الإسلام دين وأمة

الإسلام دين وأمة

يلخص‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬الفكرة‭ ‬المحورية‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬وهو‭ ‬نص‭ ‬فكري‭ ‬تاريخي‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬أسس‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام،‭ ‬كما‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬مؤلفات‭ ‬فحول‭ ‬مؤرخي‭ ‬الإسلام،‭ ‬كما‭ ‬سماهم‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭.‬

من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬النبي‭ ‬العربي‭ ‬‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الدينية‭ ‬والسلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬وبعد‭ ‬انتقاله‭ ‬إلى‭ ‬الرفيق‭ ‬الأعلى،‭ ‬وانقطاع‭ ‬الوحي،‭ ‬أصبحت‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬منذ‭ ‬اجتماع‭ ‬سقيفة‭ ‬بني‭ ‬ساعدة‭ ‬شأناً‭ ‬دنيوياً‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالسماء،‭ ‬فقد‭ ‬ترك‭ ‬الإسلام‭ ‬الحرية‭ ‬كاملة‭ ‬للمسلمين‭ ‬لاختيار‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬المستجيب‭ ‬لقضايا‭ ‬زمانهم‭.‬

تذكر‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬أن‭ ‬العباس‭ ‬بن‭ ‬عبدالمطلب‭ ‬قال‭ ‬لعلي‭ ‬‭ ‬لما‭ ‬احتضر‭ ‬الرسول‭ ‬‭: ‬اسأله‭ ‬لمن‭ ‬سيكون‭ ‬الأمر‭ ‬بعده،‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬فذاك،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لغيرنا‭ ‬أوصى‭ ‬بنا‭ ‬خيراً،‭ ‬فرفض‭ ‬عليٌّ‭ ‬أن‭ ‬يسأل،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أدرى‭ ‬الناس‭ ‬بالفكر‭ ‬السياسي‭ ‬للنبوة،‭ ‬وبقي‭ ‬وفياً‭ ‬له،‭ ‬وهو‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬فلما‭ ‬طعنه‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬ملجم‭ ‬دخل‭ ‬عليه‭ ‬الناس‭ ‬فقالوا‭ ‬له‭: ‬‮«‬أيبايع‭ ‬الناس‭ ‬الحسن؟‮»‬‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬لا‭ ‬آمركم،‭ ‬ولا‭ ‬أنهاكم،‭ ‬وأنتم‭ ‬أبصر‮»‬‭.‬

 

حرية‭ ‬اختيار‭ ‬النظام

تنقل‭ ‬لنا‭ ‬النصوص‭ ‬رواية‭ ‬عن‭ ‬تأسُّف‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت،‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يسأل‭ ‬الرسول‭ ‬‭ ‬عن‭ ‬ست‭ ‬مسائل،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬وددت‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬سألته‭ ‬فيمن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬فلا‭ ‬ينازع‭ ‬الأمر‭ ‬أهله‮»‬،‭ ‬‮«‬وددت‭ ‬أني‭ ‬سألته‭ ‬هل‭ ‬للأنصار‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬نصيب‭ ‬فنعطيهم‭ ‬إياه‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬الأنصار‭ ‬لم‭ ‬يفهموا‭ ‬أن‭ ‬لهم‭ ‬نصيباً‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬طمعوا‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬كله‭ ‬فاجتمعوا‭ ‬في‭ ‬السقيفة‭ ‬لتولي‭ ‬السلطة،‭ ‬والرسول‭ ‬‭ ‬لم‭ ‬يُدفن‭ ‬بعد‭!‬

هذا‭ ‬يؤكد‭ ‬ما‭ ‬ألمحنا‭ ‬إليه‭ ‬قبل‭ ‬قليل‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬ترك‭ ‬المسلمين‭ ‬أحراراً‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬يقررونه‭.‬

وأبرز‭ ‬ما‭ ‬يتجلى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تربط‭ ‬تولي‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬بالدين،‭ ‬فلما‭ ‬أراد‭ ‬أبوبكر‭ ‬‭ ‬أن‭ ‬يقنع‭ ‬الأنصار‭ ‬بأن‭ ‬الوضع‭ ‬السياسي‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬لهم‭ ‬بتولي‭ ‬الإمارة‭ ‬لما‭ ‬برز‭ ‬اقتراح‭ ‬‮«‬منا‭ ‬أمير،‭ ‬ومنكم‭ ‬أمير‮»‬،‭ ‬قال‭: ‬إن‭ ‬العرب‭ ‬لا‭ ‬ترضى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬قريش،‭ ‬ملمحاً‭ ‬إلى‭ ‬زعامتها‭ ‬السياسية،‭ ‬وهي‭ ‬تعود‭ ‬بجذورها‭ ‬إلى‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬القرن،‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬قصي‭ ‬بن‭ ‬كلاب‭ ‬جد‭ ‬الرسول‭ ‬‭ ‬الأعلى،‭ ‬وليس‭ ‬لأن‭ ‬أحد‭ ‬أبنائها‭ ‬حمل‭ ‬رسالة‭ ‬الدعوة‭ ‬الإسلامية‭.‬

