القيمة الأخلاقيَّة لكتاب «المَلاحِن»

القيمة الأخلاقيَّة لكتاب «المَلاحِن»

«المَلاحِن» هو كتاب من تأليف العلامة الأديب اللغوي ابن دُرَيد الأَزْديّ (ت321هـ)، صاحب كتب: «الجمهرة»، و«الاشتقاق»، و«الأمالي»، و«صفة السرج واللجام»، و«المطر والسحاب»، و«المجتنى»، وغيرها من الكتب.  و«المَلاحِن» معجم من معاجم المعاني يقع في 17 ورقة، تتضمن 185 جملة مورّاة، تشمل ألفاظاً لها معنى قريب يعرفه الجميع ومعنى غير شائع لا يعرفه إلا لغوي، فكأنها لغز من الألغاز، مثال تلك الكلمات: كلمة «أعلمته» فلها معنى شائع يعرفه العامة وهو أعلمته الخبر، ولها معنى بعيد وهو شققت شفته العليا،  وكلمة «كلب» لها معنى شائع يعرفه الجميع وهو الحيوان المعروف، ولها معنى بعيد وهو المسمار في قائم السيف، وكلمة «الفهد» لها معنى شائع عند العامة وهو الحيوان المعروف، ولها معنى بعيد لا يعرفه إلا المتخصص وهو مسمار في وسط رحل الدابة، وهكذا.

الاهتمام به قديماً 
حظي هذا الكتاب بالاهتمام منذ القدم، حيث اهتم الرواة بروايته كما في فهرست ابن خير الإشبيلي (ت575هـ)، (1/325-326)، حيث ذكر أربعة طرق لروايته. ولخصه السيوطي (ت911هـ) في «المزهر» (1/445-447). كما نسج المؤلفون على منواله كما سيأتي.

تحقيقه ونشره 
نشر وليم رايت الكتاب في ليدن عام 1859م، ونشرته المطبعة السلفية، وطبعه المستشرق هينرش توربكة في جامعة هيدلبرج عام 1882م، معتمداً على مخطوطة غوته، ونشر بمصر عام 1323هـ، وحقَّقه أبوإسحاق إبراهيم اطفيّش الجزائري، ونشر مرة بتحقيقه في المطبعة السلفية عام 1347هـ، ومرة أخرى في دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، ودار الكتب العلمية، بيروت، ط1،1407م = 1987م، ثم حقَّقه د. عبدالإله نبهان، تحت عنوان «الملاحن معجم تراثي في الدلالات غير الشائعة للألفاظ»، فقد أضاف لاسمه عبارة توضيحية تبين موضوعه،  ونشر أولاً في وزارة الثقافة بدمشق عام 1992م، ثم في مكتبة لبنان، ط1، عام 1996م. 

هدف الكتاب
ذكر ابن دُرَيد في مقدمته هدفه من تأليفه، فقال: «هذا كتاب ألَّفناه ليفزع إليه المجبَر المضطهد على اليمين، المكرَه عليه فيعارض بما رسمناه ويُضْمر خلاف ما يُظهر؛ ليسلم من عادية الظالم ويتخلَّص من جنَف الغاشم». 
ويفهم من هذا الكلام أن هدفه نبيل وهو إيجاد مخرج للمظلوم المكره على اليمين، وهذا الهدف قد يصدق على من يحلف: «والله، ما سألت فلاناً حاجة قط»، يريد بالحاجة ضرباً من الشجر له شوك؛ فقد يكون حلفه لنفي علاقته بشخص تستريب فيه السلطة أو الحاكم ويريد المتهم أن ينفي صلته به، ويصدق هذا أيضاً على من يحلف: «والله، ما رأيت فلاناً قط ولا كلمته»، يريد برأيته: ضربت رئته، وكذلك في حلف الحالف: «والله ما أعلمت فلانا ولا أعلمني»، و«والله ما أخذت من فلان خُفًّا ولا نعلاً»، يريد بالخف خف الإبل وبالنعل القطعة الغليظة من الأرض، و«والله، ما أخذت من فلان جُبَّة ولا لبستها»، يريد بالجُبَّة جُبَّة السِّنان وهي الموضع الذي يُدخَل فيه رأس الرمح، و«والله، ما كنت ساعياً قط ولا أصلح لذلك»، يريد بالساعي الذي يلي الصدقات، و«والله ما دخلت لفلان بيتا»، يريد بالبيت القبر. والحالف: «والله، ما لي في هذا الكتاب خطُّ»، يريد بالخط سِيْف البحر؛ أي شاطئه.

