إدوارد سعيد... المثقف المنفي عن البلاد والعباد

إدوارد سعيد... المثقف المنفي  عن البلاد والعباد

كلما صدرت مقالة، أوبحث، أو كتاب عن إدوارد سعيد، تكشّفت شخصية هذا الكاتب الفلسطيني المميّز، وتوضّحت أعماله الفكرية والسياسية، ففي الكتاب الذي أصدرته حديثاً دار كنعان في دمشق بعنوان «إدوارد سعيد... الإسلام والغرب»، جملة أبحاث تذكّر قرّاء سعيد بمشروعه النقدي، الذي يتلخّص في تفكيك الفكر الغربي، ونقد خطابه الاستشراقي، الذي اخترع الآخر الشرقي والعربي المسلم، وتلفت انتباههم إلى أثر المنفى في كتابات سعيد. أثر قلما تناوله الباحثون، صحيح أن سعيد، تميّز بأكاديمية عالية المرتبة، وبراعة في محاورة أصدقائه ومجادلة أعدائه، ولكنه كان إنساناً مرهف الإحساس خضّه المنفى، وقضّ مضجعه، فكتب ما كتب، لا ليفضح الفكر الغربي الذي أنتج الاستشراق أو يبجّله لفتوحاته، وإنما ليبلسم ما أصابه من جروح، جرّاء اقتلاعه من جذوره، ونفيه من أرض فلسطين.
كتابات سعيد لا تنحصر كما يظن البعض في مشروع ذي أبعاد سياسية واجتماعية، ولا تنحصر في الإطار الإنساني الرحب الذي لا تحيّزات عرقية، أو جغرافية، أو دينية فيه، وإنما تتجاوز الفواصل المصطنعة بين الثقافة والسياسة والاجتماع، لتفسّر الأمور في سياقها الواقعي والتاريخي، مركّزة على مسائل أساسية طبعت شخصيّة هذا المفكر الفلسطيني، ووسمت فكره ومواقفه، وهي: وعيه بتحديد هويّته، وحالة المنفى التي عاشها على أنها بين أقسى تجارب حياته، واهتمامه، لا بل ولعه بالرواية كجنس أدبي مهم وطليعي في الزمن المعاصر. 
حالة المنفى التي كان يحياها سعيد تطغى حتى على كتاباته الأكاديمية، فهو لم ينس طيلة عمره، أنه اقتلع مع عائلته من فلسطين عام 1948، وأنه عاش طيلة حياته في المنفى، وهو لم يكتف بتذكّر ما غيّبته السنون بفعل السفر إلى الخارج، وإنما ناقش هذا الموضوع في كتاباته، معتبرا أن أدب المنفى في الغرب ينظر إليه على أنه مشكلة تتعلّق بالمفكرين والأدباء والبرجوازية عموما، أما «في ما يتعلّق بالفلسطيني، فهو حالة جماهيرية. إن الجماهير هي المنفية وليست البورجوازية فحسب». ووصف إدوارد هذا الوضع في كتابه «تمثّل المثقف» بقوله: «إن المنفى هو واحد من أسوأ المصائر التي ينتهي إليها الإنسان. إنه عقاب شديد ليس المقصد منه أن يقتصر على سنوات من التجول الغريب بعيداً عن العائلة والأماكن الأليفة فحسب، بل هو أيضاً نوع من النبذ الدائم». ويضيف في الكتاب نفسه «في القرن العشرين، تحوّل المنفى من كونه عقاب فرد معيّن إلى عقاب قاسٍ لفئات من البشر وشعوب بأسرها». 
 يذكر إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان» أن عائلته برمّتها نفيت في بدايات ربيع عام 1948 من القدس، ومازالت منفية مشرّدة حتى الوقت الحاضر. وقد مرّ زمن طويل بلغ 45 سنة من الغياب قبل أن يتمكّن هو وزوجته وأولاده من زيارة وطنه المفقود، والتوجّه إلى منزل العائلة في القدس، ثم إلى المنزل الذي نشأت فيه أمه في الناصرة. ويبدو كتابه في هذا السياق كتاباً أميناً للمشاعر الداخلية التي سكنت سعيد في طفولته وصباه، وتلك التي ميّزت إقامته في لبنان ومصر قبل انتقاله إلى أمربكا. 