وضعت‭ ‬النبوة‭ ‬الأسس‭ ‬الدينية،‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬وأسس‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬الدار،‭ ‬ومع‭ ‬الآخر‭ ‬كذلك،‭ ‬فهي‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالنسق‭ ‬السياسي‭ ‬لمرحلة‭ ‬النبوة،‭ ‬فهي‭ ‬متأثرة‭ ‬إذن‭ ‬بالجغرافيا‭ ‬والظرفية‭ ‬الزمانية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬نصوصها‭ ‬قابلة‭ ‬للاجتهاد‭.‬

 

السلطة‭ ‬الجديدة

بدأت‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬وقبل‭ ‬وفاة‭ ‬الرسول‭ ‬‭ ‬بزمن‭ ‬قصير‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة،‭ ‬والاتجاه‭ ‬شمالاً‭ ‬وشرقاً‭ (‬تمت‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثامنة‭ ‬للهجرة‭ ‬غزوة‭ ‬مؤتة‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬البلقاء‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭).  ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬الدخول‭ ‬حتما‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬سياسي‭ ‬وعسكري‭ ‬مع‭ ‬قوتين‭ ‬كبيرتين‭ ‬من‭ ‬قوى‭ ‬العالم‭ ‬القديم‭: ‬القوة‭ ‬البيزنطية،‭ ‬والقوة‭ ‬الساسانية،‭ ‬ولكن‭ ‬المخطط‭ ‬اتضحت‭ ‬معالمه‭ ‬مع‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬‭ ‬مهندس‭ ‬الفتوحات‭ ‬الكبرى،‭ ‬وقد‭ ‬تفطن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬بتوحيد‭ ‬صفوف‭ ‬الأمة‭ ‬الجديدة،‭ ‬وحماية‭ ‬ظهرها‭ ‬قبل‭ ‬إرسال‭ ‬الجيوش‭. ‬بُعث‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬قبلية‭ ‬شديدة‭ ‬التعقيد،‭ ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬عمر‭ ‬‭ ‬أن‭ ‬يخفف‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬الصراع‭ ‬فيها،‭ ‬فرسم‭ ‬لها‭ ‬أهدافاً‭ ‬جديدة‭ ‬التفّت‭ ‬حولها‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬القبائل‭ ‬الكبرى،‭ ‬وانتبه،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬حروب‭ ‬الردة،‭ ‬إلى‭ ‬الأخطار‭ ‬التي‭ ‬تهدِّد‭ ‬مشروع‭ ‬الأمة‭ ‬الجديدة،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬الصراع‭ ‬القبلي‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬ولذا‭ ‬اتخذ‭ ‬قرارين‭ ‬خدمة‭ ‬للمشروع‭ ‬الجديد‭:‬

أولاً‭: ‬قرار‭ ‬التمصير،‭ ‬فأسَّس‭ ‬مدناً‭ ‬عملاقة‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الإسلامي‭ ‬الجديد‭: ‬الكوفة،‭ ‬والبصرة،‭ ‬والفسطاط،‭ ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة‭ ‬أسست‭ ‬القيروان،‭ ‬ووزع‭ ‬مقاسمها‭ ‬على‭ ‬قبائل‭ ‬متنوعة‭, ‬لتتجاور،‭ ‬وتتعايش،‭ ‬وتدخل‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬العمران‭ ‬الحضري‭ ‬فتضعف‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الأجيال‭ ‬ظاهرة‭ ‬الذهنية‭ ‬القبلية‭.‬

ونشير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفضاء‭ ‬المديني‭ ‬مثّل‭ ‬دائماً‭ ‬حاضنةً‭ ‬للإسلام،‭ ‬فالحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬هي‭ ‬حضارة‭ ‬مدن‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭.‬

ثانياً‭: ‬أدرك‭ ‬خطر‭ ‬بروز‭ ‬زعامات‭ ‬سياسية‭ ‬دينية‭ ‬على‭ ‬الإسلام،‭ ‬فمنع‭ ‬الصحابة‭ ‬من‭ ‬مغادرة‭ ‬المدينة،‭ ‬وحظر‭ ‬عليهم‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬الأمصار‭ ‬الجديدة‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يتحولوا‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬زعماء،‭ ‬مفيدين‭ ‬من‭ ‬انحدارهم‭ ‬القبلي‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومن‭ ‬صحبتهم‭ ‬للرسول‭ ‬‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

