دور اللغة العربية في ترسيخ الهويات الوطنية

دور اللغة العربية  في ترسيخ الهويات الوطنية

ارتبط سؤال الهوية بوعي الإنسان بذاته، لكن التفكير الفلسفي المنظم في هذا الموضوع بدأ في اليونان. وقد ذهب الفلاسفة في تحديد هوية الإنسان مذاهب شتى، بين من قال بالعقل والفكر أو بالشعور والإرادة أو باللغة أو بالأخلاق... ويعتبر أرسطو أول من وضع مصطلح الهوية في سياق استنباطاته لأسس المنطق، ومؤداه أن لكل شيء خصائصَ ومميزات ثابتةً تبقى خلال التغيير. 

عاد هذا المفهوم إلى الظهور مع العولمة التي تطورت لتصبح ظاهرة ثلاثية الأبعاد، اقتصادية وسياسية وثقافية، لعل أبرز تجلياتها هيمنة القوى الكبرى على الاقتصاد العالمي، وتهديد الثقافات الأخرى، ودخول العالم مرحلة الانقراض الهوياتي، وتراجع التنوع الثقافي الذي من أهم معالمه انقراض اللغات، ما أدى إلى ارتفاع أصوات منادية بالخصوصيات الثقافية والهويات المحلية مدعومة هذه المرة بالمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الأقليات والشعوب الأصلية.

معنى الهوية
بالعودة إلى بعض المعاجم الغربية، نجد أن لفظة الهويّة (identité) الفرنسية أو (identity) الإنجليزية، تعني ما يدل على الصفات الجوهريّة التي تجعل الشيء في ذاته متميزاً عن غيره، وتعني من جهة أخرى المطابقة، فالهويّة هي السمات الجوهرية التي تميز الفرد عن غيره، ثم السمات التي تشركه مع غيره، وتميزه عن المجموعات الأخرى، وهذا ما يشكل هويته الجماعية. 
أما في اللغة العربية، فيعتبر مصطلح الهويّة بالمعنى الوارد في اللغات الأجنبية مصطلحاً  حديثاً نسبياً، إذ لم نعثر له على أثر في المعاجم القديمة،  بالرغم من تداولية هذا المصطلح في الثقافة العربية، خاصة عند المناطقة والمتكلمين، فقد ذكره ابن رشد في تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة، والجرجاني في التعريفات. ولابن خلدون وقفات دقيقة عند هذا المفهوم، حيث اعتبر أن مميزات الهوية هي أنها تاريخية ثقافية أكثر منها طبيعية، كما اعتبر التحول أصيلاً فيها، ويؤكد أن هذا التحول يغنيها ولا يلغيها.
وبناء على فهم ابن خلدون، يجب أن نفرق في الهويّة بين جانب طبعي، يدخل فيه الجنس والصفات الفيسيولوجية الأخرى، وبين جانب كَسْبي، تدخل فيه الأعراف والتقاليد واللغة والدين، أي كل ما يتعلمه الإنسان من الآخرين إما بالمحاكاة أو بالتلقين، والملاحظ أن الجوانبَ المكتسبة للهويّة تشكل مجالاً واسعاً للتغير والتبدل، وإن كان بعضها أشدَ ثباتاً من بعض.  فالتقاليد والأعراف والعادات تتطور بسرعة، وهو ما يشهد عليه واقع الحال في كثير من مظاهر ثقافتنا العربية الحالية، خاصة في تقاليدها وأعرافها ولباسها وفنونها وعاداتها الغذائية وعلاقاتها الاجتماعية، بينما يصعب على المجتمع الانتقال من لغة إلى أخرى بالسلاسة والسرعة نفسها، كما لاحظ ذلك بنيامين وولف. ويصبح الأمر أصعبَ عندما يتعلق الأمر بنسق المعتقدات الدينية الذي يشكل عصب الهويّة وسقفَها الذي لا يمكن تجاوزه إلا في حالات نادرة، لارتباط الدين عادة بعمق الإنسان ووجدانه ووجوده ومصيره.

