ذكريـــات

ذكريـــات

توفي جمال عبدالناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر عام1970. وقد عرفت هذا الخبر في بيتي الصغير في شارع النخيل بالمهندسين، وكانت المعرفة تدريجية، إذ فجأة انقطع إرسال التلفزيون وبدأ يذيع القرآن الكريم على امتداد ساعات، وفي النهاية شاهدنا أنور السادات على شاشة التلفزيون يعلن وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، مؤكدا أن مصر قد فقدت رجلاً من أغلى الرجال وأشجع الرجال وأخلص الرجال. وكان الإعلان نفسياً صادقاً للرجل الذي وصفته أغنية عبدالحليم حافظ بأنه حبيب الملايين التي كانت تحمل سيارته بالفعل، ويهتف باسمه الملايين على امتداد العالم العربي. 

ما أذكره أنه قد توفي بعد أن ودع أمير الكويت، ورغم أنه شعر بالإرهاق الشديد فإنه أصر على توصيل أمير الكويت الشيخ صباح السالم الذي كان عبدالناصر يكن له محبة خاصة بسبب مواقفه الداعمة لمصر، وكان الوداع بعد انتهاء مؤتمر القمة الذي دعا إليه عبدالناصر، وانعقد في القاهرة، وذلك لمواجهة محاولة تدمير منظمة التحرير الفلسطينية والأحداث الدموية التي جرت في الأردن، التي كان منها محاولة اغتيال ياسر عرفات، ولكن تدخل عبدالناصر قد أنقذ ياسر عرفات في اللحظات الأخيرة، وعاد إلى القاهرة متخفياً لكي يحضر مؤتمر القمة في مواجهة الملك حسين، وانتهت المحنة الفلسطينية التي اقترنت بما أصبح اسمه «أحداث أيلول الدامي». وبعد أن قام عبدالناصر بتوصيل أخيه حاكم الكويت، عاد إلى منزله مستسلما إلى التعب ومسلماً نفسه إلى ملاك الموت الذي أراحه من كل المصاعب والكوارث والإحباطات التي ظل يقاومها منذ هزيمة الخامس من يونيو التي تركت أثرا عميقاً وسيئاً في نفسه وصحته، وأدت إلى تفاقم مرض السكري الذي كان مصاباً به وضغط الدم، فضلا عن أمراض القلب الذي كان لابد أن يضعف في مواجهة الأحداث الجسام التي لم يتوقف عبدالناصر عن مقاومتها بشجاعة وبسالة إلى أن سقط على أرض التحدي وفي آخر معاركه التي كانت من أجل أمة عربية واحدة. ولكن سرعان ما تفرق شمل هذه الأمة العربية، وتعددت انقساماتها وانشقاقاتها إلى أن وصلت إلى ما وصلنا إليه.
والحق الذي لا مراء فيه أننا لم نر طوال عهد عبدالناصر أي شكل من أشكال الحكم الديني أو حتى أي صوت عالٍ من أصوات التعصب الديني أو حتى الفتن الطائفية، فقد عشنا في مصر ناجين بفضله من محاولات بعض الذين أرادوا أن يقنعوه في بداية حكمه بتحجيب النساء، ولكنه رفض أن يأمر امرأة مصرية بالتحجب، وظلت المرأة المصرية طوال عهده جديرة بأن تكون وريثة ثورة 1919 التي دعت إلى تحرير حرية الوطن وحرية أفراده والمساواة المطلقة بينهم، كما نص على ذلك دستور 1923 الذي كتب بعد سنوات قليلة من ثورة 1919. وكان الدستور بمواده المتقدمة مرآة ناصعة لأفكار ثورة 1919 وما أحدثته في العقول والأفئدة. وورثت الثورة المصرية التي قام بها الضباط الأحرار في يوليو 1952 ميراث ثورة 1919، وبالتالي أفكار تحرير المرأة، وهو الأمر الذي أدى إلى أن تكون المرأة المصرية نائبة في البرلمان المصري سنة 1957. وشهد البرلمان المصري للمرة الأولى نائبات مدافعات عن حقوق المرأة وإكمال الأشكال القانونية والاجتماعية للمساواة بينها وبين