تفاعلت‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬الأمصار‭ ‬الجديدة‭ ‬مع‭ ‬ثقافة‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى‭ ‬لتتألق‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الأربعة‭ ‬الأولى،‭ ‬ولتسهم‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الحضارة‭ ‬البشرية‭.‬

العنوان‭ ‬الأسمى‭ ‬والأسنى‭ ‬لهذه‭ ‬القرون‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬بروز‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإسلام‭ ‬الحضاري،‭ ‬وقد‭ ‬عبّر‭ ‬عنها‭ ‬مولى‭ ‬لهشام‭ ‬بن‭ ‬عبدالملك‭ (‬71-125‭ ‬هـ‭) ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬وفطنة‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬للهجرة‭ ‬لما‭ ‬سأله‭ ‬أبوجعفر‭ ‬المنصور‭ ‬عن‭ ‬هويته،‭ ‬قال‭: ‬‮«‬إن‭ ‬كان‭ ‬الإسلام‭ ‬لغة‭ ‬فقد‭ ‬نطقنا‭ ‬بها،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ديناً‭ ‬فقد‭ ‬دخلنا‭ ‬فيه‮»‬‭.‬

 

بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الفتن

إن‭ ‬الثراء‭ ‬الحضاري،‭ ‬والتنوع‭ ‬العرقي،‭ ‬والديني‭ ‬والمذهبي‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الإسلامي‭ ‬بعد‭ ‬الفتوحات‭ ‬الكبرى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يثمر‭ ‬ويشع‭, ‬إلا‭ ‬ضمن‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمة‭ ‬الجديدة،‭ ‬أما‭ ‬إخضاعه‭ ‬بالقوة،‭ ‬وباسم‭ ‬شرعية‭ ‬ذات‭ ‬محتوى‭ ‬ديني،‭ ‬فإنه‭ ‬سيؤدي‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬فتن‭ ‬دموية‭ ‬متكررة‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬فعلاً،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حاول‭ ‬أنصار‭ ‬حزب‭ ‬الأمة‭ ‬الإسلامية‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬اتقاءه‭.‬

وآن‭ ‬الأوان‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأنصار‭..‬

وصفهم‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬عباس‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الله‭ ‬جل‭ ‬ثناؤه،‭ ‬وتقدَّست‭ ‬أسماؤه‭ ‬خص‭ ‬محمداً‭ ‬نبيّه‭ ‬‭ ‬بصحابة‭ ‬آثروه‭ ‬على‭ ‬الأنفس‭ ‬والأموال،‭ ‬وبذلوا‭ ‬النفوس‭ ‬دونه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬ووصفهم‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬فقال‭ {‬رُحَمَاءُ‭ ‬بَيْنَهُمْ‭} (‬الفتح‭: ‬29‭) ‬قاموا‭ ‬بمعالم‭ ‬الدين،‭ ‬وناصحوا‭ ‬الاجتهاد‭ ‬للمسلمين‭ ‬حتى‭ ‬تهذَّبت‭ ‬طرقه،‭ ‬وقويت‭ ‬أسبابه،‭ ‬وظهرت‭ ‬آلاء‭ ‬الله،‭ ‬واستقر‭ ‬دينه،‭ ‬ووضحت‭ ‬أعلامه،‭ ‬وأذل‭ ‬الله‭ ‬بهم‭ ‬الشرك،‭ ‬وأزال‭ ‬رؤوسه،‭ ‬ومحا‭ ‬دعائمه،‭ ‬وصارت‭ ‬كلمة‭ ‬الله‭ ‬العليا،‭ ‬وكلمة‭ ‬الذين‭ ‬كفروا‭ ‬‮«‬السفلى‮»‬،‭ ‬فصلوات‭ ‬الله‭ ‬ورحمته‭ ‬وبركاته‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬النفوس‭ ‬الزاكية،‭ ‬والأرواح‭ ‬الطاهرة‭ ‬العالية،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬لله‭ ‬أولياء،‭ ‬وكانوا‭ ‬بعد‭ ‬الموت‭ ‬أحياء،‭ ‬وكانوا‭ ‬لعباد‭ ‬الله‭ ‬نصحاء،‭ ‬ورحلوا‭ ‬إلى‭ ‬الآخرة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصلوا‭ ‬إليها،‭ ‬وخرجوا‭ ‬من‭ ‬الدنيا،‭ ‬وهم‭ ‬بعد‭ ‬فيها‮»‬‭.‬

