المسارات العكسية للحرية الدينية في أوربا والعالم العربي

المسارات العكسية للحرية الدينية  في أوربا والعالم العربي

اعتدنا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬اعتبار‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬غير‭ ‬صالحة‭ ‬لاعتماد‭ ‬نظام‭ ‬حكم‭ ‬مدني‭ ‬فيها،‭ ‬كما‭ ‬طورته‭ ‬ومارسته‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوربية‭. ‬والسبب‭ ‬الذي‭ ‬يُستشهد‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬هو‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬والدين،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬الدولة‭ ‬والدين،‭ ‬لا‭ ‬ينفصلان‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬انفصالهما‭ ‬يبدو‭ ‬تلقائياً‭ ‬وطبيعياً‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسيحية‭. ‬والحقيقة‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬نظراً‭ ‬لتميز‭ ‬تاريخ‭ ‬أوربا‭ ‬المسيحية‭ ‬بالصعوبات‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬انفجار‭ ‬الحروب‭ ‬الدينية‭ ‬المروِّعة‭ ‬بين‭ ‬الكاثوليك‭ ‬والبروتستانت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر،‭ ‬وهي‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬مهدت‭ ‬الطريق‭ ‬بشكل‭ ‬تدريجي‭ ‬إلى‭ ‬بروز‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬وجوب‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الكنيسة‭ ‬والدولة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬تأمين‭ ‬حيادية‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الديني‭ ‬وحيادية‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدينية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬السياسي‭. ‬بينما‭ ‬تاريخ‭ ‬علاقة‭ ‬الدين‭ ‬بالدولة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية‭ - ‬كما‭ ‬سنرى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ - ‬مختلف‭ ‬تماماً‭.‬

إشكالية‭ ‬الدولة‭ ‬والدين‭ ‬لا‭ ‬تُختصر‭ ‬في‭ ‬نموذج‭ ‬واحد

الجدير‭ ‬بالملاحظة‭ ‬أن‭ ‬الأدوات‭ ‬المفاهيمية‭ ‬التي‭ ‬نستخدمها‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬الدين‭ ‬والسياسة‭ ‬أو‭ ‬الدولة‭ ‬والدين‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬الإسلامية،‭ ‬هي‭ ‬غير‭ ‬ملائمة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬تستلهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬النموذج‭ ‬الخاص‭ ‬المستمَد‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬المضطرب‭ ‬والمعقد‭ ‬للعلاقات‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الدينية‭ ‬والسلطة‭ ‬المدنية‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬مما‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الاستخدام‭ ‬المباشر‭ ‬والخاطئ‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬لهذا‭ ‬النموذج‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والدين‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسلمة‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬فائدة‭ ‬تُذكر‭. ‬لا،‭ ‬بل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬فالاستخدام‭ ‬العشوائي‭ ‬لشبكة‭ ‬التحليل‭ ‬الخاصة‭ ‬بالقضايا‭ ‬التاريخية‭ ‬الأوربية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالسلطتين‭ ‬الزمنية‭ ‬والروحية،‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يوقع‭ ‬التشويش‭ ‬أو‭ ‬الغموض‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬القضايا‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬تهز‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬المتسمة‭ ‬بتنوع‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬الحكم‭ (‬خلافة‭ ‬راشدة،‭ ‬خلافة‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع،‭ ‬أنظمة‭ ‬السلطنة‭ ‬والمملكة‭ ‬والإمارة‭).‬

باعتقادي،‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬دراسة‭ ‬مقارنة‭ ‬لإشكالية‭ ‬مدنية‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسيحية‭ ‬والإسلامية‭ ‬أن‭ ‬تتوخى‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬القوالب‭ ‬المعدَّة‭ ‬سلفاً،‭ ‬وأن‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬جوهر‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬وليس‭ ‬عن‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكاله‭ ‬المؤسساتية‭ ‬أو‭ ‬السياسية‭. ‬فالمبدأ‭ ‬المركزي‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬النظام‭ ‬المدني‭ ‬يتمحور‭ ‬حول‭ ‬الحؤول‭ ‬دون‭ ‬استغلال‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬للدين،‭ ‬والعكس‭ ‬بالعكس،‭ ‬أي‭ ‬عدم‭ ‬استغلال‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المراجع‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬المراجع‭ ‬المكلفة‭ ‬بتفسير‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭. ‬وغاية‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬تأمين‭ ‬حرية‭ ‬الإنسان‭ ‬وإطلاق‭ ‬قدراته‭ ‬الخلاقة‭ ‬والمبدعة‭.‬

تقتضي‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيقها‭ ‬فصل‭ ‬المؤسسات‭ ‬السياسية‭ ‬عن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدينية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يصعب‭ ‬تنفيذه‭. ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬إن‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬السياسة‭ ‬للدين‭ ‬والعكس‭ ‬بالعكس،‭ ‬أي‭ ‬الدين‭ ‬للسياسة،‭ ‬هي‭ ‬دائماً‭ ‬من‭ ‬المغريات‭ ‬الجامحة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬المجتمع‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الحرية‭ ‬البشرية،‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تنادي‭ ‬بها‭ ‬النصوص‭ ‬المقدسة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬المسيحية‭ ‬والإسلام،‭ ‬تقتضي‭ ‬هذا‭ ‬الثمن‭.‬

