المسارات العكسية للحرية الدينية في أوربا والعالم العربي
اعتدنا في مجال العلوم الإنسانية اعتبار المجتمعات الإسلامية غير صالحة لاعتماد نظام حكم مدني فيها، كما طورته ومارسته المجتمعات الأوربية. والسبب الذي يُستشهد به في أغلب الأحيان هو التأكيد على أن السياسة والدين، أو بالأحرى الدولة والدين، لا ينفصلان في العقيدة الإسلامية، في حين أن انفصالهما يبدو تلقائياً وطبيعياً في المجتمعات المسيحية. والحقيقة تدل على العكس، نظراً لتميز تاريخ أوربا المسيحية بالصعوبات الهائلة التي أدت إلى انفجار الحروب الدينية المروِّعة بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر، وهي الحروب التي مهدت الطريق بشكل تدريجي إلى بروز الوعي في ضرورة وجوب الفصل بين الكنيسة والدولة، أو على الأقل، تأمين حيادية الدولة في المجال الديني وحيادية المؤسسات الدينية على المستوى السياسي. بينما تاريخ علاقة الدين بالدولة في المجتمعات الإسلامية - كما سنرى في هذا المقال - مختلف تماماً.
إشكالية الدولة والدين لا تُختصر في نموذج واحد
الجدير بالملاحظة أن الأدوات المفاهيمية التي نستخدمها للحديث عن الدين والسياسة أو الدولة والدين في البلاد الإسلامية، هي غير ملائمة على الإطلاق. ذلك أنها تستلهم أكثر من النموذج الخاص المستمَد من التاريخ المضطرب والمعقد للعلاقات بين السلطة الدينية والسلطة المدنية في أوربا، مما تنتمي إلى تاريخ المجتمعات الإسلامية، ذلك أن الاستخدام المباشر والخاطئ في أغلب الأحيان لهذا النموذج في تحليل العلاقة بين السلطة والدين في المجتمعات المسلمة هو من دون فائدة تُذكر. لا، بل أكثر من هذا، فالاستخدام العشوائي لشبكة التحليل الخاصة بالقضايا التاريخية الأوربية المتعلقة بالسلطتين الزمنية والروحية، غالباً ما يوقع التشويش أو الغموض في طبيعة القضايا الحقيقية التي تهز المجتمعات الإسلامية المتسمة بتنوع كبير في أنظمة الحكم (خلافة راشدة، خلافة الأمر الواقع، أنظمة السلطنة والمملكة والإمارة).
باعتقادي، يجب على كل دراسة مقارنة لإشكالية مدنية الحكم في المجتمعات المسيحية والإسلامية أن تتوخى الابتعاد عن القوالب المعدَّة سلفاً، وأن تبحث عن جوهر مثل هذا النظام وليس عن شكل من أشكاله المؤسساتية أو السياسية. فالمبدأ المركزي في إقامة النظام المدني يتمحور حول الحؤول دون استغلال السلطة السياسية للدين، والعكس بالعكس، أي عدم استغلال السلطة السياسية من قبل المراجع الدينية أو المراجع المكلفة بتفسير النصوص الدينية. وغاية هذا المبدأ في الحكم تأمين حرية الإنسان وإطلاق قدراته الخلاقة والمبدعة.
تقتضي هذه الحرية من أجل تحقيقها فصل المؤسسات السياسية عن المؤسسات الدينية، وهذا ما يصعب تنفيذه. في الواقع، إن الرغبة في استغلال السياسة للدين والعكس بالعكس، أي الدين للسياسة، هي دائماً من المغريات الجامحة في إدارة المجتمع. ومع ذلك، فإن الحرية البشرية، حتى تلك التي تنادي بها النصوص المقدسة الكبرى في كل من المسيحية والإسلام، تقتضي هذا الثمن.
