قصص قصيرة جداً

قصص قصيرة جداً

ذاكرة للبيع
«للبيع: ذاكرة متوهجة لمفكر في مجالي السياسة والتاريخ.
يجيد، إضافة إلى اللغة العربية، اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وله تجربة رائدة في مجال الكتابة...».
كان الإعلان بارزاً وجاذباً على الصفحة الأخيرة من الجريدة. ماذا ينقص تاجراً ناجحاً مثلي غير ذلك.
على الفور، اتصلتُ بصاحب الإعلان، واتفقنا على كل شيء.
لا أنكر أنني صرت أرى عوالم جديدة ما كنت أتخيّلها،
لكن الطامة الكبرى أنني ما عدت أنام.
هدّني الأرق، تراجعتْ صحتي، فبعتها.
اليوم، وبينما كنت أطالع الصحف،
صدمني خبر انتحار من اشتراها.
أفاد الخبر أيضاً، بأنه بعد تحريات وتحقيقات لجنة حماية المستهلك، تبين أن البائع الأصلي لم يصرح بأن الذاكرة تعود لسوري كان شاهداً على كثير من المجازر خلال الثورة!

حيرة
كانتْ في منتصف المسافة،
حين أطلق الأخ النار على أخيه،
ثمّ... على نفسه.
صرخت الأم بقوّة.
لكنها لبثت في وقفتها أكثر من المتوقع.
حارت إلى أيّ منهما تهرع أولاً.


عطش
تهنا في طريق العودة.
جبنا الصحراء في كل الاتجاهات، حتى نفد البنزين.
هدّنا العطش، ولم يتبق معنا إلا جرعة ماء.
ببطء وخفر، أمدُّ يدي إليها، ثم أسحبها.
تماماً، كما تفعل هي.
صرنا نتحاشى لقاء العيون.
تكرّر المد والسحب كثيراً.
في المرة الأخيرة، نفد صبري.
تناولتُ الجرعة، وشربتها.

ظل
هويتُ بالصخرة على جمجمته، ولم يصب بأذى!
بالمسدس واجهته، في المرة الثانية.
كان يستند أمامي إلى الجدار مباشرة،
فأفرغتُ المخزن في رأسه.
لكنه لم يتأثر!
لست مجرماً. ولا أحب الأذية.
فهل تجنيتُ عليه، والمعلومات التي كان يتخم بها تقاريره لهم، ما كان يعرف بها إلا ظلي و... زوجتي؟!


أحلام
هدّني الأرق. أتحايلُ على طير الناس، فلا أظفر به إلا قبيل هنيهات من موعد التحاقي بالعمل.
وبينما كنت أتقلّب كعادتي، تعثّرت يدي أمس بخيط في وسادتي.
رحتُ أتسلى بفتله، وشدّه، فتمدد، واستطال!
وحين انتبهتُ، فاجأني ما علق به من صور، راحت تتتالى كلما سحبته:
بقايا بيوت وشظايا، مطر أحمر، مركب جانح، قمر مشروخ، طفل يتسول،
جثث متفسخة، طائر يشخب دماً، أطراف صناعية...
حين أفاقت زوجتي على شهقاتي كنت قد كوّمتُ أمتاراً من الخيط على أرض الغرفة.
صعقتْ لما رأتْ، ثم صارتْ تساعدني في شد الخيط حتى انتهينا منه بعد أكثر من ساعة.
لففتُ كومته، بدمائها ورائحتها النتنة، في كيس، ورميتها في حاوية القمامة في الخارج.
نمتُ يومها كما لم أنمْ قبلا.
لكن ما أثار دهشتي حين نزلت للالتحاق بالعمل تلك العيون المحمّرة لجيراني.
كاد بعضهم يتعثّر بقدميه. ومنهم من كان يحاذيني ولا يراني.
لم أسمع «صباح الخير» من أيّ منهم في ذلك الصباح!


قرد
ليت الحال وقفت عند حدود القصات الغرائبية، والصبغات العجائبية،
فقد وصل بها الأمر أن جعلتني زبوناً دائماً لعيادات التجميل.
المرة الأولى الأنف، والثانية الخدود، والثالثة الشفاه... والعاشرة...
لم يغظني، حين تخطيتُ الأربعين، أنني ما عدت أعرف نفسي في المرآة، قدر ما أغاظني أنها ما عادتْ تطيقني:
- كيف أعيش مع قرد؟!


وخز
ماذا أفعل بهذا الولد؟
كان يجنّني ولم يدخل المدرسة بعد!
صدمني قبل فترة بسؤاله:
بابا، مَن يمسك بالسماء فلا تقع علينا؟
خفت أن أجيبه حتى لا تتناسل أسئلته، فشاغلته بإصبع من الشوكولا.
قبل أيام، وعندما فاجأتنا السماء بمطر غير متوقع، بادرني:
من يرشّنا بالماء بابا؟
كتمت غيظي، وشاغلته ثانية.
اليوم، كدت أختنق بلقمتي حين فاجأني على العشاء:
بابا.. ماذا فعلتَ وأمي حتى خرجتُ من بطنها؟!.