مكانة الاقتصاد في الحركة الصليبية

مكانة الاقتصاد  في الحركة الصليبية

لعب الاقتصادُ دوراً مهماً في تاريخ الحركة الصليبية، ولم يتجل هذا الدوُر في دوافعها ووقائعها فحسب، وإنما تجلى في نتائجها ومصيرها أيضاً. ويستهدف هذا المقال إلقاء الضوء على أثر العامل الاقتصادي في تشكيل هذه الحركة، ولاسيما أنها فشلت في تحقيق أهدافها السياسية والدينية، في حين نجحت في الميدان الاقتصادي الذي ترتب عليه إحداث تبدلات عميقة في بنية المجتمع الأوربي في أواخر العصور الوسطى.

تحدثنا المصادر التاريخية أن الدوافع الدينية والسياسية لم تكن هي الدوافع الوحيدة للحروب الصليبية، وإنما تتصدرها جميعاً الدوافع الاقتصادية. وتؤكد أن أوربا الغربية كانت تعاني، قبيل الحملة الصليبية الأولى عام 1096، أزمة اقتصادية قاسية نتيجة توالي سنوات القحط والجفاف وانكماش الأراضي الزراعية وازدياد عدد السكان وكثرة الحروب المحلية، فضلاً عن حياة البؤس التي كانت تعيشها طبقة الفلاحين بكل فئاتها في ظل قيود النظام الإقطاعي. ولهذا فعندما دعا البابا أوربان الثاني للحرب الصليبية في مجمع كليرمونت بفرنسا عام 1095، كان في مقدمة الذين استجابوا له أبناء هذه الطبقة والفقراء والمعدمون، وكان دافعهم إلى ذلك التخلص من الجوع والعبودية واكتساب المغفرة، ولاسيما أنهم كانوا يؤمنون بما وعد به الإنجيل بأنهم سيخرجون من حياة البؤس والشقاء التي يعيشونها إلى الأرض التي تفيض باللبن والعسل.
أما طبقة التجار التي كانت تحكم الجمهوريات الإيطالية الثلاث: البندقية وجنوه وبيزا، فقد دعمت هذه الحركة بحثاً عن الثروة والسيطرة على تجارة شرق المتوسط، ولهذا ما كاد يصل الصليبيون إلى الشمال السوري ويحاصرون أنطاكية عام 1097 حتى اندفعت هذه الجمهوريات لمساعدتهم. وطالما أنها كانت، بالإضافة إلى مرسيليا الفرنسية، هي القوى البحرية الأساسية في أوربا آنذاك، فلم يكن بإمكان الصليبيين احتلال مدن الساحل من دون مساعدة أساطيلها، كما لم يكن بالإمكان وصول المساعدات إليهم من الغرب كالجنود والمؤن والأسلحة وآلات الحصار والحجاج ما لم تنقلها هذه الأساطيل. وينبغي أن نؤكد، ثانية، أن دعم هذه الجمهوريات للصليبيين لم يكن إكراماً للمسيحية أو ابتغاءً لمرضاة الله، وإنما تحقيقاً لمصالحها الاقتصادية، فقد كان شعار البنادقة في عصر الحروب الصليبية: «لنكن بنادقة أولاً ثم لنكن بعد ذلك مسيحيين». ولهذا لم تقدم الجمهوريات المساعدات للصليبيين إلا بعد توقيع معاهدات رسمية بين قياداتهم، تتضمن الامتيازات التي ستمنح لها في هذه المدينة أو تلك بعد احتلالها.

الوقائع والامتيازات
شاركت الجمهوريات الإيطالية الصليبيين في الاستيلاء على مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً حتى عسقلان جنوباً، فضلاً عن بعض المدن الداخلية. فالجنوية مثلاً ساعدوا الصليبيين في الاستيلاء على أنطاكية وأرسوف وقيصرية وعكا وطرابلس الشام، وساعدهم البنادقة في احتلال حيفا وصيدا وصور، والبيازنة بتحصين القدس واحتلال اللاذقية. وكانت الامتيازات التي منحها الصليبيون لهذه الجمهوريات عديدة، منها أن يكون لكل منها في المدينة حي وسوق وكنيسة ومخبز وحمامات والإعفاء من بعض الرسوم. وتمسكت الجمهوريات بهذه الامتيازات، فالجنوية مثلاً طلبوا من الملك الصليبي بلدوين الأول أن يضعوا في كنيسة «الضريح المقدس» في القدس لوحةً نُقش عليها بحروف ذهبية الامتيازات التي مُنحت لهم والخدمات التي قدمتها جنوة للصليبيين، ووافق الملك على اقتراحهم.
 وبلغ الاستغلال الاقتصادي للحركة الصليبية ذروته عندما حولت جمهورية البندقية الحملة الصليبية الرابعة عام 1204 عن هدفها الأصلي وهو احتلال مصر إلى احتلال القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية الأرثوذكسية. وقد تمَّ ذلك بناءً على اتفاقية سرية وقعتها البندقية مع السلطات الأيوبية في مصر، اشتملت على منح البنادقة امتيازات تجارية في الإسكندرية مقابل تحويل الحملة عن مصر.
وبالفعل حُولت الحملة التي كانت تقلها أساطيل البندقية، وهي في عرض البحر، واحتلت القسطنطينية واقتسم المنتصرون أقاليم الإمبراطورية وجزرها، واختاروا من بينهم إمبراطوراً لاتينياً على القسطنطينية. وُمنحت البندقية مكافأةً لها ثلاثة أثمان القسطنطينية، كما أصبح لقب حاكم البندقية: «سيد ربع ونصف ربع جميع الإمبراطورية البيزنطية».

