القراءة الطباقية لإدوارد سعيد... نحو تفسير جديد لنشأة الرواية

القراءة الطباقية لإدوارد سعيد...  نحو تفسير جديد لنشأة الرواية

لا مشاحة في كون إدوارد سعيد، من أبرز المفكرين الذين عرفهم القرن العشرون، بل أحد الذين أحدثوا جدلاً كبيراً في الأوساط الثقافية والــــنقديـــــــة، وكــــانت لإسهاماته تــــأثــــــيرات كــبيرة في خلق عــــــديد مــــــــــن التصورات والـــــــــرؤى، لــــعل أبــــــرزها إسهــــامه الفعَّال في تطور الدراسات الثقافية من جهة، وعمله على خلق اتجاه قائم بذاته فيها، هو النقد ما بعد الكولونيالي، الذي يعتبر رائده الأول من جهة ثانية.

هذا الاتجاه الذي فكك عديداً من اليقينيات التي كانت تروّج لها الدول الاستعمارية، التي تم التعامل معها من لدن المستعمرين، باعتبارها قدراً حتمياً يجب الخضوع له والإيمان به، وهو تفكيك طال جل المجالات، حيث نجد إدوارد سعيد يجادل الغرب في أرشيفه السياسي، والديني، والجغرافي، والثقافي، والأدبي، وغير ذلك، وهنا بالضبط يكمن واحد من أهم التصورات التي خلخلت المركزية الغربية، المتمثل في ربطه نشأة الرواية الغربية بالتوسعات الاستعمارية الأوربية في الأراضي الأخرى.

الرؤية والإمبريالية
فسعيد، على خلاف مجموعة من المنظرين، يرى أن السردية، ولاسيما الرواية، كانت رديفة للتوسع الإمبريالي. فإذا كان لوكاتش في كتابه «نظرية الرواية» يربط ظهور جنس الرواية بصعود الطبقة البرجوازية، ويربطه باختين في تنظيراته بالحوارات السقراطية، والهجاءات المينيبية، والكرنفال، وغيرها من الطقوس الشعبية التي تحللت، ثم يعمد أيان واط إلى جعله رديفاً لظهور جمهور نسائي رومانسي عاشق للقراءة وتواق إلى الحرية، فإن تفرد سعيد يكمن في ربطه ظهور الرواية بالإمبريالية الغربية، بحيث لا يمكن تصور أحدهما معزولاً عن الآخر، يقول: «لست أسعى إلى القول إن الرواية - أو الثقافة بالمعنى الواسع - قد سببت الإمبريالية، بل إن الرواية - من حيث هي مصنع ثقافي من مصنعات المجتمع الطبقوسطي - والإمبريالية غير قابلتين للحضور بالبال منفصلتين إحداهما عن الأخرى. إن الرواية هي أكثر الأشكال الأدبية الرئيسة حداثة زمنياً، ونشوؤها هو الأكثر قابلية للتأريخ، وحدوثها هو الأكثر غربية، ونسقها المعياري للسلطة الاجتماعية هو الأكثر بنينية، ولقد حضت الرواية والإمبريالية إحداهما الأخرى إلى درجة عالية يستحيل معها، تبعاً لما أطرحه، قراءة إحداهما من دون التعامل بطريقة ما مع الأخرى».
 ونظراً لهذه العلاقة الجدلية التي تربط كلاً من الرواية والإمبريالية، نجد سعيد يعود إلى الأرشيف الثقافي للغرب قصد دراسته وخلخلة وثوقياته، وهكذا لم يعد ينظر إلى كبلنج وكونراد، وجيروم، وفلوبير، وجورج إليوت، وإميل زولا، وجيمس جويس، وهاردي، وغيرهم كثير، على أنهم مجرد كتَّاب كبار، وإنما بشكل أو بآخر فهم مؤيدون للتوسع الإمبريالي، وتمثيل الآخر، بل ومحاولة «تأكيد نجاح المبادرة الإمبريالية والاحتفاء بها، من دون أن «يتشككوا» للحظة واحدة بها».