صحيح أن الأدب والتاريخ - كما يقول سعيد - حافلان بأمثلة عديدة عن المنفى، باعتباره يولّد مشاعر رومانسية، بل وأمجاداً في حياة شخص ما، ولكنها لا تعدو كونها جهوداً للتغلّب على أحزان الاغتراب المحبطة، وهي بداية المنفى الفعلي. ويستطرد معلّقاً بقوله إن البعض يعودون من المنفى في صورة مبجّلة كما جرت الحال مع ماوتسي تونج، ولينين، والخميني. أما المنفى الحقيقي فلا رجعة منه، لا معنوياً، ولا واقعياً، ومهما كانت إنجازات المنفي، فيضعضعها دائماً الإحساس بفقدان شيء ما تركه الشخص وراءه إلى الأبد. 

قلب الظلام
في مقالة كتبها سعيد في مجلة مراجعات الكتب المعروفة «لندن ريفيو أوف بوكس»، قارن نفسه بالروائي الإنجليزي، البولندي الأصل والمولد، جوزيف كونراد صاحب «قلب الظلام». يقول سعيد عن كونراد وكأنه يتكلّم عن نفسه: «حين نقرأ كونراد نشعر بثقل الإحساس بالاقتلاع وعدم الاستقرار والغربة. لا أحد يستطيع أن يصوّر مصير الضياع والخسران مثله». على كل حال، شكَّل كونراد موضوعاً أساسياً في حياة سعيد، فقد أنجز عنه رسالة دكتوراه في جامعة هارفارد بعنوان «جوزيف كونراد وأدب السيرة الذاتية»، ووجد في سيرته تقاطعاً مع سيرته الشخصية، علماً بأن كونراد اختار منفاه بنفسه، لمّا اختار الانتماء إلى الثقافة الإنجليزية بمحض إرادته، بينما لم يختر سعيد الإنجليزية طوعاً، وإنما ورثها عن أبيه الذي شُرّد هو وعائلته مثله مثل أعداد كبيرة من الشعب الفلسطيني، بسبب الإرهاب الصهيوني، وقيام دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية. 
يعتبر المنفى، على ما يذكر سعيد في بحثه المعنون «تأمّلات في المنفى»، نتيجة لتغيّرات قد لا تكون متوقّعة تؤثّر في مجموعة من الناس، في أقليات وطنية أو إثنية، أو مثقّفين أو فنّانين، أو مناضلين سياسيّين ينتمون إلى المعارضة، أو في مجموعة معيّنة اختيرت لينزلوا بها عقاباً قاسياً لا مثيل له. وإن كان صحيحاً أن من يُمنع من العودة إلى موطنه منفي، فإن ثمة فروقاً بين المنفيّين واللاجئين والمغتربين والمهاجرين، وإن كانت مصائرهم وأوضاعهم القانونية كثيراً ما تمتزج. ويستطرد سعيد موضحاً أن المنفى ينبع من ممارسات قديمة قدم الدهر، ومن بينها الإبعاد، وهو عقاب كثيراً ما كان ينزله الحكّام الغاضبون بأفراد بسبب جريمة شنعاء. وما إن يبعد الشخص حتى يضطر إلى العيش منفياً، في مكان آخر، وبذلك يعيش حياة غير طبيعية وبائسة، تدمغه بوصمة الغريب. وتعتبر إقامة «أوفيد» في «تومي» مثالاً شهيراً من أمثلة المنفى في الأزمنة الكلاسيكية القديمة، وكذلك يعتبر نفي فيكتور هوجو إلى «جرسي» على يد نابليون الثالث من الأمثلة الحديثة». أما اللاجئون، فإنهم ينتمون إلى عصر الدولة الحديثة.

الإقامة في المنفى
ينظر المنفيّون، على ما يرى سعيد، إلى غير المنفيّين بشيء من الحقد. فغير المنفيّين ينتمون إلى محيطهم الطبيعي، بينما المنفي لا ينتمي أبداً إلى هذا المحيط. وأمريكا باعتبارها أمة من المهاجرين المنفيين تعكس في قلقها المرضي إزاء كل ما هو ليس بأمريكي هذا الشعور بعدم الثقة الذي يراود المنفي أمام كل ما هو محلي وأصيل وحقيقي. والمخاوف المتصاعدة دوماً ستنتاب المنفي بسهولة، وهويّته تتدعّم بالضغوط السلبية (الريبة، الغيرة والحقد) أكثر مما تتدعّم بالعوامل الإيجابية (الحب، الشعور بالاستمرارية والثقة). 
