«أسرار عمَّان.... تحقيقات في ذاكرة المدينة»

«أسرار عمَّان....  تحقيقات في ذاكرة المدينة»

تناول الباحث الأردني الاستقصائي محمد أبوعريضة مسائل كثيرة في كتابه الصادر حديثاً بعنوان «أسرار عمَّان... تحقيقات في ذاكرة المدينة»، جاء على رأسها الأحياء التاريخية للعاصمة الأردنية عمَّان، وقد أطلق أبو عريضة على هذه الأحياء أسماء معبرة تتساوق مع طبيعتها وتاريخها ودورها، فكان الحي الآسيوي الذي يقطنه آسيويـون وآسيويــات قـــدمن للخدمة في المنازل، وما  يستـــتــبع من علاقات ومـــشكلات اجتـمــاعـــية وخصوصـــيات رسمت الحي بطابعه؛ إلى حد أن تطلّق أسرة ابنتها لمجرد أن الخطيب أو الزوج يقطن ذلك الحي. 

من أحياء عمان حي جبل القلعة، الذي قطنته في فترة عائلات تولى أفراد منها مسؤوليات جساماً في سلم الدولة الأردنية ومنها عائلة أبوالراغب، ويشرف الحي على أجزاء من وسط عمَّان والمدرج الروماني والساحة الهاشمية ومجمع رغدان، مشيراً إلى رواية زياد القاسم «أبناء القلعة»، التي سجل فيها تفاصيل حياة الناس في الجبل على نحو مميز. وقد بدأت الحياة تعود إلى هذا الحي مع وصول أفواج المهاجرين الشراكسة إلى عمَّان، من بينهم الحاج يعقوب الذي عمل طاهياً لدى الملك عبدالله الأول، ومربية الملك حسين واسمها مؤنسات، وكان الملك دائم الزيارة لهما قبل أن يتوفيا. 
وقد أعادت الفورة النفطية للحي التجاري،الواقع في وسط البلد ألقه، والذي كان يعج بأسواق الأحذية والإلكترونيات والمحامص والصيدليات وعيادات الأطباء، وقد سجل أبوعريضة ملامح التغيرات الطارئة على الحي وانتقال أهميته لاحقاً إلى الأطراف، مشيراً إلى القبطي صانع أحذية الملك حسين، والتأثير السلبي للاستيراد على صناعة الأحذية في عمَّان، وتطور اقتناء وسائل الإعلام ونوعية الحاصلين عليها وتراجع دور وأهمية دُور السينما، وحركة فتح التي كانت تطبع جريدتها في مطبعة قرب درج يؤدي إلى شارع قبرطاي، فيما اتخذت شخصيات سياسية من وسط العاصمة عيادات لها مثل منيف الرزاز وعبدالرحمن شقير. 
وحظي الحي السياسي باهتمام أكثر من خاص لدى المؤلف أبو عريضة، وهو الحي الواقع على شوارع يمين ويسار شارع الرينبو (ما قبل الدوار الأول)، وهو المربع الذي قطنه صنَّاع تاريخ الأردن الحديث، متحدثاً عن أن مفردة الرينبو (Rainbow قوس قزح) الذي تكنّى الشارع بها تعني ألوان الطيف، حيث إن قاطنيه كانوا يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي الأردني بتناقضاته المختلفة إلى منتصف الربع الثالث من القرن الماضي، وكان لبلدية عمَّان دور في نشوء هذا الحي وبدايات جبل اللويبدة، عندما بدأت بضخ المياه إلى سفحيْ جبلي عمان واللويبدة.
ويعود الباحث إلى موسوعة محمد رفيع بأجزائها الثلاثة «ذاكرة مدينة» وكتاب «سيرة مدينة» لعبدالرحمن منيف، الذي أشار إلى أن ذهاب الأولاد إلى ملعب «كوبان» الواقع خلف غرفة صناعة عمان, الآن، كان يعتبر مغامرة يعاقبون عليها من الأهل.    
وسجل الباحث مفارقة غريبة، أن عبدالرحمن أرشيدات، الذي قطن منزل المعتمد البريطاني في الحي السياسي، كان أحد أعضاء لجنة الوصاية على عرش الملك حسين، فيما كان ابنه نبيه أرشيدات، من أكثر الشيوعيين الأردنيين تشدداً، ومكث شهوراً من خمسينيات القرن الماضي في قبو مظلم لطباعة جريدة الحزب، وقد خلّد الروائي العربي السوري اليساري حنا مينة واقعة نبيه أرشيدات في روايته «الثلج يأتي من النافذة» حيث أوحت تجربة أرشيدات بفكرة الرواية لحنا مينة وأهداها له.
ومن المفارقات التي سجلها أبو عريضة، أن تحرياً لجأ إلى بيت العودات في الحي السياسي، عندما بدا له أن جمهور المتظاهرين في أعقاب حل مجلس النواب في 7 يناير 1956؛ اكتشفوا هويته، فتوجه المتظاهرون إلى منزل العودات للقبض على التحري، التي كان ابنها نعيم شيوعياً، لكن أسرة العودات حمت التحري ولم تسمح للمتظاهرين بالقبض عليه، حيث أصبح التحري وفق العادات العشائرية في حمايتهم، لكن ذلك لم يحل في اليوم التالي دون أن يدعي التحري على المتظاهرين ومنهم نعيم العودات الشيوعي الذي حماه!  