 والواقع أن إدوارد سعيد ذهب أكثر من ذلك، إذ لم يقتصر على سبر أغوار النصوص التي احتفى بها القارئ الغربي والعالمي على حد سواء، وصنف أصحابها على أنهم من أعظم الكتاب، وإنما تجاوز ذلك، إلى الحديث عن بعض الذين خدموا الإمبريالية، وكانت لتنبؤاتهم إسهامات كبيرة في تشكيلها، فـ «سيلي، ودلك، وفرود، ولورواـ بوليو، وهارمان، وآخرون، وكثيرون منهم منسيون وغير مقروئين اليوم، لكنهم كانوا ذوي تأثير قوي، بل كانوا أيضاً نبوئيين عندئذ في استكمال تشكيل إنشاء إمبريالية أواخر القرن التاسع عشر»، ولذلك لم يكتف سعيد بالكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة في السردية الغربية، وإنما ذهب إلى تقديم قراءة مقاومة لها، وذلك باجتراحه لمفهوم القراءة الطباقية، الذي حاول من خلاله تقويض أسطورة الأدب البريء، وسبر المخفي في تلك الأعمال، والقبض على الخيط الناظم للعلاقة بين الثقافة والإمبريالية من جهة، والمستعمِر والمستعمَر من جهة ثانية، حيث الحضور القوي واللافت للنظر بالنسبة لثقافة الأول، في حين التلاشي والتغييب الجذري لثقافة الثاني، إذ أضحى العالم تحت الهيمنة الإمبريالية «عالم متشابك تتداخل تجاربه مما يحتم فحص التجارب التاريخية التي تلازمها وتقابلها».
وقد كان للنصوص الثقافية، والإبداعية بشكل خاص، ولاسيما الرواية، دور في مد وتعزيز التوسع الاستعماري، وهو ما حدا بسعيد إلى إعادة قراءة الأرشيف الثقافي الغربي، عن طريق مفهوم القراءة الطباقية، الذي اجترحه نتيجة احتكاكه بالمجال الموسيقي، وإعجابه الشديد بأحد أعلام العزف على البيانو، ويأتي التأثير الموسيقي من خلال «الاستعمال المتزامن للحنين، أو أكثر لإنتاج المعنى الموسيقي، بما يسمح بالقول إن أحد الألحان هو النقطة المضادة لـ، أو في حالة تضاد مع، لحن آخر. وهكذا فإن التضاد المزدوج هو أن يكون لحنان، أحدهما فوق الآخر، قابلين لتبادل موقعيهما». وانطلاقاً من هذا التحديد يحلل سعيد الأعمال الكبيرة التي احتفت بها الثقافة الغربية. فالقراءة الطباقية هي «تكنيك للموضوع والتنوع تتشكل من خلاله نقطة مضادة بين السرد الإمبريالي وزاوية النظر ما بعد الكولونيالية (سرد - مضاد) يظل ينفذ تحت سطوح النصوص الفردية لتطوير الحضور الكلي الوجود للإمبريالية في الثقافة التشريعية».

القراءة الطباقية
وبذلك تعمل القراءة الطباقية على نزع السلطة المهيمنة التي تشكل نسغ المخططات الإمبريالية، من خلال النصوص المصاحبة لها، فهي تعلن المخفي بحيث يستطاع تلمسه، بتأكيد أن الأعمال الثقافية العظيمة كانت في أحايين كثيرة داعمة للتوسع الإمبريالي الأوربي، ومحافظة عليه، ولتوضيح هذا التعالق بشكل أكثر، يقول سعيد: «حين نعود بالنظر إلى سجل المحفوظات الإمبريالي، نأخذ بقراءته لا واحديا، بل طباقياً، بوعي متآين للتاريخ الحواضري الذي يتم سرده ولتلك التواريخ الأخرى، التي يعمل ضدها (معها أيضاً) الإنشاء المسيطر. في النقطة الطباقية للموسيقى العريقة «الكلاسيكية» الغربية، تتبارى وتتصادم موضوعات متنوعة، إحداها مع الآخر، من دون أن يكون لأي منها دور امتيازي إلا بصورة مشروطة مؤقتة، ومع ذلك يكون في التعدد النغمي الناتج تلاؤم ونظام، تفاعل منظم يشتق من الموضوعات «ذاتها»، لا من مبدأ لحني «ميلودي» صارم أو بشكل يقع خارج العمل. وفي اعتقادي أننا نستطيع، بالطريقة ذاتها، أن نقرأ ونُؤَوِّل الروايات الإنجليزية، مثلا، التي يشكل تعالقها (المقموع عادة إلى درجة غالبة) مع، لنقل، جزر الهند الغربية أو الهند، بل لعله أيضا يتحتم ويتقرر بالتاريخ المحدد للاستعمار والمقاومة، وأخيرا القومية الأصلانية. عندئذٍ تنبثق سرديات بديلة أو جديدة، وتصبح ذواتا متمأسسة أو مستقرة إنشائيا».