وإذ يحتاج الإنسان إلى الشعور بالمقدس وكل أشكال التعبير عن القيم الروحية، فإنه يحتاج أيضاً إلى القدر نفسه من العقل وحرية الاختيار، على عكس ما تصرُّ عليه بعض المذاهب في الديانات التوحيدية الثلاث، حيث إنها تنفي حرية الاختيار بالتعلل بقدرية كل كائن بشري، قدرية تعبر عن الإرادة الإلهية المطلقة التي تقرر مسبقاً مصير كل إنسان ومجرى تاريخ البشرية. وهذا بالتحديد ما تحققه مدنية الحكم الصحيحة، إذ إن جوهرها يقوم على رفض كل استعباد للفكر، وكل فكر عقائدي متزمت أو كل تمييز بين البشر، تبعاً لانتمائهم العرقي أو الديني والمذهبي أو وضعهم الاجتماعي.
لكن مدنية الحكم ليست مطلقة تتم على عقيدة واحدة وقالب مؤسساتي محدد. فهي، مثل كل ظاهرة بشرية، حصيلة تطورات تاريخية معقدة. من هذا المنظور، تختلف التجارب التاريخية للمجتمعات الأوربية المسيحية عن تجارب المجتمعات الإسلامية اختلافاً كلياً، إن لم تكن متعاكسة. لذلك، إن تجاهل معطيات هذا التاريخ المقارن يعني أن نحكم على أنفسنا بعدم فهم إشكالية مدنية الحكم في الوسط التوحيدي المسلم، مع الإشارة إلى أن التوراة تمثل دون أدنى شكل أنموذج التشابك بين الدين والسياسة الذي استولى، بأشكال مختلفة، على الديانتين التوحيديتين الأخريين، المسيحية والإسلامية، اللتين تريان، على طريقتهما الخاصة، أنهما الاكتمال الختامي للمنطق التوحيدي في الدين.
المسيحية الأوربية... من الطابع الإمبراطوري الإقصائي لغير المسيحيين إلى التواضع
جاء تطور المسيحية الأوربية الذي سمح، بعد عملية طويلة وشاقة، بالتوصل إلى فكرة مدنية النظام السياسي، نتيجة لسلسلة من الظروف والمصادفات التاريخية الخاصة بالقارة الأوربية التي لم تحدث في أي مكان آخر. من الجدير بالملاحظة هنا، أن التواضع السياسي كان السمة الرئيسة في بدء انتشار المسيحية في الشرق الأوسط، مهدها، وكذلك في أوربا. مكرسة لعبادة الله المتميزة بحسن الأخلاق، إذ لم يكن للمسيحيين الأوائل طموح سياسي، وإنما السعي فقط إلى حياة مستقيمة ومتواضعة. وكان التقشف ميزة حياة الكهنة والرهبان الذين أشاد بهم القرآن الكريم. ولم تصبح الكنيسة سلطة سياسية إلا في وقت لاحق، انطلاقاً من القرن الرابع، حيث أصبحت تنافس تدريجياً السلطة المدنية أو على الأقل تحاول السيطرة عليها. وهذا ما حصل فعلاً، حيث تمكنت كنيسة روما من فرض عقيدة ضرورة إشرافها ومراقبتها لكل السلطات المدنية.
وهكذا تمكنت كنيسة روما من فرض الوصاية اليومية على حياة الأفراد، من ممارسات وطقوس دينية، وكذلك من الإجراءات الرسمية كحفلات التعميد والزواج أو الجنازة وتحديد أوقات الصلاة اليومية، وضرورة اعتراف المؤمنين بأخطائهم إلى الكهنة، وواجبات حماية الأرامل واليتامى من قبل الكنيسة.
لقد نسينا اليوم الأسباب الموضحة لجبروت الكنيسة الكاثوليكية التي لطالما هيمنت على الفكر والجسد على السواء. أول هذه الأسباب يعود إلى أن تنظيم الكنيسة على نموذج تنظيم الإمبراطورية الرومانية التي ورثتها بعد أن أحدثت القوى البربرية الغازية لأوربا الرومانية انهيار مؤسساتها السياسية والمجتمعية.
