العرب في أمريكا... موجات الهجرة وإشكالية الاندماج والانفصال

تعد الجالية العربية -الأمريكية إحدى الأقليات ذات التاريخ الطويل في أمريكا، التي ظلت خافتة الصوت لوقت طويل، ثم بدأ هذا الصوت يرتفع أخيراً، معبراً عن ذاته ومشكلاته في أنشطة أدبية مختلفة، قصة وشعراً ودراسات أدبية ذات طابع خاص.
الأقلية العربية هي إحدى الأقليات التي أحرزت نجاحاً في الولايات المتحدة الأمريكية أخيراً. ووفقاً للتقرير الصادر عن مكتب الولايات المتحدة لإحصاء السكان عام 2000 فإن عدد أفراد الجالية العربية حوالي 850 ألف نسمة تقريباً من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة، البالغ 281٫4 مليون نسمة حينذاك. ومن الصعب تعريف الهوية العربية-الأمريكية بشكل دقيق، وذلك لأسباب عديدة. أولاً: تجب ملاحظة أن الهوية العربية-الأمريكية هوية «عرقية شاملة»، حيث إن أعضاء الأقلية العربية-الأمريكية ينتمون إلى خلفيات جغرافية ودينية واجتماعية وسياسية متنوعة. ويعبر ستيفين ساليتا - أستاذ الآداب الأمريكية العرقية - عن صعوبة تحديد من هم «العرب-الأمريكيين» على وجه الدقة، ويتساءل قائلاً: هل من الضروري أن يتحدث الشخص «العربية»؟ هل من الضروري أن يكون العربي- الأمريكي مسلماً؟ هل من الممكن أن تكون أو يكون يهودياً على سبيل المثال؟ هل يجب تصنيف المواطنين غير الأمريكيين من أصل عربي كعرب أم كعرب - أمريكيين؟. حتى أن مصطلح «عربي-أمريكي» نفسه يتضمن بعض التناقض، فكلا اللفظين «عربي» و«أمريكي» يستبعد «الآخر»، أي إنه يعكس تناقضاً داخلياً. ويترتب على هذا التناقض بعض النتائج، منها أن المواطن الأمريكي من أصل عربي يعاني تهميشاً مزدوجاً، حيث يراوده الإحساس بأنه ليس جزءاً من الثقافة «الأمريكية» أو الثقافة «العربية» بشكل كامل.
ومن الموضوعات الأخرى المطروحة في هذا السياق: إلى أي مدى استطاع العرب-الأمريكيون الاندماج في الثقافة الجديدة، فقد تم استيعاب الأجيال اللاحقة من المغتربين في الحضارة الجديدة بواسطة أشكال متنوعة من التواصل الاجتماعي، وتم هذا تدريجياً وبشكل تلقائي في المراحل التعليمية المختلفة والوظائف والألعاب والخدمة العسكرية. ورغم المحاولات الواعية واللاواعية من الأجيال اللاحقة للعرب-الأمريكيين لاستيعاب الثقافة الجديدة، فإنه كانت هناك دائماً محاولات مماثلة لإعادة تاريخ الأجداد وثقافتهم من خلال الاحتفاظ بارتباط «عاطفي» أو «عملي» مع «العالم القديم».
موجات الهجرة
يحدِّد المؤرخون ثلاثة أجيال مختلفة من العرب- الأمريكيين، وهي: الهجرة الأولى، وهجرة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهجرة ما بعد حرب 1967. وهناك ثلاثة أجيال من المهاجرين العرب يرتبط كل منها بالفترات التاريخية الثلاث، أولها: «جيل الرواد»، الذي بدأ الهجرة إلى الولايات المتحدة من أواخر القرن التاسع عشر حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ يليهم «جيل الانتقاليين»، وهم الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة، بدءاً من بعد الحرب العالمية الثانية وحتى حوالي عام 1967؛ ثم «جيل المستقلين»، الذين هاجروا بدءاً من حوالي عام 1968 وحتى وقتنا الحالي:
الهجرة الأولى: جيل الرواد
بدأت هجرة العرب إلى الولايات المتحدة نحو منتصف القرن التاسع عشر، وبدأت أعدادهم في التزايد مع بداية القرن العشرين؛ في السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى. جاء معظم أوائل المهاجرين العرب من بلاد الشام (وهو ما يضم الآن لبنان وسورية وفلسطين والأردن). وكانت في ذلك الوقت مقاطعة تابعة للإمبراطورية العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، واستقر هؤلاء المهاجرون في مدن وبلدان الشمال الشرقي الأمريكي والغرب الأوسط في ولايات مثل نيويورك، وماساتشوستس، وبنسلفانيا، وميتشجن، وأوهايو. وعمل العديد منهم في بيع البضائع والأشياء غير المألوفة للمجتمع الأمريكي آنذاك؛ وعمل البعض الآخر بمصانع النسيج في «نيو إنجلاند» ومنطقة الغرب الأوسط الصناعية، واتجه آخرون للعمل بالزراعة في الجنوب والغرب الأوسط.