وإذ‭ ‬يحتاج‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬الشعور‭ ‬بالمقدس‭ ‬وكل‭ ‬أشكال‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬الروحية،‭ ‬فإنه‭ ‬يحتاج‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬القدر‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬وحرية‭ ‬الاختيار،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬تصرُّ‭ ‬عليه‭ ‬بعض‭ ‬المذاهب‭ ‬في‭ ‬الديانات‭ ‬التوحيدية‭ ‬الثلاث،‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬تنفي‭ ‬حرية‭ ‬الاختيار‭ ‬بالتعلل‭ ‬بقدرية‭ ‬كل‭ ‬كائن‭ ‬بشري،‭ ‬قدرية‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬الإرادة‭ ‬الإلهية‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬تقرر‭ ‬مسبقاً‭ ‬مصير‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬ومجرى‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭. ‬وهذا‭ ‬بالتحديد‭ ‬ما‭ ‬تحققه‭ ‬مدنية‭ ‬الحكم‭ ‬الصحيحة،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬جوهرها‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬رفض‭ ‬كل‭ ‬استعباد‭ ‬للفكر،‭ ‬وكل‭ ‬فكر‭ ‬عقائدي‭ ‬متزمت‭ ‬أو‭ ‬كل‭ ‬تمييز‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬تبعاً‭ ‬لانتمائهم‭ ‬العرقي‭ ‬أو‭ ‬الديني‭ ‬والمذهبي‭ ‬أو‭ ‬وضعهم‭ ‬الاجتماعي‭.‬

لكن‭ ‬مدنية‭ ‬الحكم‭ ‬ليست‭ ‬مطلقة‭ ‬تتم‭ ‬على‭ ‬عقيدة‭ ‬واحدة‭ ‬وقالب‭ ‬مؤسساتي‭ ‬محدد‭. ‬فهي،‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬ظاهرة‭ ‬بشرية،‭ ‬حصيلة‭ ‬تطورات‭ ‬تاريخية‭ ‬معقدة‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬تختلف‭ ‬التجارب‭ ‬التاريخية‭ ‬للمجتمعات‭ ‬الأوربية‭ ‬المسيحية‭ ‬عن‭ ‬تجارب‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬اختلافاً‭ ‬كلياً،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متعاكسة‭. ‬لذلك،‭ ‬إن‭ ‬تجاهل‭ ‬معطيات‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬المقارن‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬نحكم‭ ‬على‭ ‬أنفسنا‭ ‬بعدم‭ ‬فهم‭ ‬إشكالية‭ ‬مدنية‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬التوحيدي‭ ‬المسلم،‭ ‬مع‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التوراة‭ ‬تمثل‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬شكل‭ ‬أنموذج‭ ‬التشابك‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والسياسة‭ ‬الذي‭ ‬استولى،‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬على‭ ‬الديانتين‭ ‬التوحيديتين‭ ‬الأخريين،‭ ‬المسيحية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬اللتين‭ ‬تريان،‭ ‬على‭ ‬طريقتهما‭ ‬الخاصة،‭ ‬أنهما‭ ‬الاكتمال‭ ‬الختامي‭ ‬للمنطق‭ ‬التوحيدي‭ ‬في‭ ‬الدين‭.‬

 

المسيحية‭ ‬الأوربية‭... ‬من‭ ‬الطابع‭ ‬الإمبراطوري‭ ‬الإقصائي‭ ‬لغير‭ ‬المسيحيين‭ ‬إلى‭ ‬التواضع

جاء‭ ‬تطور‭ ‬المسيحية‭ ‬الأوربية‭ ‬الذي‭ ‬سمح،‭ ‬بعد‭ ‬عملية‭ ‬طويلة‭ ‬وشاقة،‭ ‬بالتوصل‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬مدنية‭ ‬النظام‭ ‬السياسي،‭ ‬نتيجة‭ ‬لسلسلة‭ ‬من‭ ‬الظروف‭ ‬والمصادفات‭ ‬التاريخية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالقارة‭ ‬الأوربية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬من‭ ‬الجدير‭ ‬بالملاحظة‭ ‬هنا،‭ ‬أن‭ ‬التواضع‭ ‬السياسي‭ ‬كان‭ ‬السمة‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬بدء‭ ‬انتشار‭ ‬المسيحية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬مهدها،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬أوربا‭. ‬مكرسة‭ ‬لعبادة‭ ‬الله‭ ‬المتميزة‭ ‬بحسن‭ ‬الأخلاق،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للمسيحيين‭ ‬الأوائل‭ ‬طموح‭ ‬سياسي،‭ ‬وإنما‭ ‬السعي‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬مستقيمة‭ ‬ومتواضعة‭. ‬وكان‭ ‬التقشف‭ ‬ميزة‭ ‬حياة‭ ‬الكهنة‭ ‬والرهبان‭ ‬الذين‭ ‬أشاد‭ ‬بهم‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭.‬‭ ‬ولم‭ ‬تصبح‭ ‬الكنيسة‭ ‬سلطة‭ ‬سياسية‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لاحق،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الرابع،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬تنافس‭ ‬تدريجياً‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تحاول‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬فعلاً،‭ ‬حيث‭ ‬تمكنت‭ ‬كنيسة‭ ‬روما‭ ‬من‭ ‬فرض‭ ‬عقيدة‭ ‬ضرورة‭ ‬إشرافها‭ ‬ومراقبتها‭ ‬لكل‭ ‬السلطات‭ ‬المدنية‭.‬