وقد وطدت الكنيسة بثبات سلطتها الموحدة، من خلال صراع ضار لا هوادة فيه ضد أتباع الوثنية والعقائد الفلسفية اليونانية، وكذلك أتباع اليهودية وكل مظاهر البدع المسيحية المصدر، بالمقايسة مع العقائد التي وضعت أطرها ومبادئها المجامع الكنسية، التي قد تهدِّد وحدتها ووحدة المجتمعات المسؤولة عنها. ولئن تغاضت تدريجياً عن نشوء سلطات ذات طبيعة مدنية، فإنها كانت تسيطر وتراقب عن كثب كل سلطة غير سلطتها عن طريق بيروقراطية ضخمة مؤلفة من أساقفة وكهنة تستمد سلطتها السياسية - الدينية من رئيس الكنيسة الرومانية. فما من ملك أو إمبراطور أو حاكم أو أمير استطاع في أوربا الإقطاعية أن يدَّعي السلطة على منطقة ما من دون موافقة البابا، رئيس الكنيسة، ومن دون مراقبة دائمة من ممثليه في المناطق، خاصة الأساقفة، الذين كانوا يلعبون دوراً سياسياً بارزاً في نظام مراقبة السلطة المدنية نيابة عن رئيس كنيسة روما. إن حفل التتويج الذي كان يمنحه البابا لكل صاحب سيادة سياسية كان عنصراً ضرورياً في سير كل سلطة مدنية.
لقد استمر هذا الوضع حتى الثورات البروتستانتية المختلفة في القرن السادس عشر، لكنها دامت في البلدان الكاثوليكية لمدة قرون ثلاثة إضافية. ولنذكر هنا أن نابليون بونابرت في بداية القرن التاسع عشر شعر بضرورة أن يتوِّجه البابا إمبراطوراً، في حين أن وجود الكنيسة بقي عاملاً مهماً في الحياة السياسية والاجتماعية في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان طوال القسم الأكبر من القرن العشرين. لنتذكر أن مسألة العلاقات بين الكنيسة والدولة في فرنسا، خاصة في ما يتعلق بالنظام التربوي، يسيرها قانون عام 1905 الشهير، الذي أثار الجدل طوال القرن العشرين.
يفسر بشكل جيد جداً المؤرخ الإنجليزي الكبير، أرنولد توينبي Arnold Toynbee، كيف تحولت أوربا عن مجادلاتها الدينية الفتاكة التي أدت إلى عنف الحروب الدينية، وانكبت على العلوم وتطوير العقل لكي لا تتكرر مأساة انفجار العنف الديني. وخير شاهد على هذه الحركة مؤلفو الموسوعات العلمية في عصر الأنوار، وكذلك فكر مونتسكيو Monstesquieu في فرنسا أو كانت Kant في ألمانيا. لقد حرر هذا الأخير في جهد ملحوظ الأخلاقيات من الدين ليرسم أخلاقيات ذات قواعد عالمية، فردية وجماعية على السواء، تهيئ الظروف لتحقيق السلام العالمي.
وقد تطلب الأمر في أوربا المسيحية ما لا يقل عن خمسة عشر قرناً، منذ ترسيـــم المسيحية ديناً مهيــمناً ينظم الحياة الاجتماعية والسياسية لإرساء فكر الحيادية المدنية للحكم وقبول التعددية الدينية داخل الأمة وتعددية مناهج التأويل وتفــــسير النصوص المقدسة. واقتضى كذلك قـــرناً آخر لوضع هذا الفكــــر قيد التنفيذ في أوربا، بعد أن أُخضـــعــت الطائفة اليهودية مرة أخرى، في القرن العشرين، تحت تأثير النظريات العـــنصرية والاستــــبداد الهتلري المميت، لإبادة جماعية ذات قســــاوة استثنائية.
في الإسلام... السلطة المدنية تحكم السلطة الدينية
إن الاختلافات الجوهرية في بنى السلطة الأوربية المسيحية وبنى الشرق المسلم تفسِّر الاتجاهات العكسية التي اتبعتها المجتمعات المسيحية والإسلامية. إن أول هذه الفروقات لا يكمن فقط في غياب سلطة كنيسة في الإسلام تمارس الرقابة على السلطة المدنية، بل إن الفقهاء وعلماء الدين كانوا دائماً ولايزالون تحت الرقابة الصارمة للسلطة السياسية المدنية. طبعا، يجب على السلطة المدنية أن تسهر على احترام الأعراف والأخلاق الحميدة الإسلامية وإحقاق العدالة وفق القواعد والتعاليم المستمدة من النص المقدس وتفسيراته وكذلك من حياة الرسول وسلوكه (السيرة النبوية). إلا أن السلطة السياسية المطلقة تعطيها إمكانية في رقابة وإرشاد الفقهاء. وهؤلاء ليسوا على الإطلاق منظمين ضمن سلطة ذات هيكلية هرمية صلبة منفصلة ومستقلة عن السلطة المدنية، وإنما حسب مهام خاضعة عن كثب لرقابة السلطة المدنية، الضامن الوحيد للنظام العام واستمرارية السلطة منذ عصر الخلفاء الراشدين. والسلطة المدنية هي التي تعين السلطات الدينية، كالقاضي أو المفتي (الذي يراقب بفتواه التطبيق السليم للمبادئ الأخلاقية والمجتمعية المستمَدة من النص القرآني). وفقاً لذلك، تكون السلطات الدينية تحت السيطرة التامة للسلطات المدنية.
