الكلام... المعمار... الغناء ثلاث لغات تقول مَنْ أنت

لا يجادل أحد في أن لغة الكتابة والكلام عنصرٌ أساس في الدلالة على هوية الإنسان، وهوية مجتمعه وحضارته بالتبعية، وقلْ مثل ذلك عن عناصر مضافة، مثل التاريخ المشترك، والنظام الاقتصادي، ومنظومات العقائد، هذا إذا أردنا الحديث عن الملامح الموحّدة، لكن هذه العناصر تظلّ خارجية تضاف بهذا القدر أو ذاك إلى الفرد والمجتمع، أي ليست داخلية مثل اللغة، أي لغة الخطاب الذي نقوله ونكتبه، فهذه تختزن ملامحنا الحقّة... تختزن أدوات التفكير والذاكرة والوعي وتشكيل صور العالم من حولنا، أي المفردات، وبهذه المفردات تتشكل المفاهيم التي بها نفهم ونميّز، ونعرف مكاننا في هذا العالم، ومكان العالم بالنسبة إلينا.
ويمكن قول الأمر نفسه عن لغات أخرى، وبخاصة لغة المعمار ولغة الموسيقى والغناء. فلهاتين اللغتين مفرداتٌ أيضاً. مع أن مفردات كل لغة من هذه اللغات الثلاث ذات سمات خاصة بها، وتختلف المفردات اللغوية (الحرف والكلمة والجملة والنص)، عن المفردات المعمارية (الأشكال والحجوم والمسطحات البنائية)، كما تختلف كلتاهما عن لغة الموسيقى، وأساسها المقامات التي هي الأساس اللحني والنغمي للموسيقى العربية، لكنها تشترك في خاصية جوهرية؛ تقوم بينها وبين ملامح الإنسان علاقة جدلية، بمعنى أن الكلام المنطوق والمكتوب هو الأداة التي بها نعرف، وفي الوقت نفسه، هو الأداة التي تعرّف بنا وتظهر صورتنا وملامحنا، وأي خلل في هذه الأداة ينعكس على شكل خلل ينتاب علاقتنا بما حولنا. اللغة أداة الإدراك... إدراك العالم والذات، ومثلما تمنحنا اللغة القدرة على الفهم والإدراك، تمنحنا القدرة على الفعل والسلوك... تمنح لأفعالنا معنى.
وتمنحنا ملامح المعمار ولغته ما يشبه البيئة المألوفة التي نعرف بها أيضاً، ولكننا هنا نعرف ونهتدي بالحسيات، بالأشكال والحجوم والمسطحات، أننا جزء من عالم مألوف نجده أينما اتجهنا، فلا نشعر بالغربة أينما حللنا، تماماً كما نشعر حين نسمع في مكان ما من الأمكنة الغريبة من يتحدث لغتنا، ويستخدم مفرداتنا. وتؤدي المقامات الموسيقية، بمسافاتها المتنوعة، بين الصوت والوقفة الزمنية، دور اللغة التي نفهمها ونفهم بها. وكثيراً ما تبعث الألحان الموسيقية، بل والنغمات، في ذاكرة الإنسان، ما نسي من كلمات، وما غاب عن ذاكرته من صور. وكأن هذا الثالوث: المقام والكلام والصورة، أي اللغات الثلاث، تتضافر عناصره، خاصة حين تعزف معاً، فيرسم ملامحنا ويرسم ملامح الأرض التي نعرف، والفضاء الذي نألف، إنه يقول من نحن ويرسخ هويتنا الدالة على وجودنا أفراداً وجماعات.
ولعل من أكثر اللحظات إحساساً بالهوية الجامعة لمجتمع ما هي اللحظة التي تتعرض فيها عناصر هويته للتهديد. وأخص بالذكر ما ذكرته آنفاً: اللغة والمعمار والموسيقى والغناء. فلنأخذ، كمثال أول، ما يحدث حين يتعرض عنصر الكلام إلى الاختلال، أي حين تتعرض المفردات، الأدوات التي بها نفهم وندرك العالم من حولنا، الناس والطبيعة وبقية الكائنات، إلى تغير في دلالاتها، أو يتم استبدالها، أو يسود قانون الانتحال، فتطلق الأسماء على غير مسمياتها الحقيقية. ستكون النتيجة بالطبع هي ضياع معاني الأشياء.
وفي عالم افتقرت أشياؤه وكائناته وظواهره إلى المعنى، لن يتوقف الأمر عند حدود الراهن، بل سيمتد حكماً إلى الماضي، فيتغير تصورنا للماضي، لشخصياته وأحداثه، وفي النتيجة علاقتنا به، وصولا إلى علاقات بعضنا ببعض. وسيمتدّ الأمر إلى المستقبل، ذلك الذي يطوف في الأذهان كإمكانات غير متحققة، لكنها ستؤثر في النهاية على صورة المستقبل المتحقق. فهي مسارات ممكنة تتخذها مخيلتنا، قبل أن يقع اختيارنا على واحد منها، أو نجد أن الظروف تقودنا إليه.