كيف تسهم اللغة في بناء الهوية الفردية والجماعية؟
تسهم اللغة بعمق في تشكيل الهوية الفردية، وهي ما تعكسه عبارات سائرة من قبيل: «تكلّم لأعرفك» و«الإنسان مخبوء تحت لسانه»، ويرتبط الإنجاز الفردي للغة (الكلام) بالهويّة الفرديّة التي تجعل الناس يتميزون بطريقتهم في الكلام، ويصل المبدعون إلى طرق أكثر خصوصية في استعمالاتهم اللغوية، وهو ما يؤكّد النزعة التحرّرية التي تدفع الإنسان في محاولة دائمة إلى إثبات الذات مع احترام مبدأ التعاون، حسب بول كرايس، بل يذهب علماء النفس إلى أن مفهوم الأنا، باعتباره نواة الهويّة الفرديّة، لا يتحقق إلا باكتساب المتعلم أنساقاً لغوية من قبيل ضمير المتكلم «أنا» وضمير المخاطب «أنتَ/أنتِ» وضمير الغائب «هو/هي»، بالإضافة إلى ما سبق، فإن دور اللغة الحاسم يكمن في رسم معالم الهويّة الفردية من خلال تحديد الأدوار الاجتماعيّة لكل فرد من أفراد الأسرة، فتمثّل الطفل لكلمة «ولد» يجعله يحس باختلافه عن الشخص الذي يحمل كلمة «بنت»، كما يختلف عن الشخص الذي يحمل كلمة «أب»... بل إنّ اللغة نفسها توزّع عبارات وأساليب مختلفة على كلّ فرد من أفراد الأسرة، (مثلاً عبارة «الله يرضى عليك» تظل حكراً على الأب والأم. لهذا نضحك عندما يستعملها الصغار  لما فيه من خرق للمواضعات الاجتماعية). وقد لا نبالغ إذا قلنا مع فلاسفة اللغة العادية إن اللغة تمنح الإنسان فرصة إثبات ذاته من خلال القدرة على تحقيق أفعال لغوية، وهي جمل تعطي المتلفظ بها وضعية مميّزة  داخل مقام التلفّظ وتحدد علاقاته مع المخاطبين.
ومن بين المكونات اللغوية التي تسهم في خلق الهويّة الفرديّة والإحساس بالتميز، أسماء الأعلام، وبما أنه لا يحصل أن يشترك أخوان في الاسم نفسه، فإن بداية إحساس الطفل بذاته، وتميزه عن غيره،  تنشأ بعد تلبس اسم العلم  بشخصه دون سواه. 
أما الهويّة الجماعيّة فيقصد بها مجموع الروابط التي تجمع أعضاء مجموعات مهنيّة أو طبقات اجتماعيّة أو مجموعات دينيّة أو إثنيّة أو عمريّة أو وطنية... إلخ، وتُبنى هذه الهويّة على حركة مزدوجة من التّضمين والاستثناء لأعضائها. وتشكّل اللغة جزءاً مهماً من الهويّة، وتتميز عن باقي الأنساق الثّقافية الأخرى بأمرين هما: السبق والتأويل، فالظاهر أن أول ما يسمعه الطفل الناشئ هو الضجيج الصادر حوله، الذي سيتحوّل لاحقاً إلى أصوات ذات دلالة، أمّا التّأويل فنقصد به أنّ كثيراً من المظاهر الثّقافية الأخرى تؤول في النّهاية إلى عبارات لغوية من قبيل الآداب والحِكم والأمثال والأغاني والأهازيج. 
واللغة أخطر رابطة تاريخية تربط بين الأجيال المختلفة من الشعب الواحد، ذلك لأن اللغة وعاء التجارب الشّعبية والعادات والتقاليد والعقائد التي تتوارثها الأجيال، فماذا بقي لنا من أجدادنا غير الذي دونوه في أسفارهم  وحفظوه في أمثالهم وأشعارهم؟! وإذا نظرنا إلى اللسان في آنيته وتزامنه ظهرت لنا غير خصيصة «الوصل التاريخي»، خصيصة أخرى  هي «الوصل التزامني». ويترتب على هذا الوصل الأخير تشكل ملامح الهويّة في جانبها الجمعيّ التضامنيّ المضمر. فالطفل، كما يقول المرحوم عبدالحميد بن باديس، إذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره ومستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ومنازعه، شعر نحوهم من الحبّ بمثل ما كان يشعر به تجاه 
أهل بيته في طفولته، وهؤلاء هم أهل الوطن الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنيّة.
