خرائط الكلمات الثلاث... نظام عالمي جديد لعنونة الأماكن

خرائط الكلمات الثلاث...  نظام عالمي جديد لعنونة الأماكن

العالم كل يوم في جديد، وبواعث الثورة المعرفية والتكنولوجية الحادثة لا تكاد تخمد أو تنتهي، إلا ويظهر إنجاز علمي أو تقني جديد، يحفز هو الآخر على تواتر مزيد من الابتكارات والأفكار المبدعة والمفعمة بروح التنافس والرغبة في تحقيق السبق والريادة. وهذا ما ينطبق تماماً على ابتكارات إلكترونية وتكنولوجية كثيرة يصعب حصرها، لكن نخص بالذكر منها التطبيقات الخاصة باستخدام الخرائط الجغرافية ومحركات البحث الجغرافي المتاحة على شبكة الإنترنت، ونظم تحديد المواقع الجغرافية عموماً. 

بعد أن كان الأمر قاصراً على محرك بحث جغرافي واحد فقط (خرائط جوجل) في العام 2005، تعج صفحات الويب الآن بعشرات المحركات المنافسة، التي يمكن بكبسة زر واحدة أن تفتح أمامك آفاقاً معلوماتية جديدة وخدمات عديدة وفريدة لم يكن يحلم أحدنا بمعاصرتها يوماً ما. ولتنظر مثلاً إلى خدمة تحديد حالة الطرق والازدحام المروري المتاحة على خرائط «ياهو» أو «بنج» أو «جوجل»، لتعرف كم من الوقت والجهد يمكن توفيره، وكم المعلومات التي يمكن الحصول عليها والاستفادة منها بوساطة هذه الخرائط.
واستكمالاً لهذا التوجه، يمكن القول إن العالم أضحى على موعد مع فكرة جديدة ومبتكرة لتحديد المواضــــع والجهات وترميز أو عنونة جمــــيع المواقع والأمــــاكن على مستوى العالم، بما في ذلك المناطق النائـــــية والقرى المجهولة، بل وحتى الصحارى والأراضي الفضاء! وتتمثل هذه الفكرة في استخدام خرائط جديدة وترميز أو توليفة من ثلاث كلمات فقط لا غير، للتعبير عن عين العنوان أو المكان المقصود، وهذا عوضاً عن استخدام الإحداثيات الجغرافية أو تقاطعات خطوط الطول والعرض، وعوضاً أيضاً عن استخدام أنظمة العناوين المعــــروفة المتــــمثــــلة فـــي الرموز البريدية أو أرقام صـــــناديــــق البريد أو أسماء الشوارع، التي يصعب الوصول إليها في أحيان كثيرة. 
ولقد بدأت هذه الفكرة - التي يعرف تطبيقها باســــم خرائط الكلـــــمات الثلاث أو What3Words- في الانتشار بشكل واسع في الآونة الأخيرة، بسبب ما تحظى به من مزايا، أهمها سهولة الاستخدام والتطبيق. 

