رسالتان من شاعر الجندول علي محمود طه إلى حسين عفيف

رسالتان من شاعر الجندول  علي محمود طه إلى حسين عفيف

عرفت حسين عفيف (1902 - 1979) شاعر قصيدة النثر في سنواته الأخيرة، وأجريت معه حوارات صحفية عدة، جمعتها بعد رحيله في كتاب صدر باسمه في المكتبة الثقافية سنة 1986. وخلال هذه اللقاءات مع حسين عفيف، التي كانت تتم في أحد مقاهي الدقي المطلة على الميدان، قريبا من بيته، أعطاني نسخة مصورة من وصيته، وصفحات مخطوطة عن منهجه في كتابة الشعر المنثور، ورؤيته للإبداع. وفي آخر لقاء مع حسين عفيف قدم لي وأنا أودعه هاتين الرسالتين اللتين تلقاهما من الشاعر الكبير علي محمود طه، شاعر الجندول، في سنتي 1940 و1941، يشكره فيهما على إهدائه ديوانيه الجديدين «الأغنية» و«العبير». 

تتمثل أهمية هاتين الرسالتين في إطلاعنا على هذا التعامل الرفيع بين الشعراء، فرغم أن حسين عفيف كان في هذا التاريخ في بداية حياته الشعرية، لم يكتب عنه أحد، وكان علي محمود طه في قمة شهرته، تنفد دواوينه التي يعاد طبعها مرات، ويحتفي به النقد والنقاد في مصر والأقطار العربية، إلا أنه حرص على أن يقدم لحسين عفيف بخط يده الشكر على هديته. ومثل هذا الخلق لا أظن أن أحداً من الأسماء اللامعة في هذه الأيام يلتزم به، في ما عدا نجيب محفوظ، الذي كان – رحمه الله – يكتب خطابات الشكر لكل من يرسل إليه كتاباً، بل كان يرد بقلمه على كل رسالة تصله، حتى لو كانت من أسماء نكرة.  
ولا تقتصر أهمية هاتين الرسالتين على هذا المعنى الأخلاقي، ولكن ترجع هذه الأهمية أيضاً إلى ما تتضمنه من عبارات نقدية لا يكتبها إلا ناقد متخصص، تنبئ عن ثقافة فنية تمتع بها شاعر الجندول علي محمود طه، يرتبط فيها الجمال بالفن، والواقع بالخيال، والحقيقة بالأوهام، وتعد فيها الموسيقى عنصراً ثابتاً تميز به شعر هذا الشاعر الغنائي الكبير، الذي جمع في قصائده بين الفطرة والحرفة. ويبدو أن عدم التزام علي محمود طه تقاليد الشعر العربي كان بمنزلة الأرضية المشتركة التي التقى عليها الملاح التائه مع حسين عفيف شاعر قصيدة النثر، إضافة إلى اشتراكهما في افتتانهما بالمرأة. وإلى جانب الشعر الوجداني والوطني الذي صدر لعلي محمود طه في خمسة دواوين، فقد كتب عديداً من المقالات في الدوريات الصحفية عن الشعراء الأجانب الذين تعرف على أعمالهم، مثل بول فيرلين، شارل بودلير، جون ماسفيلد، الفريد دي فيني، وجمع كتاباته عنهم في كتابه «أرواح شاردة» الذي صدر في طبعتين متتاليتين في 1941و1942، وكتب علي محمود طه بخط يده على النسخة المهداة إلى طه حسين: «إلى الكاتب العالم الأديب العظيم الأستاذ الجليل طه حسين بك تحية صادقة وتقديرا لأثره في المدرسة الحديثة». ويلفت النظر في هذا الكتاب اطلاع علي محمود طه الواسع على الشعر الفرنسي والآداب العالمية، ووقوفه على مذاهبها الفنية، وترجمته الشعرية لبعض قصائد منه، قدمها بفهم دقيق لمواطن الجمال في الفن الخالد. 
علي محمود طه (1902 - 1949) شاعر من طراز رفيع، صاحب قيثارة ونغمات متقنة السبك لا تضارع، شعاره الحب، ورسالته الجمال، له قاموس لغوي خاص، يصوغ كلماته في أساليب عصرية وخيال خصب، لا يلتزم فيها الشكل التقليدي للقصيدة العربية ويبني الجديد على القديم. وعلى الرغم من التطور الكبير الذي شهده الشعر العربي منذ رحيل علي محمود طه، فلا يستطيع ناقد أو مؤرخ لتاريخ الشعر العربي أن يتجاهل شاعر الجندول، أو يغض النظر عن أثره، وكان أكثر ما يمس قارئه هو شعور الشاعر الحاد بالحيرة بين المادة والروح، والخير والشر، وامتزاجه بالطبيعة. والرسالتان التاليتان وثيقتان أدبيتان تشيران إلى طبيعة ذلك الشاعر الكبيــــر الأخلاقية والإنسانية. 

نص الرسالة الأولى: 
عزيزي الشاعر الثائر الأستاذ حسين عفيف...
طالعت في أغنيتك البديعة شعراً منثوراً كله عذوبة وكله فن وجمال، تطرد فيه الموسيقى اطراداً رخياً وتؤلف فيه الألفاظ بيد العاطفة الحية القوية نغمات متوافقة، هو أسلوبك أيها الصديق الذي أبدعته وطريقتك الخالصة التي أرجو أن تصل بك إلى المزيد من الفن ومن الجمال لتتحفنا بروائعك، فأشكر لك هديتك ولك محبتي ومودتي. 
المخلص علي محمود طه  
القاهرة في 2 يونيو 1940

نص الرسالة الثانية:  
صديقي العزيز الشاعر النابغة الأستاذ حسين عفيف... تلقيت بيد الغبطة مؤلفك الجديد «العبير»، فأسكرني شميمه وأطربني تنغيمه، وماذا أقول في شعرك الحلو الرخيم وقد أسلفت البرهان على تقديري لرفيع فنه وبديع حسنه. فلتهنأ يا صديقي بعبيرك الساطع الفواح، وليهنأ به عشاق روحك الصافي وأدبك النبيل، ودمت لأخيك.
علي محمود طه 
12 فبراير 1941.