أما في ما يتعلق بالإسلام الشيعي، فالجدير بالملاحظة أن نظام رقابة الفقهاء على النظام السياسي المدني هو حديث العهد يعود إلى الثورة الإيرانية عام 1979، تلك التجربة الفريدة إسلامياً والمحصورة في إيران، وهو نظام لا يحظى بإجماع المراجع الدينية للمذهب الشيعي كما هو معلوم.
بين أوربا والعالم المسلم... انعكاس دورة النهضة - الانحطاط التاريخية
يتعلق الفارق الثاني بين المجتمعات المسيحية والمجتمعات المسلمة بالمسارات المعكوسة لمراحل انحطاط هذه المجتمعات ونهضتها. في الواقع، إن القرون الأولى من عمل السلطة تحت تأثير الدين الإسلامي الجديد، الذي يرى نفسه امتداداً طبيعياً لما سبقه من ديانتين توحيديتين، لافتة للنظر من حيث تحررها في مجال حرية الرأي والمعتقَد وتعدد مذاهب الاجتهاد والتفسير في النص القرآني.
صحيح أنه تم القضاء كلياً على بقايا الوثنية المتركزة في شبه الجزيرة العربية، لكن في الوقت نفسه، تم تعزيز حرية العبادة لليهود والمسيحيين والتأكيد عليها، بل وحتى لأتباع الزرادشتية في بلاد فارس.
وازدهرت كذلك العشرات من مدارس تفسير النص القرآني من دون أن تتعرض لاضطهاد السلطة المدنية المتواصل والممنهج كما في المسيحية الأوربية، وخير شاهد على هذا كتاب محمد بن عبدالكريم الشهرستاني الشهير «الملل والنحل» الذي يصف المذاهب العديدة في تفسير النص القرآني. اختفى في ما بعد مناخ مثل هذه الحرية في الشرق الأوسط المسلم ليولد من جديد في الهند، بلد التعددية بامتياز، أثناء بناء إمبراطورية المغول، وهي سلطنة إسلامية الطابع، حمت القارة الهندية من عام 1526 إلى عام 1857.
في جميع الأحوال، لم يكن في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية - العربية اضطهاد ممنهج للملل والنحل، ولا حكم بالإعدام حرقاً من قبل محاكم تفتيش كما في تاريخ الكنيسة، ولا حكومة دينية أو رقابة عن كثب من الفقهاء على السلطة المدنية. بل إن الفلسفة ازدهرت، مستعيدة الإرث الإغريقي ومطورة له، بوضعها مسألة العلاقة التوفيقية بين الإيمان والعقل على رأس اهتماماتها الأساسية. إن الخلافة العباسية التي تألقت انطلاقاً من بلاد ما بين النهرين في القرن الثامن الميلادي، وكذلك الخلافة الأموية في الأندلس، صارت نموذجاً للتألق الإسلامي في كل الميادين العلمية والفلسفية والفقهية والأدبية، فسبقت بذلك بقرون عدة المسار النهضوي الأوربي، وكانت في الوقت نفسه العصر الذهبي للعلوم، بما فيها علم الفلك والطب وعلم النباتات وعلم تطوير تقنيات ري المزروعات. وهنا في المجتمعات الإسلامية، سبقت النهضة الانحطاط، وهذا اختلاف جوهري مع تاريخ أوربا المسيحية التي بدأت تنتشر وهي ترفض الفلسفة وأنواعاً مختلفة من العلم، على أساس أن العقيدة المسيحية الجديدة والنصوص المقدسة تحتوي على كل ما يحتاج إليه المسيحي في حياته الدنيوية، ولم تقبل كذلك الكنيسة بأي نوع من تعددية الاجتهاد في النصوص المقدسة. وقد دامت هذه الحالة طوال قرون عديدة قبل أن تنفتح تدريجياً وتتحرر المجتمعات المسيحية من هيمنة الكنيسة على كل أوجه الحياة المدنية والدينية، ويتمكن الفكر الأوربي من التجدُّد، ذلك في حين أن الإسلام أثار بعد وقت قصير من ظهوره، تجدداً عظيماً في المجتمعات التي أصبح فيها هذا الدين الجديد سائداً.
