علاقة اللغة بإنشاء الفكر وتخليده

علاقة اللغة بإنشاء الفكر وتخليده
        

          يتحدث عامة الناس وخاصتهم حول قدرة المفكرين العظام على تحدي رحيلهم الجسدي من هذا العالم، والبقاء بينهم حاضرين أحياء بفكرهم. وهو، بلا ريب، حديث ذو مصداقية عالية في الصميم. ومع ذلك، فمقولة هذا الحديث تحتاج إلى أدلة وحجج تمدنا بفهم وتفسير موضوعيين حول أسباب تأهل الفكر البشري للبقاء طويلا أوخالدا بعد اندثار جسد صاحبه. فالموضوع يطالب بكشف الحجاب عن وجه مصداقية مثل ذلك الحديث بحيث يوضع حد للغموض والالتباس اللذين يكادان يلازمان دائما مقولة الحديث في هذا الأمر.

          هذا ما أود طرحه في هذا المقال بواسطة منظور العلوم الاجتماعية. أستعمل إطارا فكريا جديدا لرفع تحديات صعوبة الظفر بفهم وتفسير شفافين ومقنعين للأسباب التي تجعل كبار المفكرين لايرحلون من الدنيا بسبب الموت المحتوم. أستعمل هنا مفهومي/نظريتي للرموز الثقافية لمحاولة بلوغ الهدف. ومن ثم، فمغامرة الفهم والتفسير لإشكالية الموضوع المطروح هنا تدفع بالطبع إلى الاجتهاد والبحث من أجل القرب على الأقل من الإلمام بأهم العوامل التي تؤهل الفكر للبقاء طويلا أو خالدا بعد رحيل أصحابه.

الفكر جزء من منظومة الرموز الثقافية

          قبل القيام بهذا التشخيص أحتاج إلى طرح معلمين لمنهجيتي المركبة للقرب أو بلوغ كسب رهان ذلك التشخيص:

          أوجز ما توصلت إليه من معطيات وملاحظات حول منظومة الثقافة أو ما أسميه الرموز الثقافية التي لم تعد مجرد مفهوم كما كانت عندي في عهد ميلادها الأول. بل أصبحت الآن منظورا فكريا مؤهلا لكي يمثل نظرية ثقافية عربية تساعد على الفهم والتفسير للعديد من الظواهرعند أفراد الجنس البشري ومجتمعاتهم , كما يقول تعريف النظرية نفسه.

          وتطرح منظومتي للرموز الثقافية سؤالا مركزيًا: هل الإنسان كائن ثقافي بالطبع؟ وتعني كلمة ثقافي عندي في هذا المقال وجود العناصر التالية التي يتميز بها أفراد الجنس البشري: اللغة المنطوقة والمكتوبة والفكر والدين والمعرفة/ العلم والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية. فالفكر هو إذن جزء من منظومة الرموز الثقافية. ففهم طبيعة هذه الأخيرة يساعدنا على معرفة طبيعة الفكر الإنساني، ومن ثم سبب تأهله للبقاء طويلا أوحتى للخلود. واعتمادا على هذا، فإن المعلمين السابقين هما مربط الفرس. أي أن محاولتي للظفر بمعرفة ذات مصداقية حول أسباب بقاء الفكر بعد أصحابه تعتمد في الصميم على فهمي ووصفي الخاص لمنظومة الرموز الثقافية. وبعبارة أخرى، فمنظومة الرموز الثقافية هي بيت القصيد في هذا المقال للإمساك بمفاتيح حل ألغاز بقاء/خلود الفكر البشري كظاهرة إنسانية لاتكاد تثيرها وتتطرق لها، مثلا، العلوم الاجتماعية المعاصرة.

أطروحة الإنسان كائن ثقافي بالطبع

          وإذا كانت الرموز الثقافية تمثل جوهر الإنسان، فهل يمكن تأسيس إطار فكري/نظرية حول فرضية هذه الطبيعة الثقافية للإنسان؟ إن الإجا بة الشافية عن ذلك قد تحتاج إلى آلاف الكلمات في مقال أو دراسة أو كتاب أو حتى إلى عديد المجلدات. ويمكن للمرء أن يتبنى، مثلا، منظور الفلسفة أو العلوم الاجتماعية أو هما معا لكي يكتب أطروحة متماسكة في هذا الموضوع. فنحن نعرف كم سال حبر أقلام الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين على الخصوص من كل الحضارات وفي كل العصور حول مقولة مشابهة تتمثل في: أن الإنسان مدني/اجتماعي بالطبع. ومن جهتي، أعتقد أنه ليس من الضروري الإطناب في النقاش والجدال في جوهر الحجج المؤكدة على الطبيعة الثقافية للكائن البشري.

