بروق الغيب الشاعر سابقاً الفيلسوف

بروق الغيب الشاعر سابقاً الفيلسوف

في‭ ‬بيتين‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬يقول‭ ‬شاعر‭ ‬الصوفية‭ ‬وشيخها‭ ‬الأكبر‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ (‬محمد‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬الملقب‭ ‬بمحيي‭ ‬الدين‭) (‬560-638هـ‭)‬،‭ ‬إنه‭ ‬يتبع‭ ‬خط‭ ‬البرق‭ ‬كيفما‭ ‬دار،‭ ‬وليس‭ ‬اتجاهات‭ ‬الأماكن‭. ‬وخطّ‭ ‬البرق‭ ‬هو‭ ‬خطّ‭ ‬الكشف،‭ ‬وخطّ‭ ‬الغيب‭ ‬معاً،‭ ‬والأرجح‭ ‬أنه‭ ‬البوصلة‭ ‬التي‭ ‬يوجّه‭ ‬بها‭ ‬الرحّالة‭ ‬البلنسي‭ ‬الأندلسي‭ ‬الكبير‭ ‬وجهه‭ ‬نحو‭ ‬الله‭.‬

رأى‭ ‬البرق‭ ‬شرقياً‭ ‬فحنّ‭ ‬إلى‭ ‬الشرقِ

ولو‭ ‬كان‭ ‬غربياً‭ ‬لحنَّ‭ ‬إلى‭ ‬الغربِ

فإنّ‭ ‬غرامي‭ ‬بالبريق‭ ‬ولمحِهِ

وليس‭ ‬غرامي‭ ‬بالأماكنِ‭ ‬والقربِ

لم‭ ‬يكن‭ ‬للعرب‭ ‬ما‭ ‬يميّزهم‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬تاريخهم‭ ‬الطويل،‭ ‬سوى‭ ‬الشعر‭ ‬والقرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وهما‭ ‬لأوّل‭ ‬وهلة،‭ ‬كانا‭ ‬على‭ ‬أشدّ‭ ‬اختلاف،‭ ‬وذلك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يلتفت‭ ‬المتصوّفة‭ ‬المسلمون‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬من‭ ‬إعجاز،‭ ‬وإلى‭ ‬القصص‭ ‬القرآني‭ ‬الخصب‭ ‬في‭ ‬رموزه‭ ‬وأبعاده،‭ ‬ليصنعوا‭ ‬منها‭ ‬مادة‭ ‬أشعارهم‭ ‬الرامزة‭ ‬وشطحهم‭ ‬الملغز‭. ‬وهي‭ ‬نقطة‭ ‬لقاء‭ ‬أو‭ ‬تقاطع‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬من‭ ‬الأساس‭. ‬فالشعر‭ ‬جرح‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬جـروحِ‭ ‬الغيب،‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نغامر‭ ‬ونحدّد‭ ‬له‭ ‬عمراً،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الفلكيون‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأرض‭ ‬والكواكب‭ ‬والمجرّات،‭ ‬ولكننا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أشعار‭ ‬بعض‭ ‬القبائل‭ ‬البدائية،‭ ‬التي‭ ‬لاتزال‭ ‬كذلك‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬غابات‭ ‬الأمازون‭ ‬وبعض‭ ‬الغابات‭ ‬الإفريقية،‭ ‬وفي‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى،‭ ‬مثل‭ ‬قبيلة‭ ‬االماوريب‭ ‬في‭ ‬نيوزيلندا‭ ‬اأنّ‭ ‬أغانيهم،‭ ‬وهي‭ ‬أشعار‭ ‬شفاهيّة‭ ‬مغنّاة،‭ ‬تصاحبها‭ ‬طقوس‭ ‬في‭ ‬الرقص‭ ‬والسحر،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬كلامهم‭ ‬موقّع‭ ‬وملحّن‭ ‬وخيالي‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬لا‭ ‬نقيم‭ ‬له‭ ‬مشاركة‭ ‬إلاّ‭ ‬مع‭ ‬الشعرب‭.‬

رأى‭ ‬الإخباريون‭ ‬العرب‭ ‬أنّ‭ ‬اآدمب‭ ‬‭ ‬كان‭ ‬أوّل‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬الشعر،‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نحمل‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬محمل‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية،‭ ‬ولكن‭ ‬نحمله‭ ‬على‭ ‬محمل‭ ‬الدلالة،‭ ‬وهو‭ ‬أنّ‭ ‬الشاعر‭ ‬الأوّل‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬الأول،‭ ‬وأنه‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يجابه‭ ‬تحديات‭ ‬الوجود‭ ‬له،‭ ‬ويكشف‭ ‬عن‭ ‬مغاليق‭ ‬المجهول‭ ‬بوسائل‭ ‬شتّى،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬الآلة،‭ ‬والإشارات‭ ‬والأصوات‭ (‬اللغة‭)‬،‭ ‬والفنون‭... ‬ولا‭ ‬يمنع‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الأوّل‭ ‬أيضاً‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬الأول،‭ ‬كذلك‭ ‬العالِم‭ ‬الأوّل،‭ ‬ونضيف‭ ‬العاشق‭ ‬الأول،‭ ‬والقاتل‭ ‬الأوّل‭... ‬إلخ،‭ ‬لكن،‭ ‬حين‭ ‬نضع‭ ‬حدوداً‭ ‬قاطعة‭ ‬بين‭ ‬فعاليات‭ ‬بشريّة‭ ‬متنوعة،‭ ‬في‭ ‬مجابهة‭ ‬المجهول‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬فإننا‭ ‬نبالغ‭ ‬أو‭ ‬نجافي‭ ‬الواقع،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكمن‭ ‬نواة‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬آخر‭. ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬أغنية‭ ‬شعريّة‭ ‬بذرة‭ ‬خفيّة‭ ‬من‭ ‬التأمّل،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬تأمّل‭ ‬بذرة‭ ‬خفيّة‭ ‬من‭ ‬النشوة،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬آلة‭ ‬مسحة‭ ‬من‭ ‬التأمّل‭ ‬والنشوة،‭ ‬وإلاّ‭ ‬فما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شكل‭ ‬المنجل‭ ‬دائرياً‭ ‬كنصف‭ ‬قمر‭ ‬مثلاً؟