 ولعل هذا ما يفسر الأهمية الكبيرة لمفهوم القراءة الطباقية، الذي يعتبر طرحه في ميدان الأدب ضرورياً جداً، للتوليف بين الأرشيف الثقافي والإمبريالية، وهو ما يخدم طرح إدوارد سعيد، الذي استخدم المفهوم للتعبير عن رؤيته التي ترتبط أساساً بموقع الأدب، ولذلك، فإن سبر أغوار النصوص الأدبية، والكشف عن أنساقها المضمرة لن يتما إلا من خلال اللجوء إلى هذا النوع من النقد، الذي يزيد سعيد في شرحه بقوله: «بمصطلحات علمية، تعني القراءة الطباقية، كما أسميتها قراءة النص بفهم لما هو مشبوك، حين يظهر مؤلف ما، مثلاً، أن مزرعة استعمارية لقصب السكر تعاين بوصفها مهمة بالنسبة لعملية الحفاظ على أسلوب معين للحياة في إنجلترا، وعلاوة فإن هذه، مثل جميع النصوص الأدبية، ليست مقيدة ببداياتها، ونهاياتها التاريخية الشكلية. إن الإحالات إلى أستراليا في دايفد كوبر فيلد أو إلى الهند في جين آير لتصاغ لأنها يمكن أن تصاغ. لأن قوة بريطانيا (لا وهم الروائي فقط) جعلت الإحالة العابرة إلى هذه المصادرات الضخمة ممكنة. غير أن الدروس الأخرى الأبعد من ذلك لا تقل سلامة وصدقاً... والنقطة «التي أثيرها» هي أن القراءة الطباقية ينبغي أن تدخل في حسابها كلتا العمليتين: الإمبريالية والمقاومة».
 فهذه التحديدات تحاول فهم العلاقة التي تربط بين الثقافة والإمبريالية، وضحاياهما، وهي مقومات تشكل منهج سعيد الملائم في التعامل مع الأرشيف الثقافي الغربي، الذي يثير الكثير من الجدل حول الاختلاف المفضي إلى التلاؤم والانسجام، والقدرة على إسماع الأصوات المختلفة في الوقت ذاته، وقراءة النص بفهم لما هو مشبوك فيه، ومن هنا الانشغال بتأويل النصوص الإبداعية والأشكال الثقافية عن طريق الربط بين طرفي الثنائية (المستعمِر والمستعمَر)، وفق الشروط التي كانت وراء إنتاج هذه الثقافة، وإن كان سعيد يؤكد أن الغاية من هذه القراءة، لا تتعلق بالإطاحة بالثقافة الأوربية وإدانتها، وإنما تفحصها بشكل دقيق ورصين لإبراز «الكيفية التي حدثت بها العملية الإمبريالية في ما يتجاوز مستوى القوانين الاقتصادية والقرارات السياسية، وكيف أنها تجلت، بفضل النزوع الطبيعي، وبفضل سلطة التشكلات الثقافية القابلة للتمييز، وبفضل التعزيز المستمر ضمن التعليم، والآداب، والفنون البصرية والموسيقية».
 فالقراءة الجديرة التي تتيح القدرة على التأمل، والتأويل، والمقارنة بين التجارب المتعددة التي تنضح بأهدافها وتشكلاتها، حيث التواشج التام بين نظام الثقافة، والمخططات الإمبريالية، هي القراءة الطباقية التي تمكن، مثلاً من الكشف عن العلاقة «بين طقوس التتويج في إنجلترا وحفلات البيعة الهندية في أواخر القرن التاسع عشر». ولذلك، فالقراءة الطباقية لا تسبر الأرشيف الثقافي من أجل التفنيد والتقويض فحسب، بل تتعداه إلى إبراز التعالق الكثيف للمجتمعات الكولونيالية، كما أنها لا تقف عند حدود قراءة النصوص من أجل الكشف عن مدى مساهمتها في نشر التوسع الاستعماري والحفاظ عليه، وإنما تتجاوز ذلك إلى فضح الواقع الجغرافي للاستعمار وتأثيراته على بقاع متعددة من العالم، وهو واقع فشل في الإحاطة به عديد من المثقفين والباحثين في مجال الأدب الذين لم يستطيعوا ملاحظة التدوين الجغرافي والتخطيط النظري، ورسم الخرائط للمقاطعة في الرواية الغربية، والكتابة التاريخية والخطاب الفلسفي. هذا التخطيط وثيق الصلة، خصوصاً في التأكيد على الهيمنة الثقافية».