          فالمسألة يمكن حسمها في مقال قصير، وخير الكلام ماقل ودل. وهذا ما أرغب في القيام به باقتصاد شديد في الحروف والكلمات، من ناحية، وبساطة في التعبير وربما في الإقناع في قضية تبدو معقدة، من ناحية أخرى. أعتمد هنا على منهجية الجمع بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية.. فلا يجوز علميا تحليل جوهرالإنسان وعمق كينونته من دون الحديث عن العوامل البيولوجية والفيزيولجية / الجسمية عند الإنسان. كما لاتقبل محاولة فهمه بالكامل إذا همش أو ترك جانبا أهم ما يميز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة، وهي المنظومة الثقافية أو ما أسميه الرموز الثقافية. وحسب علمي، ففرضية الطبيعة الثقافية للإنسان فرضية جديدة لاتكاد تطرحها وتنادي بها أي من المدارس الفكرية في العلوم الاجتماعية المعاصرة مثل الماركسية والبنيوية والوظيفية والتحليل النفسي والسلوكية Behaviorism.

الرموز الثقافية كبيئة لنشأة الفكر

          إن تأكيدنا على مركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان يساعد كثيرا على فهم وتفسير ظاهرة الفكر البشري وإمكان استمراره وحتى خلوده، الأمر الذي يعزز ترشح الرموز الثقافية لكي تكون نظرية ثقافية متماسكة. فالعناصر المكونة لمنظومة الرموز الثقافية (اللغة والفكر والدين والمعرفة/العلم والقيم والأعراف الثقافية ...) تؤهل الإنسان لإنشاء الفكر بالطرق التالية:

          1 ـ تأتي اللغة في الطليعة في هذا الأمر. لقد أكدت البحوث المعاصرة على العلاقة القوية السببية بين اللغة والفكر والتي تتلخص في القول: ينعدم التفكير والفكر من دون اللغة. هذا على المستوى النظري.أما على المستوى العملي، فالإنسان يعبر عن فكره بواسطة استعماله للغة في شكليها الشفوي والمكتوب. ومما لاشك فيه أن إنشاء الفكر والتعبير عنه في لغة مكتوبة يرشحه أكثرمن نظيره الشفوي إلى الاستمرار والدوام وحتى إلى الخلود عبر العصور.

          2 ـ يمثل ميدان المعرفة والعلم، كعنصرين في تعريفي لمنظومة الرموز الثقافية، عاملا مهمًا لنشأة الفكر الإنساني ونضجه. وهذا ما يشهد عليه العصرالحديث على الخصوص.

          3 ـ أثبت الدين عبر كل الحضارات البشرية أنه عنصر فعال في إنشاء الفكر الإنساني. ففكر الحضارة العربية الإسلامية متأثر بقوة بثقافة الدين الإسلامي.

          4 ـ أما عالم القيم والأعراف الثقافية، فقد أنتج فكرا واسعا في علمي الأنثروبولوجيا والاجتماع على الخصوص.

          5 ـ والفكر بكل أنواعه، كعنصر من منظومة الرموز الثقافية، يقود إلى ظاهرة الفكر حول الفكر. فعلى سبيل المثال، كم من كتب فكرية ألفت حول الفكر العمراني في مقدمة ابن خلدون منذ عصرهذا الأخير؟

          وهكذا يتضح أن العناصر الرئيسية لمنظومة الرموز الثقافية تلعب دورا بارزا في إنشاء الفكر الإنساني بأصنافه المتعددة. فهي، إذن، بيئة صالحة ليست فقط لميلاد الفكر وإنما أيضا لنموه ونضجه واستمراره حيا لزمن قصير أو طويل قد يصل إلى كسب رهان الخلود عبر الزمان والمكان.

تجاوز طبيعة الفكر لمنطق الماديات

          إن التحليل السابق لطبيعة منظومة الرموز الثقافية وكبيئة صالحة لإنشاء الفكر الإنساني يحتاج الآن إلى خطوة منهجية بحثية إضافية من أجل القرب من فهم وتفسير ظاهرة ترشح الفكر الإنساني للبقاء طويلا أو حتى للخلود. وحتى نفتح السبيل منهجيا للقرب من الفهم والتفسير لموضوع هذه الدراسة أود -إيبستيمولجيا- التعرف على جوانب أخرى لاتكاد تشير إليها العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة في دراستها لمنظومة الثقافة/الرموز الثقافية.

