الكلام... المعمار... الغناء ثلاث لغات تقول مَنْ أنت

الكلام... المعمار... الغناء ثلاث لغات تقول مَنْ أنت

لا‭ ‬يجادل‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬لغة‭ ‬الكتابة‭ ‬والكلام‭ ‬عنصرٌ‭ ‬أساس‭ ‬في‭ ‬الدلالة‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬الإنسان،‭ ‬وهوية‭ ‬مجتمعه‭ ‬وحضارته‭ ‬بالتبعية،‭ ‬وقلْ‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬عناصر‭ ‬مضافة،‭ ‬مثل‭ ‬التاريخ‭ ‬المشترك،‭ ‬والنظام‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬ومنظومات‭ ‬العقائد،‭ ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الملامح‭ ‬الموحّدة،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬تظلّ‭ ‬خارجية‭ ‬تضاف‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬إلى‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع،‭ ‬أي‭ ‬ليست‭ ‬داخلية‭ ‬مثل‭ ‬اللغة،‭ ‬أي‭ ‬لغة‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬نقوله‭ ‬ونكتبه،‭ ‬فهذه‭ ‬تختزن‭ ‬ملامحنا‭ ‬الحقّة‭... ‬تختزن‭ ‬أدوات‭ ‬التفكير‭ ‬والذاكرة‭ ‬والوعي‭ ‬وتشكيل‭ ‬صور‭  ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حولنا،‭ ‬أي‭ ‬المفردات،‭ ‬وبهذه‭ ‬المفردات‭ ‬تتشكل‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬نفهم‭ ‬ونميّز،‭ ‬ونعرف‭ ‬مكاننا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬ومكان‭ ‬العالم‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا‭. ‬

ويمكن‭ ‬قول‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬لغات‭ ‬أخرى،‭ ‬وبخاصة‭ ‬لغة‭ ‬المعمار‭ ‬ولغة‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭. ‬فلهاتين‭ ‬اللغتين‭ ‬مفرداتٌ‭ ‬أيضاً‭. ‬مع‭ ‬أن‭ ‬مفردات‭ ‬كل‭ ‬لغة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬الثلاث‭ ‬ذات‭ ‬سمات‭ ‬خاصة‭ ‬بها،‭ ‬وتختلف‭ ‬المفردات‭ ‬اللغوية‭ (‬الحرف‭ ‬والكلمة‭ ‬والجملة‭ ‬والنص‭)‬،‭ ‬عن‭ ‬المفردات‭ ‬المعمارية‭ (‬الأشكال‭ ‬والحجوم‭ ‬والمسطحات‭ ‬البنائية‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬تختلف‭ ‬كلتاهما‭ ‬عن‭ ‬لغة‭ ‬الموسيقى،‭ ‬وأساسها‭ ‬المقامات‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الأساس‭ ‬اللحني‭ ‬والنغمي‭ ‬للموسيقى‭ ‬العربية،‭ ‬لكنها‭ ‬تشترك‭ ‬في‭ ‬خاصية‭ ‬جوهرية؛‭ ‬تقوم‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬ملامح‭ ‬الإنسان‭ ‬علاقة‭ ‬جدلية،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الكلام‭ ‬المنطوق‭ ‬والمكتوب‭ ‬هو‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬نعرف،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬هو‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬تعرّف‭ ‬بنا‭ ‬وتظهر‭ ‬صورتنا‭ ‬وملامحنا،‭ ‬وأي‭ ‬خلل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأداة‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬خلل‭ ‬ينتاب‭ ‬علاقتنا‭ ‬بما‭ ‬حولنا‭. ‬اللغة‭ ‬أداة‭ ‬الإدراك‭... ‬إدراك‭ ‬العالم‭ ‬والذات،‭ ‬ومثلما‭ ‬تمنحنا‭ ‬اللغة‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الفهم‭ ‬والإدراك،‭ ‬تمنحنا‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬والسلوك‭... ‬تمنح‭ ‬لأفعالنا‭ ‬معنى‭. ‬