ولقد تجلَّت سخرية القدر في حقيقة أن هذا الإرث الحضاري الإسلامي العربي الغني جداً قد أخصب الفكر الأوربي وزرع بذور نهضته، في حين تم في الشرق تطويقه وحصره بصرامة من خلال ما عُرف بـ «إقفال باب الاجتهاد» انطلاقاً من القرن الحادي عشر الميلادي. هذه الحرية الدينية الاستثنائية داخل إطار التوحيدية تقلصت في ما يتعلق بطرق تفسير النص المقدس، وتم الاحتفاظ رسمياً بأربع مدارس فقهية فقط لتوجيه تفسير النص القرآني والشريعة المتفرعة عنه كما طورها الفقهاء، بغية إحقاق العدالة أو إصدار آراء شرعية تخص شؤون الأمة وأفرادها. وانطلاقاً من تلك الفترة، تجمَّد الفكر وتم اعتبار المنطق الفلسفي خطراً يهدِّد الإيمان الديني.
إن إقفال باب الاجتهاد تطابق تاريخياً مع سلسلة من الحوادث التاريخية العظمى والمأساوية، كالحملات الصليبية التي تلتها رأساً غزوات المغول والدمار الشامل الناجم عنها، وما نتج عن ذلك من تخريب للبنى الاجتماعية. ولم تعد مؤسسة الخلافة سوى ظل نفسها، في حين أن الغزاة الجدد، الأتراك السلاجقة والمماليك، حرروا شرق المتوسط من الغزاة السابقين، وفرضوا هذا التوحيد القسري للمبادئ العقيدية الدينية وقضوا بذلك على حرية الاجتهاد وهي أم الحريات، وبالتالي مصدر كل تقدم فكري وعلمي. لذلك نرى أن تأسيس نظام مدنية الحكم في المجتمعات الإسلامية يبدأ بالعودة إلى فتح باب الاجتهاد في النصوص الدينية، ففي الأصل لا سلطة كنسية في الإسلام على خلاف المجتمعات المسيحية. ويشير التاريخ المقارن إلى أن الحضارة العربية - الإسلامية قد تألقت على كل الصعد مادام الاجتهاد سيد الموقف، ودخلت هذه الحضارة في طور السكون والتراجع عند إقفاله.
أما في المجتمعات المسيحية الأوربية، فالعكس قد حصل، إذ بقيت هذه المجتمعات في حالة تراجع وركود حضاري وعلمي بسبب هيمنة الكنيسة، والهيمنة المطلقة على عقود الرعية، إلى زمن ما بعد الحروب الدينية الفتاكة، حيث تراجعت سلطة الكنيسة، وأُبعدت تدريجياً عن مراقبة الحكم المدني، خاصة في ظل عهد صعود نظام الحكم القومي الطابع.
هذه اللمحة التاريخية الموجزة للإشكاليات المقارنة للنظام المدني في أوربا المسيحية وفي العالم الإسلامي تظهر، ليس عدم جدوى التركيز على أشكال معينة من تنظيم السلطة فحسب، وإنما تدل بما لا لبس فيه على ضرورة البحث عن مغزى مفهوم مدنية الحكم كعنصر أساسي من حرية كل إنسان. ولذلك يجب أن تظل الترتيبات المؤسساتية متكيفة بسمات كل مجتمع وبالتاريخ الخاص به. إذ لا فائدة من إلصاق مؤسسات شكلية من دون الولوج إلى أعماق مغزى المدنية. إن المسار التاريخي الأوربي هو بالتأكيد مليء بالعبر، لكن يتعين استخلاص جوهره ومغزاه العميق، وليس شكله، الذي هو نتاج السياقات التاريخية الخاص بأوربا المسيحية وتطوراتها ومستجداتها اللاحقة.