          فعند التعمق في جوهر طبيعة الرموز الثقافية تبين لي أنها تتسم بلمسات متعالية transcendental تجعلها تختلف عن صفات مكونات الجسم البشري وعالم المادة. ولشرح ذلك أقتصر على ذكر سمة رئيسية لمنظومة الرموز الثقافية تساعد على فهم وتفسير ترشح الفكر البشري للبقاء الطويل أو للخلود. تتمثل هذه السمة في ما أسميه خلو الرموز الثقافية من الوزن والحجم بالمعنى المادي للأشياء. فمن خلال رؤية ايبستيمولوجية/معرفية، تتصف الرموز الثقافية بتلك السمة. فكل العناصر المادية لها وزن وحجم مهما كان صغر حجمها وتفاهة وزنها. وهذا ما لانجده في عناصر منظومة الرموز الثقافية البشرية كاللغة والفكر والدين والمعرفة /العلم والأساطير والقيم والمعايير الثقافية في المجتمعات والحضارات الإنسانية. ومن ثم، يمكن القول بأن الرموز الثقافية هي ذلك الجانب الروحي من الإنسان كما تحدث عنه الفلاسفة والرسالات الدينية عبر العصور باعتبار أن طبيعة الروحانيات ليست من جنس طبيعة الماديات . فهذه الأخيرة لها، مثلا، وزن وحجم بينما الأولى/الرموز الثقافية ليس لها وزن وحجم بالمعنى المادي. أعتبر أن هذه السمة غير المادية لطبيعة الرموز الثقافية أمر مشروع جدا لأنه يصف واقع الرموز الثقافية.

          ومن منطلق تشخيصي لازدواجية هوية الإنسان كجسد ورموز ثقافية (جانب مادي/ذي وزن وحجم وجانب غيرمادي/لاوزن ولاحجم له) تأتي مشروعية ضرورة إفساح المجال في البحث العلمي لتجاوز المنطق المادي لفهم وتفسير الظواهر. يصلح هذا المنظور للمساعدة على فهم وتفسير موضوع هذه الدراسة: طول بقاء أوخلود الفكر البشري. فالمفكرون بشر ذوو هوية مزدوجة كما رأينا. فالجسد هو الجانب المادي من الإنسان والرموز الثقافية هي الجانب غير المادي (لاوزن ولا حجم لها) من الإنسان. وباعتبار الفكر جزءا صميما في منظومة الرموز الثقافية كما أكدت على ذلك من قبل، فإنه مترشح لكي لايخضع للمنطق المادي الذي يتأثر به حتميا جسم الإنسان والمتمثل في الفناء والتلاشي بعد الموت المحتوم. وبعبارة أخرى، فالفكر كعنصر رئيسي في الرموز الثقافية مؤهل بكل مشروعية لكي يتجاوز عوائق المنطق المادي ويبقى طويلا أويكسب حتى رهان الخلود بعد فناء أجساد المفكرين الذين لابد أن يرحلوا جسديا.

علاقة اللغة بإنشاء الفكر وتخليده

          وبالإضافة إلى طبيعة الفكر غير المادية المؤهلة له للبقاء طويلا أو حتى الخلود بعد رحيل أصحابه كما رأينا ذلك للتو، فإنه يمكن اكتشاف ترشح الفكرالإنساني للاستمرار وحتى للخلود بواسطة عامل ثان يتمثل في اللغة المنطوقة والمكتوبة كما وقعت الإشارة من قبل باختصار. لكن الأمر يحتاج إلى تفاصيل أكثر حتى تتضح هذه العلاقة المتينة بين اللغة والفكر.

