مصنّفو المغازي الأوائل (عروة، الزهري، الواقدي) قراءة مقارنة في مروياتهم

مصنّفو المغازي الأوائل  (عروة، الزهري، الواقدي)  قراءة مقارنة في مروياتهم

التاريخ الإسلامي يبدأ من ولادة سيدنا محمد  عام 570م، وما قبله يصطلح على تعريفه بالجاهلية، وهو توصيف درج عليه الفقهاء والمؤرخون والكتّاب في الإسلاميات، من دون التنبّه جيداً لحدود المصطلح ودلالته وأبعاده التاريخية والجغرافية. والسؤال الذي يداهمنا في هذا السياق: ماذا يُقصد بالجاهلية والجاهليين؟ هل هم أهل الحجاز، أم أبعد من ذلك باتجاه اليمن، حيث نشأت حضارات عريقة؟ إن المعنى الشائع للمصطلح ينبثق من الجهل، ونقيضه العلم، والجهلاء نقيضهم العلماء...إلخ، ولكن ثمة لَبساً في المفهوم اللغوي للمصطلح، مقارنة مع الآخر الإسلامي، بما يقارب، بصورة ما، تعليق ابن منظور في «لسان العرب»: «وقالوا الجاهلية الجهلاء، فبالغوا».

نشأ محمد  في بيئة كانت التجارة النمط الاقتصادي الرئيس فيها، ما يعني أن مكّة كانت منفتحة على العالم، خصوصاً ما بين اليمن والعراق والشام، حيث الأسواق، والسفن الأوربية الراسية على سواحل الأخيرة. كما تكوّنت لديها ثقافات أسهمت في تطوّرها مجتمعاً تكافـــلياً ونظاماً تمثــيلياً متوازناً، وكلاهما تجسّدت صورته الحضارية فـــي «الإيلاف»، في أبــــعاده العلائقية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن مكة لم ترقَ إلى مستوى المراكز الحضارية في اليمن، وظلت في تقاليدها وتنظيمــــاتها مفعمة بروح البداوة.
ولعلّ ما قُصد بـ«الجاهلية»، هو الجهل بالدين، حيث انتشرت الوثنية بطرائقها المختلفة، من دون أن تعرقل مسارات الحضارة في تلك الأزمنة، مع العلم بأن المنطقة تعرّفت مبكراً على التوحيد، منذ نزول النبي إبراهيم  في مكة، وبنائه الكعبة، بالإضافة إلى بؤر يهودية ونصرانية في الحجاز واليمن. ولكنه «دين الآباء» الذي تمسّك به أولئك الوثنيون، ورأوا فيه حسب رواية ابن الكلبي في «كتاب الأصنام» بساطة ليست في الحنفية دين إبراهيم. ويُنسب ذلك التحوّل إلى عمرو بن لحيٍّ أول «ملوك» خزاعة في مكة، بعد جلاء بني جُرهم عنها. وجدير بالذكر أن الحنفية لم تأخذ مداها في الانتشار، وظلّت محصورة في إطار نخبوي، حتى انبعاثها في دعوة محمد  باسم الإسلام.
إن الإسلام لم «يجبّ ما قبله» سوى الوثنية، عبادة وتفاصيل انحرافية أفسدت ذلك المجتمع، لاسيما بعد طغيان رأس المال، واستئثار كبار التجار بالسلطة والنفوذ، ما أخلّ بالمعادلة القيمية المؤسسة على مبدأ «التكافل»، حيث لكل نصيبه من المال، بقدر إسهامه في التجارة، وبمعنى أكثر دقة، كان هناك أغنياء من دون فقراء، فيما بدا الشرخ واضحاً في المجتمع بعد انهيار منظومة «التكافل»، لترتكز المعادلة على أغنياء وفقراء، ومن البديهي أن يعكس هذا التحوّل سلبياته على جميع مكوّنات المجتمع ومؤسساته.
 وأفدح من ذلك اختلال الأمن التجاري، الذي بلغ حداً من الخطورة في حروب الفِجار، وفي مقدّمات «حلف الفضول»، والأولى، كما الثانية، شهدهما محمد ، وقد تجاوز العشرين من عمره.