وهكذا‭ ‬تمكنت‭ ‬كنيسة‭ ‬روما‭ ‬من‭ ‬فرض‭ ‬الوصاية‭ ‬اليومية‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الأفراد،‭ ‬من‭ ‬ممارسات‭ ‬وطقوس‭ ‬دينية،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬الإجراءات‭ ‬الرسمية‭ ‬كحفلات‭ ‬التعميد‭ ‬والزواج‭ ‬أو‭ ‬الجنازة‭ ‬وتحديد‭ ‬أوقات‭ ‬الصلاة‭ ‬اليومية،‭ ‬وضرورة‭ ‬اعتراف‭ ‬المؤمنين‭ ‬بأخطائهم‭ ‬إلى‭ ‬الكهنة،‭ ‬وواجبات‭ ‬حماية‭ ‬الأرامل‭ ‬واليتامى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الكنيسة‭.‬

لقد‭ ‬نسينا‭ ‬اليوم‭ ‬الأسباب‭ ‬الموضحة‭ ‬لجبروت‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬هيمنت‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬والجسد‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬أول‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تنظيم‭ ‬الكنيسة‭ ‬على‭ ‬نموذج‭ ‬تنظيم‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬التي‭ ‬ورثتها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أحدثت‭ ‬القوى‭ ‬البربرية‭ ‬الغازية‭ ‬لأوربا‭ ‬الرومانية‭  ‬انهيار‭ ‬مؤسساتها‭ ‬السياسية‭ ‬والمجتمعية‭.‬

وقد‭ ‬وطدت‭ ‬الكنيسة‭ ‬بثبات‭ ‬سلطتها‭ ‬الموحدة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صراع‭ ‬ضار‭ ‬لا‭ ‬هوادة‭ ‬فيه‭ ‬ضد‭ ‬أتباع‭ ‬الوثنية‭ ‬والعقائد‭ ‬الفلسفية‭ ‬اليونانية،‭ ‬وكذلك‭ ‬أتباع‭ ‬اليهودية‭ ‬وكل‭ ‬مظاهر‭ ‬البدع‭ ‬المسيحية‭ ‬المصدر،‭ ‬بالمقايسة‭ ‬مع‭ ‬العقائد‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬أطرها‭ ‬ومبادئها‭ ‬المجامع‭ ‬الكنسية،‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تهدِّد‭ ‬وحدتها‭ ‬ووحدة‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسؤولة‭ ‬عنها‭. ‬ولئن‭ ‬تغاضت‭ ‬تدريجياً‭ ‬عن‭ ‬نشوء‭ ‬سلطات‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬مدنية،‭ ‬فإنها‭ ‬كانت‭ ‬تسيطر‭ ‬وتراقب‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬كل‭ ‬سلطة‭ ‬غير‭ ‬سلطتها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬بيروقراطية‭ ‬ضخمة‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬أساقفة‭ ‬وكهنة‭ ‬تستمد‭ ‬سلطتها‭ ‬السياسية‭ - ‬الدينية‭ ‬من‭ ‬رئيس‭ ‬الكنيسة‭ ‬الرومانية‭. ‬فما‭ ‬من‭ ‬ملك‭ ‬أو‭ ‬إمبراطور‭ ‬أو‭ ‬حاكم‭ ‬أو‭ ‬أمير‭ ‬استطاع‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الإقطاعية‭ ‬أن‭ ‬يدَّعي‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬منطقة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬موافقة‭ ‬البابا،‭ ‬رئيس‭ ‬الكنيسة،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬مراقبة‭ ‬دائمة‭ ‬من‭ ‬ممثليه‭ ‬في‭ ‬المناطق،‭ ‬خاصة‭ ‬الأساقفة،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يلعبون‭ ‬دوراً‭ ‬سياسياً‭ ‬بارزاً‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬مراقبة‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬رئيس‭ ‬كنيسة‭ ‬روما‭. ‬إن‭ ‬حفل‭ ‬التتويج‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمنحه‭ ‬البابا‭ ‬لكل‭ ‬صاحب‭ ‬سيادة‭ ‬سياسية‭ ‬كان‭ ‬عنصراً‭ ‬ضرورياً‭ ‬في‭ ‬سير‭ ‬كل‭ ‬سلطة‭ ‬مدنية‭.‬

