بين التخزين ودلائل الفهم المشترك.. ما الكتابة؟

بين التخزين ودلائل الفهم المشترك.. ما الكتابة؟
        

          تتراوح بين علم الآثار وعلم الأنثربولوجي مساحات كبيرة مشتركة، من هذه المساحات الكتابة ودلالتها ونشأتها وتأثيرها في حياة الإنسان، فذاكرة الإنسان كانت الأداة الرئيسية لنقل المعلومات وخزنها، لكن هذه الذاكرة محدودة، لا تساعده على استيعاب الكم التراكمي من المعرفة الإنسانية، واحتاج الإنسان ليسجل بعض مشاهداته، فرسم صور الأفيال التي نراها اليوم في الصحراء الغربية في مصر، عندما كانت هذه الصحراء غابات، فاسترشد من خلال هذه الرسوم عن أماكن وجود هذه الأفيال. لكن هناك فروقًا رئيسية بين ذاكرة الإنسان والكتابة، فالانتقال الشفهي يحتاج إلى شخص فطن وواسع الأفق، يستطيع التعامل مع شخصين أو أكثر والذي يتطلب وجودهما في الوقت والمكان نفسه، بالإضافة إلى وقت لإقناع الشخص المستقبل للمعلومة التي تم تخزينها بالفعل في ذاكرة الآخر، وسيكون لديه القدرة على الحفظ والنقل بشكل صحيح. أما في حالة الكتابة، فيتم تخزين المعلومات بطريقة آلية بالحفر والرسم، ومن الممكن أن تسترجع وتستخدم في أي وقت وفي أي مكان، من قبل من لديهم قدرة على فك شفرتها.

          للكتابة ميزات أخرى، فهناك حدود لذاكرة الإنسان لاستيعاب كم المعلومات المطلوب تخزينها، بينما المعلومات المخزنة على الوسائط المختلفة لا حدود لها على عكس ذاكرة الإنسان، علما بأن المعلومة المسجلة على وثيقة مكتوبة يمكن أن تستخدم كمرجع للمفكرين الجدد.

          إن إشكالية خزن المعلومات وتناميها، تبرز من جيل لآخر، فالجيل الواحد لا يكتسب علم وخبرة الأجيال السابقة فقط، وإنما يستخدمها لعمل اكتشافات جديدة واستنتاجات غير مسبوقة، لذا فإن المعلومات في تنام مستمر، ويعاد استخدامها أكثر من مرة خاصةً إذا كانت مدوّنة. لذا ابتكر الإنسان الكتابة، فالتعلم والحفظ عن ظهر قلب بهما عيوب كثيرة، حيث إنهما لا يشجعان على التفكير المحكم، فالحفظ في الذاكرة الإنسانية يفضل استخدامه في الشعر الديني والدنيوي والأسطورة والشعر القصصي.

          كل مجتمع منذ فجر الكتابة يقوم بتخزين وتدوين المعلومات الضرورية حتى لا تفنى، من ثم لا يوجد فرق في وظيفة الرسومات الصخرية التي ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ وبين الصحف والكتابات التصويرية والرموز الهجائية، والحاسبات الآلية ذات السعات الهائلة في التخزين المعلوماتي، ففي النهاية هناك مجتمعات تدرك أهمية استخدام أحدث طرق خزن المعلومات في عصرها للحفاظ على وجودها.

          طوّر الإنسان من الرسوم الصخرية التي كان يستخدمها إنسان ما قبل التاريخ، الكتابة التصويرية التي تقوم بنقل الفكرة مباشرة، فعندما ترسم «قدما» فهي تعني «قدما»، وحين تفتح قدمين متجاورتين فهذا يعني «يمشي»، وعندما ترسم «موجة» تعني «ماء»، ورسم شجرة فهي تعني «شجرة»، وقد تعني «طازجًا»، «أخضر»، «حياة»، ورسم شجرتين يعني «غابة» في أي لغة، فهناك فرق بين الصورة والصورة المكتوبة، يكمن هذا الفرق في أن الأولى تعبر عن الشكل المادي، فحين ترسم بقرة فهذا الرسم يشير ببساطة إلى الشكل المادي للحيوان، بينما الصورة المكتوبة تقدم رواية، فصورة مجموعة من الأبقار المحاطة بأشكال آدمية تحمل أسلحة تحكي قصة صيد، وفى الحالتين نجد أن عناصر الفن والمعلومات المخزنة تعبر بصورة مباشرة عن المعنى المطلوب فيستوعب الناظر للمشهد الفني المرسوم والمعلومة المطلوبة من أول وهلة.

