من حلم جميل إلى كابوس مفزع الهجرة السرِّية من جنوب «المتوسط» إلى شماله

من حلم جميل إلى كابوس مفزع الهجرة السرِّية من جنوب «المتوسط» إلى شماله

من‭ ‬المفارقات‭ ‬العجيبة‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط،‭ ‬مهد‭ ‬الحضارات‭ ‬وقبلة‭ ‬السواح‭ ‬وملهم‭ ‬الفنانين‭ ‬والفلاسفة،‭ ‬من‭ ‬فضاء‭ ‬يطيب‭ ‬على‭ ‬ضفافه‭ ‬المقام‭ ‬ويحلو‭ ‬في‭ ‬جواره‭ ‬العيش،‭ ‬إلى‭ ‬مقبرة‭ ‬تلتهم‭ ‬الأشخاص‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬شبابهم،‭ ‬يموتون‭ ‬في‭ ‬الخفاء،‭ ‬بلا‭ ‬توابيت‭ ‬ولا‭ ‬قبور‭ ‬ولا‭ ‬تأبين‭ ‬ولا‭ ‬صلوات،‭ ‬يلتهمهم‭ ‬الحوت‭ ‬وتتقاذف‭ ‬جثثهم‭ ‬الأمواج،‭ ‬تاركين‭ ‬أمهات‭ ‬ثكلى‭ ‬وأسراً‭ ‬ملتاعة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬مصير‭  ‬أبنائها،‭ ‬متشبثة،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬بالأمل‭ ‬في‭ ‬بقاء‭ ‬أبنائها‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬ويظل‭ ‬أفراد‭ ‬هذه‭ ‬الأسر‭ ‬متنقلين‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬أوربية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬منفقين‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬عندهم‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬لعلهم‭ ‬يعثرون‭ ‬على‭ ‬خيط‭ ‬يوصلهم‭ ‬إلى‭ ‬الابن‭ ‬المفقود‭. ‬إنه‭ ‬من‭ ‬وظائف‭ ‬العزاء‭ ‬التخفيف‭ ‬على‭ ‬المصاب‭ ‬وإعداده‭ ‬لتجاوز‭ ‬محنته،‭ ‬لكن‭ ‬الفاقد‭ ‬لابن‭ ‬انقطعت‭ ‬جميع‭ ‬أخباره‭ ‬لا‭ ‬يتمتع‭ ‬حتى‭ ‬بهذه‭ ‬الفرصة،‭ ‬ويظل‭ ‬مرهقاً‭ ‬تتقاذفه‭ ‬مشاعر‭ ‬الأمل‭ ‬واليأس‭ ‬والرجاء‭ ‬والخوف‭.‬

تذكر‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ (‬2015‭)‬،‭ ‬أن‭ ‬عبور‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المهاجرين‭ ‬السريين‭ ‬أدى‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2000‭ ‬إلى‭ ‬وفاة‭ ‬22‭ ‬ألفاً‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬40‭ ‬ألف‭ ‬مهاجر‭ ‬سري‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لقوا‭ ‬حتفهم‭ ‬عند‭ ‬محاولاتهم‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ومن‭ ‬قارة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭. ‬وفي‭ ‬ثنايا‭ ‬هذا‭ ‬الكشف‭ ‬المأساوي‭ ‬يبرز‭ ‬عام‭ ‬2014‭ ‬كحامل‭ ‬للرقم‭ ‬القياسي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفواجع،‭ ‬فقد‭ ‬مات‭ ‬خلاله‭ ‬أثناء‭ ‬العبور‭ ‬4077‭ ‬مهاجراً‭ ‬سرياً،‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬3072‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭.‬

