غربة الروح والجسد في «أطفال بلا دموع»

غربة الروح والجسد في «أطفال بلا دموع»

هل الغربة عن الوطن هي سبب شعورنا بالوحدة أم نشعر بالوحدة لغربتنا عن أنفسنا؟ أسئلة يطرحها الكاتب علاء الديب, الذي رحل عن عالمنا في فبراير الماضي, في روايته الأولى «أطفال بلا دموع»، من خلال قصة د. منير فكار، أستاذ الأدب المعار إلى إحدى دول الخليج منذ عشر سنوات. البطل يحكي في تدفق سردي معاناته مع الحياة ومحاولاته أن ينجح في جمع المال الوفير، وأن يظل محافظاً على الصورة الخارجية التي رسمها لنفسه. لكنه في وسط دوامة جمع المال والغربة, تاهت منه معانٍ كثيرة للحياة, أهمها أن يكون إنساناً.
بين مشهد المحطة في بلدته الصغيرة «كفر شوق» وذاكرته علاقة غرامية، فالصورة التي لا يحاول أن يتذكرها تستدعي نفسها تلقائياً بمناسبة ومن دون مناسبة. ربما لتؤكد شعوره النفسي بالغربة، والرغبة في العودة إلى حيث ينتمي على الرغم من أنه, هو نفسه, يريد أن يبتعد, أن يفر من ماضيه وطفولته، أن يفر من علاقته برجب الذي كان يبيع قطع حلوى وأشياء بسيطة يشتريها العابرون في المحطة. كان رجب يحكي لمنير, الطفل الصغير, عن الذهب الذي خطف بصر ابنته حين دخلت الكهف بحثاً عن أمها, التي ماتت داخله وتمزق جسدها. حكى له عن الساحر المغربي الذي مشت خلفه ابنته الضريرة ولم تعد، وعن الديك الذي يرقص مذبوحاً ويتناثر دمه على المارين. 
تعثرت حياة د.منير الزوجية وانهارت, فهو يكره زوجته سناء الأستاذة الجامعية, ففي أثناء السرد سينطق بالحقيقة. مشكلتها الوحيدة أنها تريد أن تعيش حياتها, أن تنفق المال الذي تجنيه, أن تتمتع، بينما هو يعكف على جمع المال وتلك هي مهمته الوحيدة. لهذا استنكر أفعالها, البغيضة من وجهة نظره, إذ كانت تشتري لطفليهما لعباً وملابس، لذا صارت الحياة بينهما مستحيلة.
«انتهت شهور الإجازة كأنها سيجارة قديمة, بلا مذاق»... يشعر منير أنه عائد لوطنه الثاني من دون أن ينجز أشياء مهمة, وكأن الوقت ابتلع إجازته ولم يمهله فرصة. فلم يزر والده الضرير بكفر شوق, ولم ير طفليه، وبالتالي لم يعطهما الهدايا التي اشتراها لهما. هذا ما يراه بينما الحقيقة أنه ظل يكتب المقالات التي سينشرها في الجرائد القاهرية في ذلك «البانسيون» الرخيص بوسط البلد. وبضعة أيام قضاها في الإسكندرية في محاولة للبحث عن رجب. حين توشك الرواية على الانتهاء، يقول 
د.منير «لم أصرف في هذه الرحلة نصف ما قدرت, الدولارات في جيبي صحيحة, ونقود مصرية كثيرة وهم جميعاً هنا يشـــــتكون من الــغلاء والفقر»، في إشارة لبخله. ولهذا السبب أيضا ارتكب د.منير بعض الآثام، لكنه لم يلعب القمار أبداً, لأنه يحترم المال.
«أطفال بلا دموع» رواية مكتوبة في حقبة أواخر سبعينيات القرن الماضي, مع بداية سفر المصريين للعمل بالخارج، الذي ترتب عليه  تغيير الأفكار والمستويات المجتمعية, وظهور شركات توظيف الأموال على سبيل المثال. في الوقت ذاته انتشرت صورة الطفل الباكي في البيوت المصرية, تلك الصورة المرسومة لطفل تسيل من عينه دمعة واحدة. الغريب أن أصدقاءه المغتربين طلبوا منه أن يحضر لهم من مصر نسخاً من هذه الصورة. 
عناء الرغبة في الكتابة الإبداعية دون أن يتمخض عمل حقيقي كان أحد عذابات د.منير، لطالما حلم بأن يكون كاتباً ومبدعاً، لكن الأبحاث والمقالات المتخصصة خطفته من حلمه, وظل يحاول بقدر ما يستطيع أن ينهي مجموعة قصصية أراد أن يكتب آخر قصة فيها عن الغربة, لكنه لم ينجح. في مكاشفة بديعة, سرد د. منير أنه اعتاد كتابة المقالات الباهرة التي تتكون من مقدمة مختلفة ونهاية بديعة، بينما القلب مجرد مضغ كلام, مجرد كلام فارغ بلا قيمة حقيقية. لكن هذه المقالات تعجب زملاءه وتجلب له مالاً إضافياً.
الرواية ممتلئة بمشاعر الحزن والفقد, ومحاولات للبحث عن ذات مفقودة بفعل الزمن والغربة. ومكتوبة بلغة شعرية شفيفة وكأنها «مونودراما». «أطفال بلا دموع» رواية ضمن ثلاثية، يحكي د.منير القصة من وجهة نظره، ثم «قمر على المستنقع»، حيث تروي الزوجة الأحداث، ثم «عيون البنفسج» التي يرويها تامر ابن منير الذي صار شاعراً. تم تجميع الروايات الثلاث في كتاب واحد عام 2009 صدر عن دار الشروق المصرية.
ولد علاء الدين حسب الله الديب بالقاهرة عام 1939، وهو كاتب صحفي, مترجم وأديب. اشتهر بعموده الثقافي «عصير الكتب»، وحصل الراحل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2001.