          تشابهت في هذا الكتابة المصرية القديمة والكتابة الصينية المبكرة، حيث تطورت الأولى إلى إضافة قيم صوتية تنقل المشاعر والمعنى، بينما نمت الثانية إلى آلاف من العلامات كل منها يعبر عن شيء ما.

الكتابة الصوتية

          عرف العالم نوعًا من الكتابات هو الكتابة الصوتية، والتي تعتبر الأكثر تعقيدًا، هذه الكتابة تترجم أولا إلى أصوات لكلمة معينة أو جملة في لغة ما، ثم بعد ذلك تترجم هذه الأصوات وتوضع على هيئة شكل مرئي في إطار محفور، أو مرسوم أو علامات مقطوعة على سطح قطع معينة من الفخار أو الخشب أو الحجر أو البردي ثم أخيرًا الورق.

          ومن أجل استعادة هذه المعلومات، وهذه العلامات المرئية لابد من ترجمتها إلى أصوات تتبع اللغة نفسها، ومن هنا الكلمة، أو الجملة والفكرة الأساسية لابد أن يعاد بناؤها إلى ذاكرة القارئ، هكذا ترجم الإنسان في مهد الحضارة المعلومة إلى أداة تعبر عنها، لتتطور إلى الحروف الهجائية.

          علماء اللغات القديمة تنبهوا بعد دراسات عميقة، إلى أن نوع الكتابة الذي يطوره المجتمع أو يختاره يدل على نوع هذا المجتمع، فالعديد من المجتمعات عرفت بدايات مبكرة للكتابة، بعض المجتمعات ترفضها والبعض الآخر قبلها فنشأت لديه حضارة، حيث صارت جزءًا أساسيًا من هذا المجتمع، فبنى عليها المجتمع معاملاته التجارية والإدارية وطقوسه الدينية، هذا ما حدث في مصر القديمة والعراق.

          إن حركة المعاملات داخل المجتمع تخلق حيوية في كتاباتها، فكلما تنوعت وزادت حركة المعاملات انعكس ذلك إيجابًا على تطور نظم الكتابة ودلالتها، كما يحدث بين الصيادين والرعاة البدائيين أو المزارعين، وهؤلاء يشكلون مجتمعات لديها متطلبات للتبادل والتعامل، فالمجتمعات التي تعتمد على جهود عمل منظمة للزراعة على سبيل المثال تنتج فائضا يورد للتجمعات الكثيفة في المدن، وتحتاج إلى أوجه من التنظيم المركز ، وهذا التنظيم المركز يعتمد على تأثير الإدارة.وواحدة من الخصائص المتوافرة في هذا النوع من المجتمع أن القيمة العالية تكون في الملكية ومفهوم الملكية له علاقة متبادلة مع فكرة البيئة، فالملكية يمكن أن تنسب إلى فرد أو عائلة أو جماعة كما حدث في المجتمعات قبل الرأسمالية، تعتبر الملكية كلها (منتج مالك عائلة أو جماعة) لابد أن تتعلق بطريقة أو بأخرى بالبيئة، والبيئة هي نتاج كل المنتجات الأراضي والأفراد، وحيث إن الملكية يمكن الحصول عليها الآن عن طريق الجهود المشتركة، فهذه البيئة تحتاج إلى القوانين لتنظيم وإدارة الملكية والذين ينتجونها، وتحتاج إلى تقديم حماية من الاضطرابات الخارجية والداخلية وكانت فيضانات النيل السنوية تروض من قبل إدارة مركزية منظمة هي التي أوجدت الدولة المصرية المركزية في عصور مبكرة ومعها حضارة قدماء المصريين، ولأن الملكية مهمة فبالتالي الطريقة الشرعية لنقل الملكية المسماة بالبيع تحتاج إلى ضمانات متساوية.

          إن التجارة والإدارة تحتاجان إلى السرعة واتخاذ القرار والضبط، لهذا نستطيع أن نفهم عملية ظهور علامات كتابية تساعد على كل هذا وتعبّر عن تطور المعاملات بصورة سلسة تلبي متطلبات الحضارة، فالمصريون طوروا من الهيروغليفية الهيراطيقية والديموطيقية للمعاملات اليومية.

          هذا يفسّر لنا آلاف الوثائق القديمة المكتوبة التي تتعلق بالملكية في العراق ومصر واليونان، فتعرفنا منها على قوائم البضاعة المبيعة، وخطابات وعقود وحسابات إدارية ورسائل متبادلة، فكانت الملكية وتبادل السلع المحطة الأولى التي ساعدت على اقتناع المجتمع بأهمية الكتابة، ومنها انتقلت الكتابة لتحل محل التقاليد الشفهية في المتوارث والمتداول من الدين والأدب.

