بروق الغيب الشاعر سابقاً الفيلسوف
في بيتين من الشعر، يقول شاعر الصوفية وشيخها الأكبر ابن عربي (محمد بن علي الملقب بمحيي الدين) (560-638هـ)، إنه يتبع خط البرق كيفما دار، وليس اتجاهات الأماكن. وخطّ البرق هو خطّ الكشف، وخطّ الغيب معاً، والأرجح أنه البوصلة التي يوجّه بها الرحّالة البلنسي الأندلسي الكبير وجهه نحو الله.
رأى البرق شرقياً فحنّ إلى الشرقِ
ولو كان غربياً لحنَّ إلى الغربِ
فإنّ غرامي بالبريق ولمحِهِ
وليس غرامي بالأماكنِ والقربِ
لم يكن للعرب ما يميّزهم على امتداد تاريخهم الطويل، سوى الشعر والقرآن الكريم، وهما لأوّل وهلة، كانا على أشدّ اختلاف، وذلك قبل أن يلتفت المتصوّفة المسلمون إلى ما في القرآن الكريم من إعجاز، وإلى القصص القرآني الخصب في رموزه وأبعاده، ليصنعوا منها مادة أشعارهم الرامزة وشطحهم الملغز. وهي نقطة لقاء أو تقاطع كان لابد لها أن تحصل من الأساس. فالشعر جرح من أقدم جـروحِ الغيب، ونحن لا نستطيع أن نغامر ونحدّد له عمراً، كما فعل الفلكيون بالنسبة للأرض والكواكب والمجرّات، ولكننا نستطيع أن نلاحظ من خلال أشعار بعض القبائل البدائية، التي لاتزال كذلك حتى اليوم، في غابات الأمازون وبعض الغابات الإفريقية، وفي أماكن أخرى، مثل قبيلة االماوريب في نيوزيلندا اأنّ أغانيهم، وهي أشعار شفاهيّة مغنّاة، تصاحبها طقوس في الرقص والسحر، بل إن كلامهم موقّع وملحّن وخيالي إلى درجة لا نقيم له مشاركة إلاّ مع الشعرب.
رأى الإخباريون العرب أنّ اآدمب كان أوّل من قال الشعر، ونحن لا نحمل ذلك على محمل الحقائق التاريخية، ولكن نحمله على محمل الدلالة، وهو أنّ الشاعر الأوّل هو الإنسان الأول، وأنه حاول أن يجابه تحديات الوجود له، ويكشف عن مغاليق المجهول بوسائل شتّى، من بينها الآلة، والإشارات والأصوات (اللغة)، والفنون... ولا يمنع ذلك من أن يكون الفيلسوف الأوّل أيضاً هو الإنسان الأول، كذلك العالِم الأوّل، ونضيف العاشق الأول، والقاتل الأوّل... إلخ، لكن، حين نضع حدوداً قاطعة بين فعاليات بشريّة متنوعة، في مجابهة المجهول والانخراط في الوجود، فإننا نبالغ أو نجافي الواقع، ففي كل عمل يمكن أن تكمن نواة من عمل آخر. ففي كل أغنية شعريّة بذرة خفيّة من التأمّل، وفي كل تأمّل بذرة خفيّة من النشوة، وفي كل آلة مسحة من التأمّل والنشوة، وإلاّ فما معنى أن يكون شكل المنجل دائرياً كنصف قمر مثلاً؟
قلنا: النشوة... هل هي النشوة التي غالباً ما تلصق بالفن؟ هل يقدّم النصّ الفلسفي نشوة فلسفية كما تقدّم القصيدة نشوة لغوية ونفسية، والرقصة نشوة حواس قد تصل إلى حدود النشوة الجنسية، وغيبوبة هي أقرب ما تكون للهذيان والذهول التام؟
لا تصل النشوة العقلية بالنص الفلسفي أو البرهاني إلى حدود هذه النشوة الروحيّة، بل على العكس من ذلك، فإن النشوة الأخيرة تتجاوز حدود العقل وتسير في اتجاه مضادّ له (اتجاه الذهول) ولا تشبهها إلا النشوة الصوفية. وتظهر هنا بوادر افتراق بين النص الفلسفي والنص الشعري... افتراق في الأداة (الطريقة) وافتراق في الأثر (النشوة).