قلنا‭: ‬النشوة‭... ‬هل‭ ‬هي‭ ‬النشوة‭ ‬التي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تلصق‭ ‬بالفن؟‭ ‬هل‭ ‬يقدّم‭ ‬النصّ‭ ‬الفلسفي‭ ‬نشوة‭ ‬فلسفية‭ ‬كما‭ ‬تقدّم‭ ‬القصيدة‭ ‬نشوة‭ ‬لغوية‭ ‬ونفسية،‭ ‬والرقصة‭ ‬نشوة‭ ‬حواس‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬النشوة‭ ‬الجنسية،‭ ‬وغيبوبة‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬للهذيان‭ ‬والذهول‭ ‬التام؟

لا‭ ‬تصل‭ ‬النشوة‭ ‬العقلية‭ ‬بالنص‭ ‬الفلسفي‭ ‬أو‭ ‬البرهاني‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬هذه‭ ‬النشوة‭ ‬الروحيّة،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬النشوة‭ ‬الأخيرة‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬العقل‭ ‬وتسير‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬مضادّ‭ ‬له‭ (‬اتجاه‭ ‬الذهول‭) ‬ولا‭ ‬تشبهها‭ ‬إلا‭ ‬النشوة‭ ‬الصوفية‭. ‬وتظهر‭ ‬هنا‭ ‬بوادر‭ ‬افتراق‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬الفلسفي‭ ‬والنص‭ ‬الشعري‭... ‬افتراق‭ ‬في‭ ‬الأداة‭ (‬الطريقة‭) ‬وافتراق‭ ‬في‭ ‬الأثر‭ (‬النشوة‭).‬

 

خطّ‭ ‬الغيب

من‭ ‬الجاهليات‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ (‬العصور‭ ‬الحديثة‭) ‬والشعر‭ ‬والفلسفة‭ ‬يتبعان‭ ‬خطاً‭ ‬واحداً‭ ‬نسميه‭ ‬اخطّ‭ ‬الغيبب‭. ‬وقد‭ ‬شاركت‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحركة،‭ ‬وبخاصّة‭ ‬حين‭ ‬تدخّلت‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الأخيرة‭ ‬تدخلاً‭ ‬قوياً‭ ‬في‭ ‬افتراضات‭ ‬وأسئلة‭ ‬غيبية‭ ‬كانت‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬كأنها‭ ‬تعني‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والشاعر،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الفيزياء‭ ‬وعالم‭ ‬الكيمياء‭ ‬وعالم‭ ‬الرياضيات‭. ‬أعني‭ ‬اليوم،‭ ‬منطق‭ ‬االكوانتمب‭ ‬مثلاً،‭ ‬واللاحتمية‭ ‬والاحتمالية،‭ ‬والمنطق‭ ‬الضبابي،‭ ‬ونظرية‭ ‬الافتراضات‭ ‬والتوهيم‭ ‬والكاوس‭ ‬Cahos‭ ‬وقد‭ ‬فسّرها‭ ‬دافيدرويل‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬امصادفة‭ ‬وكاوسب‭ ‬David‭ ‬Ruelle‭, ‬hasard et Cahos‭, ‬Points‭, ‬Qdile‭, ‬Jacob‭ ‬1991‭.‬

حين‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬والفلسفة‭ ‬والعلوم‭ ‬تتبع‭ ‬في‭ ‬سيرها‭ ‬خطاً‭ ‬هو‭ ‬اخط‭ ‬الغيبب،‭ ‬فإنني‭ ‬أعني‭ ‬بذلك‭ ‬ثلاث‭ ‬مسائل‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭: ‬المسألة‭ ‬الأولى‭ ‬تتعلّق‭ ‬بخط‭ ‬سير‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الكون‭. ‬فالبشرية‭ ‬في‭ ‬حلقة‭ ‬متصلة‭ ‬من‭ ‬الولادة‭ ‬والموت‭ ‬والتحوّل،‭ ‬وهي‭ ‬تسعى‭ ‬سعياً‭ ‬مطرداً‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬فك‭ ‬أسرار‭ ‬الغيب‭.‬

وأسرار‭ ‬الغيب‭ ‬أسرار‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬المحصّلة‭ ‬مسألة‭ ‬ميتافيزيقية،‭ ‬فالغيب،‭ ‬في‭ ‬كنهه‭ ‬السحيق‭ ‬لا‭ ‬يعلمه‭ ‬إلا‭ ‬الله‭. ‬في‭ ‬ابن‭ ‬منظور‭ ‬االغيب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬غاب‭ ‬عنكب‭. ‬أبو‭ ‬اسحق‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬ايؤمنون‭ ‬بالغيبب‭ ‬أي‭ ‬يؤمنون‭ ‬بما‭ ‬غابَ‭ ‬عنهم‭ ‬مما‭ ‬أخبرهم‭ ‬به‭ ‬
النبي‭ ‬،‭ ‬وقال‭ ‬ابن‭ ‬الإعرابي‭: ‬ايؤمنون‭ ‬باللهب‭.‬