لم تقتصر «المقدمات» على ابتياع العاص بن وائل السهمي، أحد زعماء قريش، سلعة من تاجر يمني من زبيد، ومماطلته في تسديد ثمنها، حتى أثار حفيظة الزبيدي، وانطلق يطوف في أحياء مكة مندّداً، مشهّراً. ولكن فريقاً من قريش، وجد في هذه الحادثة، تهديداً لتجارة مكة في صميم تراثها وقيمها، فكانت الدعوة إلى «حلف الفضول» المنعقد حينئذ في دار عبدالله بن جدعان التيمي، وتمثّل فيه، وفاقاً لمصادر السيرة، بنو هاشم، والمطّلب، وأسد بن عبدالعزّى، وزُهرة، وتيم بن مُرة. ولهذا الحلف موقع خاص في أدبيات التاريخ، ولايزال حتى اليوم مثار اهتمام في العالم الغربي، وتُعقد حوله الندوات والمؤتمرات. أما دوافع هذا الاهتمام، فمردّها إلى أن علماء الفكر السياسي، كما الاجتماعي، يرون في الاتفاق المنبثق عنه، أول وثيقة في حقوق الإنسان. وإذا رجعنا إلى الرواية في سيرة ابن هشام لما فوجئنا بذلك، فقد ورد فيها: «فتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم، ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على مَن ظلمه حتى تُردّ عليه مظلمته». 
وكان لمحمد  الذي بدأ يلفت الأنظار في مكة، بسلوكه الأخلاقي، ورجاحة عقله، وعلو همته في دفع المنكر والظلم، الدور البارز في انعقاد الحلف وفي قراراته، وهي لم تخل من تحذير لقــــيادات قريش، الغافلة عمّا يجري من الانتهاكات للقيم والتقاليد. فهل كان الحلف إرهاصاً في وعي محمد ، لأن ثمة تحولاً جذرياً في «أم القرى» سيؤدي إلى إسقاط الظلم والاستغلال والاستئثار، وكل ما يؤدي إلى انتهاك إنسانية الإنسان؟ ألم يكن محمد  نفسه أول الذين قوّموا هذا الحلف، معلّقاً عليه بقوله: «لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً، ما أحب أن لي به حمرَ النعم، ولو ادّعــــى به في الإسلام لأجبت»؟
ولم يطل الوقت آنذاك، حتى نزل الوحي على محمد ، مبشّراً بالإسلام الذي رفضته قريش وتصّدت بكل قواها له، ليس دفاعاً عن أصنامها ومعتقداتها الوثنية فحسب، بل - وهو الأهم - رأت فيه تهديداً لمصالحها التجارية، المرتبطة عضوياً بمواقعها القيادية، وتقاليدها، وطقوسها، وعلاقاتها، وأسواقها، وكل ما يمنحها القوة والسيادة في شبه جزيرة العرب. ولكن محمداً النبي ، صمد أمام المعارضة الشرسة في مكة، ولم يثنه الاضطهاد والنفي عن متابعة الرسالة لنحو ثلاث عشرة سنة، حتى انبثاق نور «الهجرة»، حيث بات للإسلام مقرّ بعد تشتّت، واستقر في يثرب (المدينة) مجتمعاً له نظامه وقوانينه وعلاقاته، حتى إذا رسخت جذوره تمّ إعلان الجهاد ضد المشركين من قريش وحلفائها، وفاقاً للتشريع القرآني الذي عبّرت عنه آيات عدة من سور: الأنفال، آل عمران، النساء، محمد، الصف، البقرة، محرّضة على القتال في سبيل الله، والدعوة إلى الطاعة، وعدم التهيّب من كثرة العدو، وليس أخيراً التأكيد على النصر، والوعد بالجنة للشهداء... إلخ.
ونجح الرسول  في تعبئة المسلمين في المدينة، فلم يبطئوا أو يتقاعسوا، وباستثناء غزوة أحد التي كان للمنافقين دور تخذيلي فيها، فإن ذلك لم يصل إلى حد الهزيمة الفعلية، ولم يؤثّر في معنويات المجاهدين. وما لبثوا أن حققوا نصراً حاسماً في غزوة الخندق، وفي أعقابه نصراً سياسياً باهراً في غزوة الحديبية، ولم يعد أمام المشركين سوى الرضوخ، الذي عبّر عنه «الفتح المبين» في العام الثامن الهجري.
