض لاقتحامات كثيرة ضمن محاولات لإضعاف الحركة التجارية فيها.

إلى الياسمينة وأريو
عشرون ألفاً يعيشون في البلدة القديمة، التي تضم سبعة أحياء، منها حارة الياسمينة التي نسير فيها حالياً، يغلب على حجارة البلدة الطابع المعماري الإسلامي ما عدا الروماني والبيزنطي والعثماني، وهناك نقوش مملوكية على بوابات بعض مساجدها، مثل: الصلاحي الكبير، وجامع الساطون الذي يعود بناؤه لفترة حكم الخليفة عمر بن الخطاب ، وطبعاً لا يكتمل المكان إلا بالحمامات التركية، التي يعمل منها اثنان من أصل أحد عشر.

صابونة... الزيت والحليب
لكثرة زراعة الزيتون شمال فلسطين، اشتهرت نابلس بصناعة الصابون من زيت الزيتون، وبمروري وعلاء بإحدى المصابن (أي مصنع الصابون)، التقينا شامخ بدر مالك مصبنة البدر، الذي أخبر «العربي» بأهمية وفرة المياه لبناء المصابن، وهو ما تمتاز به البلدة القديمة، وعرّفنا على آلية صناعته، وفتح لنا مخازنه تحت الأرض الممتلئة بزيت الزيتون، التي كانت سابقاً مثل البنك يحفظ الناس زيتهم فيها ولاسيما الفائض، الذي يستخدمه ملاك المصابن إذا احتاجوا في صناعة الصابون، حينها يعطون للناس حقوقهم من أرباح المصبنة. وأكد لنا شامخ أن الصابون يعتمد في مكوناته على أجود أنواع الزيت وهو زيت العصرة الأولى مع مادة قلوية تحدث التصبن، وحديثاً تطورت الصناعة وأضيفت عناصر أخرى للصابون مثل حليب الماعز، الذي يساعد في تجديد خلايا البشرة، وأنتج أيضاً الصابون السائل، عدا عن قطع الصابون الصغيرة محفور عليها أسماء العروسين.

بين سكر المدينة ومرارة الحياة
هكذا يحتفظ كل بيت فــــيها بسكره على هواه، حتى العروس تحمل مكعـــباتها معها، لكنهم من جــــهة أخرى وقفوا ومازالوا في وجه أقوى جيــــوش العالم، بدءاً مما فعلوه حيـــن هاجم نابليون بونابرت أسوار عكا وكانت نابلس طريق الرجوع، فقاموا بإشعال الجبل بما فيه من خيام عسكرية ليفر الجيش الفرنسي. هذه نار المقاومة، لذلك لُقِّبت بجبل النار، أما نارها اليوم فهي نار الاحتلال الملتهبة من جراء ما يقوم به بفصل المدينة عن قراها الست والأربعين بعشرات الحواجز العسكرية، وقصف لمدارسها وأسواقها ومعالمها الأثرية، ففي البلدة القديمة كانت الجرافات المدرعة تفتح الطرق الضيقة فيها فتجرف معها بيوت المواطنين، وحتى عام 2004 تم ترميم أكثر من 3700 بيت مسجل لدى بلدية نابلس، وفي تقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة لعام 2002 بعد عملية «الدرع الواقي» لجيش الاحتلال، جاء فيه أن نابلس كانت من المدن الأكثر تضرراً في ممتلكاتها، ولاسيما البلدة القديمة بما فيها مبان ذات أهمية ثقافية ودينية وتاريخية، وأن الاحتلال لم يكن يمهل السكان وقتاً لحمل أمتعتهم.

كنيسة بئر يعقوب 

شوارع البلدة القديمة وجامع الخضر وكنيسة فيلبس