ومن المفارقات التي ساقها الباحث، أن أفراداً من الشرطة كانوا يبلغون أسرة آل نفاع  الشيوعية مسبقاً (من مواطني الحي السياسي) بمواعيد حملات المداهمة التي نفذتها المخابرات  عشرات المرات في الخمسينيات، وكان من سكان الحي بعض الشيوعيين، من بينهم عيسى مدانات. 
وممن قطن الحي أيضاً رئيس الوزراء الأسبق الشريف عبدالحميد شرف وعلاوي الكباريتي والد رئيس الوزراء الأسبق عبدالكريم الكباريتي وقائد الجيش الجنرال الإنجليزي غلوب باشا قبل طرده والمعتمد البريطاني، كما قطنه قوميون عرب من بينهم كمال وعلي منكو ونزار جردانة. كما سكنه سعيد المفتي وتوفيق أبوالهدى وإبراهيم هاشم (رؤساء وزارات سابقون)، بالإضافة إلى عمر حكمت والرأسمالي الكبير رياض المفلح وخليل شقير (الذي تحول منزله إلى دار شقير للثقافة والتراث). 
كما قطن الحي د. عبدالرحمن شقير (الأمين العام للجبهة الوطنية في الخمسينيات قبل أن يغادر إلى سورية)، وعائلة العسلي الحجازية التي تنتمي إليها والدة عبدالله الأول، وصالح منصور الصايغ الذي كان أول من أدخل الخزنة الحديدية إلى الأردن، وفتح محلات لبيع التمور والسمن الحجازي، وكان يطيب للملكين عبدالله الأول وطلال تناول القهوة ووجبات السليق عنده. 
كما قطن شارع الرينبو أيضاً الملك طلال قبل أن يصبح ملكاً مقابل منزل العودات (وهو المنزل الذي ولد فيه الأمراء حسين ومحمد وحسن وبسمة) على مقربة من بيت الشيوعيين. 
يقول أبو عريضة إن مربع الحي السياسي يتكون من 4 شوارع متوازية تقريباً، تتقاطع معها أكثر من 10 شوارع وأزقة، وسكن ذاك المربع في الخمسينيات، مزيج متباين من الناس: شيوعيون وبعثيون وقوميون عرب ورجال حكم وتجار كبار وغيرهم، ومزيج متناقض من ألوان الطيف السياسي في الأردن وقتذاك، في وقت كان الأردن يعيش فيه تحولات عميقة، وأكسبوا المربع تناقضاتهم, ولعبوا أدواراً مهمة في تاريخ الأردن ومصير البلد. 
وأطلق أبو عريضة على بقية جبل اللويبدة مسمى حي النبلاء، الذي  استنكر في حديثه عنه فلسفته عن المكان، مستعرضا مفاصل ومزايا وخصوصيات هذا الحي، الهادئ الأرستقراطي الثقافي والفني التعبيري والتشكيلي والإعلامي والسياسي والأدبي، والدراجات والنادي الأولمبي، مبرزاً كمثال، أن أكثر من 30 فناناً تشكيليا يعيشون اليوم في اللويبدة، بأدق تفاصيله، لكن هذا الحي/ الجبل بات يُخشى عليه من هجوم تجار العقار؛ الذين يتحركون لطمس معالمه، وإغراق الحلم بالمشاريع الإسكانية ومبان مسطحة تفتقر إلى نكهة المكان القديم. 
ودعا الكاتب بلسان الفنان التشكيلي عصام طنطاوي في نطاق حديثه عن قصة عشقه لجبل اللويبدة، إلى تأسيس هيئة مستقلة غايتها الحفاظ على معالم وملامح جبل اللويبدة، ومنع أي تغيير فيه، بل ترميم المباني القديمة. ويشاطره في ذلك الفهم المحاسب القانوني علاء الدين الحسيني، الذي بدأ يشعر أن تحولات عميقة تعصف بالمكان بدأت تفقده بعضاً من جوهره. ويرى أبو عريضة  أن هذا قد يكون السبب الذي دفع بعض الأسر لمغادرة المكان. 
وإذ يطلق أبو عريضة على اللويبدة وصف «الجبل الحي»، فيرى أنه يحمل في كل ذرة تراب فيه ذاكرة عظيمة، ولأن المكان مرتبط ابتداءً ببداية نشأة الدولة الأردنية، فإن حمايته واجب وطني، ويكفي الحي إضافة إلى كل ما ورد آنفاً أنه الحي الوحيد في الأردن، الذي تحظى شوارعه بأسماء شعراء وأدباء، كان لهم الأثر الكبير في حياة شعوبهم، مثل: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم طوقان والفرزدق وجرير والأخطل ومحمد إقبال ومحمد بيرم التونسي ومؤنس الرزاز وحسني فريز وغيرهم. 