هذا المصطلح (الفتح) استخدم في أدبيات المغازي لأول مرة، في الصراع بين المسلمين والمشركين، وهو مصطلح خاص بالأوائل، وليس بالضرورة أن يتوّج دائماً بعمل عسكري، وقد ساد خصوصاً بعد وفاة الرسول ، وانطلاق حركة الفتوح من دون أن يكون الهدف المبدئي في عملياتها، فتح الأرض فقط، وإنما فتح عقول الناس على الإسلام، والانضواء في رسالته ومبادئه، ودعوتهم إلى الحوار بعيداً عن كل ظلم واضطهاد، وإساءة لحريّاتهم.
وكانت «تبوك» آخر الغزوات (بعد عام من الفتح)، وربما يصح أن تكون أول الفتوح، فقد انتظمت حينذاك حركة «الخلافة»، مُقارِبة الأنموذج في «المدينة»، دولة لها شخصيتها و«تقويمها» (622م)، لينعكس ذلك على الوعي التاريخي للعرب المسلمين، متزامناً مع نشوء فكرة الأمة.
وما لبثت الجيوش أن تحرّكت تحت راية الجهاد إلى الشام، بالغة ذروتها، مع الخليفة عمر بن الخطاب ، وانتشر الإسلام من غرب مصر إلى خراسان، وفي سياقه انهارت إمبراطورية «فارس» وانكفأت أخرى على ذاتها (البيزنطية)، لتصبح «دولة» الإسلام القوة الفتية الصاعدة في الشرق، بيد أن العمليات مالت إلى الركود بعد اغتيال الخليفة الثاني، ما كان له نتائج سلبية على فكرة الأمة، مع عودة إحياء العصبيات القبلية. 
وفي هذا السياق أخذت كل قبيلة تنسج الروايات عن تاريخها، وتُبرز تفوّقها على خصومها، حتى أن قريشاً دخلت حلبة التنافس، لينـــشأ في ضوء ذلك نمط من التاريخ عبّر عنه بالأنساب. وكانت قريش الأكثر إحساساً بالتفوّق، لعلاقتها بالرسول  الذي تحدّر منها، ونزل عليه الوحي في «غارها» وقد دوّن «نسبها» أحد أحفاد الصحابي الزبير بن العوّام، وهو الزبير بن بكار في «كتاب نسب قريش وأخبارها».
ليس يعنينا من موضوعة «الأنساب»، سوى ما يتصل بالرسول ، وتحديداً ما له علاقة بالمغازي، وهي إلى جانب «السيرة» من تجليات الوعي التاريخي للعرب المسلمين. وقد يختلط الأمر بين الموضوعين، ولكنهما في النتيجة متكاملتان معاً في شخصية الرسول  وممارساته. وثمة اتفاق على أن «السيرة»، ويقصد بها جماع أقوال الرسول  وأفعاله، تُمثّل بداية الاهتمامات التاريخية في القرن الأول. وتكاد مع المغازي لا تنفصل إحداها عن الأخرى، ما ينطبق خصوصاً على مصنّفي عروة بن الزبير (ت 94هـ) وابن شهاب الزهري (ت 124هـ)، فيما مُصنّف الواقدي (ت 207 هـ) «كتاب المغازي»، تعبّر مادته عن عنوانه، وهو مصدر أساسي من حيث شموليته ودقة تتبّعه للتفاصيل.
وثمة آخرون تناثرت مرويــــاتهم في مصنّفات القرن الثالث، ولم يجر نــــشرها عدا قطع صغيرة لموسى بن عقبة ووهب بن منبه. أما «السيرة» فإن أبرز من روى أخبارها، ابن اسحق (ت 151هـ)، وهي التي أعاد جمعها وتبويبها ابن هشام (213هـ) ونُسبت إليه. وقد عثر المحقق د. سهيل زكار على قطعة مخطوطة منها برواية يونس بن بكير في مكتبة فاس، وهي سابقة على الهجرة، لذلك نأت عن المـــغازي وأخبارها.