لقد‭ ‬استمر‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬حتى‭ ‬الثورات‭ ‬البروتستانتية‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر،‭ ‬لكنها‭ ‬دامت‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬لمدة‭ ‬قرون‭ ‬ثلاثة‭ ‬إضافية‭. ‬ولنذكر‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬شعر‭ ‬بضرورة‭ ‬أن‭ ‬يتوِّجه‭ ‬البابا‭ ‬إمبراطوراً،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬وجود‭ ‬الكنيسة‭ ‬بقي‭ ‬عاملاً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬والبرتغال‭ ‬واليونان‭ ‬طوال‭ ‬القسم‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬لنتذكر‭ ‬أن‭ ‬مسألة‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الكنيسة‭ ‬والدولة‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالنظام‭ ‬التربوي،‭ ‬يسيرها‭ ‬قانون‭ ‬عام‭ ‬1905‭ ‬الشهير،‭ ‬الذي‭ ‬أثار‭ ‬الجدل‭ ‬طوال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

يفسر‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭ ‬جداً‭ ‬المؤرخ‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الكبير،‭ ‬أرنولد‭ ‬توينبي‭ ‬Arnold Toynbee،‭ ‬كيف‭ ‬تحولت‭ ‬أوربا‭ ‬عن‭ ‬مجادلاتها‭ ‬الدينية‭ ‬الفتاكة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬عنف‭ ‬الحروب‭ ‬الدينية،‭ ‬وانكبت‭ ‬على‭ ‬العلوم‭ ‬وتطوير‭ ‬العقل‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬مأساة‭ ‬انفجار‭ ‬العنف‭ ‬الديني‭. ‬وخير‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬مؤلفو‭ ‬الموسوعات‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الأنوار،‭ ‬وكذلك‭ ‬فكر‭ ‬مونتسكيو‭ ‬Monstesquieu‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬أو‭ ‬كانت‭ ‬Kant‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭. ‬لقد‭ ‬حرر‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬جهد‭ ‬ملحوظ‭ ‬الأخلاقيات‭ ‬من‭ ‬الدين‭ ‬ليرسم‭ ‬أخلاقيات‭ ‬ذات‭ ‬قواعد‭ ‬عالمية،‭ ‬فردية‭ ‬وجماعية‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬تهيئ‭ ‬الظروف‭ ‬لتحقيق‭ ‬السلام‭ ‬العالمي‭.‬

وقد‭ ‬تطلب‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬المسيحية‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬قرناً،‭ ‬منذ‭ ‬ترسيـــم‭ ‬المسيحية‭ ‬ديناً‭ ‬مهيــمناً‭ ‬ينظم‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬لإرساء‭ ‬فكر‭ ‬الحيادية‭ ‬المدنية‭ ‬للحكم‭ ‬وقبول‭ ‬التعددية‭ ‬الدينية‭ ‬داخل‭ ‬الأمة‭ ‬وتعددية‭ ‬مناهج‭ ‬التأويل‭ ‬وتفــــسير‭ ‬النصوص‭ ‬المقدسة‭. ‬واقتضى‭ ‬كذلك‭ ‬قـــرناً‭ ‬آخر‭ ‬لوضع‭ ‬هذا‭ ‬الفكــــر‭ ‬قيد‭ ‬التنفيذ‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أُخضـــعــت‭ ‬الطائفة‭ ‬اليهودية‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬النظريات‭ ‬العـــنصرية‭ ‬والاستــــبداد‭ ‬الهتلري‭ ‬المميت،‭ ‬لإبادة‭ ‬جماعية‭ ‬ذات‭ ‬قســــاوة‭ ‬استثنائية‭.‬

 