          هناك اتفاق بين علماء الاجتماع والإنثروبولوجيا الذين اهتموا أكثر من غيرهم بدراسة عالم الثقافة/الرموز الثقافية أن اللغة في شكليها المنطوق والمكتوب هي أهم تلك الرموز الثقافية جميعا، لأنه من دون حضورها لايمكن أن توجد بقية الرموز الثقافية. ومن ثم، جاءت مقولتي لتعتبرأن اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعا. أي أنها العمود الفقري بالنسبة الى إنشاء ظاهرة عالم منظومة الرموزالثقافية بكل عناصرها ومن بينها الفكر. ويجوز تسمية هذا بالجانب العام أو غير المباشرللعلاقة بين اللغة والفكر. أما الجانب الخاص أوالمباشر، فيتمثل في أن اللغة هي الوسيلة الأساسية التي يعبر بها الإنسان عن فكره أو يكتبه بها. إذن، فالعلاقة بين الفكر واللغة هي حقيقة واضحة المعالم.. واللغة لها قدرة كبيرة على تخليد خاصة ما يكتب بها. وبالتالي، يفسرهذا سبب مشروعية ترشح الفكر الإنساني لطول البقاء وحتى للخلود نظرا للعلاقة الوثيقة بين اللغة والفكر التي تؤكد عليها البحوث المعاصرة والحديثة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. فاللغات المكتوبة بالتحديد تمكن المجموعات البشرية من تسجيل ذاكراتها الجماعية والمحافظة عليها إلى أجل غير مسمى يشبه طول بقاء وخلود الكائنات الميتافيزيقية/المتعالية. وينطبق هذا الأمرعلى تأهل الفكر البشري للاستمرار الطويل أو حتى للخلود عبر العصور والحضارات البشرية المختلفة. فمما لاشك فيه أن الشخصيات التي كتب لفكرها البقاء الطويل أو الخلود على مر العصور أخذت القلم وعبرت عن فكرها في لغة أو لغات متعددة. ومن ثم، فاستعمال اللغة هو شرط ضروري لإنشاء الفكر وكسبه رهان الاستمرار وإمكان الخلود عبرالزمان والمكان. فالعلاقة، إذن، بين اللغة والفكر علاقة عضوية وحميمية إلى أقصى درجة.

طبيعة الفكر ترشحه للبقاء

          يتصف العمل الفكري بالاستقلالية عن صاحبه فور ميلاده لدى هذا الأخير، بينما لايتمتع العمل الجسدي بذلك. فمهارة محمد علي كلاي في الملاكمة، مثلا، لايمكن أن تكون مستقلة عنه. فتجسدها وبقاؤها يتوقفان بالكامل عليه كبطل للملاكمة في فترة محدودة من حياته. يجوز تفسير هذا الفرق بطبيعة قطبي ازدواجية الإنسان المتمثلة في الجسد والرموزالثقافية. فاختلافهما على مستوى حضور أو غياب الاستقلالية المشار إليها يأتي من انتمائهما إلى قطبين مختلفين من هوية الإنسان. فالعمل الفكري ينتسب إلى الرموز الثقافية/القطب غيرالمادي والعمل الجسدي ينتمي إلى الجسد/القطب المادي. تسمح هذه الرؤية المبنية على عالم الرموز الثقافية بتفسير تمتع الفكر البشري ليس بكثيرمن الاستقلالية فقط عن صاحبه وإنما أيضا بقدرته على البقاء حيا حتى إن لم يدونه صاحبه في نص مكتوب. إن الفكراللغوي للعالم فرديناند دي سوسير Ferdinand De Saussure مثال على ذلك. فهولم يقم بكتابة فكره المشهور في مؤلفه المعروف (درس في علم اللسانيات العام Cours de linguistique générale) بل تكفل طلبته بعد وفاته في 1913 بجمع فكرمحاضراته اللسانية وأصدروها في كتاب أصبح مرجعا رئيسيا في اللغة واللسانيات. وهكذا يتجلى أن العوامل الثلاثة المذكورة: مساعدة اللغة على تخليد الفكر وانتماء الفكر إلى عالم الروحانيات وتأهل طبيعة الفكر للاستقلال عن صاحبه والبقاء بعده تعمل كلها لمصلحة بقاء الفكرطويلا أوخالدا بعد رحيل صاحبه.