ويقضي المنفي جلّ حياته، على ما يذكر سعيد، في التعويض عن خسارته بإنشاء عالم جديد يفرض عليه سلطانه، لذلك نجد من بين المنفيين عديداً من الروائيّين وأبطال الروايات، والمناضلين السياسيين، والمفكرين والتجار، ومن يفشلون في التكيّف مع المجتمع. ومن الطبيعي أن يتسم العالم الجديد للشخص المنفي بالغرابة، وهذه الغرابة، أو اللاواقعية، تجعله عالماً وهمياً، وقد قيل كما يروي سعيد أن الرواية، كشكل من الأشكال الأدبية تنبع من لا واقعية الطموح والخيال، وهي أكثر الأشكال تعبيراً عن الحنين إلى الوطن، حنيناً يتجاوز كل الحدود. هكذا عبّر جورج لوكاش في كتابه «نظرية الرواية»، وهو كتاب ربما كان أقوى ما كتب عن الأصول الفلسفية والروحية للرواية. وينقل سعيد عن لوكاش أن الملاحم تنبع من ثقافات مستقرّة، تكون القيم فيها واضحة، والهويات راسخة، والحياة ثابتة لا تتغيّر، ويضيف سعيد موضحاً أن الرواية في أوربا، نابعة من تجربة المجتمع المتغيّر، ممثلة في شخصية متجوّلة ومعدمة، هي شخصية بطله، أو بطل من طبقة وسطى، توجّه كل طاقاتها لبناء عالم جديد، يشبه إلى حدّ ما عالماً قديماً تركته هذه الشخصية وراءها إلى الأبد. وهكذا يمكن تخيّل روبنسون كروزو مثلاً في جزيرته بفعل العاصفة التي حطّمت سفينته ودفعته إلى عيش حياة المنفيين في بيئته الجديدة. 
ويوضح سعيد أنه مهما حقّق المنفيون من نجاحات، فإنهم يظلّون غريبي الأطوار، لأنهم يشعرون باختلافهم عن آخرين، يشعرون بغربتهم عن هذا العالم، عالم التعلّق المرضي بالسلع، عالم الوجود المشتّت، عالم القلق. فبعد نيتشه - كما يقول - سعيد لم يعد أحد يشعر بالارتياح للتقاليد، وبعد فرويد، أصبح من الممكن أن يتحوّل كل ابن إلى قاتل أبيه، وكل ابنة إلى قاتلة أمها. ويذكر سعيد أن بعض الباحثين يعتبر المنفي موضوعاً مهماً، باعتباره عنصراً من عناصر التقاليد الإنسانية الخاصة بالخلاص والافتداء من خلال الضياع والعذاب. وهذه النظرة المفتدية للمنفى هي أساساً نظرة دينية، وإن كانت قد دخلت في عديد من الثقافات والأيديولوجيات السياسية والأساطير والتقاليد، وأصبحت شرطاً مسبقاً للتوصل إلى وضع أفضل. يظهر ذلك في القصص التي تروي تيهان البطل الذي يجول في الفيافي، وفي الأمة قبل تحوّلها إلى دولة، والأنبياء الذين تركوا مواطنهم خوفاً من جور أو غدر تمهيداً لعودتهم منتصرين. ويستطرد سعيد هنا ليقول إن جلّ الاهتمام المعاصر بمسألة المنفى، ذاك المفهوم الباهت، يعود إلى موقف البعض الكامن بأن غير المنفيين يستطيعون المشاركة في فوائد المنفى، ولكن هذه النظرة إلى المنفى تقلّ قوة عن النظرة الدينية له، باعتباره عنصر فداء وخلاص.