وتمنحنا‭ ‬ملامح‭ ‬المعمار‭ ‬ولغته‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬البيئة‭ ‬المألوفة‭ ‬التي‭ ‬نعرف‭ ‬بها‭ ‬أيضاً،‭ ‬ولكننا‭ ‬هنا‭ ‬نعرف‭ ‬ونهتدي‭ ‬بالحسيات،‭ ‬بالأشكال‭ ‬والحجوم‭ ‬والمسطحات،‭ ‬أننا‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬مألوف‭ ‬نجده‭ ‬أينما‭ ‬اتجهنا،‭ ‬فلا‭ ‬نشعر‭ ‬بالغربة‭ ‬أينما‭ ‬حللنا،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬نشعر‭ ‬حين‭ ‬نسمع‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الأمكنة‭ ‬الغريبة‭ ‬من‭ ‬يتحدث‭ ‬لغتنا،‭ ‬ويستخدم‭ ‬مفرداتنا‭. ‬وتؤدي‭ ‬المقامات‭ ‬الموسيقية،‭ ‬بمسافاتها‭ ‬المتنوعة،‭ ‬بين‭ ‬الصوت‭ ‬والوقفة‭ ‬الزمنية،‭ ‬دور‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬نفهمها‭ ‬ونفهم‭ ‬بها‭. ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬تبعث‭ ‬الألحان‭ ‬الموسيقية،‭ ‬بل‭ ‬والنغمات،‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الإنسان،‭ ‬ما‭ ‬نسي‭ ‬من‭ ‬كلمات،‭ ‬وما‭ ‬غاب‭ ‬عن‭ ‬ذاكرته‭ ‬من‭ ‬صور‭. ‬وكأن‭ ‬هذا‭ ‬الثالوث‭: ‬المقام‭ ‬والكلام‭ ‬والصورة،‭ ‬أي‭ ‬اللغات‭ ‬الثلاث،‭ ‬تتضافر‭ ‬عناصره،‭ ‬خاصة‭ ‬حين‭ ‬تعزف‭ ‬معاً،‭ ‬فيرسم‭ ‬ملامحنا‭ ‬ويرسم‭ ‬ملامح‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬نعرف،‭ ‬والفضاء‭ ‬الذي‭ ‬نألف،‭ ‬إنه‭ ‬يقول‭ ‬من‭ ‬نحن‭ ‬ويرسخ‭ ‬هويتنا‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬وجودنا‭ ‬أفراداً‭ ‬وجماعات‭. ‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬اللحظات‭ ‬إحساساً‭ ‬بالهوية‭ ‬الجامعة‭ ‬لمجتمع‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تتعرض‭ ‬فيها‭ ‬عناصر‭ ‬هويته‭ ‬للتهديد‭. ‬وأخص‭ ‬بالذكر‭ ‬ما‭ ‬ذكرته‭ ‬آنفاً‭: ‬اللغة‭ ‬والمعمار‭ ‬والموسيقى‭ ‬والغناء‭. ‬فلنأخذ،‭ ‬كمثال‭ ‬أول،‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬حين‭ ‬يتعرض‭ ‬عنصر‭ ‬الكلام‭ ‬إلى‭ ‬الاختلال،‭ ‬أي‭ ‬حين‭ ‬تتعرض‭ ‬المفردات،‭ ‬الأدوات‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬نفهم‭ ‬وندرك‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حولنا،‭ ‬الناس‭ ‬والطبيعة‭ ‬وبقية‭ ‬الكائنات،‭ ‬إلى‭ ‬تغير‭ ‬في‭ ‬دلالاتها،‭ ‬أو‭ ‬يتم‭ ‬استبدالها،‭ ‬أو‭ ‬يسود‭ ‬قانون‭ ‬الانتحال،‭ ‬فتطلق‭ ‬الأسماء‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مسمياتها‭ ‬الحقيقية‭. ‬ستكون‭ ‬النتيجة‭ ‬بالطبع‭ ‬هي‭ ‬ضياع‭ ‬معاني‭ ‬الأشياء‭. ‬

وفي‭ ‬عالم‭ ‬افتقرت‭ ‬أشياؤه‭ ‬وكائناته‭ ‬وظواهره‭ ‬إلى‭ ‬المعنى،‭ ‬لن‭ ‬يتوقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬الراهن،‭ ‬بل‭ ‬سيمتد‭ ‬حكماً‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬فيتغير‭ ‬تصورنا‭ ‬للماضي،‭ ‬لشخصياته‭ ‬وأحداثه،‭ ‬وفي‭ ‬النتيجة‭ ‬علاقتنا‭ ‬به،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬علاقات‭ ‬بعضنا‭ ‬ببعض‭. ‬وسيمتدّ‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يطوف‭ ‬في‭ ‬الأذهان‭ ‬كإمكانات‭ ‬غير‭ ‬متحققة،‭ ‬لكنها‭ ‬ستؤثر‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬المستقبل‭ ‬المتحقق‭. ‬فهي‭ ‬مسارات‭ ‬ممكنة‭ ‬تتخذها‭ ‬مخيلتنا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬اختيارنا‭ ‬على‭ ‬واحد‭ ‬منها،‭ ‬أو‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الظروف‭ ‬تقودنا‭ ‬إليه‭.‬

لن‭ ‬تحتاج‭ ‬قوى‭ ‬الهيمنة‭ ‬إلى‭ ‬إصدار‭ ‬وفرض‭ ‬معاجم‭ ‬جديدة،‭ ‬لتغيير‭ ‬المدركات،‭ ‬بل‭ ‬ستكون‭ ‬الكفاية‭ ‬في‭ ‬استدخال‭ ‬روايات‭ ‬جديدة‭ ‬مختلفة،‭ ‬ومحو‭ ‬التعابير‭ ‬والمصطلحات‭ ‬التي‭ ‬تحدّد‭ ‬لنا‭ ‬ماهية‭ ‬الأشياء،‭ ‬وإشاعة‭ ‬بدائل‭ ‬نعقل‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حولنا‭. 