واضح‭ ‬أن‭ ‬أدنى‭ ‬الغيب‭ ‬هو‭ ‬المستور‭ ‬عن‭ ‬الرؤية‭ ‬وأقصاه‭ ‬المخبأ‭ ‬في‭ ‬ضمير‭ ‬الزمان‭. ‬فالحقيقة‭ ‬الفلسفية‭ ‬والحقيقة‭ ‬الشعرية‭ ‬وسائر‭ ‬الحقائق‭ ‬هي‭ ‬تجليات‭ ‬لمستور‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬مستور‭ ‬ميتافيزيقي‭.‬

فالعودة‭ ‬إلى‭ ‬المسافات‭ ‬المقفرة‭  ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬لا‭ ‬يقصد‭ ‬بها‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬المستور‭ ‬أو‭ ‬الخفي‭ ‬أو‭ ‬الغائب‭. ‬كذلك‭ ‬التأشير‭ ‬للقادم‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬فإنه‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الاعتبار‭. ‬
إذن،‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الغائب‭ ‬يتمّ‭ ‬التفتُّح‭ ‬الشعري‭ ‬والتفتُّح‭ ‬الفلسفي،‭ ‬والمختلف‭ ‬بينهما‭ ‬هو‭ ‬الطريقة‭.‬

المسألة‭ ‬الثانية‭ ‬تتعلق‭ ‬بالطريقة‭. ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الحقيقة‭ ‬ومعرفة‭ ‬المجهول‭ ‬هي‭ ‬ضالّة‭ ‬الإنسان،‭ ‬فليس‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬واحدة‭ ‬للوصول‭ ‬إليها‭. ‬فإن‭ ‬طريقة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬غير‭ ‬طريقة‭ ‬الشاعر‭ ‬وطريقة‭ ‬الشاعر‭ ‬غير‭ ‬طريقة‭ ‬العالِم‭... ‬إلخ،‭ ‬بل‭ ‬لعلّ‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬المعوّل‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬حركتي‭ ‬الاتصال‭ ‬والانفصال‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭. ‬وفي‭ ‬الطريقة‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الطريق‭. ‬فهل‭ ‬الطريقة‭ ‬تغيّر‭ ‬الحقيقة؟‭ ‬الجواب‭ ‬لا‭ ‬ونعم،‭ ‬وبين‭ ‬لا‭ ‬ونعم‭ ‬توجد‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬ونص‭ ‬الفيلسوف‭ ‬ولوحة‭ ‬الرسام‭ ‬ورقصة‭ ‬الراقص‭ ‬ومعادلة‭ ‬الرياضي‭ ‬ومعزوفة‭ ‬الموسيقي‭... ‬وهلم‭ ‬جرا‭. ‬بل‭ ‬لعل‭ ‬لكل‭ ‬طريقة‭ ‬حقيقتها‭ ‬ولكل‭ ‬حقيقة‭ ‬طريقتها،‭ ‬شكلها،‭ ‬أداتها،‭ ‬لغتها‭ ‬التي‭ ‬تنفرد‭ ‬بها‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬وإلى‭ ‬الأبد‭.‬

