عن القصيدة الومضة

بدأ غير شاعر من الشعراء المجددين يكتب ما يُعرف بـ «القصيدة الومضة»، وتتم الإشارة إلى أنها تمثّل نمطاً شعرياً جديداً يستجيب لسرعة الإيقاع التي يعيشها عصرنا.
إلا أن هذه «القصيدة النمط» لم تولد من فراغ، بل إن لها أصولاً تربطها بكل من القصيدة العربية القديمة، والقصيدة العربية الحديثة، من جانب، وبالقصيدة الغربية في ما لها من أصول حداثية، من جانب آخر، وإن كنا نجد بيننا اليوم من ينسبها إلى «تجربة ما بعد الحداثة».
فبين الباحثين في التراث العربي، دراسةً ونقداً،(مثل الباحث خليفة محمد التِلِيسي) من يُعيدها إلى ما أطلق عليه «قصيدة البيت الواحد»، إذ يذهب إلى أن الشاعر العربي القديم عندما كان يرسل البيت الواحد، معبِّراً عن لحظته الشعرية، لم يكن يُواجه أي مشكلة تعبيرية، إذ وجد أن البيت الواحد يُعبِّر عن حاجته، ويستوعب اللحظة الشعرية التي يعيشها بكل أبعادها.
ويأتي بأمثلة عديدة على ذلك... كقول الشاعر:
ذَهَبَ الذينَ أحبُّهمْ
وبقِيتُ مثلَ السيفِ فَرْدا
أو قول الآخر:
ما أطيَبَ العيْشَ لوَ أنَّ الفتى حَجَرٌ
تَمْضي الحوادثُ عنهُ وهوَ مَلْمومُ
أو قول الشاعر ديك الجن:
جَسَّ الطبيبُ يَدي جَهْلاً، فقلتُ له:
إنَّ المَحبَّةَ في قلبي، فَخلِّ يدي
وقد نظر أدونيس، وهو مــــن شعراء الحداثة الذين كتبوا هذه القصيدة، إلــــى قصـــــيدة البيت الواحد في التراث العربي، فوجد أنّه «بيتٌ يقوم على الفكرة/ الومضة، أو الصورة/ اللمحة، أو المعنى/ الصورة...»، التي وجد فيها ينابيع تتموّج... ينابيع «من اللّذة والغِبْطة: غِبْطة الفكر، ولذّةَ الحِس والمُخيِّلَة».
ونجد هذه «القصيدة الومضة» في الشعر الحديث عند أدونيس، واضحة الأبعاد، كقوله في قصيدة وضعها تحت عنوان «المِئْذَنَة»:
«بَكَتْ المِئذَنة / حينَ جاءَ الغريبُ/ اشتراها / وبنى فوقَها مِدْخَنَة»
وهو هنا إنما يُعبّر عن الصراع بين الروحانية والمادية.
ونجد شاعراً مثل نزار قبّاني يدعو إلى مثل هذا النمط من القصيدة، فهو يجد في القصيدة الطويلة تبذيراً «في استعمال اللغة إلى درجة الإنهاك...».
ويجد فيها شاعر ممن يكتبونها اليوم «استجابة لدافع شعوري»، وأنها «غالباً ما تأتي بدلالات غنية... وقد تعتمد المفارقة». أما اللغة في هذه القصيدة فهي «منتقاة بشعرية بالغة، تعتمد بعدين: التجلّي، والتصوّر، فهي طاقة اكتشاف وإبداع».
وبالمقابل، نجد بين شعراء الغرب ونُقّاده في العصر الحديث (مثل: إدغار ألن بو 1809 - 1849) مَنْ يُنْكر على الشعر ما يُسمّى «شعراً طويل النَفَس».
ويذهب إزرا باوند (1885 - 1972) مؤكّداً ما يُسمّيه «شعرَ الومضة والاستنارة»، مشيراً إلى أنّ «تسجيل واقتناص استنارة واحدة حيّة في سطر أو سطرين خــــيرٌ من كتــــابة ألــفِ سطر».
لكن فرجينيا وولف (1882 - 1941) تُطْلقْ على هذا النمط تسمية «المعجزات اليومية الصغيرة».