خطّ الغيب
من الجاهليات القديمة إلى اليوم (العصور الحديثة) والشعر والفلسفة يتبعان خطاً واحداً نسميه اخطّ الغيبب. وقد شاركت العلوم في هذه الحركة، وبخاصّة حين تدخّلت في العصور الأخيرة تدخلاً قوياً في افتراضات وأسئلة غيبية كانت تظهر في الماضي كأنها تعني الفيلسوف والشاعر، أكثر من عالم الفيزياء وعالم الكيمياء وعالم الرياضيات. أعني اليوم، منطق االكوانتمب مثلاً، واللاحتمية والاحتمالية، والمنطق الضبابي، ونظرية الافتراضات والتوهيم والكاوس Cahos وقد فسّرها دافيدرويل في كتابه امصادفة وكاوسب David Ruelle, hasard et Cahos, Points, Qdile, Jacob 1991.
حين أقول إن الشعر والفلسفة والعلوم تتبع في سيرها خطاً هو اخط الغيبب، فإنني أعني بذلك ثلاث مسائل في وقت واحد: المسألة الأولى تتعلّق بخط سير التاريخ الذي هو تاريخ الإنسان في الكون. فالبشرية في حلقة متصلة من الولادة والموت والتحوّل، وهي تسعى سعياً مطرداً في اتجاه فك أسرار الغيب.
وأسرار الغيب أسرار لا تنتهي من ناحية، وهي في المحصّلة مسألة ميتافيزيقية، فالغيب، في كنهه السحيق لا يعلمه إلا الله. في ابن منظور االغيب كل ما غاب عنكب. أبو اسحق في قوله ايؤمنون بالغيبب أي يؤمنون بما غابَ عنهم مما أخبرهم به
النبي ، وقال ابن الإعرابي: ايؤمنون باللهب.
واضح أن أدنى الغيب هو المستور عن الرؤية وأقصاه المخبأ في ضمير الزمان. فالحقيقة الفلسفية والحقيقة الشعرية وسائر الحقائق هي تجليات لمستور واحد هو مستور ميتافيزيقي.
فالعودة إلى المسافات المقفرة في التاريخ، لا يقصد بها العودة إلى الماضي، بل إلى المستور أو الخفي أو الغائب. كذلك التأشير للقادم في المستقبل، فإنه يقع في مثل هذا الاعتبار.
إذن، في الطريق إلى الغائب يتمّ التفتُّح الشعري والتفتُّح الفلسفي، والمختلف بينهما هو الطريقة.
المسألة الثانية تتعلق بالطريقة. فإذا كانت الحقيقة ومعرفة المجهول هي ضالّة الإنسان، فليس ثمة من طريقة واحدة للوصول إليها. فإن طريقة الفيلسوف غير طريقة الشاعر وطريقة الشاعر غير طريقة العالِم... إلخ، بل لعلّ هذا هو المعوّل عليه في حركتي الاتصال والانفصال بين هؤلاء. وفي الطريقة شيء من الطريق. فهل الطريقة تغيّر الحقيقة؟ الجواب لا ونعم، وبين لا ونعم توجد قصيدة الشاعر ونص الفيلسوف ولوحة الرسام ورقصة الراقص ومعادلة الرياضي ومعزوفة الموسيقي... وهلم جرا. بل لعل لكل طريقة حقيقتها ولكل حقيقة طريقتها، شكلها، أداتها، لغتها التي تنفرد بها مرة واحدة وإلى الأبد.