ومما يجدر توضيحه، أن مرويات المرحلة وما بعدها أيضاً، كانت تتداول في الغالب شفاهاً، وهي لا تندرج مباشرة في موضوع التاريخ، وإنما الحافز إليها، ابتغاء الثواب بذكر مآثر الرسول  الأنموذج والمثال في حياة المسلمين، وليس التأريخ له. ومن هذا المنظور، فإن كلتيهما (السيرة والمغازي) تلتقي في الهدف والدلالة، إذ الأولى في الغالب تشمل الثانية، كما الأخيرة لا تهمل أخباراً عن الرسول  ليست في سياق الغزوات. ويبقى أن هذه الدراسة ستهتم تحديداً بالأعمال الجهادية للرسول ، وذلك في محاولة للمقارنة بين أخبار الأقطاب الثلاثة: عروة والزهري والواقدي، متّخذين موقعـة «بدر» مثالاً باعتبارها مفتاح النصر للإسلام على الشرك.
لقد عاش عروة تداعيات ما بعد الرسول ، فعرف كثيراً من الأخبار، مما لم يُتح لغيره من معاصري المرحلة. فهو ابن صحابي من الروّاد المؤمنين بالإسلام، كما تعرّف آخرين من أولئك النخب، وتناهى إليه، أو سمع مباشرة بعض أحاديثهم عن الرسول ، حتى غدا مرجع تلك المرحلة، لاسيما في موضوعة المغازي. وقيل إن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، كان غالباً ما يعود إليه، لتزويده بأخبار في هذا الشأن. إلى جانب ذلك كان عروة على مستوى عال من الثقافة، حافظاً للقرآن، متبحراً في الشعر، ما يبدو في مروياته عن بعض الغزوات المفعمة بمادة مكثفة من هنا وهناك... إنه أستاذ المشتهرين بعده، ممن تأثروا به، أو اقتبسوا حرفياً، أو نحو ذلك، عنه (ابن شهاب الزهري وموسى بن عقبة على سبيل المثال).
ولكن عروة، لم يذكر كل غزوات الرسول ، فكان انتقائياً في منهاجه، بدءاً من غزوة بدر، التي أسهب فيها، إلى غزوات لم ينجم عنها اشتباك أو عمل حربي، مثل «السويق». كما أن ترتيب الأحداث لم يكن منتظماً، وكان حرياً بالمحقق (محمد مصطفى الأعظمي) الذي طالما وجّه سهام النقد لبعض المؤرخين أو المحققين، مثل الدوري وزكّار، أن يتّسم منهاجه بالانسياب والدقة في العناوين... فليس ما يبرر وضع غزوة بني النضير قبل غزوة أحد، إلى عروض نافرة في السياق، كالعقبة الأولى والعقبة الثانية، وعناوين مثل: الحشر والبكاء على حمزة، أو إدراج سرية مؤتة بين الغزوات، حتى بدا الكتاب خليطاً من أخبار مُسهبة، أو مبتسرة، أو غير متوازنة، ومغازي عروة في النتيجة هي أخبار راكمها الأخير مما سمعه، واقتبسها آخرون عنه، حتى باتت على الرغم من المآخذ عليها، مرجعاً للمصنّفين الكبار في القرنين الأول والثاني للهجرة.
لقد اقتصر ما ذكره عروة من المغازي، على ست عشرة غزوة، وهي أقل من نصف ما ورد في مغازي الواقدي. وهذا يعني أن عروة ربما لم يتقصّد رواية المغازي فقط، وإنما كان مهتماً بالسيرة بما فيها الغزوات وأحداث تتصل بتاريخ الرسول .
 وقبل الدخول في عملية تقويمه لمصنّفات المغازي الثلاثة، لابد من التوضيح، بأن هؤلاء لم تجمعهم فترة زمنية واحدة، وربما كان لذلك تأثير في مناهجهم، ومدى وعيهم بالتاريخ ممثلاً بالسيرة حينذاك. فقد واكب عروة القرن الأول من عشرينياته إلى تسعينياته، معاصراً لنحو أربعة عقود الزُهري (51-124هـ)، فيما لم يلتق الأخير الواقدي (130-207هـ) الذي زامن عامين فقط من خلافة الأمويين، وأمضى حياته في العهد العباسي الأول مقرّباً من المأمون، حتى وفاته قبل إحدى عشرة سنة من رحيل الأخير.