في‭ ‬الإسلام‭... ‬السلطة‭ ‬المدنية‭ ‬تحكم‭ ‬السلطة‭ ‬الدينية

إن‭ ‬الاختلافات‭ ‬الجوهرية‭ ‬في‭ ‬بنى‭ ‬السلطة‭ ‬الأوربية‭ ‬المسيحية‭ ‬وبنى‭ ‬الشرق‭ ‬المسلم‭ ‬تفسِّر‭ ‬الاتجاهات‭ ‬العكسية‭ ‬التي‭ ‬اتبعتها‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسيحية‭ ‬والإسلامية‭. ‬إن‭ ‬أول‭ ‬هذه‭ ‬الفروقات‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬سلطة‭ ‬كنيسة‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬تمارس‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الفقهاء‭ ‬وعلماء‭ ‬الدين‭ ‬كانوا‭ ‬دائماً‭ ‬ولايزالون‭ ‬تحت‭ ‬الرقابة‭ ‬الصارمة‭ ‬للسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬المدنية‭. ‬طبعا،‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية‭ ‬أن‭ ‬تسهر‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬الأعراف‭ ‬والأخلاق‭ ‬الحميدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وإحقاق‭ ‬العدالة‭ ‬وفق‭ ‬القواعد‭ ‬والتعاليم‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬المقدس‭ ‬وتفسيراته‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الرسول‭ ‬وسلوكه‭ ‬‭ (‬السيرة‭ ‬النبوية‭). ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬المطلقة‭ ‬تعطيها‭ ‬إمكانية‭ ‬في‭ ‬رقابة‭ ‬وإرشاد‭ ‬الفقهاء‭. ‬وهؤلاء‭ ‬ليسوا‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬منظمين‭ ‬ضمن‭ ‬سلطة‭ ‬ذات‭ ‬هيكلية‭ ‬هرمية‭ ‬صلبة‭ ‬منفصلة‭ ‬ومستقلة‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية،‭ ‬وإنما‭ ‬حسب‭ ‬مهام‭ ‬خاضعة‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬لرقابة‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية،‭ ‬الضامن‭ ‬الوحيد‭ ‬للنظام‭ ‬العام‭ ‬واستمرارية‭ ‬السلطة‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬الخلفاء‭ ‬الراشدين‭. ‬والسلطة‭ ‬المدنية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تعين‭ ‬السلطات‭ ‬الدينية،‭ ‬كالقاضي‭ ‬أو‭ ‬المفتي‭ (‬الذي‭ ‬يراقب‭ ‬بفتواه‭ ‬التطبيق‭ ‬السليم‭ ‬للمبادئ‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والمجتمعية‭ ‬المستمَدة‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭). ‬وفقاً‭ ‬لذلك،‭ ‬تكون‭ ‬السلطات‭ ‬الدينية‭ ‬تحت‭ ‬السيطرة‭ ‬التامة‭ ‬للسلطات‭ ‬المدنية‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالإسلام‭ ‬الشيعي،‭ ‬فالجدير‭ ‬بالملاحظة‭ ‬أن‭ ‬نظام‭ ‬رقابة‭ ‬الفقهاء‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬المدني‭ ‬هو‭ ‬حديث‭ ‬العهد‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬عام‭ ‬1979،‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬الفريدة‭ ‬إسلامياً‭ ‬والمحصورة‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬وهو‭ ‬نظام‭ ‬لا‭ ‬يحظى‭ ‬بإجماع‭ ‬المراجع‭ ‬الدينية‭ ‬للمذهب‭ ‬الشيعي‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭.‬

 

بين‭ ‬أوربا‭ ‬والعالم‭ ‬المسلم‭... ‬انعكاس‭ ‬دورة‭ ‬النهضة‭ - ‬الانحطاط‭ ‬التاريخية

يتعلق‭ ‬الفارق‭ ‬الثاني‭ ‬بين‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسيحية‭ ‬والمجتمعات‭ ‬المسلمة‭ ‬بالمسارات‭ ‬المعكوسة‭ ‬لمراحل‭ ‬انحطاط‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬ونهضتها‭. ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬إن‭ ‬القرون‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬السلطة‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬الجديد،‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬امتداداً‭ ‬طبيعياً‭ ‬لما‭ ‬سبقه‭ ‬من‭ ‬ديانتين‭ ‬توحيديتين،‭ ‬لافتة‭ ‬للنظر‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تحررها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬والمعتقَد‭ ‬وتعدد‭ ‬مذاهب‭ ‬الاجتهاد‭ ‬والتفسير‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭.‬

صحيح‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬القضاء‭ ‬كلياً‭ ‬على‭ ‬بقايا‭ ‬الوثنية‭ ‬المتركزة‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬تم‭ ‬تعزيز‭ ‬حرية‭ ‬العبادة‭ ‬لليهود‭ ‬والمسيحيين‭ ‬والتأكيد‭ ‬عليها،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬لأتباع‭ ‬الزرادشتية‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭.‬

وازدهرت‭ ‬كذلك‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬مدارس‭ ‬تفسير‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتعرض‭ ‬لاضطهاد‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية‭ ‬المتواصل‭ ‬والممنهج‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬المسيحية‭ ‬الأوربية،‭ ‬وخير‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬كتاب‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الشهرستاني‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬الملل‭ ‬والنحل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يصف‭ ‬المذاهب‭ ‬العديدة‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭. ‬اختفى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬مناخ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬المسلم‭ ‬ليولد‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬الهند،‭ ‬بلد‭ ‬التعددية‭ ‬بامتياز،‭ ‬أثناء‭ ‬بناء‭ ‬إمبراطورية‭ ‬المغول،‭ ‬وهي‭ ‬سلطنة‭ ‬إسلامية‭ ‬الطابع،‭ ‬حمت‭ ‬القارة‭ ‬الهندية‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1526‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1857‭.‬

في‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للحضارة‭ ‬الإسلامية‭ - ‬العربية‭ ‬اضطهاد‭ ‬ممنهج‭ ‬للملل‭ ‬والنحل،‭ ‬ولا‭ ‬حكم‭ ‬بالإعدام‭ ‬حرقاً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬محاكم‭ ‬تفتيش‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الكنيسة،‭ ‬ولا‭ ‬حكومة‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬رقابة‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الفلسفة‭ ‬ازدهرت،‭ ‬مستعيدة‭ ‬الإرث‭ ‬الإغريقي‭ ‬ومطورة‭ ‬له،‭ ‬بوضعها‭ ‬مسألة‭ ‬العلاقة‭ ‬التوفيقية‭ ‬بين‭ ‬الإيمان‭ ‬والعقل‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬اهتماماتها‭ ‬الأساسية‭. ‬إن‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬التي‭ ‬تألقت‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الميلادي،‭ ‬وكذلك‭ ‬الخلافة‭ ‬الأموية‭ ‬في‭ ‬الأندلس،‭ ‬صارت‭ ‬نموذجاً‭ ‬للتألق‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الميادين‭ ‬العلمية‭ ‬والفلسفية‭ ‬والفقهية‭ ‬والأدبية،‭ ‬فسبقت‭ ‬بذلك‭ ‬بقرون‭ ‬عدة‭ ‬المسار‭ ‬النهضوي‭ ‬الأوربي،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للعلوم،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬علم‭ ‬الفلك‭ ‬والطب‭ ‬وعلم‭ ‬النباتات‭ ‬وعلم‭ ‬تطوير‭ ‬تقنيات‭ ‬ري‭ ‬المزروعات‭. ‬وهنا‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬سبقت‭ ‬النهضة‭ ‬الانحطاط،‭ ‬وهذا‭ ‬اختلاف‭ ‬جوهري‭ ‬مع‭ ‬تاريخ‭ ‬أوربا‭ ‬المسيحية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تنتشر‭ ‬وهي‭ ‬ترفض‭ ‬الفلسفة‭ ‬وأنواعاً‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬العلم،‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬العقيدة‭ ‬المسيحية‭ ‬الجديدة‭ ‬والنصوص‭ ‬المقدسة‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬المسيحي‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬الدنيوية،‭ ‬ولم‭ ‬تقبل‭ ‬كذلك‭ ‬الكنيسة‭ ‬بأي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬تعددية‭ ‬الاجتهاد‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬المقدسة‭. ‬وقد‭ ‬دامت‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬طوال‭ ‬قرون‭ ‬عديدة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنفتح‭ ‬تدريجياً‭ ‬وتتحرر‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسيحية‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬الكنيسة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أوجه‭ ‬الحياة‭ ‬المدنية‭ ‬والدينية،‭ ‬ويتمكن‭ ‬الفكر‭ ‬الأوربي‭ ‬من‭ ‬التجدُّد،‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬أثار‭ ‬بعد‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬من‭ ‬ظهوره،‭ ‬تجدداً‭ ‬عظيماً‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬أصبح‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬الدين‭ ‬الجديد‭ ‬سائداً‭.‬

ولقد‭ ‬تجلَّت‭ ‬سخرية‭ ‬القدر‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬الحضاري‭ ‬الإسلامي‭ ‬العربي‭ ‬الغني‭ ‬جداً‭ ‬قد‭ ‬أخصب‭ ‬الفكر‭ ‬الأوربي‭ ‬وزرع‭ ‬بذور‭ ‬نهضته،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬تطويقه‭ ‬وحصره‭ ‬بصرامة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬عُرف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬إقفال‭ ‬باب‭ ‬الاجتهاد‮»‬‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭. ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬الدينية‭ ‬الاستثنائية‭ ‬داخل‭ ‬إطار‭ ‬التوحيدية‭ ‬تقلصت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بطرق‭ ‬تفسير‭ ‬النص‭ ‬المقدس،‭ ‬وتم‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬رسمياً‭ ‬بأربع‭ ‬مدارس‭ ‬فقهية‭ ‬فقط‭ ‬لتوجيه‭ ‬تفسير‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬والشريعة‭ ‬المتفرعة‭ ‬عنه‭ ‬كما‭ ‬طورها‭ ‬الفقهاء،‭ ‬بغية‭ ‬إحقاق‭ ‬العدالة‭ ‬أو‭ ‬إصدار‭ ‬آراء‭ ‬شرعية‭ ‬تخص‭ ‬شؤون‭ ‬الأمة‭ ‬وأفرادها‭. ‬وانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬تجمَّد‭ ‬الفكر‭ ‬وتم‭ ‬اعتبار‭ ‬المنطق‭ ‬الفلسفي‭ ‬خطراً‭ ‬يهدِّد‭ ‬الإيمان‭ ‬الديني‭.‬