المسألة‭ ‬الثالثة‭ ‬تتعلق‭ ‬بالمصطلح‭. ‬فإنه‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬الحراثة‭ ‬الفلسفية‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الشعر‭ ‬عربياً‭ ‬حراثة‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬بكر‭ ‬أو‭ ‬بور‭. ‬لذلك‭ ‬ما‭ ‬نقوم‭ ‬به‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬المحاولة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬والفلسفة‭ ‬نسعى‭ ‬فيه‭ ‬بكل‭ ‬جهدنا‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬والاكتشاف‭ ‬بالمعنى‭ ‬الإبداعي‭. ‬نسعى‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬كانت‭ ‬مستورة‭ ‬أو‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬النصوص،‭ ‬وكانت‭ ‬مبعثرة‭ ‬ومتمادية‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬حوالي‭ ‬ألف‭ ‬وستمائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭. ‬إنه‭ ‬قليلاً‭ ‬ما‭ ‬تمت‭ ‬مواجهات‭ ‬أو‭ ‬تآلفات‭ ‬كبرى‭ ‬بين‭ ‬فيلسوف‭ ‬وشاعر‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬اليونان‭ ‬القديمة‭ - ‬مثلاً‭ - ‬حيث‭ ‬اصطدم‭ ‬الثلاثي‭ ‬الفلسفي‭ ‬الكلاسيكي‭: ‬سقراط،‭ ‬أفلاطون،‭ ‬أرسطو،‭ ‬بشعر‭ ‬هوميروس،‭ ‬وشعر‭ ‬هسيود‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الإغريق‭ ‬القدماء،‭ ‬وتولّدت‭ ‬من‭ ‬جرّاء‭ ‬ذلك‭ ‬نظريّة‭ ‬فلسفية‭ ‬استعلائية‭ ‬على‭ ‬الشعر،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ (‬عصر‭ ‬النهضة‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬أسس‭ ‬فلاسفة‭ ‬معدودون‭ ‬في‭ ‬ركائز‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة‭ ‬فلسفاتهم‭ ‬على‭ ‬أشعار‭ ‬شعراء‭ ‬معاصرين‭ ‬لهم‭ ‬أو‭ ‬سابقين‭ ‬عليهم،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬هايدغر‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬نظرية‭ ‬فلسفية‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬هلدرلن‭ ‬وريلكه‭. ‬إن‭ ‬هايدغر‭ ‬الفيلسوف‭ ‬المشغول‭ ‬بالميتافيزيقا‭ ‬وجد‭ ‬ضالته‭ ‬المحيّرة‭ ‬الغامضة‭ ‬في‭ ‬أشعار‭ ‬هولدرلن‭ ‬فارتمى‭ ‬فيه،‭ ‬وكان‭ ‬هولدرلن‭ ‬قد‭ ‬ارتمى‭ ‬في‭ ‬الجنون،‭ ‬ويا‭ ‬للعجب‭! ‬ولعل‭ ‬هناك‭ ‬أسباباً‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬الكشف‭ ‬عنها‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬لترك‭ ‬حقول‭ ‬شاسعة‭ ‬ومتنوّعة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬خارج‭ ‬النظر‭ ‬الفلسفي‭. ‬ولعلّ‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬تتنوّع‭ ‬وتختلف‭ ‬من‭ ‬حقبة‭ ‬تاريخية‭ ‬لأخرى،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬عصور‭ ‬انحدار‭ ‬أو‭ ‬ازدهار‭. ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الفلسفة،‭ ‬على‭ ‬كثرة‭ ‬مذاهبها‭ ‬وتعدّد‭ ‬اهتماماتها،‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الله‭ ‬والمجرّد‭ ‬والشيء‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬اCausi suiب‭ (‬بتعبير‭ ‬نيتشه‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬متابعات‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ (‬البنيوية‭ ‬والألسنية‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬فلسفات‭ ‬علمية‭ ‬وكونية،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬فلسفة‭ ‬التشظي‭ ‬والخلل‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الطبيعي‭... ‬تعتبر‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬أملاكها‭ ‬المعرفية‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬محميّات‭ ‬الفلسفة،‭ ‬فإن‭ ‬ثمة‭ ‬تجارب‭ ‬شعرية‭ ‬كثيرة،‭ ‬في‭ ‬لغات‭ ‬متنوعة،‭ ‬اعتبرت‭ ‬الفلسفة‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬كشوفها‭ ‬الحدسيّة‭ ‬الكبيرة،‭ ‬جزءاً‭ ‬سابقاً‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬المنظم‭ ‬وعلى‭ ‬المنطق‭ ‬بذاته‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬وجوهه،‭ ‬وزاحمت‭ ‬حقول‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬منطق‭ ‬وطبيعة‭ ‬وميتافيزيقا‭ ‬وأخلاق‭ ‬وعلم‭ ‬نفس،‭ ‬على‭ ‬سبر‭ ‬أغوار‭ ‬الوجود‭ ‬وأغوار‭ ‬النفس‭ ‬البشريّة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بروق‭ ‬الشعر‭ ‬وشذرات‭ ‬القصائد‭. ‬ولعلّ‭ ‬المسألة‭ ‬أخطر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التجاذب‭ ‬على‭ ‬الدور‭ ‬أو‭ ‬تنازع‭ ‬قميص‭ ‬الحقيقة‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والشاعر،‭ ‬إذ‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ما،‭ ‬قد‭ ‬ينظر‭ ‬أحدهما‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬ذاته،‭ ‬فيجد‭ ‬خلف‭ ‬صورته‭ ‬صورة‭ ‬الآخر‭. ‬ففي‭ ‬الجذر‭ ‬اللغوي‭ ‬لكلمة‭ ‬اشعرب‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬اابن‭ ‬منظورب،‭ ‬معنى‭ ‬العلم‭ ‬بالشيء،‭ ‬أي‭ ‬معنى‭ ‬معرفي‭... ‬اشعرَ‭ ‬به‭ ‬وشعر‭ ‬يشعر‭ ‬شعراً‭... ‬إلخ‭.. ‬علم‭. ‬وهو‭ ‬كلام‭ ‬العرب‭. ‬وليت‭ ‬شعري‭ ‬ليت‭ ‬علمي‭. ‬وفي‭ ‬التنزيل‭ ‬الحكيم‭ {‬وَمَا‭ ‬يُشْعِرُكُمْ‭ ‬أَنَّهَا‭ ‬إِذَا‭ ‬جَاءَتْ‭ ‬لَا‭ ‬يُؤْمِنُونَ‭}‬ت‭(‬سورة‭ ‬الأنعام‭ ‬109‭) ‬أي‭ ‬وما‭ ‬يدريكم‭...‬ب‭.‬

وربما‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬التقصّي‭ ‬والحفر‭ ‬المعرفي،‭ ‬سنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬لم‭ ‬ينتظر‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬صفّ‭ ‬التاريخ‭ ‬لكي‭ ‬تعترف‭ ‬به‭ ‬الفلسفة،‭ ‬ويعترف‭ ‬به‭ ‬الدين‭. ‬فقد‭ ‬سبقهما‭ ‬إلى‭ ‬دق‭ ‬أبواب‭ ‬الغيب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السحر‭. ‬ولعلّ‭ ‬الشعر،‭ ‬كحيوية‭ ‬حدسيّة‭ ‬فطرية،‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬الإيقاعات‭ ‬وإشارات‭ ‬اللغة،‭ ‬كان‭ ‬سابقاً‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬نشاط‭ ‬عقلي‭ ‬وإرادي‭ ‬منظم‭ ‬من‭ ‬اعتقاد‭ ‬أو‭ ‬فكر‭ ‬أو‭ ‬دين‭. ‬إنه‭ ‬حيوية‭ (‬قبل‭ - ‬عقلية‭) ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬المجهول‭ ‬أو‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬النفس‭. ‬وبنظرة‭ ‬تربوية‭ ‬بسيطة‭ ‬لنشأة‭ ‬الطفل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬أشدّه،‭ ‬نراه‭ ‬يعبّر‭ ‬فطرياً‭ ‬عن‭ ‬رغباته‭ ‬وحاجاته‭ ‬الأولية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أصوات‭ ‬منغّمة‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬ينطق‭ ‬به‭ ‬قبل‭ ‬نطقه‭ ‬باللغة،‭ ‬فالإنسان،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يقول‭ ‬العلاّمة‭ ‬اللغوي‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬العلايلي،‭ ‬غنّى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬لغا‭. ‬اإن‭ ‬الشعر‭ ‬قد‭ ‬ولد‭ ‬من‭ ‬السحر‭ ‬البدائيب‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬مالينوفسكي‭.‬