وإذا شئنا توصيف مصنّفات الثلاثة، فإن «موسوعة» الواقدي وحدها قمينة بعنوانها (كتاب المغازي)، كما أن تصدي مارسدن جونس لتحقيقها، بما يتسم به من حرفية وثقافة تاريخية، أضفى عليها قيمة خاصة، فجاءت المقدمة وكأنها بحث علمي رصين، مكرّساً - أي جونس - الواقدي بأنه «إمام المغازي».
كان عروة - كما سبقت الإشارة - الأقرب زمناً إلى الرسول ، فلم يدركه، ولكنه احتكّ ببعض أصحابه، فضلاً عن التابعين، متأثراً بذلك المناخ، والرسول  حينئذ محور الحديث، وفي المقابل عازفاً عن صراعات المرحلة، وفي ضوء ذلك استفاض عروة في أخبار «بدر»، متتبعاً تفاصيلها، خلافاً للزهري الذي ابتسرها حتى الاختزال.
ويبدو أن الزُهري الذي غــــادر المدينة ليستقرّ في دمشق، برعاية خاصة من الخلفاء الأمويين، صرفه ذلك عن الاهتمام على نطاق أوسع بأخبار الرسول  سيرة ومغــازي، متفرّغاً أو شبه ذلك لمهام استشارية في فقه الإسلام، أو توجيهه بإلقاء أحاديث على أبناء الخلفاء.
ويلفت في هذا السياق، إغفال الزهري ذكر «مؤتة»، بينما ارتقت لدى عروة، والواقدي، إلى مرتبة غزوة، ربما بسبب فرادتها بين السرايا التي كانت في الغالب استطلاعية أكثر منها هجومية، هذا سوى العدد المرتفع الذي بلغ، في رواية الواقدي، ثلاثة آلاف مقاتل، بقيادة زيد بن حارثة. وإذا كانت الأرقام تجنح عادة إلى المبالغة، سواء في هذه الجبهة أو تلك المقابلة لها، فإن أهمية «مؤتة» ليست خاضعة لهذه المسألة، فهي أول حملة تخترق الشام إلى المدى الذي وصلت إليه، إذ تمت في وقت كان الإسلام فيه قد تجاوز خط التهديد من جانب الشِرك، ما شجعه على كسر التوازن الإقليمي، باتجاه الشام التي ما انفكت مشروعاً حيوياً في سياسة الرسول ، ورأى فيها البوابة الكبرى لانتشار المسلمين، بما يتواءم وطبيعة الدعوة - الرسالة، عدا ضرورة التسريع في التواصل مع القبائل العربية المتنصّرة، واستعادتها من الفلك البيزنطي.
وفي مقارنة بين مغازي كل من عروة والزُهري، فإن كلتيهما تفتقد الانسياب في المنهج، وهو أكثر بروزاً لدى الزهري الذي يشذّ عن أستاذه بعدم التزامه بالسياق التاريخي، كذلك في وحدة الموضوع. فبينما اختتم عروة بآخر الغزوات «تبوك»، غل الزهري في العهد الراشدي حتى الفتوحات، ودائماً في سياق متعثّر واضطراب في المصطلحات، كأن يُطلق غزوة على القادسية، ثم يُدرج بعدها خبراً عن عبدالله بن أبيّ في نهاية «الكتاب». 
وإذا كان على المُحقّق أن يلتزم بالنصوص، فلا يسوّغ ذلك اختلال وحدتها وعدم انتظام سياقها.
وعلى الرغم مما يشوب  «الكتابين» من ثغرات في المنهج، فإن ذلك لا يقلّل من أهميتهما مصدرين في المغازي، غير بعيدين عن عهد الرسول ، فضلاً عن احتوائهما أخباراً في السيرة، الأكثر التزاماً بها عروة، وأخباراً متناثرة عن أحداث في العهد الراشدي في «كتاب» الزهري. وقد أثنى المحقق زكّار على الأخير - أي الكتاب - واعتبره «الأثر التاريخي الوحيد المدوّن الذي يصلنا كاملاً في العهد الأموي». فهل يعني ذلك أن مغازي عروة ليست كاملة؟ ربما كان في ذلك شيء من الصحة، إذا توقفنا عند أحداث مقتضبة لا تتعدى سطوراً قليلة في كتابه، ولكنه يبقى أكثر شمولاً ومنهاجه أكثر رصـــانة، مما لدى تلميذه.