أدب المهجر
والمنفيّون من ذوي الثقافة العالية، المتحدّثون لغة البلاد بلكنة أجنبية، أمثال أدورنو وحنة إرندت وبيتر لوري وإدوارد تيللر كما - يقول سعيد - يسيطرون على الساحة الثقافية. والثقافة الحديثة في الغرب، كما يوضح، هي إلى حدّ كبير من نتاج أهل المنفى والمهاجرين المثقّفين واللاجئين. وأكبر مثل على ذلك الحياة الأمريكية الأكاديمية والثقافية والجمالية، التي وصلت إلى ما وصلت إليه، بفضل الهاربين من الفاشية، وغيرها من الأنظمة التي تطرد المعارضين من مواطنيها، وتقمع ذوي المواهب من بينهم. من هنا يمكن الحديث عن «أدب المهجر»، أدب ينبع من إساءة بشر في حقّ بشر آخرين، أدب يحكي بشاعة المنفى، ويروي قصص اقتلاع الملايين من البشر من عاداتهم وأسرهم وأرضهم، أدب يجسّد عذابات ومحناً نادراً ما يعاني منها الآخرون بشكل مباشر. ويعترض سعيد على الذين يعتبرون أن للمنفى فوائد، لأن في هذا الاعتبار تسطيحاً لما يحدثه المنفى من بتر وتشوّهات، وما يجرّه من خسارة وضياع على ضحاياه، ومقاومتهم الصامدة الخرساء أمام كل محاولة لتصوير المنفى على أنه مفيد. ويعجب سعيد في هذا السياق من الذين يصوّرون المنفى وأن له فوائده العلاجية والدينية، لأن هذا التصور يُخفي عن الوعي كل ما في المنفى من بشاعة، ويُهمل جوانبه التاريخية التي لا تحتمل، وتلك التي تتناسى أنه من فعل بشر، وأنه كالموت، وإن أعوزته رحمة الموت النهائية، وأنه اقتلع الملايين من البشر من منهل التقاليد والأسرة والمكان، لذلك فالمنفى والسعادة لا يمتزجان، على ما يعتقد سعيد. 
يذهب سعيد في تحليله لإشكالية المنفى إلى الكتّاب الذين عانوا مثله منها. فهو ينقل أنه التقى فايز أحمد فايز، أعظم شعراء اللغة الأردية المعاصرين. وكان النظام العسكري لضياء الحق قد نفاه من وطنه باكستان، ووجد ترحيباً في بيروت. وبالطبع، كما يعلّق سعيد، كان الفلسطينيون هم أصدقاؤه المقربون هناك. ويوضح هنا مشاعره تجاه هذا المنفي مثله بالقول: «وعلى الرغم من توافق روحي بينه وبينهم، إلا أنني كنت أشعر أن لا شيء يتطابق تماماً، لا اللغة، ولا تقاليد الشعر، ولا السيرة الشخصية، مرة واحدة فقط رأيت مسحة الاغتراب تزول عن وجهه، وذلك عندما جاء إلى بيروت منفي آخر من باكستان وهو إقبال أحمد، وجلسنا ثلاثتنا ليلة في مطعم معتم في بيروت إلى ساعة متأخّرة، وفايز ينشدنا شعراً». ويذكر سعيد حالة سوفياتي منشقّ أو بالأحرى منفي هو سولجنستين، ويفسّر تجربته في الغرب بالقول عنه إنه ظلّ روسياً وطنياً، ولم يبع نفسه للأمريكيين كغيره من المنشقين والمنفيين. كما يلتفت إلى الفيلسوف الألماني، اليهودي الأصل، تيودور إدورنو، الذي رأى من زاويته كمنفي، أن الحياة كلها مضغوطة في قوالب جاهزة، وفي بيوت مصنّعة مسبقاً، لذلك رأى أن كل ما يمكن للمرء أن يقوله أو يفكّر فيه، أنتج ليستقرّ في كل شيء قابل للتحويل إلى سلعة، مثله في ذلك مثل كل الأشياء الأخرى، وهنا تصبح المهمة الفكرية للشخص المنفي أن يرفض هذه الأوضاع بممارسة الجدلية السلبية. أما محمود درويش، كما يقول سعيد، فهو من بين الشعراء العرب الأكثر تمثيلاً لإشكالية المنفى. فقد أظهر إحساساً قوياً بالحاجة إلى إعادة بناء الذات، من شتات وشظايا المنفى في القصائد المبكرة، وتعتبر أعماله محاولة خارقة لتحويل أغاني الضياع إلى دراما العودة المؤجلة إلى ما لا نهاية. وهكذا نراه في الأبيات التالية، التي قدّمت رؤية يصف فيها درويش شعوره بفقدان الدار، في شكل قائمة من أشياء غير مكتملة: «ولكني أنا المنفي خلف السور والباب/ خذيني تحت عينيك/ خذيني أينما كنت/ خذيني كيفما كنت/أردّ عليّ لون الوجه والبدن/ وضوء القلب والعين/ وملح الخبز واللحن/ وطعم الأرض والوطن/ خذيني تحت عينيك/ خذيني لوحة لوزية في كوخ حسرات/ خذيني آية من سفر مأساتي/ خذيني لعبة، حجراً من البيت/ ليذكر جيلنا الآتي إلى البيت. 