          وفي بلاد الرافدين، استخدمت الأختام للدعاية وتمييز الملكية، فالعلاقة بين الأختام وتمييز الملكية والكتابة مثيرة للغاية، فقد كان الرحالة الرعاة ومربو الأبقار يستخدمون الأختام لدمغ الحيوانات، لتحديد ملكيتها ومن الطريف أن هذا يستخدم إلى اليوم، كما كان الوشم يستخدم لكي يتعرف الفرد على الآلهة، أو الفرد على جماعته، بل إن المصريين القدماء استخدموا الأختام على المصوغات الفضية وغيرها من المعادن الثمينة.

          ذكر هيرودوت قصة طريفة عن أحد الحكام أنه أرسل هدية مكونة من طائر وفأر وضفدع و7 أسهم لحاكم فارسي، هذه الهدايا في مجملها تحمل معنى واحدًا هو الاستسلام، فالفأر يعني الجبن، والطائر يساوي الحصن، والسهام تهديد بالقتل، كان ذلك يعد تصريحًا بالتحدي والاحتقار، فالفرس يمكن قتلهم بالسهام إذا لم يطيروا كالطيور أي يفروا، وأن يختبئوا في الأرض كالفئران، وأن يقفزوا في المياه كالضفادع.

          هناك طريقة لدى اليوربا Yoruba في نيجيريا لإرسال الرسائل مستخدمين الودع، فواحدة من هذا الودع تدل على الفشل والاحتقار، والاثنتان معًا تدلان على العلاقة المتبادلة وثلاثة من هذا الودع تعني الانفصال والعداء، و6 من هذا الودع تعني «منجذبا»، وشريط مكون من 6 من الودع لو أرسل إلى شخص من الجنس الآخر تعني «أنا منجذب لك» وشريط من 8 لو أرسل لمرسل الشريط تعني «أنا موافق».

          هذه الطرائف مثلها كثير في حياتنا اليومية المعاصرة، فهناك أشياء نستخدمها للدلالة على معانٍ يفهمها الطرف المخاطب، كالقلب للدلالة على الحب، أو الورد للدلالة على المودة، وغير ذلك كثير.

العلامات التصويرية

          كما أن العلامات التصويرية تمثل لغة عالمية للتواصل اليوم، فكأن إنسان العصر الرقمي بدأ يعود لعصور بداية الحضارة الإنسانية، فيمكنك التنقل من القاهرة إلى باريس أو بكين والتجول داخل أي من هذه المدن دون أن تنطق بكلمة واحدة، ما عليك سوى اتباع العلامات التصويرية التي تقابلك، وهى لغة بصرية صار عليها اتفاق بين جميع الشعوب في كل أرجاء الأرض، فأنت تعرف في المطار مكان ختم جواز السفر، وتسلم حقائبك وأماكن الخروج وأماكن المترو أو سيارات الأجرة والفنادق والمطاعم والطرق وتقاطعها ومحطات الوقود. كما أن العلامات التصويرية تشير إلى التعليمات الخاصة بكل منتج صناعي، ففي الملابس توضع شارة تشير إلى طريقة الغسل بالتجفيف أو الغسل اليدوي، أو الكي البارد أو الساخن.

          أما عن تنبؤات الطقس في التلفاز فمن الممكن أن يفهمها أي فرد وبأي لغة، من دون معرفة مسبقة للغة التي يستخدمها مذيع نشرة الأخبار، فهناك صور متعارف عليها، فمثلاً السحاب الأسود يعني المطر، والسحاب الأبيض بخطوط بيضاء يعني أن الطقس به سحب خفيفة، وأشعة الشمس تعني شروقها، فضلا عن دلالات الثلج وسقوطه.

          الآن في العالم كله صارت كذلك علامات المرور لغة عالمية، فإشارات محددة تنبهك إلى إبطاء السرعة لوجود مدرسة أو مطب صناعي أو أن هذا الجانب ممنوع الوقوف فيه أو أن هذا الشارع اتجاه واحد أو أن المرور من هذا الطريق خطر..إلخ.

          إن التطور الحضاري كما أوجد الكتابة في عصور ما قبل التاريخ، أوجد العلامات التصويرية الدالة في العصر الحالي لضرورات التجارة العالمية والتبادل الثقافي والتعاون الصناعي، فهناك نوع من الاحتياج للفهم البسيط والسهل، وذلك لكي نتخطى الحدود الضيقة للغات، لفهم أوسع ومشترك لدلالات الأشياء.
--------------------------------
* المدير الإعلامي لمكتبة الإسكندرية.

 

 

خالد عزب*