المسألة الثالثة تتعلق بالمصطلح. فإنه تكاد تكون الحراثة الفلسفية في أرض الشعر عربياً حراثة في أرض بكر أو بور. لذلك ما نقوم به هنا من المحاولة في الشعر العربي والفلسفة نسعى فيه بكل جهدنا إلى الكشف والاكتشاف بالمعنى الإبداعي. نسعى إلى معرفة كانت مستورة أو كامنة في قلب النصوص، وكانت مبعثرة ومتمادية على امتداد حوالي ألف وستمائة عام من الشعر العربي. إنه قليلاً ما تمت مواجهات أو تآلفات كبرى بين فيلسوف وشاعر في اللغة العربية، على غرار ما حصل في اليونان القديمة - مثلاً - حيث اصطدم الثلاثي الفلسفي الكلاسيكي: سقراط، أفلاطون، أرسطو، بشعر هوميروس، وشعر هسيود وغيرهما من شعراء الإغريق القدماء، وتولّدت من جرّاء ذلك نظريّة فلسفية استعلائية على الشعر، أو على غرار ما حصل في أوربا (عصر النهضة)، حيث أسس فلاسفة معدودون في ركائز العصور الحديثة فلسفاتهم على أشعار شعراء معاصرين لهم أو سابقين عليهم، كما فعل هايدغر في تأسيس نظرية فلسفية على أساس من أشعار هلدرلن وريلكه. إن هايدغر الفيلسوف المشغول بالميتافيزيقا وجد ضالته المحيّرة الغامضة في أشعار هولدرلن فارتمى فيه، وكان هولدرلن قد ارتمى في الجنون، ويا للعجب! ولعل هناك أسباباً لم يتم الكشف عنها حتى الآن، لترك حقول شاسعة ومتنوّعة من الشعر العربي خارج النظر الفلسفي. ولعلّ هذه الأسباب تتنوّع وتختلف من حقبة تاريخية لأخرى، فهي في العصر الجاهلي، غير ما هي عليه في العصور الإسلامية، وهي في العصور الحديثة غير ما كانت عليه في ما سبق عليها من عصور انحدار أو ازدهار. فإذا كانت الفلسفة، على كثرة مذاهبها وتعدّد اهتماماتها، من البحث عن الله والمجرّد والشيء في ذاته اCausi suiب (بتعبير نيتشه)، إلى متابعات في اللغة (البنيوية والألسنية)، إلى فلسفات علمية وكونية، وصولاً إلى فلسفة التشظي والخلل في النظام في الفضاء الطبيعي... تعتبر الشعر من ضمن أملاكها المعرفية أو من محميّات الفلسفة، فإن ثمة تجارب شعرية كثيرة، في لغات متنوعة، اعتبرت الفلسفة جزءاً من كشوفها الحدسيّة الكبيرة، جزءاً سابقاً على التفكير المنظم وعلى المنطق بذاته في جميع وجوهه، وزاحمت حقول الفلسفة من منطق وطبيعة وميتافيزيقا وأخلاق وعلم نفس، على سبر أغوار الوجود وأغوار النفس البشريّة، من خلال بروق الشعر وشذرات القصائد. ولعلّ المسألة أخطر من هذا التجاذب على الدور أو تنازع قميص الحقيقة بين كل من الفيلسوف والشاعر، إذ في لحظة ما، قد ينظر أحدهما في مرآة ذاته، فيجد خلف صورته صورة الآخر. ففي الجذر اللغوي لكلمة اشعرب كما ورد في اابن منظورب، معنى العلم بالشيء، أي معنى معرفي... اشعرَ به وشعر يشعر شعراً... إلخ.. علم. وهو كلام العرب. وليت شعري ليت علمي. وفي التنزيل الحكيم {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}ت(سورة الأنعام 109) أي وما يدريكم...ب.