جيل‭ ‬هؤلاء‭ ‬المثاليين‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬تحمَّس‭ ‬للمشروع‭ ‬العُمَري،‭ ‬ونأى‭ ‬بنفسه‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬وظن‭ ‬أن‭ ‬الكلمة‭ ‬الحاسمة‭ ‬ستكون‭ ‬لقيم‭ ‬الدعوة‭ ‬الجديدة،‭ ‬ولم‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬آت‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬فيه،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬جذوره‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬العمومة‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬ظهور‭ ‬الإسلام‭.‬

لما‭ ‬أطلت‭ ‬الفتنة‭ ‬برأسها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬اجتماع‭ ‬السقيفة‭ ‬حسم‭ ‬أمرها‭ ‬عمر‭ ‬‭ ‬في‭ ‬المهد،‭ ‬وظن‭ ‬الجيل‭ ‬المثالي‭ ‬أنها‭ ‬فتنة‭ ‬عابرة‭ ‬وقى‭ ‬الله‭ ‬شرها،‭ ‬ولما‭ ‬حصلت‭ ‬انتفاضة‭ ‬المدينة،‭ ‬وانتهت‭ ‬بقتل‭ ‬الخليفة‭ ‬الثالث‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان‭ ‬‭ ‬والمصحف‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬برز‭ ‬منه‭ ‬تياران‭:‬

‭ ‬تيار‭ ‬المحايدين،‭ ‬وقد‭ ‬وقفوا‭ ‬على‭ ‬المسافة‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬الحزبين‭ ‬المتصارعين،‭ ‬وتيار‭ ‬متحمِّس‭ ‬لمشروع‭ ‬الأمة‭ ‬الجديدة‭ ‬متأثراً‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬بالفئة‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬عباس،‭ ‬وأعني‭ ‬تيار‭ ‬‮«‬فئة‭ ‬القرّاء‮»‬‭.‬

إن‭ ‬النصوص‭ ‬التاريخية‭ ‬المؤسسة‭ ‬ظلمت‭ ‬هذا‭ ‬التيار،‭ ‬ولم‭ ‬تسعفنا‭ ‬بمعلومات‭ ‬دقيقة‭ ‬عنه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صنَّف‭ ‬أصحابه‭ ‬ضمن‭ ‬الغلاة‭ ‬غداة‭ ‬قضية‭ ‬التحكيم‭ ‬بصفين‭. 

من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬عمر‭ ‬‭ ‬قد‭ ‬رعى‭ ‬نشأة‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وكأنه‭ ‬اعتبرها‭ ‬تمثل‭ ‬النخبة‭ ‬المثقفة‭ ‬لمشروع‭ ‬الأمة،‭ ‬وهم‭ ‬ليسوا‭ ‬مجرد‭ ‬قراء‭ ‬كما‭ ‬يظن‭ ‬البعض،‭ ‬بل‭ ‬يمثلون‭ ‬قوة‭ ‬سياسية‭ ‬جديدة‭. ‬

إنني‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقاد‭ ‬أنهم‭ ‬يتحدرون‭ ‬أساساً‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬المسلمين‭ ‬الجدد،‭ ‬وقد‭ ‬شارك‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬انتفاضة‭ ‬المدينة،‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬تعج‭ ‬بالنبط‭ ‬بعد‭ ‬الفتوحات‭ ‬الكبرى‭.‬