صدقه في هدفه
 ولكننا نصدم في هذا الهدف النبيل حين نجد في الكتاب ما يخالفه، بل يعكسه إلى مساعدة الجاني على الكذب وعلى استباحة الأعراض وعلى الخروج من تنفيذ حد الله عليه، ومثال ذلك قول الحالف: «والله ما لفلان عندي جارية ولا اغتصبته عليها»، يريد بالجارية المعنى البعيد الذي لا يعرفه إلا ضميره وهو السفينة، فهل يحلف هذا الحلف إلا من اغتصب جارية بالفعل، ويريد أن يخرج من التهمة؟ وقس على ذلك قوله: «والله، ما كسرت لفلان ضرساً ولا سنًّا»، يريد بالسِّنِّ قطعة من العشب تتفرق في الأرض أو الثور الوحشي، وبالضرس قطعة من المطر تقع متفرقة في الأرض، وقول الحالف: «والله، ما ظلمت فلاناً ولا غيره»، يريد ما سقيته الظليم وهو اللبن قبل أن يروب، وقول الحالف: «والله، ما أخذت من فلان حلياً ولا رأيته»، يريد بالحلي ضرباً من النبت ترعاه الإبل، وقول الحالف: «والله ما رأيت له أتانا ولا أخذتها منه»، يريد بالأتان صخرة في بطن الوادي، وقول الحالف: «والله، ما أخذت له دِجاجة ولا فرُّوجاً»، يريد بالدجاجة الكبة من الصوف وبالفروج الدَّرَّاعة، وقول الحالف: «والله ما أخذت لفلان بقرة ولا ثوراً»، يريد بالبقرة العيال الكثيرة ويريد بالثور القطعة العظيمة من الأقط، وقول الحالف: «والله، ما ضربت لفلان بطناً ولا ظهراً»، يريد بالبطن المنخفض من الأرض، ويريد بالظهر المرتفع من الأرض، وقول الحالف: «والله، ما مسست ألية فلان»، يريد بالألية أصل الإبهام، وقول الحالف: «والله، ما كشفت لها قناعاً، ولا عرفت لها وجهاً»، يريد بالقناع الطبق وبالوجه القصد، وكثير من مادة الكتاب على هذا المنوال، منها الكلمات رقم: 90، 126، 134، 137 ،150، 167، 173، 177، 182. 
وقد لمّح لذلك - دون استقصاء - محقق الملاحن د.عبد الإله نبهان (ص19)، حيث يقول: «فزعم أنه ألفه ليفزع إليه المجبَر المضطهد على حلف اليمين فينجو من جنف الظالم وحيفه؛ أي إنه قدَّم سبباً دينيًّا شرعيًّا لتأليفه، ولا أحب أن أنفي ما زعمه وإن كنت أرجح أن غايته الأساسية إنما هي غاية تعليمية الغرض منها الرياضة اللغوية، وحفظ المزيد من مفردات اللغة، وحفظ المعاني المعجمية الأخرى لكثير من الألفاظ المشهورة بمعنى واحد بين الناس».
كما نبَّه د. شرف الدين الراجحي في كتابه «محمد بن دريد وكتابه الجمهرة» (ص159، 220) إلى هذا الأمر، وربط بين صنع ابن دريد وما عرف في الفقه بالحيل الشرعية التي وقف ضدها بعض الفقهاء، فقال: «ومجمل القول أن كتاب ابن دريد في الملاحن يشبه مسألة الحيل فهو يتساهل أو يتسامح ويتحايل على اللغة للميل إلى معنى آخر».