وربما بمزيد من التقصّي والحفر المعرفي، سنلاحظ أن الشعر لم ينتظر دوره في صفّ التاريخ لكي تعترف به الفلسفة، ويعترف به الدين. فقد سبقهما إلى دق أبواب الغيب من خلال السحر. ولعلّ الشعر، كحيوية حدسيّة فطرية، تظهر في الإيقاعات وإشارات اللغة، كان سابقاً على أي نشاط عقلي وإرادي منظم من اعتقاد أو فكر أو دين. إنه حيوية (قبل - عقلية) في اتجاه المجهول أو التعبير عن النفس. وبنظرة تربوية بسيطة لنشأة الطفل قبل أن يبلغ أشدّه، نراه يعبّر فطرياً عن رغباته وحاجاته الأولية، من خلال أصوات منغّمة هي أول ما ينطق به قبل نطقه باللغة، فالإنسان، على ما يقول العلاّمة اللغوي الشيخ عبدالله العلايلي، غنّى قبل أن لغا. اإن الشعر قد ولد من السحر البدائيب على قول مالينوفسكي.
من الشعر الجاهلي إلى القرآن... سطوة الشاعر وثنائية الشاعر والنبي
لعلّ من أسباب عدم تسليط ضوء فلسفي على الشعر العربي في العصر الجاهلي، انعدام الفكر الفلسفي المنظّم أصلاً في ذاك العصر، على غرار ما كان عليه اليونان والرومان القدماء في العصور الوثنية السابقة على المسيحية. فالفكر الفلسفي لكي ينمو ويزدهر، يقتضي تاريخياً وجود حيّز من الاستقرار المدني والحضري، بالرغم من وجود الحروب، ينصرف فيه المفكر إلى تأملاته في الوجود وفي الحياة والموت وفي ما بعده من افتراضات، ويبني بنتيجة ذلك نظاماً لأفكاره وافتراضاته. هذا الحيّز من الاستقرار النسبي لم يكن متوافراً للعربي في جزيرته في الجاهلية. كان ثمة مدى شديد الاتساع من الصحراء، فيه بعض الواحات وبعض المدن كمحطات تجارية، لكن الجزيرة العربية على العموم، وأهلها من البدو، كانوا على قلق لا يهدأ من تحديات الموت في العيش. للبدوي نجوم السماء في الليل، والمدى اللامتناهي من الرمال، وعلى شفتيه اللغة. الطلل يواجهه بالتحوّل والموت، والذئب يذكّره بالصراع والوحشة. كان المدى الجغرافي بكامله مدى قلقاً في الجاهليّة، ولم يكن أنسب من الشعر ليملأ هذا المدي بجميع أصناف الوصف والتشبيه والاستعارات وما تفتحه من أفق الرمز والتأمّل. إنه شعر حسّي ولكنه ممسوس بالغيب، وكان لابد من أن يفترس الشعر الجاهلي كل معرفة أخرى أو حضارة ممكنة أو فنّ متاح، فالشعر اديوان العربب على ما قال ابن خلدون في مقدمته، وعلى ما قال ابن سلاّم الجمحي في اطبقات الشعراءب. لا فلسفة، لا مسرح، لا عمارة، لا علوم، بل أصوات الشعراء وهي تتصارخ في مدى من أزل الرمل وأبد السماء. وكانت القصائد التي ينشدها الشعراء بطقوسية أشبه ما تكون بطقوسيّة الكهنة، في تناوباتها الإيقاعية، وامتداد الصوت وقصره في تقلّبات اللغة، تترك في نفوس الجماعة ما يشبه الروع أو السحر من تخدير يجعل الوعي قلقاً وحائراً بين النوم واليقظة، كان الشعراء يجعلون الجماعة معلّقة بين عالمي الشهادة والغيب، وقابلة لكل إيحاء. ثمة ما يمكن أن يلحظ من بعض التشابه بين الشعر العربي في الجاهلية وشعر اليونان في الوثنيّة، فعند عرب الجاهلية، كما عند الأغارقة الأقدمين، كان الاعتقاد بأن الشاعر إنسان خاص بين الإنسان والإله، يتكلّم بلسان عرّاف أو كاهن، ويمسك بيديه مفاتيح غيبيّة. إن خمريّة طَرَفة، تذكّر بخمريّة حيّة في مذهب ديونيزيوس إله اللذة والخمرة عند الإغريق، مع طقوس مكشوفة عند اليونانيين أكثر مما هي عند العرب، من راقصات كورنثيات في المعبد وراقصين مكرّسين للآلهة، كما أن الإلهام والمسّ هما مصدر سحري غيبي واحد لتلقين الشاعر ما ينطق به من كلمات. كانت أشعار هوميروس ترتّل أثناء الأعياد الدينية، يرتّلها مَن يسمّون أبناء هوميروس Les Hameridais، بصحبة عصا وقيثارة. وهكذا ولدت الملحمة من أغنيات في الأصل تستلهم من الحرب.