الرجل، كما شهدت الحكومة للمرة الأولى تعيين الدكتورة حكمت أبو زيد وزيرة أولى للشؤون الاجتماعية في 25 سبتمبر 1962، وكان ذلك إيذانا بوصول المرأة إلى أعلى درجات السلطة التنفيذية، جنبا إلى جنب الرجل بلا فارق. وأذكر أنني دخلت جامعة القاهرة في سبتمبر عام 1961 للمرة الأولى، قادماً من مدينتي الصغيرة – بالقياس إلى القاهرة- المحلة الكبرى، ولم أر طالبة ترتدي الحجاب أو النقاب، فكلهن كن سافرات، وفي قسم اللغة العربية الذي اخترت الدراسة فيه، متابعاً خطى طه حسين، كانت رئيسة القسم امرأة، هي أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي، كما كانت تدرس لنا أستاذتي الدكتورة نبيلة إبراهيم، وكانتا سافرتين. وفي كافتيريا كلية الآداب قابلت عشرات الطالبات من كلية الآداب والكليات الأخرى سافرات الوجوه أيضاً. وأقول الأمر نفسه عن الطالبات الجادات اللائي كنت أقابلهن في قاعات مكتبة جامعة القاهرة وكن ينافسننا على التفوق، وبعضهن كان ينجح في ذلك بالتأكيد، ولم يكن الأمر يقتصر على مكتبة جامعة القاهرة العامة فحسب، وإنما كان يمتد إلى غيرها من المكتبات، ابتداء من مكتبة دار الكتب في باب الخلق أو فروعها المتعددة إلى آخر المكتبات التي كان منها مكتبة الجيزة التي كنت أفيد منها. ومضت سنواتي الدراسية التي انتهت سنة 1965 بتخرجي في الجامعة إلى أن أصبحت معيداً فيها ثم مدرساً مساعداً، وما كنت أراه في زميلاتي أيام الدراسة هو عينة لما أصبحت أراه في طالباتي، بعد أن تحولت إلى معيد، وكانت أستاذتي المرحومة سهير القلماوي تعاملني بوصفي ابناً لها وتدفعني إلى تجارب صعبة لكي تقضي على الخجل القروي الذي لم يكن قد فارقني بعد، فدفعت بي إلى التدريس في أقسام اللغة الفرنسية ثم اللغة الإنجليزية لكي أتعرف على السلوك الأكثر تحرراً من طالبات هذين القسمين بالقياس إلى سلوك طالبات قسم اللغة العربية الذي كان محافظاً بالقياس إلى طالبات هذين القسمين.
وكانت الجامعة في تلك السنوات من الستينيات كرنـفالاً حراً مفتوحاً على كل التيارات الفكرية العالمية، ابتداء من الوجودية وليس انتهاء بالماركسية. وما كان أسهل الحصول على الكتب التي كانت تضعنا في دوامة هذه الاتجاهات المتقاربة والمتضادة والمتصارعة التي كان بعضها يصيب أدمغتنا بالدوار ويجعلنا نعيد النظر في كل معارفنا التي كانت لدينا من قبل، وأذكر جيدا أنني ظللت أصلي لأيام عديدة ولا أتوقف عن البكاء مستغفراً الله سبحانه وتعالى لأني استمعت إلى زميل لي يردد مقولة نيتشه الفيلسوف الألماني الذي أعلن في جرأة لم أعهدها من قبل بأن الإله قد مات، وأننا نعيش في عالم بلا آلهة، حيث لا تبقى إلا الإرادة الحرة للإنسان. كانت هذه الأفكار تدير رأسي وكنت معلقاً بها ونافراً منها في الوقت نفسه، لكن جوعي المعرفي كان يدفعني إلى قراءة كل شيء والتعرف على كل شيء متاح ومباح في مكتبات القاهرة التي كانت تبدأ بمكتبات الأزهر في الحسين وأزقة الأزهر ولا تنتهي عند مكتبة الشرق التي كانت ملك الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت وتتيح لنا الأدب الروسي والكتب الماركسية بأرخص الأسعار. ولا أظن أن مصر قد شهدت ازدهاراً ثقافياً كالذي شهدته في الستينيات الناصرية.