دورته التراثية
ينتمي هذا الكتاب إلى دورة تراثية صغيرة هي دورة فن الملاحن، ألَّف فيها: 
-المفجَّع البصري (ت327هـ) كتاب «المنقذ من الأيمان»، ولم تبق منه غير نصوص في خزانة الأدب (3/336) وفيه أنه ترجم لمحمد بن اليحمدي، و(3/117) وفيه ذكر للغري وهو موضع بالكوفة، وفي معجم البلدان (3/247) وسماه «المنقذ من الأيمان في أخبار ملوك اليمن»، وفيه حديث عن قصة الملك شمر وفتحه سمرقند، وفي (3/440) ذكر أنه وضعه على مثال الملاحن لابن دريد، وفي هذا الموضع ذكر للصين ومن نسب إليها.
- أبو العلاء المعري (ت449هـ) في بعض نصوص «الصاهل والشاحج» (ص222).
- ابن فارس (ت 495 هـ) ألف كتاب «فُتْيَا فقيه العرب»، حقّقه د. حسين علي محفوظ، ونشره في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، المجلد 33، يوليو 1958م، ص443، وما بعدها، والجزء الثاني نشره فيها في العدد 4 ديسمبر 1958م، ص633.
- الحريري (ت516هـ) في مقامته الثانية والثلاثين؛ الطيبية.
- الكلاعي محمد بن عبد الغفور (ت550هـ) في فصل من  كتابه «إحكام صنعة الكلام»، وسمَّاه المورَّى (ص188).
ورغم أن اسم كتاب المفجَّع البصري يوحي بأنه سارٍ على منهج ابن دريد نفسه في الحلف على شيء يجهله المستمع ويقصده الحالف، فإن النصوص القليلة التي وصلتنا لا تدل على ذلك، ففكرتنا عن منهجه مشوشة.
أما أبو العلاء المعري (ت449هـ)، فقد أدار الأمر في «الصاهل والشاحج» (ص 222-224) على حكاية تاريخية عن سمات أهل البيت وأفعالهم، مثل: «وكان علي عليه السلام يرحم الأرملة، ويبر اليتيم، ويضرب بحد سيفه أم الصَّبيين، ويقطع يد الفيل على السَّرَق... إلخ». 
أما كتاب ابن فارس (ت495هـ) فصوغ كلامه أنبل من صوغ ابن دريد، حيث استخدم الكلمات في أسلوب شريف، فقد ساق ابن دريد «الملاحن» على لسان حالف يحلف ليخرج من العقوبة، بينما تخيل ابن فارس لغويًّا يسأل فقيهًا سماه «فقيه العرب» بألغاز لغوية فيجيب بلا تردد ملاحظا المعنى البعيد المراد لا المعنى القريب، ثم يشرح ابن فارس المعنى البعيد الذي فهمه الفقيه، مثال ذلك: «قيل لفقيه العرب: هل يجب على الرجل إذا أسهد الوضوء؟ فقال: نعم، والإسهاد أن يمذي الرجل».
بينما قلَّد الحريري (ت516هـ) ابن فارس (ت495هـ) في مسألة المستفتي والفقيه الأريب، ولم أقف على كتاب الكلاعي. فكل كتب هذه الدورة التراثية تقريباً صاغت الأمر صوغاً شريفاً.
وخلاصة الأمر أن الإمام الأديب اللغوي ابن دريد تنكَّب الجادة في كتابه وتعجَّل في صوغه على نحو أخرج غالب محتوى كتاب «الملاحن» إلى منحى غير أخلاقي ربما يساعد ذوي الأخلاق المنحرفة على الخروج من الحدود، وكان يمكن أن يتخير له صيغة شريفة كما فعل مَن بعدَه.