إن‭ ‬إقفال‭ ‬باب‭ ‬الاجتهاد‭ ‬تطابق‭ ‬تاريخياً‭ ‬مع‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الحوادث‭ ‬التاريخية‭ ‬العظمى‭ ‬والمأساوية،‭ ‬كالحملات‭ ‬الصليبية‭ ‬التي‭ ‬تلتها‭ ‬رأساً‭ ‬غزوات‭ ‬المغول‭ ‬والدمار‭ ‬الشامل‭ ‬الناجم‭ ‬عنها،‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تخريب‭ ‬للبنى‭ ‬الاجتماعية‭. ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬مؤسسة‭ ‬الخلافة‭ ‬سوى‭ ‬ظل‭ ‬نفسها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الغزاة‭ ‬الجدد،‭ ‬الأتراك‭ ‬السلاجقة‭ ‬والمماليك،‭ ‬حرروا‭ ‬شرق‭ ‬المتوسط‭ ‬من‭ ‬الغزاة‭ ‬السابقين،‭ ‬وفرضوا‭ ‬هذا‭ ‬التوحيد‭ ‬القسري‭ ‬للمبادئ‭ ‬العقيدية‭ ‬الدينية‭ ‬وقضوا‭ ‬بذلك‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬الاجتهاد‭ ‬وهي‭ ‬أم‭ ‬الحريات،‭ ‬وبالتالي‭ ‬مصدر‭ ‬كل‭ ‬تقدم‭ ‬فكري‭ ‬وعلمي‭. ‬لذلك‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬تأسيس‭ ‬نظام‭ ‬مدنية‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬يبدأ‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬الاجتهاد‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية،‭ ‬ففي‭ ‬الأصل‭ ‬لا‭ ‬سلطة‭ ‬كنسية‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسيحية‭. ‬ويشير‭ ‬التاريخ‭ ‬المقارن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ - ‬الإسلامية‭ ‬قد‭ ‬تألقت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الصعد‭ ‬مادام‭ ‬الاجتهاد‭ ‬سيد‭ ‬الموقف،‭ ‬ودخلت‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬السكون‭ ‬والتراجع‭ ‬عند‭ ‬إقفاله‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المسيحية‭ ‬الأوربية،‭ ‬فالعكس‭ ‬قد‭ ‬حصل،‭ ‬إذ‭ ‬بقيت‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تراجع‭ ‬وركود‭ ‬حضاري‭ ‬وعلمي‭ ‬بسبب‭ ‬هيمنة‭ ‬الكنيسة،‭ ‬والهيمنة‭ ‬المطلقة‭ ‬على‭ ‬عقود‭ ‬الرعية،‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحروب‭ ‬الدينية‭ ‬الفتاكة،‭ ‬حيث‭ ‬تراجعت‭ ‬سلطة‭ ‬الكنيسة،‭ ‬وأُبعدت‭ ‬تدريجياً‭ ‬عن‭ ‬مراقبة‭ ‬الحكم‭ ‬المدني،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬عهد‭ ‬صعود‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬القومي‭ ‬الطابع‭.‬

هذه‭ ‬اللمحة‭ ‬التاريخية‭ ‬الموجزة‭ ‬للإشكاليات‭ ‬المقارنة‭ ‬للنظام‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬المسيحية‭ ‬وفي‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬تظهر،‭ ‬ليس‭ ‬عدم‭ ‬جدوى‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬أشكال‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬تنظيم‭ ‬السلطة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬تدل‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬لبس‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مغزى‭ ‬مفهوم‭ ‬مدنية‭ ‬الحكم‭ ‬كعنصر‭ ‬أساسي‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭. ‬ولذلك‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬الترتيبات‭ ‬المؤسساتية‭ ‬متكيفة‭ ‬بسمات‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭ ‬وبالتاريخ‭ ‬الخاص‭ ‬به‭. ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬فائدة‭ ‬من‭ ‬إلصاق‭ ‬مؤسسات‭ ‬شكلية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬أعماق‭ ‬مغزى‭ ‬المدنية‭. ‬إن‭ ‬المسار‭ ‬التاريخي‭ ‬الأوربي‭ ‬هو‭ ‬بالتأكيد‭ ‬مليء‭ ‬بالعبر،‭ ‬لكن‭ ‬يتعين‭ ‬استخلاص‭ ‬جوهره‭ ‬ومغزاه‭ ‬العميق،‭ ‬وليس‭ ‬شكله،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬السياقات‭ ‬التاريخية‭ ‬الخاص‭ ‬بأوربا‭ ‬المسيحية‭ ‬وتطوراتها‭ ‬ومستجداتها‭ ‬اللاحقة‭.‬

 

التحديات‭ ‬الثلاثة‭ ‬أمام‭ ‬نهضة‭ ‬عربية‭ ‬مجددة

في‭ ‬السياق‭ ‬التاريخي‭ ‬المختلف‭ ‬للمجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬المعروف‭ ‬اليوم‭ ‬بشدة‭ ‬اضطرابه‭ ‬وانحطاطه،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬تعثر‭ ‬النهضة‭ ‬الإصلاحية،‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وأجهضت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬توظيف‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬لإلحاق‭ ‬الهزيمة‭ ‬بالاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬احتلاله‭ ‬لأفغانستان،‭ ‬نواجه‭ ‬ثلاثة‭ ‬تحديات‭ ‬كبيرة‭. ‬التحدي‭ ‬الأول‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬وجوب‭ ‬تحديد‭ ‬إشكالية‭ ‬تأسيس‭ ‬الحكم‭ ‬المدني‭ ‬بشكل‭ ‬دائم،‭ ‬وهذا‭ ‬يتطلب‭ ‬استعادة‭ ‬حرية‭ ‬تأويل‭ ‬النص‭ ‬المقدس،‭ ‬وهي‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬أم‭ ‬كل‭ ‬الحريات،‭ ‬ومعركة‭ ‬هائلة‭ ‬تخاض‭ ‬داخل‭ ‬المنطق‭ ‬الديني‭ ‬نفسه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬المساس‭ ‬بإيمان‭ ‬المؤمنين،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المسيحية‭ ‬الأوربية‭. ‬لقد‭ ‬فتح‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬المسلمين‭ ‬الباب‭ ‬لتحرير‭ ‬الفكر‭ ‬والتوفيق‭ ‬بين‭ ‬الإيمان‭ ‬والعقل،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الأولى‭ ‬البراقة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬الحديثة‭ ‬المجهضة،‭ ‬حيث‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬علماء‭ ‬الأزهر‭ ‬أكثر‭ ‬شجاعة‭ ‬من‭ ‬العلمانيين‭ ‬أنفسهم،‭ ‬مثل‭ ‬رفاعة‭ ‬الطهطاوي‭ ‬وأحمد‭ ‬أمين‭ ‬ومحمد‭ ‬عبده‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬وعلي‭ ‬عبدالرازق‭.‬