رفضت‭ ‬‮«‬فئة‭ ‬القرّاء‮»‬‭ ‬هذه‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬محايدة،‭ ‬وتجلس‭ ‬على‭ ‬الربوة،‭ ‬وإنما‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تحسم‭ ‬أمرها‭ ‬بالسلاح‭ ‬مع‭ ‬القوة‭ ‬المعادية‭ ‬للمشروع‭ ‬العمري،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬أدركت‭ ‬خطر‭ ‬تحول‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الجديد‭ ‬إلى‭ ‬ملك‭ ‬عضوض،‭ ‬وقد‭ ‬تنبأ‭ ‬بذلك‭ ‬عمر‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬لما‭ ‬زار‭ ‬بلاد‭ ‬الشام،‭ ‬واستقبله‭ ‬واليها‭ ‬معاوية‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سفيان‭ ‬في‭ ‬أبهة‭ ‬الملك،‭ ‬فخاطبه‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬أكسروية‭ ‬يا‭ ‬معاوية‮»‬‭!  ‬إن‭ ‬ما‭ ‬عاشته‭ ‬‮«‬فئة‭ ‬القرّاء‮»‬‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬دموي‭ ‬سقط‭ ‬فيه‭ ‬كبار‭ ‬الصحابة‭ ‬متحاربين‭ ‬في‭ ‬واجهتين‭ ‬متقابلتين،‭ ‬جعلها‭ ‬تغلو‭ ‬في‭ ‬تعلقها‭ ‬بقيم‭ ‬المثالية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وقد‭ ‬اعتنقوا‭ ‬عقيدة‭ ‬الإسلام‭ ‬تحمّساً‭ ‬لها،‭ ‬لذا‭ ‬فهي‭ ‬ترفض‭ ‬السلطة‭ ‬الدنيوية،‭ ‬وتلتجئ‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬فتقع‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬أحد‭ ‬دهاة‭ ‬العرب‭ ‬لما‭ ‬نصح‭ ‬برفع‭ ‬المصاحف‭ ‬ورحى‭ ‬الحرب‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬‮«‬صفين‮»‬،‭ ‬فأعلنوا‭ ‬مقولتهم‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬حكم‭ ‬إلا‭ ‬لله‮»‬‭. ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬قال‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭: ‬‮«‬إني‭ ‬قد‭ ‬علمت‭ ‬أنكم‭ ‬لم‭ ‬تخرجوا‭ ‬مخرجكم‭ ‬هذا‭ ‬لدنيا،‭ ‬ولكن‭ ‬أردتم‭ ‬الآخرة‭ ‬وأخطأتم‭ ‬طريقها‮»‬‭.‬

 

معركة‭ ‬التأويل

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬انتبه‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ (‬كرم‭ ‬الله‭ ‬وجهه‭) ‬إلى‭ ‬خطر‭ ‬توظيف‭ ‬مقولات‭ ‬دينية‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬الإسلام،‭ ‬فأوقف‭ ‬المعركة‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬صفين،‭ ‬واتجه‭ ‬مهرولاً‭ ‬نحو‭ ‬النهروان‭ ‬لتحصل‭ ‬المأساة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬صفوفه،‭ ‬وتكون‭ ‬من‭ ‬نتائجها‭ ‬اغتياله‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬الكوفة،‭ ‬وبروز‭ ‬فرق‭ ‬دينية‭ ‬سياسية‭ ‬متطرفة،‭ ‬وقد‭ ‬تنبأ‭ ‬بأن‭ ‬الأمة‭ ‬ستدخل‭ ‬مرحلة‭ ‬الفرقة‭ ‬والانشقاق،‭ ‬كيف‭ ‬لا،‭ ‬وقد‭ ‬قاد‭ ‬ثلاث‭ ‬معارك‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬مدة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام‭ ‬سقط‭ ‬فيها‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف،‭ ‬وبينهم‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الصحابة،‭ ‬ومن‭ ‬المبشرين‭ ‬بالجنة‭: ‬وقعة‭ ‬الجمل‭ ‬في‭ ‬البصرة،‭ ‬وصفين،‭ ‬والنهروان،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬أدرى‭ ‬الناس‭ ‬بما‭ ‬يصيب‭ ‬الأمة‭ ‬نتيجة‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬السلطة‭.‬

كتب‭ ‬في‭ ‬وصيته،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طعنه‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬ملجم‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬‭... ‬فإني‭ ‬سمعت‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬يقول‭: ‬إصلاح‭ ‬ذات‭ ‬البين‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬عامة‭ ‬الصلاة‭ ‬والصيام،‭ ‬وإن‭ ‬المبيدة‭ ‬الحالقة‭ ‬للدين‭ ‬فساد‭ ‬ذات‭ ‬البين‭...‬‮»‬‭.‬

 

مشروع‭ ‬الأمة

إن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ ‬الأمة‭ ‬كيف‭ ‬برز‭ ‬ثم‭ ‬توارى،‭ ‬وسقط‭ ‬يومئذ،‭ ‬يجرنا‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مفهومين‭ ‬بارزين‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬تراث‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬مفهوم‭ ‬الملك،‭ ‬ومفهوم‭ ‬الخلافة‭. ‬إن‭ ‬من‭ ‬يمعن‭ ‬النظر‭ ‬بدقة‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬المؤسسة‭ ‬لتاريخ‭ ‬الإسلام‭ ‬يلمس‭ ‬بوضوح‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمة‭ ‬هو‭ ‬السائد‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان‭ ‬،‭ ‬وبدأ‭ ‬يتوارى‭ ‬رويداً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اختفى،‭ ‬أو‭ ‬يكاد‭ ‬لما‭ ‬أخذ‭ ‬معاوية‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سفيان‭ ‬البيعة‭ ‬لابنه‭ ‬يزيد‭.‬