 إن القراءة الطباقية تحاول منح الحضور لأولئك الناس الذين تم تغييبهم من الوعي الغربي، وإذا ما تم الالتفات إليهم، فإن النظرة دائماً ما تكتسي طابعاً متعالياً، وعنصرياً، حيث لا تحيد عن كونهم منحطين، وبدائيين، ومتوحشين، وآكلي لحوم بشر، وغيرها من الأوصاف الدنيئة، وقد كانت إحدى استراتيجيات القراءة الطباقية هي تقويض هذه الرؤية ومنح الحضور بعد الغياب، ثم التأكيد على التثوير الذي مارسه فنانو القرن التاسع عشر، لتوطيد الهيمنة الأوربية على باقي دول المعمورة، حيث كان جميع المثقفين من مثل، جيروم، وفلوبير، وكونراد، وكبلنج، ورينان، ودارون، وإمر دوفاتيل، وغيرهم، يبرزون «المواقف الجوهرانية في الثقافة الأوربية، معلنين أن الأوربيين ينبغي أن يحكموا، وعلى غير الأوربيين أن يُحكموا».

الثقافة والإمبريالية ... علاقة جدلية
ولتوضيح العلاقة الجدلية بين الثقافة والإمبريالية، يعمد سعيد إلى تحليل جملة من الأعمال الأدبية العظيمة، ولاسيما ما اتصل بالرواية، ومنها «روضة مانسفيلد» لجين أوستن، و«كيم» لكبلنج، و«الغريب» لكامو، و«قلب الظلام» لكونراد، وغيرها. وإذا كان سعيد يقر بأن جل تلك الروايات تكتسي قيمة عظيمة على المستوى الجمالي، وثراء فكريا بالغ التعقيد، الأمر الذي يتطلب من قرائها إسهاباً وبطئاً شديدين لفك شفراتها، فإنه يؤكد في الوقت ذاته أنها لا تزيد على كونها محاولات رائدة لبسط الهيمنة الإمبريالية، كما هو الشأن مثلاً مع رواية «روضة مانسفيلد» لأوستن، التي تحاول إخضاع مستعمرة كي تصير تابعة بشكل كلي إلى بريطانيا، وبذلك يلتقي في روضة مانسفيلد علاوة على خصائصها الجمالية، ومحتوياتها الفكرية عديد من التيارات المتلاحمة، أهمها «هو إخضاع المستعمرة التام إخضاعاً معلناً للمدينة الحاضرة». وهو ما يفسر قوة الهيمنة التي يمارسها السير توماس في مزارعه بأنتيغوا، التي من خلالها يعيد ترتيب الأشياء، في شكل متناسق ودال كأنه «بروتستانتي مبكر يزيل جميع آثار السلوك الطائش».
 ففي «الثقافة والإمبريالية»، يبرز إدوارد سعيد السمة الحقيقية للأدب والفن بشكل عام، وكيف ساهما في الإبقاء على الأنظمة الاستعمارية والإمبراطورية، بل كيف ساهمت الثقافة في تأسيس الإمبراطورية، وقد وجد في الرواية الإنجليزية، كما أسلفنا، رديفاً مهماً في نضج وتبلور الهيمنة الغربية، ورواية جين أوستن تبرز جانباً من هذا النزوع، فالسير توماس فوق كل ذلك يحاول في مزرعته الحفاظ على النظام والتحكم قدر المستطاع في أسلوب الحياة بها، وهو بشكل أبعد يحاول التحكم في أسلوب حياة المواطن الأصلي «هكذا يرجع إلى كل محتوى الرواية من منظور استعماري، كي يحلل النصوص الثانوية التي تؤول جميعاً إلى جنوح كل مواقف الرواية نحو الإمبريالية».
ولكن ما يجب التأكيد عليه هنا، هو أنه بالرغم من القراءة الجادة للمفكر الألمعي إدوارد سعيد للأرشيف الثقافي الغربي، خاصة الروائي، فإنه، ظل انتقائياً في التعامل مع طبيعة النصوص التي عمل على تحليلها، فهو يعمد إلى التعامل مع النصوص التي تتساوق وطرحه النظري، ومهما يكن من أمر هذه الملاحظة، فهذا لا ينفي مدى الجدة التي أظهرها سعيد من حيث ربطه ظهور الرواية بالتوسع الإمبريالي، وكما أسلفنا من قبل، فمن كان ينظر إلى كل هؤلاء الكتاب والشعراء والمثقفين على أنهم مروجين لفكرة التوسع الاستعماري .