إن اللسان في مبدئه ومنتهاه قواعد تواضع عليها القوم لمنفعة دنيويّة أو أخرويّة، وهذا التعاقد الضمنيّ ينسج خيوطاً روحيّة هي لحمة التعاطف والمحبة والحنو والعصبية بين المجموعات، بل يتعدى ذلك إلى خلق مجموعات هويّاتية داخل هويّات أكبر، وهو ما أكّدته أبحاث سوسيولسانية عدّة عن الاختلافات اللّغويّة بين الطّبقات الاجتماعيّة (ليبوف في أمريكا، وبازيل برنشطاين في بريطانيا)، بالإضافة إلى الاختلافات اللغوية المبنيّة على أسس جغرافيّة أو جنسيّة أو فئويّة أو عمريّة أو إثنية أو طائفية مثل دراسة «روبين فريدمان» حول لغة الشباب، ودراسة «جون جوزيف» حول المجموعات الدينية في لبنان.
تسهم اللغة في خلق الهوية الجماعية أيضاً بسبب طبيعة الاختلاف بين اللغات (التحديد بالسلب)، فيشعر كل فرد في هذه الجماعة بأنه يتكلم لغة تختلف عن لغة الجماعة المجاورة، ولهذا فإن للغة وجوداً حقيقياً في الإحساس المشترك بين هؤلاء الذين يتكلمونها.
وقد ذهبت الدّلاليات والتّداوليات الحديثة أبعد من ذلك، إذ أكّدت أن بناء معنى الملفوظ وتأويله هو عملية يتفاوض بشأنها كل أطراف الحوار، يقول طه عبدالرحمن: «فما تكلم أحد إلا وأشرك معه المخاطب في إنشاء كلامه، كما لو كان يسمع بأذن غيره، وكان الغير ينطق بلسانه». وهذه العملية التفاعلية المعقدة تنسج روابط معنوية ترسخ هذه الهوية الجماعية.

 كيف تسهم اللغة العربية في بناء الهوية الوطنية؟
كانت اللغة ولاتزال مكوناً أساسياً من مكونات الهوية، فلا يمكن فهم صعود اللهجات المحلية المتفرعة من اللاتينية في أوربا إلا بصعود الفكر القومي، كما يمكنها أن تقوم بأدوار سياسية خطيرة كتقوية الجبهة الداخلية أو خلق الصراعات السياسية. 
وتسهم اللغة العربية في تكوين هوية خاصة لاعتبارات، منها أنها هي نفسها تقدِّم  تصوراً للعالم هذه بعض معالمه:
- تقدم العربية تقطيعاً خاصاً للفضاء الزمني والمكاني نتيجة الطبيعة الجغرافية للمنطقة العربية (أسماء الإشارة إلى المكان وأقسام الليل والنهار).
- تقدم تقطيعاً خاصاً للأشخاص (المفرد والمثنى والجمع).
- تقدم نظرة خاصة للأشياء، فهي إما مذكرة أو مؤنثة.
- تعكس علاقة العربي بالآخر، إذ يتم الانتقال من الذات إلى الآخر وهو ما تعكسه بنية الضمائر (حيث تضاف تاء المخاطب إلى ضمير المتكلم أنا - أنت).
- تعكس بنيتها الاقتصادية الطبيعة الصحراوية الشاقة التي عاش فيها العربي (قلة الماء والطعام).
- تعكس النزوع الفطري للإنسان العربي، وهو ما يظهر في معجم العاطفة.