وقد‭ ‬استُعمل‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمة،‭ ‬وأمة‭ ‬النبي،‭ ‬وأمة‭ ‬محمد،‭ ‬وبرز‭ ‬بسرعة‭ ‬غداة‭ ‬بيعة‭ ‬أبي‭ ‬بكر،‭ ‬فلما‭ ‬تخلّف‭ ‬البعض،‭ ‬ورابطوا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬فاطمة،‭ ‬بعث‭ ‬أبوبكر‭ ‬إلى‭ ‬المتخلفين‭ ‬عمر‭ ‬‭ ‬ليخرجهم‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬فاطمة،‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬إن‭ ‬أبوا‭ ‬فقاتلهم،‭ ‬تقول‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬فأقبل‭ ‬بقبس‭ ‬من‭ ‬نار‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يضرم‭ ‬عليهم‭ ‬الدار،‭ ‬فلقيته‭ ‬فاطمة،‭ ‬فقالت‭: ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬الخطاب،‭ ‬أجئت‭ ‬لتحرق‭ ‬دارنا؟‭ ‬قال‭: ‬نعم،‭ ‬أو‭ ‬تدخلوا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬دخلت‭ ‬فيه‭ ‬الأمة‭...‬‮»‬‭. ‬بدأ‭ ‬مفهوم‭ ‬الملك‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان‭ ‬‭ ‬لما‭ ‬أطل‭ ‬كاتبه‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬الثوار‭ ‬المحاصرين‭ ‬للدار،‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬جئتم‭ ‬لتفتكوا‭ ‬منا‭ ‬ملكنا‮»‬‭. ‬

كيف‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أمة‭ ‬النبي،‭ ‬وعن‭ ‬‮«‬المحجة‭ ‬العظمى‮»‬،‭ ‬و«العروة‭ ‬الوثقى‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عاش‭ ‬المسلمون،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬كبار‭ ‬الصحابة‭ ‬والتابعين‭ ‬ثلاث‭ ‬فتن‭ ‬كبرى‭ ‬قُتل‭ ‬فيها‭ ‬عشرات‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬المسلمين،‭ ‬ونجد‭ ‬بينهم‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الصحابة‭ ‬وضمنهم‭ ‬بدريون‭: ‬وقعة‭ ‬الجمل،‭ ‬صفين‭ ‬والنهروان؟‭ ‬وقد‭ ‬انطلقت‭ ‬الشرارة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬لما‭ ‬بدأت‭ ‬تتضح‭ ‬معالم‭ ‬مخطط‭ ‬الحزب‭ ‬الأموي‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭.‬

إن‭ ‬القراءة‭ ‬النقدية‭ ‬لمختلف‭ ‬الروايات‭ ‬التاريخية‭ ‬توضِّح‭ ‬أنه‭ ‬مخطط‭ ‬دقيق‭ ‬أفاد‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬السياسي‭ ‬لقريش‭ ‬قبل‭ ‬الرسالة،‭ ‬ومن‭ ‬النبوة‭ ‬نفسها،‭ ‬مكتفياً‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬إحياء‭ ‬ظاهرة‭ ‬الصراع‭ ‬القبلي‭ ‬بين‭ ‬اليمانية‭ ‬والنزارية،‭ ‬وأصبح‭ ‬المسلمون‭ ‬يفخرون‭ ‬بنسبهم‭ ‬القبلي،‭ ‬ونسي‭ ‬الإسلام،‭ ‬‮«‬فافتخرت‭ ‬نزار‭ ‬على‭ ‬اليمن،‭ ‬وافتخر‭ ‬اليمن‭ ‬على‭ ‬نزار،‭ ‬وأدلى‭ ‬كل‭ ‬فريق‭ ‬بماله‭ ‬من‭ ‬المناقب،‭ ‬وتحزَّبت‭ ‬الناس،‭ ‬وثارت‭ ‬العصبية‭ ‬في‭ ‬البدو‭ ‬والحضر‮»‬‭. ‬وساهم‭ ‬الحقدُ‭ ‬القديم‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬العمومة‭ ‬في‭ ‬إحياء‭ ‬هذا‭ ‬الصراع،‭ ‬فطفح‭ ‬فوق‭ ‬السطح‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حاول‭ ‬مشروع‭ ‬الأمة‭ ‬تجاوزه،‭ ‬وأصيبت‭ ‬أجيال‭ ‬المسلمين‭ ‬الجدد‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬العرب‭ ‬بالدهشة،‭ ‬وبخاصة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اتهم‭ ‬صحابة‭ ‬الرسول‭ ‬‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً‭ ‬بالخيانة،‭ ‬وبالانحراف‭ ‬عن‭ ‬الإسلام،‭ ‬بل‭ ‬قل‭ ‬بالتنكّر‭ ‬للنص‭ ‬القرآني‭.‬