نحن‭ ‬ندرك‭ ‬ونعي‭ ‬ونفهم،‭ ‬ثم‭ ‬نتصرف‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬وتحت‭ ‬تأثير‭ ‬مفرداتنا‭ ‬اللغوية،‭ ‬وبها‭ ‬يتشكل‭ ‬الإدراك‭ ‬والوعي‭ ‬والفهم،‭ ‬وأي‭ ‬تغيير‭ ‬سيعني‭ ‬تغييراً‭ ‬متعدّد‭ ‬الأبعاد‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬العلاقات‭..‬‭. ‬علاقات‭ ‬الجماعة‭ ‬البشرية‭ ‬بالبيئة‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬بماضيها‭ ‬ومستقبلها‭. ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نعقل‭ ‬خارج‭ ‬منظومات‭ ‬ألفاظنا،‭ ‬فهي‭ ‬نوافذنا‭ ‬التي‭ ‬نطل‭ ‬منها،‭ ‬وإطارات‭ ‬هذه‭ ‬النوافذ‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدّد‭ ‬أبعاد‭ ‬نظرنا،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬ونعيه‭ ‬وندركه‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬صحيح،‭ ‬ولكن‭ ‬الألفاظ‭ ‬والإطارات‭ ‬تتعرض‭ ‬للتغيير‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬عاملين،‭ ‬فإما‭ ‬يغيرها‭ ‬تفاعلها‭ ‬مع‭ ‬سياق‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬أي‭ ‬تطور‭ ‬فاعلية‭ ‬المجتمعات‭ ‬الثقافية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والسياسية،‭ ‬وإما‭ ‬يغيرها‭ ‬التدخل‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تعدد‭ ‬وسائط‭ ‬الإعلام‭ ‬والتواصل‭ ‬مع‭ ‬أدوات‭ ‬إدراك‭ ‬لغوية‭ ‬أجنبية‭. ‬

المثال‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يحضرني‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬لغة‭ ‬الملامح‭ ‬المعمارية‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬البيت‭ ‬والبيئة‭ ‬والفضاء‭ ‬من‭ ‬حولنا،‭ ‬ورسم‭ ‬هوية‭ ‬جماعية‭ ‬بالنتيجة‭. ‬فنلاحظ‭ ‬مثلا،‭ ‬أن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العمائر‭ ‬الموروثة،‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وفلسطين‭ ‬والكويت‭ ‬والجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬واليمن‭... ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬تنوع‭ ‬الملامح،‭ ‬لكنه‭ ‬يشير‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬وحدة‭ ‬مدهشة‭ ‬لا‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬الملامح‭ ‬المعمارية‭ ‬العربية‭ ‬الراهنة‭. ‬وبالطبع‭ ‬تمنح‭ ‬هذه‭ ‬الوحدة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربيّ‭ ‬أينما‭ ‬كان،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬أو‭ ‬فلسطين‭ ‬أو‭ ‬اليمن‭ ‬أو‭ ‬الكويت‭ ‬أو‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬إحساساً‭ ‬بوجوده‭ ‬في‭ ‬وطنه‭. ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يغترب‭ ‬بصرياً،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يغترب‭ ‬عاطفياً،‭ ‬وهذا‭ ‬الشعور‭ ‬بالماهية،‭ ‬أي‭ ‬بالهوية‭ ‬الجامعة،‭ ‬انعكاس‭ ‬للملامح‭ ‬المعمارية‭ ‬نكاد‭ ‬نفقده‭ ‬حالياً‭ ‬حين‭ ‬نشاهد‭ ‬من‭ ‬حولنا،‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬التنافر‭ ‬بين‭ ‬أشكال‭ ‬وحجوم‭ ‬ومسطحات‭ ‬عمائر‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬بل‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬نتذكر‭ ‬من‭ ‬ماضينا،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬مما‭ ‬عايشنا‭ ‬أو‭ ‬مما‭ ‬أورثتنا‭ ‬إياه‭ ‬ذاكرة‭ ‬أجيال‭ ‬الماضي،‭ ‬وما‭ ‬احتوته‭ ‬بطون‭ ‬الكتب‭. 