كان هؤلاء المهاجرون من الشباب الذكور غير المتزوجين قليلي الخبرة ومحدودي الدخل، وغالبيتهم على قدر ضئيل من التعليم. واهتموا بالعمل الجاد والتوفير، فنشأت الأجيال اللاحقة على احترام أخلاق الآباء والجدود المتوارثة واتباع خطاهم في التكيف التدريجي مع ثقافة العالم الجديد. ومن الملاحظ أن هؤلاء «المغتربين» قد خلقوا لأنفسهم عالماً خاصاً داخل حدود الأسرة والعائلة والقرية، خاصة أنهم قد اعتقدوا حينها أن إقامتهم في أمريكا سوف تكون مؤقتة. بالبحث عن أسباب مجيء العرب أولاً إلى أمريكا، يشير بهاء أبولبن، أستاذ علم الاجتماع بجامعة ألبرتا، أن أول موجة من المهاجرين جاءت إلى أمريكا بحثاً عن حياة أفضل عن موطنهم «سورية»! ولهذا السبب كان يطلق عليهم اسم «الزوار المؤقتين». لكن هؤلاء الزوار المؤقتين بدأوا تدريجياً في إدراك أن عودتهم إلى وطنهم أضحت احتمالاً بعيداً وأن أمريكا قد أصبحت وطنهم الجديد, ومن ثم بدأوا في تغيير حِرفتهم من كونهم باعة جائلين إلى حرَف أكثر استقراراً واستمرارية وأكثر ربحاً مثل امتلاك المتاجر والعمل بالمصانع الكبرى.
هجرة ما بعد الحرب العالمية الثانية:
الجيل الانتقالي
بدأت الموجة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أدى التراخي النسبي في سياسات الهجرة الأمريكية والكندية بعد الحرب إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات الهجرة، تضمنت أعداداً كبيرة نسبياً من الذكور المتعلمين والطلبة والمهنيين من متحدثي الإنجليزية (فلسطينيين ومصريين وعراقيين وسوريين) ممن وجدوا دافعاً قوياً للسفر إلى الولايات المتحدة. وغالباً ما احتوت هذه الموجة من المهاجرين على أفراد من عائلات الطبقة العليا الثرية من قاطني المدينة. وتأقلمت هذه المجموعة مع نسق الحياة في «العالم الجديد» بشكل أسرع من المجموعة الأولى. فقد انضموا إلى نظام التعليم الأمريكي واتجهوا بعد ذلك إلى المناطق الحضرية، حيث اندمجوا في سوق العمل الأمريكية بسهولة. وقامت هذه الموجة الجديدة من المهاجرين بالخروج التدريجي من محيط الجالية العربية-الأمريكية الاجتماعي والاقتصادي والديني. وبينما كان المسيحيون يشكلون 90 في المائة من مهاجري المجموعة الأولى، إلا أن هذه الموجة الثانية ضمت أغلبية من المسلمين. وبينما كانت غالبية المهاجرين الأوائل من غير المتعلمين، إلا أن الفئة الثانية كانت ذات حظ زافر من التعليم، وما أتت إلى أمريكا إلا طمعاً في الحياة الرغدة، وسعياً وراء الحلم الأمريكي وما يعد به من رفاهية وديمقراطية وحرية دينية وفرص عمل. ساعد هذا في ازدهار المجتمع العربي في منطقة كاليفورنيا على وجه الخصوص، التي مازالت تحوي أكبر تجمعات من العرب في أمريكا الشمالية. وقرر آخرون، مثل العمال، الاتجاه إلى المراكز الصناعية، مثل ميتشجن وديربون، التي تضم ثاني أكبر عدد من السكان العرب في الولايات المتحدة.