أما الدراما فولدت من تطوّر الزراعة، وما يرافق المواسم في يناعها أو كسادها من ابتهالات لإله الخصب الذي غالباً ما يكون هو السيّد أو الملك داخلاً في هذا الإله... يموت فترثيه أمه أو أخته أو زوجته فيبعث من الموت عند تغيّر الفصول. وكان ذلك ينتقل إلى حيّز التمثيل والمسرح ولبس الأقنعة وتمثيل الأدوار التي كان يقوم بها أحياناً الشاعر نفسه، وله في كل حال صفة شاعر وكاهن وممثّل.
القرآن... إشكالية الشاعر... الشاعر والنبي
نزل القرآن الكريم على الرسول الأعظم بلغة قريش. وهي عينها لغة الشعر العربي في الجاهلية. وكان ثمة تحذير من الخلط بين القرآن الذي هو اذكرب والشعر الموزون المقفّى، كما كان ثمة تحذير من اعتبار النبي المرسَل شاعراً. إنه رسول ونبي ومبعوث. أي من البداية كانت ثمة دقة في التسمية والمصطلح. وقد وردت كلمة الشعر ومشتقاتها في القرآن الكريم في أربعين موضعاً، وبمعانٍ مختلفة. أما بمعنى الشعر والشاعر والشعراء ففي قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (سورة يس - 69)، والشاعر في قوله تعالى {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} (سورة الأنبياء - 5)، وربما اقترن الشعر بالجنون {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (سورة الصافات - 36)، وقد نزلت سورة كاملة في الشعراء هي سورة الشعراء والخطاب فيها حازم وصارم.
وفي هذه الآيات ما يكفي لفهم إشكالية الشاعر في القرآن، فهي إشكالية مصدر الكلام لناحية أنّ المتكلم في الشاعر هم الشياطين. فقد كان العرب في الجاهلية يعتقدون أنّ اعبقرب وهي مدينة الجنّ، منها تتنزّل الشياطين على الشعراء، وأن الشاعر يسترق السمع لهؤلاء الشياطين، وأنّ في المسألة الكثير من الكذب والإفك وأضغاث الأحلام وصولاً للجنون. هذا في كفّة الشعر والشاعر، أما في الكفّة المقابلة، أي كفّة النبي، فأسماؤه مرسل ورسول ونذير وبشير ومصطفى وطه ومحمد وأحمد... إلخ، والمتكلّم فيه هو الله، وكلامه هو الوحي أو الذكر أو القرآن، ووحدته هي الآية وليس البيت، ونصّه هو السورة وليس القصيدة. فارتسمت على هذا الأساس المقابلة القرآنية بين الشاعر والنبي... لاسيّما أنّ في االشعراءب {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}ت(سورة الشعراء 224). وغوى في الجذر اللغوي ضلّ. قيل في تفسيره الغاوون الشياطين، وقيل أيضاً الغاوون من الناس. قال الزجّاج: اوالمعنى أن الشاعر إذا هجا بما لا يجوز هويَ ذلك قوم وأحبّوه فهم الغاوون, وذلك إذا مدح ممدوحاً بما ليس فيه وأحب ذلك قوم وتابعوه، فهم الغاوونب (ابن منظور). فالمسألة على ما نرى أخلاقية تتعلق بموازين الصدق والكذب وقدرة الشاعر بما أوتي من قوة الكلمات على جعل الصدق كذباً والكذب صدقاً فيتبعه الناس وتختلط القيم الأخلاقية. إن ذلك جَبّ شاعرية فحل من فحول شعراء الجاهلية هو لبيد، وحوّله بعد دخوله في الإسلام إلى واعظ.