فكرة عمل النظام الجديد
تتمثل فكرة عمل نظام العنونة الجديد -المعروف باسم What3Words - في تقسيم سطح الكرة الأرضية إلى شبكة افتراضية متكاملة من 57 تريليون مربع صغير، تبلغ مساحة كل مربع 3 أمتار × 3 أمتار، ويعبر عن موقع كل مربع من هذه المربعات برمز فريد وثابت من ثلاث مفردات فقط، ويمكن الحصول عليها من خلال خرائط جغرافية معدة خصيصاً لهذا التطبيق. 
وعمل على تطوير هذه الفكرة وتحويلها إلى تطبيق قابل للاستخدام مجموعة من الهواة في إنجلترا منذ العام 2013، حيث تم أخيراً إطلاق إصدار خاص بالهواتف الذكية لهذا التطبيق، فضلا عن موقع خرائط إلكتروني 
(https://map.what3words.com)، يشابه بشكل ما تطبيق «خرائط جوجل» وغيره من محركات البحث الجغرافية التي نعرفها، وإن تركزت مهمة المحرك الجديد في تحديد الكلمات الثلاث أو المفردات الخاصة بأي موقع أو مربع تريده على وجه البسيطة، والبحث كذلك عن أي موقع من خلال إدخال ثلاث كلمات سهلة الحفظ والكتابة.
كما يجري العمل حالياً على إطلاق نسخة باللغات العربية والإيطالية واليونانية من هذا التطبيق، فضلاً عن إصداراته الحالية الموجودة بتسع لغات، حيث يمكن لأي شخص استخدام التطبيق بأي لغة يفضلها، ومن المعلوم أن جميع الإصدارات تؤدي إلى النتائج نفسها من دون وجود أي فارق. وفيما يخص الإصدار العربي، فينتظر أن يتم إطلاق نسخته التجريبية خلال فترة قريبة، حيث يشير جايمي براون مدير برنامج اللغات بالشــركة المطـــــورة لهذا التطبيق، إلى أن هذه النسخة لن تكون ترجمة للنسخة الإنجليزية، بل عبارة عن إصدار خاص ومستقل ذاتياً بجميع مفرداته العربية، كما هي حال بقية اللغات، ما يمثل في حد ذاته عامل جذب لعموم الناس والمستخدمين في العالم العربي. 
وكان الدافع الأكبر وراء ابتكار هذا النظام، هو صعوبة استخدام وتطبيق نظام الإحداثيات الجغرافية المكون من أرقام وحروف وإشارات في تحديد المواقع وعناوين الأماكن والمنشآت المختلفة بالنسبة لعموم الناس، نظراً لصعوبة تذكر الستة عشر رقماً التي تمثل إحداثيات الموقع الواحد، التي تكتب عادة على شاكلة 
N 50. 81 71 52 ,E 21.93 13 15،  بالإضافة إلى سهولة الخطأ عند كتابة هذه الأرقام أو عند إرسالها لشخص ما عبر الإيميل أو أي تطبيق آخر، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى الذهاب إلى موقع مغاير أو بعيد تماماً عن الموقع المقصود، على ما في ذلك من فقد للوقت والجهد والمال أيضاً. ومن هنا بزغت فكرة ابتكار نظام جديد مبسط يمكن استخدامه بسهولة من قبل الجميع، ويمكن أيضاً تعميمه وتبادل بيانات جميع المواقع والبقاع بوساطته من دون خطأ أو تعثر، وهو ما تحقق بالفعل من خلال إطلاق تطبيق خرائط الكلمات الثلاث أو What3Words.
ويعتبر نظام العنونة الجديد أدق كثيراً وأسهل في الاستخدام والتطبيق من بقية الأنظمة التقليدية الأخرى، المستخدمة في الاستدلال على العناوين وأماكن المنشآت وخلافه المتمثلة في أسماء الشوارع والرموز البريدية، كما أنه أكثر سهولة من ناحية التبادل والمشاركة مع الآخريــــن إذا قورن بنظام الأرقام أو الإحداثيات الجــــغرافية، لأن الكلمات عموماً أسهل كثيراً في الحفظ والتذكر من الأرقام. بيد أن هذا لا يعني إلغاء النظام الجديد للأنظمة القديمة المعمـــــول بها في كل دولة، كما أنه لا يعتبر بديلاً لنظـــــام تحديد المواقع العالمي باستخدام الإحداثـــــيات الجغرافية (GPS)، كون الأخير نظاماً عالمياً لتحديد المواقع الجغرافية (وليس عناوين الأماكن)، وله تطبيقات مستقلة عديدة ومجالات استخدام محددة.

المزايا والمحددات
فضلاً عن سهولة الاستــخدام والتطـــبيق، فإن تطبيق خرائط What3Words الجديــــد يتميز بأكثر من ميزة وخاصية أخرى، مثل اعتماده في إصدار الكلمات الثلاث على خوارزميات رياضية، وليس على الاختيار العشوائي للمفردات، ما يجنب إصدار كلمات طويلة أو صعبة النطق أو منافية للذوق والآداب. 
كما تجنب هذه الخوارزميات إعطاء كلمات متشابهة لأكثر من مكان، وتعمل في الوقت نفسه على تخصيص الكلمات الأبسط والأكثر شيوعاً للمناطق الأكثر سكانًا، والكلمات الأطول للمناطق غـــير المأهولـــــة، كونـــــها أقل استخداماً. كما جرى تزويد خرائط النظام الجديد بقائمة من الكلمات والمفردات تصل في مجموعها من 25 إلى 40 ألف كلمة، تم اختيارها بعناية ودقة بحيث تكون سهلة النطق وبسيطة قدر الإمكان، وألا تتضمن أي كلمة غير لائقة.
ومن الناحية التقنية، فإن تطبيق What3Words الإلكتروني الخاص بالهواتف الذكية يتميز بصغر حجمه، حيث لا يزيد حجم البرنامج الخاص به على 5 ميجابايت، ما يعني إمكان تثبيته بكل سهولة على جميع الهواتف الذكية وجميع المنصات. كما يمكن لهذا التطبيق العمل من دون اتصال بالإنترنت، وهو ما يفيد في حالة ضعف البث أو انقطاع الاتصال بشبكة الإنترنت. كما توجد بالتطبيق خاصية تحويل الإحداثيات إلى ثلاث كلمات والعكس، وخاصية المشاركة التي يمكن من خلال النقر عليها إرسال الكلمات الثلاث الدالة على موقعك إلى أحد الأصدقاء سواء بوساطة الرسائل القصيرة أو البريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي أو غيرها من التطبيقات المشابهة المثبتة على جهازك. لكن الميزة الأهم فوق كل هذا تتمثل في إتاحة هذا النظام للأفراد بالمجان، من دون أي تكلفة أو عبء مادي.
أما عن أبرز محددات أو عــيوب هــذا النظام، فتتلخص فــي افــتــــقاد عـــناوين الأماكــــن والمواقع في الإصدار الحالي للبعد الثالث، نظراً لتضمين جمــــيع المواقــــع فـــيــه بشكل ثنائي الأبعاد، وهذا خلافاً مثلاً لنظام الإحداثيات الجغرافية، الذي يمكن أن يعطي فكرة عن قيم الارتفاعات، وخلافــــاً أيضاً لنظام العناوين البريدية الذي يزوّدنا برقم الطابق الذي توجد فيه الشقة أو المكتب مثلاً. بيد أن غيلز رايس مدير إدارة التسويق الخاصة بخرائط الكلمات الثلاث وتطــبيق What3Words يرى أنه يمكن التغلب على هذا النقص بكتابة اسم الطابق أو الدور بجانب الكلمات الثلاث الخاصة بكل الموقع، موضحاً أنهم بصدد تطوير التطبيق ومحاولة إيجاد حل لهذه المشكلة.
لكن وبغض النظر عن هذا العيب، فإن نجاعة الفكرة وسهولة تطبيق واستخدام خرائط الكلمات الثلاث يمكن أن تحدثا نقلة حقيقية في تحديد المواقع والعناوين، ذلك أنها تقدم مفهوماً جديداً لمعنى الترميز الجغرافي وعناوين الأماكن. 