 السلع والمتاجر
إن الامتيازات التي حصلت عليها الجمهوريات في المملكة الصليبية جعلت من جالياتها كيانات مستقلة إدارياً وقضائياً ومالياً، وحولت المدن الساحلية إلى أسواق عالمية تتوافر فيها متاجر الشرق والغرب. فقد حمل تجارها إلى أسواق الغرب منتوجات الشام ومصر، مثل: البرتقال والتين واللوز والأعشاب الطبية والبلسم وزيت الزيتون والسكر وغيرها، وكذلك الأقمشة الحريرية والقطنية والكتانية والسجاجيد والأواني الخزفية والزجاجية. كما حملوا سلع الشرق الأقصى التي كانت تصل إلى مدن الساحل الشامي على أيدي تجار مسلمين ومسيحيين، مثل: الحرير الصيني والتوابل الهندية بأنواعها والأحجار الكريمة. وجلبت السفن الإيطالية معها من الغرب إلى أسواق الشام ومصر الأخشاب والحديد والرقيق. وكانت البابوية منعت تزويد العرب المسلمين بهذه المواد لأنها تعزز من قدرات جيشهم الذي يحارب الصليبيين، فمن الأخشاب والحديد تصنع السفن والأسلحة، ومن الرقيق تتشكل معظم فرق هذا الجيش، ولكن قرارات البابوية لم تجد في معظم الأحيان آذاناً صاغية.

النقد والصيرفة
كان من النتائج المهمة لتطور التجارة وتراكم الثروات التي تحققت في العصر الصليبي إصدار العملات الذهبية. فالعملات الفضية التي كانت سائدة وقتذاك لم تكن مقبولة في التجارة الدولية، فأصدر الملوك والأمراء الصليبيون عملات ذهبية، وكانت تقليداً للدنانير الفاطمية. ولكن النقود الذهبية التي حظيت بمكانة مهمة في التجارة الدولية وقتذاك هي تلك التي أصدرتها جمهورية فلورنسا عام 1252 وعرفت باسم «الفلورين»، و«الدوكات» التي أصدرتها جمهورية البندقية عام 1282. ومن النتائج الاقتصادية المهمة أيضاً نشأة المصارف وما يرتبط بها من عمليات القروض والودائع. فلم يعد التجار والحجاج والمحاربون بحاجة إلى حمل النقود معهم وتحمل مخاطر الطرق، وإنما أصبح بإمكانهم إيداع ما يرغبون في حمله من أموال في أحد فروع المصارف في الغرب ومن ثم تسلم المبلغ نفسه من أحد فروعه في القدس أو عكا أو روما مثلاً. والواقع أن هذا النشاط المصرفي لم يكن حكراً على الجمهوريات الإيطالية مثل البندقية وجنوه وفلورنسا فحسب، وإنما قامت به منظمات الفرسان الرهبان أيضا وخاصة «فرسان المعبد»، الذين أصبحوا في القرن الثالث عشر كبار ملاك المصارف والمؤسسات المالية في الغرب والإمارات الصليبية، نتيجة ممتلكاتهم الواسعة في الشرق والغرب. فمثلاً لولا القروض التي قدمها فرسان المعبد للملك الفرنسي لويس السابع لما تمكن من القيام بالحملة الصليبية الثانية. وقد أثارت ثرواتهم طمع الملك الفرنسي فيليب الرابع فحلَّ منظمة فرسان المعبد وصادر ممتلكاتهم عام 1312.

الاقتصاد ومصير المملكة
تتحمل المنافسات الاقتصادية الحادة والمنازعات المسلحة، التي دارت بين الجاليات التجارية الأوربية عامة في المملكة الصليبية، مسؤولية كبيرة في دمار هذه المملكة. ومن الأمثلة على ذلك الحرب التي نشبت بين جنوه والبندقية حول ملكية أحد الأديرة في عكا، حيث قامت جنوه باحتلاله عنوة عام 1256 ثم أغارت على حي البنادقة في المدينة. وبعد قتال استمر ثلاث سنوات انتصر البنادقة وحلفاؤهم البيازنة وطردوا الجنوية من حيّهم واقتسموه في ما بينهم. وتوقف الصراع بين الجمهوريات بتوقيع صلح عام 1270 ولكن كان قد فات الأوان لأن سلاطين المماليك كانوا قد شرعوا في فتح المدن الصليبية، بل عندما بدأ السلطان الأشرف خليل بفتح عكا، عاصمة المملكة، عام 1291، نجد أن البنادقة والبيازنة دافعوا عنها بضراوة، في حين لم يشترك الجنوية في القتال، وربما كان ذلك بالاتفاق مع السلطان. ولكن ينبغي ألا نحمِّل هذه الجمهوريات وحدها مسؤولية سقوط المملكة الصليبية، لأن هناك قوى صليبية أخرى تتحمل مسؤولية أكبر، هي منظمات الفرسان الرهبان (الداوية والإسبتارية والتيتون) التي كانت قد نشأت أساساً للدفاع عن الأراضي المقدسة، ولكنها تخلت عن مهمتها وغرقت في عالم المال والتجارة والصيرفة.

الخاتمة
في ضوء ما تقدم يمكن القول إن الاقتصاد كان من العوامل الأساسية التي صاغت الحركة الصليبية، والازدهار الاقتصادي الذي شهدته أوربا، نتيجة هذه الحركة، وما رافق ذلك من سكِّ للعملات الذهبية وتأسيس للبيوتات المالية، ما أسهم في نقل المجتمع الأوربي من عالم الإقطاع والأرستقراطية القائمة على نبالة الأرض والدم إلى عالم الرأسمالية والبورجوازية التجارية منها والصناعية. وكان ذلك كله من مقدمات فجر النهضة الأوربية الحديثــــة في القرن السادس عشر.