لن تحتاج قوى الهيمنة إلى إصدار وفرض معاجم جديدة، لتغيير المدركات، بل ستكون الكفاية في استدخال روايات جديدة مختلفة، ومحو التعابير والمصطلحات التي تحدّد لنا ماهية الأشياء، وإشاعة بدائل نعقل من خلالها ما يدور حولنا.
نحن ندرك ونعي ونفهم، ثم نتصرف بعد ذلك، وتحت تأثير مفرداتنا اللغوية، وبها يتشكل الإدراك والوعي والفهم، وأي تغيير سيعني تغييراً متعدّد الأبعاد على صعيد العلاقات... علاقات الجماعة البشرية بالبيئة من حولها، وعلاقاتها بماضيها ومستقبلها. نحن لا نستطيع أن نعقل خارج منظومات ألفاظنا، فهي نوافذنا التي نطل منها، وإطارات هذه النوافذ هي التي تحدّد أبعاد نظرنا، أي ما نراه ونعيه وندركه. كل هذا صحيح، ولكن الألفاظ والإطارات تتعرض للتغيير تحت تأثير عاملين، فإما يغيرها تفاعلها مع سياق الحياة الاجتماعية، أي تطور فاعلية المجتمعات الثقافية والاقتصادية والسياسية، وإما يغيرها التدخل من الخارج، وبخاصة في ظل تعدد وسائط الإعلام والتواصل مع أدوات إدراك لغوية أجنبية.
المثال الآخر الذي يحضرني هنا هو دور لغة الملامح المعمارية في رسم البيت والبيئة والفضاء من حولنا، ورسم هوية جماعية بالنتيجة. فنلاحظ مثلا، أن النظر إلى عدد من العمائر الموروثة، في تونس وفلسطين والكويت والجزيرة العربية واليمن... يشير إلى تنوع الملامح، لكنه يشير أيضاً إلى وحدة مدهشة لا نجدها في الملامح المعمارية العربية الراهنة. وبالطبع تمنح هذه الوحدة الإنسان العربيّ أينما كان، سواء في تونس أو فلسطين أو اليمن أو الكويت أو الجزيرة العربية، إحساساً بوجوده في وطنه. هو لا يغترب بصرياً، كما لا يغترب عاطفياً، وهذا الشعور بالماهية، أي بالهوية الجامعة، انعكاس للملامح المعمارية نكاد نفقده حالياً حين نشاهد من حولنا، ليس هذا التنافر بين أشكال وحجوم ومسطحات عمائر هذه المدينة العربية أو تلك، بل وبين ما نتذكر من ماضينا، سواء كان مما عايشنا أو مما أورثتنا إياه ذاكرة أجيال الماضي، وما احتوته بطون الكتب.
إن أي تمزق يلم بالطوابع المعمارية الموحدة، ويحول التنوع الطبيعي إلى تنافر وتضارب، يعكس نفسه على العلاقات بين المجتمعات العربية، فلا ينعزل بعضها عن بعض بصرياً فقط، بل ينعزل عاطفيا أيضاً، مع ما يستتبع هذا الانعزال من تقطع في العلاقات وجهل متبادل وانعدام ألفة في المكان والزمان.
وتتضح هذه الغربة وهذا الانفصال حين نأتي إلى المقامات الموسيقية، وهذا هو المثال الثالث. فمن الملحوظ منذ أقدم الأزمنة أن الغناء والرقص وما يصاحبهما من موسيقى كانا وسيلة لتجمع الناس وخلق شعور بالوحدة، وتوجيه عواطف الجماعة المعنية وحثها على القيام بعمل جماعي مشترك. هي ليست نظاماً مجرداً من العلاقات بين الأصوات، بل وسيلة فاعلة لاستثارة عواطف وذاكرة جماعية، وبث أشواق وتطلعات قد لا نجد معادلاً لغوياً لها، أو مناظراً بصرياً، لكننا نجد آثارها حين تتغلغل في كيان الإنسان المادي، فتجعله ينتحب أو يستمتع، ويمكن أن تحدث تغييراً في وجوده كله. كل هذه المؤثرات تخلق بالضرورة ذاكرة سمعية جماعية للجماعة، تنبعث ما إن تتردد في الفضاء نغمات أو ألحاناً معينة.
إن المسافات التي يحددها الصوت والسكون ليست مجرد مسافات قياس لهذا النظام المحسوب رياضياً، بل تتحول إلى مسافات ذات علاقة عاطفية بأرض ووطن وشعب. ومن هنا يقال إن موسيقى أي شعب من الشعوب هي مفتاح مهم لفهم ثقافته وعلاقاته.
هذه اللغات الثلاث، (الكلام والمعمار والغناء)، لا تدل ولا تشير إلى وجود أمة واحدة أو شعب واحد فقط، بل هي لغات ذات فاعلية في تشكيل وترسيخ ملامح شخصية الجماعة والفرد، وحين تتعرض فاعليتها للتشويه، أي حين يفقد الكلام كونه أداة إدراك، ويفقد المعمار كونه مكاناً للألفة، وتتحول الأصوات الموسيقية إلى صخب وضجيج لا معنى له، تتمزق الهوية، ولا يستطيع حتى الفرد الواحد العثور على مكان له في الجماعة أو أي جماعة، ولا تجد الجماعة لها مكاناً في العالم بين بقية الجماعات الإنسانية >