هجرة ما بعد حرب 1967: جيل المستقلين
تعد حرب يونيو 1967 بين العرب وإسرائيل نقطة تحوُّل في تاريخ العالم العربي في العديد من النواحي. أما بالنسبة إلى تأثيرها على ديموغرافيا العرب-الأمريكيين، فقد سافرت أعداد كبيرة من الفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة من قبل إسرائيل إلى أمريكا في الفترة من أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. فقد سافر أكثر من 75 في المائة من هذه الموجة من المهاجرين إلى الولايات المتحدة بعد عام 1967، وحاول آلاف العرب الهروب من الحروب والقتال التي اجتاحت أوطانهم. ويعتبر قانون الهجرة لعام 1965، الذي أنهى نظام الحصة النسبية الذي يحدد عدد الذين يستطيعون السفر إلى أمريكا من الأراضي العربية، أحد الأسباب وراء هذا التدفق الهائل من المهاجرين، لكون الشباب العاملين، والطلبة، والأسر الصغيرة المحافظة المتدينة هم غالبية المهاجرين العرب المسلمين من جيل ما بعد حرب 1967. وبشكل عام، فإن هؤلاء المهاجرين كانوا حريصين على تمييز المجتمع العربي-الأمريكي عن المجتمع الأمريكي ككل. فقد حاولوا إحياء تاريخهم العربي والتركيز بشكل أوسع على هويَّتهم العربية الدينية-العرقية. ويعتقد بعض المؤرخين أن هذه الموجة الثالثة من المهاجرين تأثرت بالصعود المتزايد للدول المنتجة للنفط، وما صاحب ذلك من تأكيد على الهوية الإسلامية.
الأدب العربي - الأمريكي المعاصر
كتب جيل الرواد التراجم والسير الذاتية، لكن لم يظهر في هذه الأعمال مهارة فنية كبيرة حيث إن الغرض الرئيس منها كان تسجيل التاريخ والخبرات الشخصية للمهاجرين. وكما هو متوقع كانت معظم هذه المذكرات البسيطة مدونًّة باللغة العربية وليس باللغة الإنجليزية.
ويرجع تاريخ بداية وجود كيان متماسك للأدب العربي-الأمريكي إلى السنوات الأولى من القرن العشرين. بدأ ذلك في العشرينيات برابطة القلم الشهيرة، وعُرفت هذه المنظمة بالمهجر أو «بشعراء المهجر»، ويعتبر كلٌّ من جبران خليل جبران (1883-1931)، وميخائيل نعيمة (1889- 1988)، وإيليا أبو ماضي (1889-1957) من الشخصيات المؤثرة في هذه الرابطة.
ويعتبر الأدب العربي-الأمريكي واحداً من آداب الأقليات المزدهرة حالياً بالولايات المتحدة. فقد كان هناك إحياء له بعد فترة طويلة من الانقطاع خلال النصف الثاني من القرن العشرين وعلى وجه الخصوص في السبعينيات، حيث بدأت جماعة من الكُتاّب ذوي الموهبة في إنتاج أدب مميز، ما ساعد على إعادة ظهور أدبهم على ساحة الأدب الأمريكي. وقد عززت جهود هؤلاء الأدباء بإنشاء بعض المنظمات الأدبية العربية-الأمريكية، مثل «راوي» (1994)، والمجلات مثل الجديد (1995)، ومزنا (1998). و«راوي» هي اختصار لـ «Radius of Arabs-American writers Incorporated» وهي منظمة تعنى بالأدباء وبالإنتاج الأدبي للأدباء الأمريكيين من أصل عربي. وتذكر الشاعرة والناقدة الفلسطينية-الأمريكية ليزا سهير مجاج أربعة أحداث تاريخية ساعدت في تمهيد الطريق لـ«الراوي». أولاً: حركة الحقوق المدنية في الستينيات. ثانياً: الوعي الثقافي الذي تميز به الجيل الثاني من العرب-الأمريكيين الذين اتخذوا من الأدب وسيلة للتعبير عن ذاتيتهم وانتماءاتهم العرقية. ثالثاً: وصول جيل جديد من المهاجرين العرب إلى مستوى عال من التعليم إلى الولايات المتحدة. رابعاً: استمرار الأزمة السياسية في الشرق الأوسط لسنوات طويلة. كما أن نشر الصحف مثل «الجديد» والكتب النقدية مثل «أوراق العنب: قرن من الشعر العربي-الأمريكي» (1988)، و«ما بعد جبران: أنثولوجيا الكتابة العربية-الأمريكية الجديدة» (1999)، ساعد الكُتاب العرب-الأمريكيين في إدراك أنهم بالفعل قد كوّنوا مجتمعاً خاصاً بهم وأن إنتاجهم الأدبي جدير بالقراءة والتحليل.