إن الدين يشكل سقف الهوية، وإذا ثبت ذلك عرفنا أهمية اللغة العربية في بناء الهوية  الوطنية للدول العربية، إذ لا تكاد تنفصل عن دينها، فقد حرم الفقهاء التعبد بغير النص العربي (لا يجوز استعمال غير اللغة العربية في إعلان الشهادة والصلاة)، بل ميَّز الفقهاء في قراءة القرآن بين ثواب التدبر وثواب القراءة، فقالوا إن لقارئ القرآن باللغة الأجنبية ثواب التدبر فقط، لا ثواب القراءة، وذهب  الإمام ابن تيمية - رحمه الله - إلى كراهة استعمال غير العربية في كل شؤون الحياة، وهم محقون في ذلك، لأن الترجمة إلى لغة أخرى بإجماع المشتغلين بهذا المجال تعد خيانة للنص، سواء أكانت خيانة اختيارية أم خيانة اضطرارية، خاصة أننا نتعامل من نص وصفه منزِّله بأنه «قول ثقيل»، وثقله راجع إلى خصائص، منها: مصدره، وشموليته، وعالميته، فكيف يمكن نقل النص الثقيل إلى نص خفيف من دون المس بأصله المعجز؟ 
تشكل اللغة العربية رمزاً للهوية العربية في امتدادها التاريخي بسبب طابعها الكتابي الذي استطاع أن يخلِّد مئات الآلاف من الأعمال والآثار المحفوظة، فتزداد حميميتنا بأجدادنا كلما أفصحت الكتب عن طريقة تفكيرهم ومشاعرهم وعظيم إنجازاتهم.
ما يميز اللغة العربية هو أنها تسهم في خلق هوية شاملة، فإذا كانت هوية بعض الثقافات هوية جزئية ترتبط ببعض المظاهر الثقافية كالغناء واللباس والطعام والشعر والقصص، فإن العربية تخاطب ذاكرة العربي ووجدانه وعقله وروحه ومخيلته.  
تقوم اللغة العربية بدور الهوية الجامعة، إذ إنها تنفي الخصوصيات الجهوية والعرقية لنبوّها عن التواصل اليومي، واكتفائها بالمستوى الرفيع الذي تتطلبه مقامات ذات طابع رسمي كالإعلام والتعليم والإدارة... من دون انفصالها التام عن لهجاتها، بحيث إذا  سألنا المغربي أو الكويتي أو المصري في أي منطقة لهجية عن اللغة التي يتحدث بها، فإنه لن يتردد في القول إنه يتحدث اللغة العربية، إحساساً منه بهذا المثل اللغوي الأعلى، وبهذا الاعتبار يحس بالمشترك بينه وبين عدد كبير من أبناء وطنه وأمته.
تقوم المدرسة أيضاً بدور حاسم في خلق الشعور بالوحدة، إذ يحس كل أبناء الوطن أنهم يدرسون المقررات نفسها ويتعاملون مع النصوص نفسها، وقد يتفاعلون بدرجة متشابهة مع نص ما إيجاباً أو سلباً، فيخلق ذلك فيهم رابطة روحية عالية، ولا شك في أن اللغة العربية تقوم بدور كبير في هذا المجال، لاسيما إذا عرفنا أن أغلب المواد ذات البعد الثقافي  كاللغة والدين والتاريخ تدرس بهذه اللغة. 
يسهم العمق التاريخي والجغرافي للعربية في خلق إحساس كل مواطن عربي بوحدة  الانتماء إلى ثقافة كبرى هي الثقافة العربية الإسلامية، والدليل هو تعاطف المغاربة مثلاً مع كل القضايا العربية (مسيرات وفعاليات التضامن).
إن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة القادرة على ضمان الحظوظ الاجتماعية لجميع العرب بسبب قربها من الدوارج واللهجات التي يُعدُّ تعلمها استبطاناً لجزء كبير من البنية اللغوية للعربية الفصحى، مما سيقطع الطريق على أولئك الذين لا يتدرجون في سلم الارتقاء الاجتماعي على أساس الكفاءة المهنية، بل على أساس التنشئة الاجتماعية الطبقية التي تحضر فيها اللغة الأجنبية بشكل ملحوظ .