هنا‭ ‬يطرح‭ ‬سؤال‭ ‬محوري‭ ‬نفسه‭: ‬كيف‭ ‬نجح‭ ‬مخطط‭ ‬الحزب‭ ‬الأموي،‭ ‬بل‭ ‬كيف‭ ‬وظّف‭ ‬قيم‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬الفخر‭ ‬بالأصل‭ ‬القبلي،‭ ‬قال‭ ‬معاوية‭ ‬مخاطباً‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬الزبير،‭ ‬ومشيداً‭ ‬بمكانة‭ ‬أبيه‭ ‬أبي‭ ‬سفيان‭: ‬‮«‬فكان‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬عظيماً‭ ‬شأنه،‭ ‬وفي‭ ‬الإسلام‭ ‬معروف‭ ‬مكانه،‭ ‬ولقد‭ ‬أعطي‭ ‬يوم‭ ‬الفتح‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُعطَ‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬آبائك،‭ ‬وإن‭ ‬منادي‭ ‬الرسول‭ ‬‭ ‬نادى‭: ‬من‭ ‬دخل‭ ‬المسجد‭ ‬فهو‭ ‬آمن،‭ ‬ومن‭ ‬دخل‭ ‬دار‭ ‬أبي‭ ‬سفيان‭ ‬فهو‭ ‬آمن،‭ ‬وكانت‭ ‬داره‭ ‬حرماً‭...‬‮»‬‭.‬

كان‭ ‬للصراع‭ ‬الدموي‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬أولاً‭ ‬بين‭ ‬بني‭ ‬هاشم‭ ‬وبني‭ ‬أمية،‭ ‬ثم‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬العمومة‭: ‬الطالبيين‭ ‬والعباسيين‭ ‬أثر‭ ‬سلبي‭ ‬بعيد‭ ‬المدى‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬المسلمين‭ ‬الذين‭ ‬تحمَّسوا‭ ‬للدعوة‭ ‬الجديدة،‭ ‬وهم‭ ‬يتحدرون‭ ‬من‭ ‬أمم‭ ‬وطوائف‭ ‬متنوعة،‭ ‬ولم‭ ‬تسلم‭ ‬مدينة‭ ‬الرسول‭ ‬‭ ‬من‭ ‬سفك‭ ‬الدماء،‭ ‬واستباحة‭ ‬البيوت،‭ ‬فلما‭ ‬رفض‭ ‬سكانها‭ ‬بيعة‭ ‬يزيد‭ ‬عام‭ ‬63‭ ‬هـ،‭ ‬وطردوا‭ ‬منها‭ ‬الأمويين،‭ ‬أرسل‭ ‬إليها‭ ‬جيشاً‭ ‬فأنهبها،‭ ‬وقتل‭ ‬أهلها،‭ ‬‮«‬وبايعه‭ ‬أهلها‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬عبيد‭ ‬ليزيد‮»‬‭! ‬

 

ظواهر‭ ‬غير‭ ‬عربية

إنني‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقاد‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬التحزُّب‭ ‬القبلي‭ ‬العربي‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬الباب‭ ‬لظاهرة‭ ‬التحزب‭ ‬الشعوبي،‭ ‬فمن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬أنصار‭ ‬الحزب‭ ‬الشعوبي‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬العرب،‭ ‬مذكرا‭ ‬بأن‭ ‬الصراع‭ ‬مسَّ‭ ‬قيم‭ ‬الدين‭ ‬نفسه‭. ‬

ألمحت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المشروع‭ ‬العُمَري‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬أمة‭ ‬جديدة‭ ‬غداة‭ ‬الفتوحات‭ ‬الكبرى،‭ ‬ليكون‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أهدافها‭ ‬عبر‭ ‬مخطط‭ ‬التمصير‭ ‬كبح‭ ‬جماح‭ ‬الظاهرة‭ ‬القبلية،‭ ‬بدأ‭ ‬يتوارى‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عثمان‭ ‬ليختفي‭ ‬بعد‭ ‬البيعة‭ ‬ليزيد،‭ ‬ليبرز‭ ‬مفهومان‭: ‬الملك،‭ ‬وقد‭ ‬ألمحنا‭ ‬إليه،‭ ‬أما‭ ‬المفهوم‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬مفهوم‭ ‬الخلافة،‭ ‬مبادراً‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬المفهوم‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالإسلام‭ ‬ديناً،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مفهوم‭ ‬سياسي‭ ‬سلطوي،‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬مفاهيم‭ ‬الإمامة،‭ ‬والإمارة،‭ ‬والسلطنة‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬تاريخ‭ ‬الإسلام‭. ‬