لم يطل الزمن كثيراً ليستعيد الشعر العربي موقعه وسطوته، من ناحيتين: من خارج النصّ القرآني على يد شعراء العصر الأموي والعصر العباسي، أمثال مثلث النقائض الأخطل والفرزدق وجرير، وفتى الحجاز وشاعرها الغَزِل عمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي، وعلى يد شاعر الخمرة العباسي الحسن بن هانئ ولقبه
أبو نواس غلب على اسمه. لا ننسَ كلاً من البحتري وأبي تمام والمعرّي وواسطة العقد المتنبي. أما المتصوّفة الإسلاميون، أمثال عمر بن الفارض والحسين بن منصور الحلاّج ومحيي الدين بن عربي وسواهم ممن غاصوا بقوّة إلى جواهر المعاني في العبارة وفي الرمز الخصب ودخلوا في مغامرة وصلت بهم إلى حدود الموت والجنون، لا بالمعنى الجاهلي للشعر، بل بارتباط الإنسان بالغيب واندراجه في العشق الإلهي والتماهي مع الكائنات في وحدة واحدة.
ولد الشعر العربي ولادة جديدة على يد المتصوفة المسلمين في كلماته وأسرار حروفه.
إنّ صوفياً كالحلاّج (244-309هـ) الذي عاش في العصر العباسي المتأخّر جمع في كتابه االطواسينب معاني جديدة استنطقها أسراراً لا تخطر ببال معاصريه. ولقد جرى على لسان الحلاّج الملقّب بـاالعالم السيّد الغريبب شطح أودى به إلى الصلب والحرق وذرّ رماده في نهر دجلة.
يا لائمي في هواهُ كم تلوم فلو
عرفت منه الذي عُنّيتُ لم تَلُمِ
للناس حجّ ولي حجّ إلى سكني
تُهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
تطوف بالبيت قوم لا بجارحةٍ
بالله طافوا فأغناهُمْ عن الحَرَم
وهو قول فيه خروج على ظاهر الإسلام.
أما ابن عربي (560-638هـ)، الأندلسي المولد الدمشقي القبر (في جبل قاسيون)، فكان أمره عجب العجب في استنطاق حروف العربية إلى آخر ما يتحمله قوس العربية من غرابة وشطح.
ولابن عربي كلام في الإنسان الكامل وأشعار باطنية غنوصية صعب فهمها، وهو القائل: اعليك بروح الأشياءب، وهو يعلم خطورة ما يكتب وما يقول فيذكر تنبيهاً تجاه علم الأذواق من االصحو والسكر والشرب والهيبة والأنس والإثبات والمحو والمحق ومحو المحو وفناء العينب:
اإنّ هذه الأسرار من العلوم التي يجب سترها ولا يجوز كشفهاب.
لقد تمّ فتح باب للشعر ليس له حدود على يد المتصوّفة المسلمين، وهو باب قرآني كان قبلهم مغلقاً. إنّ أحوال الصوفية أقوى وأهم من أشعارهم التي تبدو في كثير من الأحيان أقرب ما تكون إلى أراجيز تعليمية يحتاج فك رموزها إلى قاموس في الصوفيّة. لكنّ أهميتهم من الناحية الشعرية تتمثل في الانتباه لأبعاد اللغة الرامزة في القرآن، باعتبار الرمز الخصب أصلاً من أصول الشعر العميقة.
أما علامات تحوّل الشعر العربي في العصور الحديثة، وكيفية انتقاله من الانتظام إلى الأسطرة فالخلل والكاوس Cahos الشعري فإلى هباء الإشارة الإلكترونية, وما الفلسفات التي اعترته مع عصور الحداثة وما بعدها، وعلاقته بالغرب, فلذلك بحث آخر سنعود إليه >