يذكر الكاتب الفلسطيني في سياق تفنيده للأبواب التي يدور حولها موضوع المنفى، الكاتبة والوزيرة الفرنسية السابقة سيمون فيل، التي قدّمت رؤية جديدة لهذا الموضوع بقولها: «قد يكون مدّ الجذور من أهم احتياجات الإنسان الروحية، ومن أقلّ الاحتياجات المعترف بها». ويضيف سعيد أن فيل اعترفت أيضاً بأن معظم أشكال العلاج الحديثة، لحالة اقتلاع الجذور في عصر الحروب العالمية، والاعتقالات، والإبادة الجماعية، هي أخطر بكثير من الأغراض التي تبغي علاجها، والدولة أو نظام الدولة الذي وصفته بأنه أخطرها، هو من بين هذه الوسائل، لأن عبادة الدولة تميل إلى فرض ارتباط بها، يحجب كل الارتباطات الإنسانية الأخرى، كالأرض والأسرة والتقاليد والمهنة. 
لا يتحدث صاحب كتاب «الاستشراق» عن المنفى كمكان يدعو إلى التأملات، ولكنه يتناوله كمكان بديل لمعظم المؤسسات الجماعية التي تمدّ ظلالها على الحياة الحديثة، ذلك أن المنفى في نهاية المطاف، لا يتحقّق بمحض اختيار الإنسان، سواء ولد فيه أو أصيب به. وإذا رفض المرء أن ينضمّ إلى القطيع، كما يقول سعيد، دونما نقد ما، ورفض أيضاً الجلوس في أطراف الساحة، يلعق جراحه إلى الأبد، فهناك من الأمور ما يمكنه أن ينميها في المنفى، بل من زاوية ما لا تنمّى إلا بالمنفى، ويمكن تسمية هذا الشيء الولاء لشروط المنفى، وأهمها توخي
شكل أمين من الذاتية لا تشوبه مغالاة أو تدليل. 
يورد سعيد في بحثه عن الذاتية في المنفى مقطعاً له جمال أخّاذ، بقلم الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو، عن سانت فيكتور، وهو راهب من ساكسونيا عاش في القرن الثاني عشر، يقول فيه: «إن العقل المتمرّس يكتسب فضائل عظيمة، إذا ما تعلّم تدريجياً أن يغيّر ويبدّل في الأشياء المرئية والعابرة، حتى يتمكّن بعد ذلك من تركها وراءه نهائياً، والرجل الذي يجد في موطنه مصدر سعادة مازال رجلاً مبتدئاً، أما الذي يجد في كل تراب وطناً فقد صار قوياً، ولكن لا يبلغ الكمال إلا من اعتبر العالم أجمع أرضاً غريبة عليه. فذو الروح الحنون يركّز حبه في مكان واحد من العالم، والرجل القوي هو الذي يشمل بحبه كل الأماكن، والرجل الكامل هو الذي أطفأ جذوة حبه».
ويعلّق سعيد أن المنفي الذي ينظر إلى العالم باعتباره أرضاً غريبة، يصل إلى رؤية فريدة. فلمعظم الناس وعي بثقافة واحدة ومكان واحد وموطن واحد، أما أهل المنفى، فلهم وعي باثنين على الأقلّ. وهذه التعدّدية في الرؤية تؤدّي إلى ما يسمّى بفهم لأي مسألة بجانبيها. 
بكلام آخر، لا يبدو المنفى عند سعيد حالة رضا ودعة وأمان، ومهما ولّد من نظريات، أو دروس مطمئنة نسيباً في الثقافة، فمعظمها يظلّ هشّاً وواهياً، أمام سخرية الحياة في المنفى وعدم استقرارها. 
كلما قرأنا إدوارد سعيد، وأعدنا قراءته، اكتشفنا الوعي العميق، لإنسان أدرك التشابه القائم بين سيرته كمنفي مقتلع من أرضه وبيته ووطنه، وسيرة بعض الكتاب الغربيين ككونراد، وجويس، وأدورنو وغيرهم، وبذلك يعطي سيرته الشخصية، وسيرة شعبه الفلسطيني اللاجئ والمنفي بعداً كونياً، ومسحة إنسانية شديدة العمق والتأثير .