صحيح أنني كنت أسمع عن السجون الناصرية وعن عبدالناصر الذي زج بالشيوعيين والإخوان المسلمين معاً في سجونه، كما كانت تبلغني أطراف عن أخبار التعذيب الوحشي الذي كان يلاقيه المعتقلون اليساريون واليمينيون على السواء. ولكني أشهد أنني لم أعرف في ذلك الوقت أحداً من هؤلاء المعتقلين، ربما لأنني كنت مشغولاً بطلب العلم ومحاولة التفوق على أقراني من المصريين وأبناء الدول العربية، فلم تكن جامعة القاهرة جامعة مفتوحة للمصريين فحسب، وإنما كانت جامعة مفتوحة لكل أبناء الدول العربية من المحيط إلى الخليج، ولذلك عرفنا زملاء مصريين وفلسطينيين وخليجيين وسوريين ومغاربة وتوانسة في قسم اللغة العربية، فقس على ذلك بقية الأقسام والكليات. فقد كانت جامعة القاهرة بحق جامعة لكل الطلاب العرب، حين لم تكن هناك جامعة أخرى في الأقطار العربية. فظل الأمر كذلك إلى نهاية الستينيات ولم يكن ينافس جامعة القاهرة سوى الجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت تستقطب بدورها أعداداً كبيرة من الطلاب العرب وتتيح لهم من حرية النشاط السياسي ما لم يكن متاحاً بالقدر نفسه في جامعة القاهرة، ولم أكن أعرف ذلك في حينه. ومرت سنوات الجامعة وتخرجت، وبدأت أختلط بالحياة الثقافية العامة وأعرف من أسرار الديكتاتورية الناصرية ما كنت أجهله وأنا طالب، وعرفت عن اعتقالات الشيوعيين المصريين التي امتدت من سنة 1959 إلى 1964.
ومضت بي الحياة في القاهرة بعد أن سجلت لدرجة الماجستير مع أستاذتي سهير القلماوي عن «الصورة الفنية عند شعراء الإحياء في مصر»، وأخذني البحث في هذه الرسالة عن الاندماج الكامل في الحياة الثقافية. فقد كنت مستغرقاً في عملي تماماً، وفي قراءة كل ما يتصل بعصر الإحياء في الشعر الذي كان يبدأ من بداية عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. وبسبب هذا الاندماج والتفرغ للعلم لم تكن لي صلة حميمة بالحياة الثقافية ومثقفيها وشعرائها، وأذكر أنني قد اخترت موضوع الصورة الفنية لأنني كنت أريد أن أدرس الجوانب الفنية في الشعر على نحو خاص، ذلك لأني كنت أشعر أن الدرس الأدبي في ذلك الوقت لا يركز على الجوانب الفنية في الشعر الذي اخترته للدرس الأكاديمي، فقررت التركيز على الجوانب الفنية، وكانت البداية أن اخترت دراسة الموسيقى الشعرية، ولكني اكتشفت بفضل أستاذتي سهير القلماوي أن الدراسة الجادة لهذا الموضوع تقتضي دراسة الموسيقى دراسة متعمقة، فضلاً عن دراسة علم الأصوات اللغوي، فطلبت مني أستاذتي أن أذهب إلى مقابلة الدكتورة سمحة الخولي في معهد الموسيقى العربية أو الكونسرﭬتوار، وهو الأمر الذي جعلني أخاف من الدخول في هذا الموضوع الصعب الذي قد يحتاج إلى سنوات طويلة من الدرس، فأخذت موضوع الصورة الفنية عند شعراء الإحياء بوصفهم المؤسسين الأوائل لحركة الشعر العربي الحديث كله. وآثرت أن أغوص في دواوين البارودي وشوقي وحافظ والجارم وأحمد نسيم في مصر، والرصافي والزهاوي في العراق، والأخطل الصغير في الشام، وغيرهم من شعراء هذا العصر.