أهمية التطبيق وآفاق الاستخدام
لا تقتصر أهمية نظام العنونة بالكلمات الثلاث على مجرد تسهيل عملية التعرف على العنوان أو مشاركته مع الآخرين، بل هناك مزايا كبيرة وأوجه عديدة للاستفادة من هذا النظام في أكثر من مجال عمل وتطبيق آخر، لاسيما في ظل رداءة نظام العنونة الحالي في أكثر من 135 دولة عبر العالم، وافتقار مناطق كثيرة، خاصة العشوائيات والقرى الصغيرة والمناطق النائية، إلى نظام عنونة ثابت. لذا يمكن أن يؤدي استخدام هذا النظام إلى اختصار الوقت والجهد، وذلك عن طريق تيسير عملية الوصول للمدارس أو التجمعات السكنية أو آبار المياه أو المقاصد الأخرى التي توجد في مثل هذه المناطق. 
كما يمكن أن يسهل النـــظام لشركات الشحن وغيرها من شركات الخدمات مهمة تسليم الطلبات لأي عنوان في أقصر وقت، حيث تقدر شركة الشحن العملاقة (UPS) على سبيل المثال، بأن توفــــــير كل سائق توصيل لديها لميل واحد، يــــمكن أن يوفر على الشركة 50 مليون دولار سنوياً. والأمر نفــسه ينطبق على عمل منظمات الإغاثة وعون اللاجئين، حيث يصعب عادة الوصـــــول إلى معــسكرات اللاجئين وإيصال الإعانات لمستحقيها، بسبب تجمعــــهم ووجودهـــم في مناطــــق نائية وبعيدة. 
ونظراً لتنامي أهمية تطبيق نظام الخرائط الجديد، فقد أقدم عدد كبير من الشركات التجارية، بل والهيئات المعنية بالإغاثة وتقديم الخدمات والمعلومات المدنية وغيرها، على استخدامه بشكل رسمي وعملي. ومن أبرز تلك الهيئات على سبيل المثال، المتحف البريطاني The British Museum الذي أقدم على استخدام تطبيق خرائط الكلمات الثلاث من أجل تسجيل مواقع وبيانات القطع الأثرية التي جرى العثور عليها، وعددها يصل إلى مليون قطعة. 
كما اعتمدت هيئة الخرائط النرويجية المعروفة باسم Kartverket أيضاً نظام العنونة الجديد في عملية تسجيل كل ما يخص العقارات الوطنية، وأبرزها بالطبع الموقع والمساحة والمواصفات الداخلية. وعلى الخطى نفسها، فإن تطبيق UN-Asign الخاص بهيئة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، أدرج نظام خرائط الكلمات  الثلاث في عملية التعرف على الأبنية المتضررة والمناطق المعرضة للكوارث أو الأزمات، وهذا من أجل تعزيز قدرة الجهات الأممية المعنية على الاستجابة لعمليات الإغاثة وتقديم العون.
والآن، وبعد كل هذا العرض... لتحكم بنفسك على جــــدوى النظــــام الجديد، وهذا من خلال الولــــوج إلى تطبيق What3Words على هاتفك الذكي أو الخرائط الخاصـــة به على الويب، ولا تنس الحصول على الكلمات الثلاث الدالة على عنوان سكنك أو عملك، التي يمكن أن تظل قرينة بك طول العمر، وهذا بالطبع إذا لم ترحل عنه أو تنتقل إلى عمل آخر!.