ومن الغريب أن غزوة «الحديبية»، كانت أول عنوان في كتاب الزهري، وقد أسهب فيها، بينما اختصرها عروة، بنزول الرسول  في الحديبية، قاصداً الاعتمار، وإيفاده عثماناً المتحدّر من عشيرة الرجل القوي (أبوسفيان) إلى مكة، لمفاوضته بشأن العمرة، فانتهى به الأمر إلى الاتفاق أو الصلح المعروف باسم الحديبية. ولم يُضف أكثر من ذلك، إلى أهمية الأخير، وانعكاسه الإيجابي على الصراع مع الوثنية، محققّاً أول نصر سياسي على أعداء الإسلام، وممهداً بالتالي لانهيار منظومة الشرك.
لقد مال عروة غالباً إلى الاختزال، حتى في بنود الصلح، أو لعل هــــذه وصلت إليــــنا بالتــــــواتر كذلك، مع العلم بأن الزهري يستهل مادة الحديبية، بإسناد خبرها الأول إلى عروة، وقد جاء فيه: «عبدالرزاق بن معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير... خرج رسول الله  زمن الحديبية...»، إلى نهاية الحديث بصيغته الكاملة، من دون إغفال أبـــرز نتائجه، بأن الإسلام في مأمن لعشر سنيـــن من أي عدوان قريشي. 
ولم يعد بعيد «العمرة»، ما يحول دون مخاطبة ملوك المرحلة من هذا الموقع، موجّهاً إليهم «كتباً» تدعوهم إلى الإسلام... هذه الكتب لم يكن في بال الرسول  أن تُحدث تغيّراً ما في نفوس هؤلاء، إلا أنها في أبعادها الاستشرافية، ظلت تتفاعل في وعي المرحلة، ممهدة لتحوّلات جذرية، تجلّت إرهاصاتها في سرية مؤتة وغزوة تبوك.
والواقع أن مغازي عروة والزهري لم تتسم بالشمولية، إذ الأول اقتصر على ذكر ست عشرة غزوة، والآخر حذف منها خمساً لتستقر على اثنتي عشرة، وما عداها كانت أخباراً لا تمتّ بصلة إلى المغازي. ومن هذا المنظور، فإن الوحيد الذي تصدى برصانة وإسهاب لموضوعة المغازي، هو الواقدي، وقد بلغ مجموع ما صنّفه ثلاثاً وثلاثين غزوة، مندرجة على نحو تفصيلي في مجلدات ثلاثة. 
إنه كتاب متميّز في مجاله، وقد يعود ذلك إلى طبيعة المرحلة التي عاصرها، حيث شهدت تطورات انقلابية في السياسة والعلوم والاتجاهات الفكرية. فقد وُلد الواقدي في المدينة، وأمضى نحو نصف قرن فيها، وأصاب من العلم مكانة عالية، إلى نباهة جعلته قريباً من الناس والعلماء وذوي النفوذ، لاسيما يحيى 
بن خالد البرمكي وزير الخليفة الرشيد الذي أُعجب به وفتح أمامه أفقاً جديداً بالانتقال إلى بغداد، مقرّباً بعد حين من الخليفة المأمون، لتنطلق شهرته من هناك.
لقد عاش الواقدي جُلّ القرن الثاني الهجري، وقبله عاش عروة جُلّ القرن الأول، فيما الزهري كان مخضرماً واكب القرنين معاً. وقد فاق الواقدي سلفية وعُدّ من علماء عصره البارزين، فنُسب إليه - وفاقاً لمارسدن جونس محقق المغازي - ما يزيد على عشرين كتاباً في الفقه والسيرة والتاريخ والأدب، عدا كتابه الأكثر رواجاً، أي المغازي. ولسنا معنيين بحياته الشخصية في ما يتعلق بأهوائه وانتماءاته، وكل ما هو خارج هذه المقالة، فقد أجمعت الآراء على تقريضه، قاضياً رصيناً، ومصنّفاً نزيهاً، «ولاتزال كتاباته - والكلام للمؤرخ الفرنسي سورديل - حول عصر الرسول محمد ، تشكّل مصدراً وحجّة عند العلماء المسلمين». ويرى جونس، أن «من أهم الخصائص المميزة لمغازي الواقدي، هي النظــــام المتكامل للتواريخ». ويصف منهجه بأنه متكامل ونقدي ويخلص إلى أن مغازيه «أكمل وأتم مصدر محايد، لتاريخ حـــياة النــبي في المدينة».