بحثنا‭ ‬ولم‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬استعمال‭ ‬مفهوم‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬النبوة،‭ ‬وبعد‭ ‬وفاة‭ ‬الرسول‭ ‬‭ ‬استُعمل‭ ‬بمعناه‭ ‬اللغوي،‭ ‬أي‭ ‬التالي‭ ‬فقيل‭ ‬لأبي‭ ‬بكر‭ ‬‭ ‬خليفة‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬فلما‭ ‬خلفه‭ ‬عمر‭ ‬‭ ‬نودي‭ ‬بخليفة‭ ‬خليفة‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬فقال‭: ‬ماذا‭ ‬ستقولون‭ ‬لمن‭ ‬سيأتي‭ ‬بعدي؟‭! ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يستقيم،‭ ‬أنتم‭ ‬المؤمنون‭ ‬وأنا‭ ‬أميركم،‭ ‬فأنا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أطلق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬جاء‭ ‬بعده،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬التنظير‭ ‬للخلافة،‭ ‬وأصبح‭ ‬الخليفة‭ ‬ظل‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬قال‭ ‬معاوية‭ ‬يوماً،‭ ‬وعنده‭ ‬وجوه‭ ‬الناس‭: ‬‮«‬الأرض‭ ‬لله،‭ ‬وأنا‭ ‬خليفة‭ ‬الله،‭ ‬فما‭ ‬أخذت‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬الله‭ ‬فهو‭ ‬لي،‭ ‬وما‭ ‬تركت‭ ‬منه‭ ‬كان‭ ‬جائزاً‭ ‬لي‮»‬،‭ ‬وقيل‭ ‬ليزيد‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬أبيه‭: ‬‮«‬أصبحت‭ ‬قد‭ ‬رزئت‭ ‬خليفة‭ ‬الله،‭ ‬وأُعطيتَ‭ ‬خلافة‭ ‬الله،‭ ‬ومُنحْتَ‭ ‬هبة‭ ‬الله‮»‬‭.‬

ومع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬أصبحت‭ ‬معارضة‭ ‬الخليفة‭ ‬كفراً‭ ‬باعتباره‭ ‬ظل‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬وهكذا‭ ‬أصبح‭ ‬مفهوم‭ ‬الخلافة‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الدين،‭ ‬مذكراً‭ ‬بموقف‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬العلماء،‭ ‬ومن‭ ‬التابعين‭ ‬الذين‭ ‬رفضوا‭ ‬هذا‭ ‬الخلط‭ ‬فعذبوا،‭ ‬وقتل‭ ‬بعضهم‭ ‬مثل‭ ‬حجر‭ ‬بن‭ ‬عدي‭ ‬وأنصاره،‭ ‬وسعيد‭ ‬بن‭ ‬المسيب،‭ ‬وسعيد‭ ‬بن‭ ‬جبير،‭ ‬وغيلان‭ ‬الدمشقي،‭ ‬وقد‭ ‬صُلب‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬أبواب‭ ‬دمشق‭. ‬

ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬مؤسسة‭ ‬الخلافة‭ ‬قد‭ ‬انهارت،‭ ‬وأصبحت‭ ‬اسماً‭ ‬بلا‭ ‬مسمى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استولت‭ ‬الفرق‭ ‬الانكشارية‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬فأصبحت‭ ‬تولي‭ ‬وتعزل،‭ ‬واتفق‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬اتفاق‭ ‬عجيب‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬القاضي‭ ‬ابن‭ ‬واصل،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬سادس‭ ‬من‭ ‬خلفاء‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬مخلوع‭ ‬أو‭ ‬مقتول‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬بلغ‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬اغتيالهم،‭ ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬سمل‭ ‬عيونهم‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬للخليفة‭ ‬الظاهر،‭ ‬وللمقتدر‭ ‬بالله‭.. ‬وللمتوكل‭ ‬على‭ ‬الله،‭ ‬وللمستعين‭ ‬بالله‭ ‬وغيرهم‭. ‬وهكذا‭ ‬يتضح‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬استقراء‭ ‬مفاهيم‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الإسلامي‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬دين‭ ‬وأمة،‭ ‬وليس‭ ‬ديناً‭ ‬ودولة،‭ ‬وأن‭ ‬توظيفه‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تعاقب‭ ‬الفتن،‭ ‬وارتكاب‭ ‬المجازر‭.‬

وما‭ ‬أشبه‭ ‬الليلة‭ ‬بالبارحة‭! ‬.