ومن أحياء عمَّان؛ الحي الصناعي، حيث عرض أبوعريضة للتحولات السلبية لذلك (فلا رائحة الخبز وطعمه، كما كانا في السابق، ولا الوجوه دافئة حميمة، كما كانت تقف بالقرب من «بيت نار» المخبز الوطني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي). 
وفي المقابل، كانت هناك تحولات أخرى إيجابية في وادي النصر، حيث لم تعد الحيوانات المفترسة كما كانت الحال عام 1948، أي قبل أن يتم استئناسه. 
تحدث أبو عريضة عن مصنع الشماع وعن المهاجرين الفلسطينيين الذين قطنوا وادي النصر، وعن صالون أبي سليم، وعيادات الاتحاد اللوثري، التي كانت تقدم خدمات طبية مجانية بعد عام 1967، وعن شخصية درويش الحشاش المختلفة الكريمة البسيطة المزاجية المتعثرة، التي كانت تلثغ.
يروي المغترب علي؛ القادم من ذاكرة النسيان، ذكرى طالما بقيت راسخة في ذاكرته مذ كان صبياً، عندما اقترب من كشك مشاوي الحشاش مستمتعاً برائحة المشاوي، وهو يمصمص شفتيه، فما كان من الحشاش إلا أن ألقى القبض عليه، وبعد أن استوعب الأمر، منحه ساندويتش كباب وشقف «مثكل»، كما يلفظها، طارداً حرف الشين من الكلمة!  
من عائلات وادي النصر الكيالي والحلتـــة وأبو هاشم وأبو عمارة والعمري وسكجها والزميلي والمسلماني والخليلي والطرشا والعبودي وأبو عارف الحلاق والكردي وغيرها، وجميعها من العائلات الفلسطينية المهاجرة،
وقد اختفت الآن معالم مصنع الشماغ  وصناعة الأثاث ومركز وكالة الغوث ومقاهي وبقالات وادي النصر القديمة، وحلت مكانها محلات تجارة الجملة.
وعرض الباحث مفصلا لأحياء أبناء المحافظات في عمَّان، المعانيين والطفايلة والكركية والعبداللات والمصاروة، ولمشاعرهم بأن الدولة تتخلى عنهم منذ سنوات غير بعيدة، بشكل غير لائق، فحالهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، هربوا من فقر مدقع في محافظاتهم، من جراء فشل الدولة في تنمية مناطقهم الأصلية، إلى فقر أكثر قسوة في المدينة، حيث يحتاجون  إلى أكثر من إيجاد فرصة عمل ومكان سكن، إلى الاندماج في المجتمع المديني الجديد. ويحمل الأبناء والأحفاد منهم في دواخلهم حنيناً جارفاً إلى حياة لم يعيشوها في مناطقهم الأصلية. 
فجدب الطبيعة وظلم الدولة وارتفاع أسعار الأعلاف دفعت أبناء المحافظات لهجر أراضيهم وقطعان ماشيتهم، ما دفعهم للعمل في جهاز الدولة البيروقراطي، وفي آن لم تتح لهم المدينة الولوج إلى عالمها، معتبراً أن الحراك الأردني كشف مقدار الغبن التاريخي الواقع عليهم.
ولفت أبو عريضة  إلى أن عدد سكان عمَّان عند تأسيس الإمارة عام 1922 لم يكن ليتجاوز 7 آلاف نسمة، وبتأسيسها كانت الحاجة ملحة لعمال وموظفين، من داخل الإمارة وخارجها، فشهدت قدوماً منظماً بدءاً من الثلاثينيات من المتعلمين وعائلاتهم من فلسطين وسورية ولبنان والعراق والحجاز، ومع تمدد العمران وانتقاله إلى سفوح جبال عمَّان واللويبدة والحسين، برزت الحاجة لعمال عاديين للعمل في البناء والتحميل والتنزيل في الأسواق. 
وأدت موجات الجراد وجدب الأرض في السنوات من 1929 إلى 1938 إلى بحث أبناء المحافظات وبخاصة الطفيلة عن بدائل في العاصمة عمَّان. 
واقتبس المؤلف أبو عريضة رؤية للباحث في التاريخ د. طارق التل، حيث يرى أن كل عشيرة تشكل مجتمعاً متكاملاً، فقد نقلت هذه العشائر علاقاتها القرابية معها, واستمر أفرادها يعيشون بأنساق العلاقات التي كانوا يعيشـــــونها فــي بلداتهم وقراهم، وهكذا لم تبن العلاقات في عمَّان على أساس الإنتاج، ولم يتشكل نسق طبقي، وبقيت الدولة هي المُشغل الرئيس للمواطنين، وبقيت العلاقات مبنية على اعتبارات عشائرية وجهوية وعلى أساس «الزبائنية» السياسية، وليس على اعتبارات طبقية، ولم تتكون تشكيلات اجتماعية طبيعية ومؤسسات مجتمع مدني مستقلة.  
يذكر أن الكتاب صدر بطبعته الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمَّان، بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، في نحو 400 صفحة من القطع الكبير، غلافه من تصميم  بهاء سليمان، رقم الإيداع لدى المكتبة الوطنية (الأردنية) 2305/7 /2013.