التحديات الثلاثة أمام نهضة عربية مجددة
في السياق التاريخي المختلف للمجتمعات العربية المعروف اليوم بشدة اضطرابه وانحطاطه، خاصة بعد تعثر النهضة الإصلاحية، التي بدأت في القرن التاسع عشر وأجهضت في القرن العشرين، عندما تم توظيف الدين في الحرب الباردة لإلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفييتي في احتلاله لأفغانستان، نواجه ثلاثة تحديات كبيرة. التحدي الأول يتمثل في وجوب تحديد إشكالية تأسيس الحكم المدني بشكل دائم، وهذا يتطلب استعادة حرية تأويل النص المقدس، وهي بحد ذاتها أم كل الحريات، ومعركة هائلة تخاض داخل المنطق الديني نفسه، من دون المساس بإيمان المؤمنين، كما في تاريخ المسيحية الأوربية. لقد فتح عديد من الفقهاء المسلمين الباب لتحرير الفكر والتوفيق بين الإيمان والعقل، سواء في القرون الأولى البراقة أو في عصر النهضة الحديثة المجهضة، حيث غالباً ما كان علماء الأزهر أكثر شجاعة من العلمانيين أنفسهم، مثل رفاعة الطهطاوي وأحمد أمين ومحمد عبده وطه حسين وعلي عبدالرازق.
ويرتبط التحدي الثاني بالمحافظة على التوازن الصحيح بين الحرية الفردية والتماسك الاجتماعي.
يشهد هذا الأخير اضطراباً إلى أقصى درجاته بسبب ارتفاع الظلم الاجتماعي الصارخ وبطالة الشباب وتكدس الثروات في أيدي بعض العوائل المتميزة المرتبطة بالأوساط الحاكمة عبر شبكة نفوذ كثيفة، وأخيراً بسبب أزمة قضايا الهوية والتوترات العرقية والطائفية والإقليمية، المتنفس لهذه الهواجس الاجتماعية العميقة. في هذا السياق المضطرب، قد تبدو الحرية الفردية عاملاً يزيد من تفتيت النسيج الاجتماعي، ويسارع في تدهوره.
من هنا يأتي نجاح الأيديولوجيات الشمولية المدعية الانتساب إلى الإسلام كحل لجميع المشكلات.
ينبغي إذن تحقيق التوازن بين حقوق الطوائف الدينية أو العرقية أو الإقليمية في حضن كل مجتمع عربي وبين حقوق الفرد في استقلالية الفكر، حقوق يستلبها ثقل الطوائف والمذاهب الدينية الدائم، وكذلك الوصاية الأيديولوجية التي يمارسها زعماء هذه الطوائف بالتواطؤ مع السلطة المدنية. لقد استغل الاستعمار هذا الثقل، بل زاد من حدته عندما عزز الحقوق الطائفية ليشل نشوء دول متماسكة وثابتة، من شأنها أن تقاوم ديمومة الأطماع الخارجية في واحدة من أكثر المناطق المرغوب فيها في العالم لثرواتها الطاغية وموقعها الاستراتيجي.
أما التحدي الثالث، فهو تحدي الانتفاضات العربية عام 2011، حيث إنها أعادت إلى قلب النزاعات الدستورية والأيديولوجية قضايا هوية الدولة وشرعيتها. فاحتدم الصراع بين أنصار الدولة المدنية وأنصار تعزيز الهوية الدينية للدولة في مصادر قانونها وتنظيمها الدستوري.
بالتالي، لايزال الطريق طويلاً أمام النضال في العالم العربي من أجل التوصُّل إلى إرساء جوهر الحرية، وليس نماذجها الشكلية الخاصة المتحدرة من السياقات التاريخية الأوربية. وسيبقى هذا الطريق مسدوداً مادام التفكير النقدي العربي أسيراً لإشكاليات مستوردة من المسار التاريخي الأوربي، سلباً وإيجاباً .