 

من‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬إلى‭ ‬القرآن‭... ‬سطوة‭ ‬الشاعر‭ ‬وثنائية‭ ‬الشاعر‭ ‬والنبي‭ ‬

لعلّ‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬عدم‭ ‬تسليط‭ ‬ضوء‭ ‬فلسفي‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬انعدام‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬المنظّم‭ ‬أصلاً‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬العصر،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬اليونان‭ ‬والرومان‭ ‬القدماء‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوثنية‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬المسيحية‭. ‬فالفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬لكي‭ ‬ينمو‭ ‬ويزدهر،‭ ‬يقتضي‭ ‬تاريخياً‭ ‬وجود‭ ‬حيّز‭ ‬من‭ ‬الاستقرار‭ ‬المدني‭ ‬والحضري،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬الحروب،‭ ‬ينصرف‭ ‬فيه‭ ‬المفكر‭ ‬إلى‭ ‬تأملاته‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬وفي‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬بعده‭ ‬من‭ ‬افتراضات،‭ ‬ويبني‭ ‬بنتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬نظاماً‭ ‬لأفكاره‭ ‬وافتراضاته‭. ‬هذا‭ ‬الحيّز‭ ‬من‭ ‬الاستقرار‭ ‬النسبي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متوافراً‭ ‬للعربي‭ ‬في‭ ‬جزيرته‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭. ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬مدى‭ ‬شديد‭ ‬الاتساع‭ ‬من‭ ‬الصحراء،‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬الواحات‭ ‬وبعض‭ ‬المدن‭ ‬كمحطات‭ ‬تجارية،‭ ‬لكن‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬العموم،‭ ‬وأهلها‭ ‬من‭ ‬البدو،‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬قلق‭ ‬لا‭ ‬يهدأ‭ ‬من‭ ‬تحديات‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬العيش‭. ‬للبدوي‭ ‬نجوم‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬الليل،‭ ‬والمدى‭ ‬اللامتناهي‭ ‬من‭ ‬الرمال،‭ ‬وعلى‭ ‬شفتيه‭ ‬اللغة‭. ‬الطلل‭ ‬يواجهه‭ ‬بالتحوّل‭ ‬والموت،‭ ‬والذئب‭ ‬يذكّره‭ ‬بالصراع‭ ‬والوحشة‭. ‬كان‭ ‬المدى‭ ‬الجغرافي‭ ‬بكامله‭ ‬مدى‭ ‬قلقاً‭ ‬في‭ ‬الجاهليّة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أنسب‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬ليملأ‭ ‬هذا‭ ‬المدي‭ ‬بجميع‭ ‬أصناف‭ ‬الوصف‭ ‬والتشبيه‭ ‬والاستعارات‭ ‬وما‭ ‬تفتحه‭ ‬من‭ ‬أفق‭ ‬الرمز‭ ‬والتأمّل‭. ‬إنه‭ ‬شعر‭ ‬حسّي‭ ‬ولكنه‭ ‬ممسوس‭ ‬بالغيب،‭ ‬وكان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يفترس‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬كل‭ ‬معرفة‭ ‬أخرى‭ ‬أو‭ ‬حضارة‭ ‬ممكنة‭ ‬أو‭ ‬فنّ‭ ‬متاح،‭ ‬فالشعر‭ ‬اديوان‭ ‬العربب‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬مقدمته،‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬سلاّم‭ ‬الجمحي‭ ‬في‭ ‬اطبقات‭ ‬الشعراءب‭. ‬لا‭ ‬فلسفة،‭ ‬لا‭ ‬مسرح،‭ ‬لا‭ ‬عمارة،‭ ‬لا‭ ‬علوم،‭ ‬بل‭ ‬أصوات‭ ‬الشعراء‭ ‬وهي‭ ‬تتصارخ‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬من‭ ‬أزل‭ ‬الرمل‭ ‬وأبد‭ ‬السماء‭. ‬وكانت‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬ينشدها‭ ‬الشعراء‭ ‬بطقوسية‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬بطقوسيّة‭ ‬الكهنة،‭ ‬في‭ ‬تناوباتها‭ ‬الإيقاعية،‭ ‬وامتداد‭ ‬الصوت‭ ‬وقصره‭ ‬في‭ ‬تقلّبات‭ ‬اللغة،‭ ‬تترك‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الجماعة‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الروع‭ ‬أو‭ ‬السحر‭ ‬من‭ ‬تخدير‭ ‬يجعل‭ ‬الوعي‭ ‬قلقاً‭ ‬وحائراً‭ ‬بين‭ ‬النوم‭ ‬واليقظة،‭ ‬كان‭ ‬الشعراء‭ ‬يجعلون‭ ‬الجماعة‭ ‬معلّقة‭ ‬بين‭ ‬عالمي‭ ‬الشهادة‭ ‬والغيب،‭ ‬وقابلة‭ ‬لكل‭ ‬إيحاء‭. ‬ثمة‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلحظ‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬التشابه‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬وشعر‭ ‬اليونان‭ ‬في‭ ‬الوثنيّة،‭ ‬فعند‭ ‬عرب‭ ‬الجاهلية،‭ ‬كما‭ ‬عند‭ ‬الأغارقة‭ ‬الأقدمين،‭ ‬كان‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬الشاعر‭ ‬إنسان‭ ‬خاص‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والإله،‭ ‬يتكلّم‭ ‬بلسان‭ ‬عرّاف‭ ‬أو‭ ‬كاهن،‭ ‬ويمسك‭ ‬بيديه‭ ‬مفاتيح‭ ‬غيبيّة‭. ‬إن‭ ‬خمريّة‭ ‬طَرَفة،‭ ‬تذكّر‭ ‬بخمريّة‭ ‬حيّة‭ ‬في‭ ‬مذهب‭ ‬ديونيزيوس‭ ‬إله‭ ‬اللذة‭ ‬والخمرة‭ ‬عند‭ ‬الإغريق،‭ ‬مع‭ ‬طقوس‭ ‬مكشوفة‭ ‬عند‭ ‬اليونانيين‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬من‭ ‬راقصات‭ ‬كورنثيات‭ ‬في‭ ‬المعبد‭ ‬وراقصين‭ ‬مكرّسين‭ ‬للآلهة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الإلهام‭ ‬والمسّ‭ ‬هما‭ ‬مصدر‭ ‬سحري‭ ‬غيبي‭ ‬واحد‭ ‬لتلقين‭ ‬الشاعر‭ ‬ما‭ ‬ينطق‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كلمات‭. ‬كانت‭ ‬أشعار‭ ‬هوميروس‭ ‬ترتّل‭ ‬أثناء‭ ‬الأعياد‭ ‬الدينية،‭ ‬يرتّلها‭ ‬مَن‭ ‬يسمّون‭ ‬أبناء‭ ‬هوميروس‭ ‬Les Hameridais،‭ ‬بصحبة‭ ‬عصا‭ ‬وقيثارة‭. ‬وهكذا‭ ‬ولدت‭ ‬الملحمة‭ ‬من‭ ‬أغنيات‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬تستلهم‭ ‬من‭ ‬الحرب‭.‬