والمؤكد أنني كنت غارقاً في اتباع أفكار أستاذي عبدالعزيز الأهواني التي أصلها في كتابه عن ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار. وخلاصة هذه الأفكار أننا لا يمكن أن ندرس شعر العصور المتأخرة التي تمضي في خطى الاتّباع أكثر من خطى الابتكار إلا بعد أن ندرس علاقاتهم بالشعراء القدامى الذين سبقوهم. فهؤلاء الشعراء المتأخرون كانوا مقلدين ومتّبعين أكثر منهم مبتكرين. ولذلك لا يمكن لمن يريد دراسة شعرهم إلا أن يقارنه بالشعراء السابقين من القدامى في كل مجال من مجالات الشعر أو أغراضه، وقد تعمقت في نفسي هذه الأفكار وزادها رسوخاً أفكار الأساتذة الكبار أمثال العقاد وطه حسين وإبراهيم المازني، الذين ذهبوا إلى أن شعر المدرسة الإحيائية شعر تقليدي بحت، ولذلك لا يمكن دراسته – كما يقول أستاذي عبدالعزيز الأهواني - إلا بالعودة إلى الأصول التي أخذ عنها، والتي يدخل في مباراة معها، ولذلك قضيت أربع سنوات في أطروحة الماجستير أبحث في شعر الإحيائيين عن علاقته بشعر القدماء، متناسياً أن هذا الشعر لم يكن اتباعاً فحسب، وإنما كان ابتداعاً في الوقت نفسه، وانتهيت من رسالة الماجستير وجاءت مناقشتها في شهر يوليو سنة 1969. وأذكر أن لجنة المناقشة كانت تتكون من أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي بوصفها مشرفاً، وأستاذي الدكتور عبدالحميد يونس - رحمه الله - بوصفه مناقشاً، وأستاذي شكري عياد بوصفه مناقشاً ثانياً، وأذكر أن شكري عياد قد اتهمني بالدوجماطية، وأنني بنيت بحثي على تصور مسبق وأنني مضيت في البحث لا لكي أكتشف الشعر الإحيائي في حياد وموضوعية، وإنما لكي أثبت صحة هذا التصور فحسب، فلم أرَ من شعر الإحيائيين إلا ما يتفق مع هذا التصور، ومن ثم أغفلت غير ذلك من جوانب شعر الإحيائيين.
وبالفعل عندما أتأمل الأمر الآن بعد كل هذه السنوات الطويلة أجد أنني كنت دوجماطياً بالفعل، وأنني كنت متبعاً لأفكار طه حسين ونقاد مدرسة الديوان الذين لم يروا سوى الجانب التقليدي من شعر الإحياء. ومن المؤكد أن الجوانب التقليدية تغلب على شعر الإحياء. لكن إلى جانب هذا التقليد هناك الابتداع الذي كان يجب الكشف عنه، ولم أنتبه إلى ذلك إلا أخيراً، ولذلك تغيرت نظرتي إلى شعر هؤلاء الشعراء وحاولت أن أكشف عن الجوانب الجديدة في شعرهم، خصوصاً عندما أقمت مع أستاذي عز الدين إسماعيل ملتقى الإبداع العربي الذي عقدناه سنة 1992، بمناسبة مرور ستين عاماً على وفاة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم على السواء. وكتبت بحثاً بعنوان «الشاعر الحكيم»، ثم كتبت دراسة مطولة كانت تقديماً لشعر البارودي في طبعة حديثة للديوان، ولا أزال إلى الآن أتوق إلى أن أعيد قراءة شعر شوقي، خصوصاً في جوانبه الخاصة بالوصف والنسيب أو الغزل، ولكن الزمن لم يكن يتيح لي أن أقوم بذلك إلى الآن.
وقد دفعتني أطروحة الماجستير إلى أن أحدد رسالة الدكتوراه، وكانت عن «مفهوم الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي»، وقد قضيت في درسها أربع سنوات، وقد أحدثت الأطروحة أثراً طيباً عند مناقشتها سنة 1973. وسرعان ما تلقفها صديقي الدكتور مصطفى لبيب - رحمه الله - وطبعها في دار نشر كان يملكها. والحق أن هذه المسيرة العلمية في الجامعة كانت مسيرة علمية خالصة. ولم أندمج في الحياة الثقافية العامة إلا بالقدر القليل الذي كان يتيحه الفراغ ما بين أوقات العمل في الرسالة. ولذلك شغلني العمل في أطروحتي الماجستير والدكتوراه عن قراءة كل ما كنت أود أن أقرأه في ذلك الوقت، فقد كنت أريد أن «أتدكتر» بأسرع وقت. وكان زميلي حسن توفيق – رحمه الله - يحاول أن يجذبني إلى الحياة الأدبية ويصحبني معه إلى بعض الندوات عندما كان وقتي يتسع لذلك. ولا أنسى أنني ذهبت معه لحضور مسرحية «مأساة الحلاج» بعد أن أكمل صلاح عبدالصبور نصفها الأول، وكان ذلك ونحن في مرحلة الطلبة لم نتخرج بعد. وإن لم تخني الذاكرة فقد كان هذا عام 1964، وذلك في يوم من أيام عمري الذي لا أظن أنه يمكن أن يتكرر عند شاب من شباب هذه الأيام الذين يطلبون العلم محاصرين بالإرهاب الديني وبالقمع السياسي على السواء. وتفصيل ذلك موجود في مقال بعنوان: «يوم من عمري» سبق أن نشرته في الجزء الأول من مذكراتي التي أطلقت عليها عنوان: «زمن جميل مضى». 