وما يطلق عليه الشعر العربي-الأمريكي المعاصر هو ذلك الشعر الذي أنتجه جيل ما بعد حرب 1967، وبوصفه نتاجاً لثقافتين مختلفتين، استفاد هذا الجيل من أصله العربي وتجربة الهجرة إلى الولايات المتحدة. إذ تعكس كتابات هؤلاء الأدباء والشعراء تنوع وثراء وخصوصية لا تقتصر على تجربتهم، سواء العرب أو الأمريكيين. بمعنى آخر، يكشف الشعر المعاصر عن هوية مركَّبة شكلت من خلال اتساع حدود كلٍّ من الجانبين العربي والأمريكي لدى هؤلاء الشعراء. واتساع الحدود هنا لا يستتبعه التنصُّل من الهوية، الأمر الذي يدعي البعض أنه ربما أصبح حتمياً في عصر العولمة. ولكنه بدلاً من ذلك يستلزم تقديراً للخصوصية الثقافية والعبر- ثقافية. ويرى بعض النقاد أن التعددية الثقافية والتنوع الثقافي كما تروج لهما العولمة خطران يحدقان بالثقافة المحلية. بينما يعتبر آخرون التعددية الثقافية وسيلة فعالة لتعزيز السلام والتفاهم بين الأمم. وتذهب ليزا سهير مجاج إلى أننا «لا نحتاج إلى حدود أقــــوى أو أكثر تعريفاً للهوية، ولكن نحتاج بالأحرى إلى توسيع أو تمديد هذه الحدود, فحين نعمل على توسيع وتعميق فَهمنا للعرقية، فنحن لا نهجر عروبتنا، ولكن نُفسح مجالاً أكبر لتجربتنا المركبة».
سمات أدبية
ويذهب بعض النقاد إلى أنه بسبب خصوصية التجربة الأدبية، فإنه من الممكن أن يتم تفسيره وتقديره على أفضل وجه في سياق التجربة العربية-الأمريكية. ولقد حددت إلماظ أبي نادر- الكاتبة والناقدة والفنانة المسرحية العربية الأمريكية - ثلاث سمات رئيسية تميز الأدب العربي-الأمريكي المعاصر. فهو أولاً يعبر عن مجموعة من الكُتّاب الذين ينتمون إلى مختلف الدول العربية. وثانياً: لا تقتصر الموضوعات التي يتناولها الشعراء الأمريكيون من أصل عربي في أعمالهم على قضايا الثقافة والهوية فقط، ولكنها موضوعات متنوعة وذات مغزى إنساني عام. ثالثاً: هناك تزايد ملحوظ في أصوات النساء ممّن يَمِلنَ إلى وجود خطاب نسائي مستقل. ويرى نقاد آخرون أنه لا يمكن تحليل الأدب العربي-الأمريكي بمعزل عن الأدب الأمريكي ككل. ويقول الشاعر والناقد العربي- الأمريكي جريجوري أورفاليا إنه ليس من الملائم حصر هذا الإنتاج الأدبي للكتاب الأمريكيين من أصل عربي في خلفيتهم العرقية، فهم يكتبون شعراً «أمريكياً» من ناحية الموضوع والأسلوب. ولهذا يشير أورفاليا في «لف أوراق العنب» (1982) إلى تنوع الموضوعات الذي يميز أعمال بعض الشعراء العرب-الأمريكيين المعاصرين مثل صموئيل هيزو، وسام هامود، وناعومي شهاب ناي، وإلماظ أبي نادر، وجوزيف عواد.
أما في ما يخص التقنية التي يستخدمها هؤلاء الشعراء في أعمالهم، فإنه من الصعب أن نضع أيدينا على ما تعلمه الشعراء العرب-الأمريكيون من جدودهم العرب، وخاصة تقنية علم العروض العربي القديم. فهؤلاء الشعراء يكتبون الشعر الحر مثلهم في ذلك مثل بقية الشعراء الأمريكيين. إلا أنه يمكننا في بعض الأحيان أن نرصد في الشعر العربي-الأمريكي أثر بعض خصائص الشعر العربي الكلاسيكي مثل الطباق، والجناس، والقافية الداخلية.
وعلى الرغم من أن الأدب العربي- الأمريكي المعاصر ذو سمات مميزة، فإنه من الممكن أن ينظر إليه أيضا على أنه أدب أمريكي صرف به كثير من خصائص أدب الأقليات بوجه عام. ويبدو أن الكتّاب العرب-الأمريكيين المعاصرين، وربما بعكس جدودهم من مهاجري الجيل الأول والثاني قد أدركوا ضرورة الاندماج في المجتمع الأمريكي وإثبات رسوخ موهبتهم الثقافية والأدبية، بغضّ النظر عن انتماءاتهم العرقية .