وطن ومواطن
بعد شهور تسعة - قصرت قليلاً أو طالت - من الإقامة وسط ملاذ آمن بالغ الدفء كريم العطاء.
تتأهب الروح البشرية الجديدة لاختراق الشرنقة، وتجد نفسها محاطة بلفافة دفء آخر وأصوات تكبّر في الآذان مرات ثلاث وكأنها تبدأ بإقامة صلاة مرحبة بالقادم الجديد.
هذا الذي تم فصله عن رحم أمه للتو بقطع حبله السري ليطلق الصرخة الأولى احتجاجاً على ترحيله من وطنه الصغير إلى العالم الأكبر.
يبدأ درسه الأول في التأقلم بوضع قدميه الصغيرتين على أول عتبات «المواطنة»، وهو الاسم الجديد لصلته بالأرض.
وتبدأ رحلة الوصل لهذا المواطن الصغير بهذا الوطن الكبير، الذي نسميه «الانتماء»، ذاك الدرس الأول لربط الإنسان بوطنه رباطاً له صفات النمو والاستمرارية بإرادة الخالق على المخلوق.
لذا يقال إن المواطنة حق له صفة الديمومة - إلا ما كتب الله - أما الانتماء فهو واجب مستمر ما دامت العلاقة سوية بين الإنسان وموقع قدميه.
الوطن... نعرفه بمجرد فتح أعيننا، لكن الانتماء ليس مجرد ملصق إعلاني، إنما هو درس مهم يعطينا إياه الأهل أولاً، ثم المدرسة رغم اختلاف اللغة والموقع. والانتماء، مطلوب من الاثنين (الوطن والمواطن) ممارسته بحرفية عالية، فلا تتكامل المواطنة إلا بإنجاز الانتماء، الذي نترجمه في حياتنا الخاصة أو العامة، رغم تقدم العامة عن الخاصة. إن الجدية في ممارسة سلوك الانتماء هي التي تصوغ المواطن الحق وليس مجرد عابر السبيل، لأن للأوطان حرمات، ولها قواعد وقوانين، ونظم تبدأ من احترام علم البلاد وتنتهي عند إماطة الأذى عن الطريق، فالسلوك العام هو الصوت المسموع للانتماء الحق.
للأوطان إدارات عليا في مجالات السياسة والاقتصاد والعلم والاجتماع، وللمجتمع أخلاقيات عامة راقية مطلوب من الأفراد ممارستها بكم كبير من الطاعة.
تلك حقوق الأوطان على مواطنيها وزوارها، وما على الإنسان إلا أن يدرك أن حريته ذاتية فقط لا يمارسها في الأجواء العامة، لأن ما يخرج منه عن إطار منزله الخاص هو للعموم وليس له خصوصية به.
اعذروني إن آمنت بأن الوطن العربي قد أدركته الجودة عند صناعته لأوطانه، ولكنه مازال في الدرجات الدنيا في تشكيل وصوغ مواطنيه، أقول صوغاً ولا أقول صناعة والفرق بينهما كبير.
فالعربي يحب وطن ولكنه لا يمارس انتماءه بحرفية يستحقها الوطن.