إن‭ ‬أي‭ ‬تمزق‭ ‬يلم‭ ‬بالطوابع‭ ‬المعمارية‭ ‬الموحدة،‭ ‬ويحول‭ ‬التنوع‭ ‬الطبيعي‭ ‬إلى‭ ‬تنافر‭ ‬وتضارب،‭ ‬يعكس‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬فلا‭ ‬ينعزل‭ ‬بعضها‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬بصرياً‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬ينعزل‭ ‬عاطفيا‭ ‬أيضاً،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يستتبع‭ ‬هذا‭ ‬الانعزال‭ ‬من‭ ‬تقطع‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬وجهل‭ ‬متبادل‭ ‬وانعدام‭ ‬ألفة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭. ‬

وتتضح‭ ‬هذه‭ ‬الغربة‭ ‬وهذا‭ ‬الانفصال‭ ‬حين‭ ‬نأتي‭ ‬إلى‭ ‬المقامات‭ ‬الموسيقية،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المثال‭ ‬الثالث‭.  ‬فمن‭ ‬الملحوظ‭ ‬منذ‭ ‬أقدم‭ ‬الأزمنة‭ ‬أن‭ ‬الغناء‭ ‬والرقص‭ ‬وما‭ ‬يصاحبهما‭ ‬من‭ ‬موسيقى‭ ‬كانا‭ ‬وسيلة‭ ‬لتجمع‭ ‬الناس‭ ‬وخلق‭ ‬شعور‭ ‬بالوحدة،‭ ‬وتوجيه‭ ‬عواطف‭ ‬الجماعة‭ ‬المعنية‭ ‬وحثها‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بعمل‭ ‬جماعي‭ ‬مشترك‭. ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬نظاماً‭ ‬مجرداً‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الأصوات،‭ ‬بل‭ ‬وسيلة‭ ‬فاعلة‭ ‬لاستثارة‭ ‬عواطف‭ ‬وذاكرة‭ ‬جماعية،‭ ‬وبث‭ ‬أشواق‭ ‬وتطلعات‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬معادلاً‭ ‬لغوياً‭ ‬لها،‭ ‬أو‭ ‬مناظراً‭ ‬بصرياً،‭ ‬لكننا‭ ‬نجد‭ ‬آثارها‭ ‬حين‭ ‬تتغلغل‭ ‬في‭ ‬كيان‭ ‬الإنسان‭ ‬المادي،‭ ‬فتجعله‭ ‬ينتحب‭ ‬أو‭ ‬يستمتع،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬تغييراً‭ ‬في‭ ‬وجوده‭ ‬كله‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المؤثرات‭ ‬تخلق‭ ‬بالضرورة‭ ‬ذاكرة‭ ‬سمعية‭ ‬جماعية‭ ‬للجماعة،‭ ‬تنبعث‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬نغمات‭ ‬أو‭ ‬ألحاناً‭ ‬معينة‭. ‬

إن‭ ‬المسافات‭ ‬التي‭ ‬يحددها‭ ‬الصوت‭ ‬والسكون‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬مسافات‭ ‬قياس‭ ‬لهذا‭ ‬النظام‭ ‬المحسوب‭ ‬رياضياً،‭ ‬بل‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مسافات‭ ‬ذات‭ ‬علاقة‭ ‬عاطفية‭ ‬بأرض‭ ‬ووطن‭ ‬وشعب‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬موسيقى‭ ‬أي‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬هي‭ ‬مفتاح‭ ‬مهم‭ ‬لفهم‭ ‬ثقافته‭ ‬وعلاقاته‭. ‬

هذه‭ ‬اللغات‭ ‬الثلاث،‭ (‬الكلام‭ ‬والمعمار‭ ‬والغناء‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬تدل‭ ‬ولا‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬أمة‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬شعب‭ ‬واحد‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬لغات‭ ‬ذات‭ ‬فاعلية‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬وترسيخ‭ ‬ملامح‭ ‬شخصية‭ ‬الجماعة‭ ‬والفرد،‭ ‬وحين‭ ‬تتعرض‭ ‬فاعليتها‭ ‬للتشويه،‭ ‬أي‭ ‬حين‭ ‬يفقد‭ ‬الكلام‭ ‬كونه‭ ‬أداة‭ ‬إدراك،‭ ‬ويفقد‭ ‬المعمار‭ ‬كونه‭ ‬مكاناً‭ ‬للألفة،‭ ‬وتتحول‭ ‬الأصوات‭ ‬الموسيقية‭ ‬إلى‭ ‬صخب‭ ‬وضجيج‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬له،‭ ‬تتمزق‭ ‬الهوية،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬حتى‭ ‬الفرد‭ ‬الواحد‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الجماعة‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬جماعة،‭ ‬ولا‭ ‬تجد‭ ‬الجماعة‭ ‬لها‭ ‬مكاناً‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬بقية‭ ‬الجماعات‭ ‬الإنسانية‭ >‬