ولم يهمل الواقدي البعد الجغرافي في غزواته المفعمة بالتفاصيل التاريخية، هذا عدا الحرص على التوثيق، ولكن من دون التسليم بصحة السند، قبل تقويمة وإبداء رأيه في الرواية بوساطة مصطلحات خاصة به. كما يتتبّع حركة المجاهدين والمواقع، إلى الأعداد وخطط القتال وارتفاع نبرة الحماسة، متصادية مع آيات قرآنية، تشيع أجواء تحريضية على القتال وثقة بالنصر، ومنها هذه الآية من سورة الأنفال: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}.
كان ذلك في موقعة «بدر»، وقد أسهب فيها الواقدي، مستلاً مادتها من عدد من الأخباريين ومنهم الزُهري. وإذا رجعنا إلى هذه الموقعة في مغازي الأخير، فلن نجد ما يتعدى الرواية الشائعة عن قافلة أبي سفيان واستنفار قريش في مكة، وتجهيز حملة قاربت من ألفي مقاتل، على رأسهم أبوجهل، ثم خرج بهم، تاركاً القيادة لعتبة بن ربيعة، حيث سقط كلاهما في ساحة المعركة. أما المسلمون فلم يزيدوا إلا قليلاً على ثلاثمائة، وقد يحتاج ذلك إلى نقاش، إذ إن إخباريات المرحلة كانت تميل إلى المبالغة، خصوصاً في التفاوت بيـــن أعــــداد القلة المنتصرة من المسلمين وبين الكثرة المنهــــــزمة من الأعداء، لإظهار أن المؤمنين لا يقاتلون بسيوفهم فقط، وإنما تؤازرهم سيوف الله. وفي المحصلة تجنّب أبوسفيان - زعيم مكة - المعركة ونجا بالقافلة، بينما وهِم أبوجهل، الرجل القوي بعده، بأن الفرصة حانت للقضاء على الرسول  ودعوته، فقُتل وتشــــتّت صحــــبه في كل ناحية، قبل تراجعهم مندحرين إلى مكة، مخلّفين عدداً كبيراً من القتلى وراءهم.
لقد أطنب الواقدي في أخبار «بدر»، واغلاً في تفاصيلها من الأسباب، إلى شهودها وشهدائها من المسلمين، إلى لوائح الأسرى والقتلى من المشركين، ما يدفعنا إلى التساؤل عن دقة مصادر الواقدي، وقد تيسّر له رصد هذه المادة المسهبة، خصوصاً أن تصنيفها حدث بعد نحو قرنين على وفاة الرسول . 
ومن اللافت أن الواقدي لم يقتبس أخبار «بدر» عن سلفه الزهري التي رواها بصورة مقتضبة، بينما وجد ضالته إلى حدٍّ ما لدى عروة، وكان متطابقاً معه وإن بصورة جزئية، مع رجحان في التفاصيل لمصلحة الواقدي الذي تتبّع الأسماء والأرقام لدى الطرفين، وأكثر من الاستشهادات القرآنية، بالإضـــافة إلى منهج أكثر سلاسة وإن شابه تُخمة المادة بعض الأحيان.
ولكن «بدراً» جديرة بالإطناب، فقد كانت فاتحة النصر العظيم على الشرك، حيث كُسرت شوكة قريش في هذه المعركة، وأصيبت معنوياتها في الصميم، إذ هـــزمت أمام قلّة من المؤمنين، وانسحبـــت فلولها، وليس في بال قادتها سوى الثأر، هذا الذي لم يحدث، فيما كانت الانتصارات تتوالى على جبهة المسلمين، من دون أن تعرقــل اندفاعــهم هزيمة «أحد»، وهي ليست واقعاً كذلك. ومن هذا المنظور أخذت «بدر» هذه الهالة لدى عروة والواقدي، لاسيما الأخير الذي أحاط بتفاصيلها من دون التسليم المطلق بصحة الرواية، ولعله من أوائل الذين مارسوا عليها الــــنقد بمعـــيـــار ذلــك الزمن.