أما‭ ‬الدراما‭ ‬فولدت‭ ‬من‭ ‬تطوّر‭ ‬الزراعة،‭ ‬وما‭ ‬يرافق‭ ‬المواسم‭ ‬في‭ ‬يناعها‭ ‬أو‭ ‬كسادها‭ ‬من‭ ‬ابتهالات‭ ‬لإله‭ ‬الخصب‭ ‬الذي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬السيّد‭ ‬أو‭ ‬الملك‭ ‬داخلاً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإله‭... ‬يموت‭ ‬فترثيه‭ ‬أمه‭ ‬أو‭ ‬أخته‭ ‬أو‭ ‬زوجته‭ ‬فيبعث‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬عند‭ ‬تغيّر‭ ‬الفصول‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬حيّز‭ ‬التمثيل‭ ‬والمسرح‭ ‬ولبس‭ ‬الأقنعة‭ ‬وتمثيل‭ ‬الأدوار‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬أحياناً‭ ‬الشاعر‭ ‬نفسه،‭ ‬وله‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬صفة‭ ‬شاعر‭ ‬وكاهن‭ ‬وممثّل‭.‬

 

القرآن‭... ‬إشكالية‭ ‬الشاعر‭... ‬الشاعر‭ ‬والنبي‭ ‬

نزل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬على‭ ‬الرسول‭ ‬الأعظم‭ ‬‭ ‬بلغة‭ ‬قريش‭. ‬وهي‭ ‬عينها‭ ‬لغة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭. ‬وكان‭ ‬ثمة‭ ‬تحذير‭ ‬من‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬القرآن‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬اذكرب‭ ‬والشعر‭ ‬الموزون‭ ‬المقفّى،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬تحذير‭ ‬من‭ ‬اعتبار‭ ‬النبي‭ ‬المرسَل‭ ‬شاعراً‭. ‬إنه‭ ‬رسول‭ ‬ونبي‭ ‬ومبعوث‭. ‬أي‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬كانت‭ ‬ثمة‭ ‬دقة‭ ‬في‭ ‬التسمية‭ ‬والمصطلح‭. ‬وقد‭ ‬وردت‭ ‬كلمة‭ ‬الشعر‭ ‬ومشتقاتها‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬أربعين‭ ‬موضعاً،‭ ‬وبمعانٍ‭ ‬مختلفة‭. ‬أما‭ ‬بمعنى‭ ‬الشعر‭ ‬والشاعر‭ ‬والشعراء‭ ‬ففي‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭ ‬‭{‬وَمَا‭ ‬عَلَّمْنَاهُ‭ ‬الشِّعْرَ‭ ‬وَمَا‭ ‬يَنْبَغِي‭ ‬لَهُ‭ ‬إِنْ‭ ‬هُوَ‭ ‬إِلَّا‭ ‬ذِكْرٌ‭ ‬وَقُرْآنٌ‭ ‬مُبِينٌ‭} ‬‭(‬سورة‭ ‬يس‭ - ‬69‭)‬،‭ ‬والشاعر‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭ {‬بَلْ‭ ‬قَالُوا‭ ‬أَضْغَاثُ‭ ‬أَحْلَامٍ‭ ‬بَلِ‭ ‬افْتَرَاهُ‭ ‬بَلْ‭ ‬هُوَ‭ ‬شَاعِرٌ‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬الأنبياء‭ - ‬5‭)‬،‭ ‬وربما‭ ‬اقترن‭ ‬الشعر‭ ‬بالجنون‭ {‬وَيَقُولُونَ‭ ‬أَئِنَّا‭ ‬لَتَارِكُو‭ ‬آلِهَتِنَا‭ ‬لِشَاعِرٍ‭ ‬مَجْنُونٍ‭} (‬سورة‭ ‬الصافات‭ - ‬36‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬نزلت‭ ‬سورة‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬الشعراء‭ ‬هي‭ ‬سورة‭ ‬الشعراء‭ ‬والخطاب‭ ‬فيها‭ ‬حازم‭ ‬وصارم‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬الآيات‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لفهم‭ ‬إشكالية‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬القرآن،‭ ‬فهي‭ ‬إشكالية‭ ‬مصدر‭ ‬الكلام‭ ‬لناحية‭ ‬أنّ‭ ‬المتكلم‭ ‬في‭ ‬الشاعر‭ ‬هم‭ ‬الشياطين‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنّ‭ ‬اعبقرب‭ ‬وهي‭ ‬مدينة‭ ‬الجنّ،‭ ‬منها‭ ‬تتنزّل‭ ‬الشياطين‭ ‬على‭ ‬الشعراء،‭ ‬وأن‭ ‬الشاعر‭ ‬يسترق‭ ‬السمع‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الشياطين،‭ ‬وأنّ‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكذب‭ ‬والإفك‭ ‬وأضغاث‭ ‬الأحلام‭ ‬وصولاً‭ ‬للجنون‭. ‬هذا‭ ‬في‭ ‬كفّة‭ ‬الشعر‭ ‬والشاعر،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬الكفّة‭ ‬المقابلة،‭ ‬أي‭ ‬كفّة‭ ‬النبي،‭ ‬فأسماؤه‭ ‬مرسل‭ ‬ورسول‭ ‬ونذير‭ ‬وبشير‭ ‬ومصطفى‭ ‬وطه‭ ‬ومحمد‭ ‬وأحمد‭... ‬إلخ،‭ ‬والمتكلّم‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬الله،‭ ‬وكلامه‭ ‬هو‭ ‬الوحي‭ ‬أو‭ ‬الذكر‭ ‬أو‭ ‬القرآن،‭ ‬ووحدته‭ ‬هي‭ ‬الآية‭ ‬وليس‭ ‬البيت،‭ ‬ونصّه‭ ‬هو‭ ‬السورة‭ ‬وليس‭ ‬القصيدة‭. ‬فارتسمت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬المقابلة‭ ‬القرآنية‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والنبي‭... ‬لاسيّما‭ ‬أنّ‭ ‬في‭ ‬االشعراءب‭ ‬‭{‬وَالشُّعَرَاءُ‭ ‬يَتَّبِعُهُمُ‭ ‬الْغَاوُونَ‭}‬ت‭(‬سورة‭ ‬الشعراء‭ ‬224‭). ‬وغوى‭ ‬في‭ ‬الجذر‭ ‬اللغوي‭ ‬ضلّ‭. ‬قيل‭ ‬في‭ ‬تفسيره‭ ‬الغاوون‭ ‬الشياطين،‭ ‬وقيل‭ ‬أيضاً‭ ‬الغاوون‭ ‬من‭ ‬الناس‭. ‬قال‭ ‬الزجّاج‭: ‬اوالمعنى‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬إذا‭ ‬هجا‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬هويَ‭ ‬ذلك‭ ‬قوم‭ ‬وأحبّوه‭ ‬فهم‭ ‬الغاوون‭, ‬وذلك‭ ‬إذا‭ ‬مدح‭ ‬ممدوحاً‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬وأحب‭ ‬ذلك‭ ‬قوم‭ ‬وتابعوه،‭ ‬فهم‭ ‬الغاوونب‭ (‬ابن‭ ‬منظور‭). ‬فالمسألة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نرى‭ ‬أخلاقية‭ ‬تتعلق‭ ‬بموازين‭ ‬الصدق‭ ‬والكذب‭ ‬وقدرة‭ ‬الشاعر‭ ‬بما‭ ‬أوتي‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬الصدق‭ ‬كذباً‭ ‬والكذب‭ ‬صدقاً‭ ‬فيتبعه‭ ‬الناس‭ ‬وتختلط‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقية‭. ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬جَبّ‭ ‬شاعرية‭ ‬فحل‭ ‬من‭ ‬فحول‭ ‬شعراء‭ ‬الجاهلية‭ ‬هو‭ ‬لبيد،‭ ‬وحوّله‭ ‬بعد‭ ‬دخوله‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬واعظ‭.‬

لم‭ ‬يطل‭ ‬الزمن‭ ‬كثيراً‭ ‬ليستعيد‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬موقعه‭ ‬وسطوته،‭ ‬من‭ ‬ناحيتين‭: ‬من‭ ‬خارج‭ ‬النصّ‭ ‬القرآني‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬الأموي‭ ‬والعصر‭ ‬العباسي،‭ ‬أمثال‭ ‬مثلث‭ ‬النقائض‭ ‬الأخطل‭ ‬والفرزدق‭ ‬وجرير،‭ ‬وفتى‭ ‬الحجاز‭ ‬وشاعرها‭ ‬الغَزِل‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭ ‬القرشي‭ ‬المخزومي،‭ ‬وعلى‭ ‬يد‭ ‬شاعر‭ ‬الخمرة‭ ‬العباسي‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬هانئ‭ ‬ولقبه‭ ‬
أبو‭ ‬نواس‭ ‬غلب‭ ‬على‭ ‬اسمه‭. ‬لا‭ ‬ننسَ‭ ‬كلاً‭ ‬من‭ ‬البحتري‭ ‬وأبي‭ ‬تمام‭ ‬والمعرّي‭ ‬وواسطة‭ ‬العقد‭ ‬المتنبي‭. ‬أما‭ ‬المتصوّفة‭ ‬الإسلاميون،‭ ‬أمثال‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الفارض‭ ‬والحسين‭ ‬بن‭ ‬منصور‭ ‬الحلاّج‭ ‬ومحيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي‭ ‬وسواهم‭ ‬ممن‭ ‬غاصوا‭ ‬بقوّة‭ ‬إلى‭ ‬جواهر‭ ‬المعاني‭ ‬في‭ ‬العبارة‭ ‬وفي‭ ‬الرمز‭ ‬الخصب‭ ‬ودخلوا‭ ‬في‭ ‬مغامرة‭ ‬وصلت‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الموت‭ ‬والجنون،‭ ‬لا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الجاهلي‭ ‬للشعر،‭ ‬بل‭ ‬بارتباط‭ ‬الإنسان‭ ‬بالغيب‭ ‬واندراجه‭ ‬في‭ ‬العشق‭ ‬الإلهي‭ ‬والتماهي‭ ‬مع‭ ‬الكائنات‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬واحدة‭.‬

ولد‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬ولادة‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬المتصوفة‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬كلماته‭ ‬وأسرار‭ ‬حروفه‭.‬

‭ ‬إنّ‭ ‬صوفياً‭ ‬كالحلاّج‭ (‬244-309هـ‭) ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬المتأخّر‭ ‬جمع‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االطواسينب‭ ‬معاني‭ ‬جديدة‭ ‬استنطقها‭ ‬أسراراً‭ ‬لا‭ ‬تخطر‭ ‬ببال‭ ‬معاصريه‭. ‬ولقد‭ ‬جرى‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الحلاّج‭ ‬الملقّب‭ ‬بـاالعالم‭ ‬السيّد‭ ‬الغريبب‭ ‬شطح‭ ‬أودى‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الصلب‭ ‬والحرق‭ ‬وذرّ‭ ‬رماده‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭.‬

يا‭ ‬لائمي‭ ‬في‭ ‬هواهُ‭ ‬كم‭ ‬تلوم‭ ‬فلو

عرفت‭ ‬منه‭ ‬الذي‭ ‬عُنّيتُ‭ ‬لم‭ ‬تَلُمِ

للناس‭ ‬حجّ‭ ‬ولي‭ ‬حجّ‭ ‬إلى‭ ‬سكني

تُهدى‭ ‬الأضاحي‭ ‬وأهدي‭ ‬مهجتي‭ ‬ودمي

تطوف‭ ‬بالبيت‭ ‬قوم‭ ‬لا‭ ‬بجارحةٍ

بالله‭ ‬طافوا‭ ‬فأغناهُمْ‭ ‬عن‭ ‬الحَرَم

وهو‭ ‬قول‭ ‬فيه‭ ‬خروج‭ ‬على‭ ‬ظاهر‭ ‬الإسلام‭.‬

أما‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ (‬560-638هـ‭)‬،‭ ‬الأندلسي‭ ‬المولد‭ ‬الدمشقي‭ ‬القبر‭ (‬في‭ ‬جبل‭ ‬قاسيون‭)‬،‭ ‬فكان‭ ‬أمره‭ ‬عجب‭ ‬العجب‭ ‬في‭ ‬استنطاق‭ ‬حروف‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬يتحمله‭ ‬قوس‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬غرابة‭ ‬وشطح‭. ‬

ولابن‭ ‬عربي‭ ‬كلام‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬الكامل‭ ‬وأشعار‭ ‬باطنية‭ ‬غنوصية‭ ‬صعب‭ ‬فهمها،‭ ‬وهو‭ ‬القائل‭: ‬اعليك‭ ‬بروح‭ ‬الأشياءب،‭ ‬وهو‭ ‬يعلم‭ ‬خطورة‭ ‬ما‭ ‬يكتب‭ ‬وما‭ ‬يقول‭ ‬فيذكر‭ ‬تنبيهاً‭ ‬تجاه‭ ‬علم‭ ‬الأذواق‭ ‬من‭ ‬االصحو‭ ‬والسكر‭ ‬والشرب‭ ‬والهيبة‭ ‬والأنس‭ ‬والإثبات‭ ‬والمحو‭ ‬والمحق‭ ‬ومحو‭ ‬المحو‭ ‬وفناء‭ ‬العينب‭:‬

اإنّ‭ ‬هذه‭ ‬الأسرار‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬سترها‭ ‬ولا‭ ‬يجوز‭ ‬كشفهاب‭.‬

لقد‭ ‬تمّ‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬للشعر‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬حدود‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬المتصوّفة‭ ‬المسلمين،‭ ‬وهو‭ ‬باب‭ ‬قرآني‭ ‬كان‭ ‬قبلهم‭ ‬مغلقاً‭. ‬إنّ‭ ‬أحوال‭ ‬الصوفية‭ ‬أقوى‭ ‬وأهم‭ ‬من‭ ‬أشعارهم‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬أراجيز‭ ‬تعليمية‭ ‬يحتاج‭ ‬فك‭ ‬رموزها‭ ‬إلى‭ ‬قاموس‭ ‬في‭ ‬الصوفيّة‭. ‬لكنّ‭ ‬أهميتهم‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الشعرية‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬الانتباه‭ ‬لأبعاد‭ ‬اللغة‭ ‬الرامزة‭ ‬في‭ ‬القرآن،‭ ‬باعتبار‭ ‬الرمز‭ ‬الخصب‭ ‬أصلاً‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬الشعر‭ ‬العميقة‭.‬

أما‭ ‬علامات‭ ‬تحوّل‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة،‭ ‬وكيفية‭ ‬انتقاله‭ ‬من‭ ‬الانتظام‭ ‬إلى‭ ‬الأسطرة‭ ‬فالخلل‭ ‬والكاوس‭ ‬Cahos‭ ‬الشعري‭ ‬فإلى‭ ‬هباء‭ ‬الإشارة‭ ‬الإلكترونية‭, ‬وما‭ ‬الفلسفات‭ ‬التي‭ ‬اعترته‭ ‬مع‭ ‬عصور‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعدها،‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالغرب‭, ‬فلذلك‭ ‬بحث‭ ‬آخر‭ ‬سنعود‭ ‬إليه‭ >‬