البعد الميتافيزيقي للفكر

          إن وجوب حضوراللغة كوسيلة لإنشاء الفكرعند الإنسان ليست الوظيفة الوحيدة التي تقدمها اللغة لفكر المفكرين في كل الثقافات البشرية. بل للغة المكتوبة على الخصوص دورحاسم في تمكين الفكرمن تجاوزفترة حياة مؤلفه بعقود أو قرون أوحتى إلى أجل غيرمسمى بعد وفاته. يضفي هذا الدور على الفكرالبشري بعدا ميتافيزيقيا لأنه يمكن الفكرمن عدم الرحيل مع رحيل صاحبه جسديا. إن ملامح اللمسات الميتافيزيقية في الأنساق اللغوية لا تحتاج الى عناء كبير لإثباتها. فالمعطيات الميدانية تؤكد قدرة اللغة على تخليد الأفراد والجماعات رموزيا ثقافيا عبر الزمان والمكان. فعلى المستوى الجماعي تمكن اللغة المكتوبة على الخصوص المجموعات البشرية من تسجيل ذاكرتها الجماعية والمحافظة عليها وتخليدها، وذلك رغم اندثار وجودها العضوي والبيولوجي ورغم إمكان تغييرها للمكان وعيش أجيالها اللاحقة في عصور غير عصورها. فمحافظة لغة الضاد محافظة كاملة على النص القرآني خير مثال على مقدرة اللغة التخليدية بالنسبة لحماية الذاكرة الجماعية والتراث الثقافي لبني البشر من واقع الفناء المتأثر بالتأكيد بعوامل الزمن والبيئة والوجود الجسمي المادي للمجموعات والمجتمعات والحضارات البشرية ذاتها.

          وكذلك الأمر بالنسبة للأفراد. فالكتّاب العباقرة في كل الحضارات الإنسانية وعبر العصور المتلاحقة ما كانوا ليستطيعوا تخليد أفكارهم ونظرياتهم بالكامل لولا توافر اللغة المكتوبة المتطورة على الخصوص في ثقافاتهم. فأفلاطون وأرسطو واخناتون والمعري وابن خلدون وابن رشد وروسو وماركس... ما كان لأفكارهم أن تصمد أمام عواتي الزمن لقرون طويلة وربما الى أجل غير مسمى لو أنها لم تحفظ في لغات مكتوبة. وباختصار، فالأنساق اللغوية تسمح لرصيد ذاكرات الشعوب وأفكار الشخصيات اللامعة بالتمتع بالقليل أو بالكثير من البقاء الطويل أو الخلود.

مشروعية خلود الفكرالبشري

          وعلى ضوء تحليلنا العقلي السابق لطبيعة الرموز الثقافية، يتجلى أن هذه الأخيرة تمثل مركزية هوية الإنسان. كما اتضح لنا برؤية ومنهجية العقل البرهاني أن الرموز الثقافية ليست بالعناصرالمادية لأنها فاقدة للوزن والحجم. ومن ثم، فهي تتسم بصفات متعالية ميتاقيزيقية تؤهلها للبقاء طويلا أوحتى للخلود. وهكذا، فالتشخيص العقلي، كما رأينا، يؤكد أن طبيعة الإنسان مزدوجة: جسد ورموز ثقافية/روح. فالجسد معرض لحتمية الفناء بينما منظومة الرموز الثقافية مرشحة بقوة للبقاء الطويل أوللخلود بسبب طبيعتها غير المادية/المتعالية والميتافيزيقية. ومن هنا، تأتي مشروعية استعمال الناس من الخاصة والعامة كلمة الخلود لكي يصفوا بها فكر أو حكمة هذا الفيلسوف أو ذلك المفكر الكبير ورجل الدين والعالم الشهيرالذين ظلت أفكارهم ونظرياتهم وحكمهم وقوانين اكتشافاتهم ترددها وتستعملها الأجيال المتعاقبة عبر العصور. فمسألة خلود الفكر الإنساني تثير بالطبع سؤالا معرفيا ينبغي عدم الهروب منه ولمحاولة الإجابة عنه بكثير من الغموض الذي يضر في نهاية المطاف بعمليتي الفهم والتفسير، ومن ثم بكسب رهان التقدم في مياين المعرفة والعلم. أعتقد أن الإطار النظري لمفهوم الرموز الثقافية يساعد كثيرا على وضع حد للغموض في الفهم والتفسير ومنه القدرة الكافية على التعرف عن أسباب طول بقاء أو خلود الأفكار والحكم والنظريات والمفاهيم والقوانين العلمية عبر الزمان والمكان. ومنه، فلاغرابة، إذن، من منظورهذه الرؤية أن يكون الفكر البشري بكل أنواعه مؤهلا لمدى حياة طويلة أو للخلود النسبي على الأقل عبر العصور وعبر الثقافات والحضارات البشرية المتنوعة.
-------------------------------------
* أكاديمي من تونس.

 

محمود الذوادي*