ولم أكن قد فرغت من أطروحة الدكتوراه بعد، حتى صدمتنا هزيمة يونيو 1967 التي كان لها أعمق وأسوأ الأثر على وعينا، فقد أفقنا من أوهامنا، واكتشفنا الخلل الذي تنبني عليه الدولة والفساد الذي كان ينخر في جذورها، ففقدنا الثقة بكل شيء، وتقوقعت على نفسي، مدعياً التفرغ للعمل في أطروحة الدكتوراه، كي أهرب من وطأة الحاضر وقسوته. ولكن لم يفتني أن ألمح تراخي قبضة القمع البوليسي، والسماح للمهزومين أن يخرجوا ما في صدورهم من غضب وسخط. وقد لاحظت أن عبدالناصر قد استوعب درس الهزيمة، وبدأ في إعادة بناء الدولة، تحت شعار: «يد تبني ويد تحمل السلاح»، وكانت لاءات قمة الخرطوم الثلاث، تعبيراً عن عزمه الجديد. والحق أنني شعرت بالتعاطف معه بعد إدانتي له، وهو يحقق ما يشبه أن يكون معجزتين. أما المعجزة الأولى فكانت إعادة بناء الجيش الذي بدأ يخوض معارك الاستنزاف البطولية التي كانت بداية لحرب أكتوبر 1973. وكانت المعجزة الثانية استكمال بناء السد العالي. ولاأزال أتذكر الخطاب الرسمي الأخير لعبدالناصر، الذي كان أشبه بخطاب الوداع. ولم أندهش عندما أعلن عبدالناصر في آخر خطاباته في جامعة القاهرة عن ضرورة إعادة التفكير في البنية السياسية للدولة، وعن ضرورة التفكير في صيغة التعددية السياسية بدل الصيغة الأحادية التي كان يمثلها الاتحاد الاشتراكي. ولكن القدر لم يمهل عبدالناصر ليحقق مع الشعب أحلامه، فمات وهو في ذروة انشغاله بإعادة البناء، فلم يستطع أن يحقق أحلامه وأحلامنا، وكان عمره عند موته اثنين وخمسين عاماً فحسب، فقد ولد سنة 1918 قبل عام واحد من قيام ثورة 1919 ومات سنة 1970، بعد أن فرغ من تجهيز الجيش لمعركة التحرير، ووضع مع قادته العسكريين خطة التحرير وعبور القناة «صقر»، وبعد إعلان وفاة عبدالناصر بيوم، ذهبت في الصباح للاشتراك في الجنازة، ولم يفاجئني أن مصر كلها قد خرجت لوداعه. وكانت أصوات الملايين المحتشدة في الطرقات تردد هتاف الوداع الحزين: «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين»، وظل هذا الهتاف يتردد مع مسيرة الملايين الباكية التي غفرت لعبدالناصر أخطاءه، ولم تعد تذكر إلا إنجازاته الإيجابية العظيمة.
وفى اليوم التالي أعلن عن تولي أنور السادات رئاسة الجمهورية. وذهب السادات إلى مجلس الشعب ليؤدي القسم الدستوري، ويلقي خطابه الأول الذي أعلن فيه لنواب الشعب أنه جاءهم ليعلن بأنه سيكمل مسيرته على خطى عبدالناصر. ولا أنسى مشهد دخوله إلى المجلس حين توقف أمام تمثال نصفي لعبدالناصر وانحنى أمامه في خشوع، في مشهد ميلودرامي لا يزال محفورا في ذاكرتي إلى اليوم.