ويرتبط‭ ‬التحدي‭ ‬الثاني‭ ‬بالمحافظة‭ ‬على‭ ‬التوازن‭ ‬الصحيح‭ ‬بين‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬والتماسك‭ ‬الاجتماعي‭.‬

يشهد‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬اضطراباً‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬درجاته‭ ‬بسبب‭ ‬ارتفاع‭ ‬الظلم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الصارخ‭ ‬وبطالة‭ ‬الشباب‭ ‬وتكدس‭ ‬الثروات‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬بعض‭ ‬العوائل‭ ‬المتميزة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالأوساط‭ ‬الحاكمة‭ ‬عبر‭ ‬شبكة‭ ‬نفوذ‭ ‬كثيفة،‭ ‬وأخيراً‭ ‬بسبب‭ ‬أزمة‭ ‬قضايا‭ ‬الهوية‭ ‬والتوترات‭ ‬العرقية‭ ‬والطائفية‭ ‬والإقليمية،‭ ‬المتنفس‭ ‬لهذه‭ ‬الهواجس‭ ‬الاجتماعية‭ ‬العميقة‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬المضطرب،‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬عاملاً‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬تفتيت‭ ‬النسيج‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ويسارع‭ ‬في‭ ‬تدهوره‭. ‬

من‭ ‬هنا‭ ‬يأتي‭ ‬نجاح‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬الشمولية‭ ‬المدعية‭ ‬الانتساب‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬كحل‭ ‬لجميع‭ ‬المشكلات‭.‬

ينبغي‭ ‬إذن‭ ‬تحقيق‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬حقوق‭ ‬الطوائف‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬العرقية‭ ‬أو‭ ‬الإقليمية‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭ ‬عربي‭ ‬وبين‭ ‬حقوق‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬استقلالية‭ ‬الفكر،‭ ‬حقوق‭ ‬يستلبها‭ ‬ثقل‭ ‬الطوائف‭ ‬والمذاهب‭ ‬الدينية‭ ‬الدائم،‭ ‬وكذلك‭ ‬الوصاية‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬زعماء‭ ‬هذه‭ ‬الطوائف‭ ‬بالتواطؤ‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬المدنية‭. ‬لقد‭ ‬استغل‭ ‬الاستعمار‭ ‬هذا‭ ‬الثقل،‭ ‬بل‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬حدته‭ ‬عندما‭ ‬عزز‭ ‬الحقوق‭ ‬الطائفية‭ ‬ليشل‭ ‬نشوء‭ ‬دول‭ ‬متماسكة‭ ‬وثابتة،‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تقاوم‭ ‬ديمومة‭ ‬الأطماع‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المناطق‭ ‬المرغوب‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لثرواتها‭ ‬الطاغية‭ ‬وموقعها‭ ‬الاستراتيجي‭.‬

أما‭ ‬التحدي‭ ‬الثالث،‭ ‬فهو‭ ‬تحدي‭ ‬الانتفاضات‭ ‬العربية‭ ‬عام‭ ‬2011،‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬أعادت‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬النزاعات‭ ‬الدستورية‭ ‬والأيديولوجية‭ ‬قضايا‭ ‬هوية‭ ‬الدولة‭ ‬وشرعيتها‭. ‬فاحتدم‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬أنصار‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬وأنصار‭ ‬تعزيز‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية‭ ‬للدولة‭ ‬في‭ ‬مصادر‭ ‬قانونها‭ ‬وتنظيمها‭ ‬الدستوري‭.‬

بالتالي،‭ ‬لايزال‭ ‬الطريق‭ ‬طويلاً‭ ‬أمام‭ ‬النضال‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التوصُّل‭ ‬إلى‭ ‬إرساء‭ ‬جوهر‭ ‬الحرية،‭ ‬وليس‭ ‬نماذجها‭ ‬الشكلية‭ ‬الخاصة‭ ‬المتحدرة‭ ‬من‭ ‬السياقات‭ ‬التاريخية‭ ‬الأوربية‭. ‬وسيبقى‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬مسدوداً‭ ‬مادام‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬العربي‭ ‬أسيراً‭ ‬لإشكاليات‭ ‬مستوردة‭ ‬من‭ ‬المسار‭ ‬التاريخي‭ ‬الأوربي،‭ ‬سلباً‭ ‬وإيجاباً‭ .