يعكس‭ ‬عدد‭ ‬الأموات‭ ‬ارتفاع‭ ‬عدد‭ ‬الراكبين‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬شرعية‭. ‬لقد‭ ‬ازدادت‭ ‬كثافة‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬خاصة‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬مع‭ ‬ثورات‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالربيع‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬صاحبه‭ ‬انحلال‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬وتلاشٍ‭ ‬للمراقبة‭ ‬الحدودية،‭ ‬ففي‭ ‬تونس،‭ ‬مثلا،‭ ‬امتطى‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الأخيرة‭ ‬50‭ ‬ألف‭ ‬تونسي‭ ‬قوارب‭ ‬لبلوغ‭ ‬إيطاليا،‭ ‬مات‭ ‬منهم‭ ‬3‭ ‬آلاف‭ ‬تقريبا،‭ ‬وظل‭ ‬بين‭ ‬1700‭ ‬و2000‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬المفقودين،‭ ‬وبقي‭ ‬أغلب‭ ‬الناجين‭ ‬في‭ ‬مراكز‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بإيطاليا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬ترحيلهم‭ ‬إلى‭ ‬بلادهم‭. ‬وتجمع‭ ‬التقارير‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التلاميذ‭ ‬والطلبة‭ ‬يمثلون‭ ‬ربع‭ ‬المهاجرين‭ ‬تقريبا‭. ‬وعرف‭ ‬عام‭ ‬2011‭ (‬العام‭ ‬الذي‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية‭) ‬كثافة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬لظاهرة‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬فقد‭ ‬تدفقت‭ ‬على‭ ‬السواحل‭ ‬الجنوبية‭ ‬الإيطالية،‭ ‬خاصة‭ ‬الجزيرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬لمبادوزا،‭ ‬أمواج‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬التونسيين‭ ‬تجاوزت‭ ‬الخمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭.‬

وفي‭ ‬أسابيع‭ ‬قليلة‭ ‬أصبح‭ ‬عدد‭ ‬الوافدين‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬يساوي‭ ‬أربع‭ ‬مرات‭ ‬عدد‭ ‬سكانها،‭ ‬ولم‭ ‬يتقلص‭ ‬الزحف‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬عودة‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬والمغرب‭ ‬وليبيا،‭ ‬فلا‭ ‬يخلو‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭. ‬تذكر‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬حقائق‮»‬‭ ‬التونسية‭ (‬عدد‭ ‬12،‭ ‬من‭ ‬9‭ ‬إلى‭ ‬22‭ ‬فبراير‭ ‬2009،‭ ‬ص‭ ‬44‭)‬،‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬مصادر‭ ‬صحفية‭ ‬جزائرية،‭ ‬أن‭ ‬‮«‬حوالي‭ ‬300‭ ‬شاب‭ ‬أعمارهم‭ ‬بين‭ ‬13‭ ‬و37‭ ‬عاماً‭ ‬يحاولون‭ ‬يوميا‭ ‬التسلل‭ ‬إلى‭ ‬الشواطئ‭ ‬الجزائرية‭ ‬في‭ ‬قوارب‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تحتمل‭ ‬عطبا‭ ‬طارئا‭ ‬لمحرك‭ ‬ضعيف‭ ‬وتقلبات‭ ‬مفاجئة‮»‬‭. ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬الأمر‭ ‬خطورة‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬نظرا‭ ‬لقرب‭ ‬سواحلها‭ ‬من‭ ‬السواحل‭ ‬الإسبانية،‭ ‬ولوجود‭ ‬مدينتي‭ ‬سبتة‭ ‬ومليلية‭ ‬التابعتين‭ ‬لإسبانيا‭ ‬داخل‭ ‬أراضيها،‭ ‬وهما‭ ‬تعرفان‭ ‬باستمرار‭ ‬محاولات‭ ‬متكررة‭ ‬للدخول‭ ‬إليهما‭ ‬رغم‭ ‬أسوارهما‭ ‬المحصنة،‭ ‬ورغم‭ ‬شواطئهما‭ ‬المحروسة،‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬جنوب‭ ‬الصحراء،‭ ‬ينتهي‭ ‬أغلبها‭ ‬بمآسٍ‭ ‬مخلفة‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬القتلى‭ ‬والجرحى‭ ‬مثلما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2005‭. ‬يقدر‭ ‬عدد‭ ‬المهاجرين‭ ‬السريين‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬المغرب‭ ‬القاصدين‭ ‬أوربا‭ ‬سنوياً‭ ‬باثني‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬مهاجر،‭ ‬مات‭ ‬منهم‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬وأوردت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬جالون‭ ‬لاديكوفارت‮»‬‭ ‬الفرنسية‭ (‬بتاريخ‭ ‬16‭ ‬أكتوبر‭ ‬2005‭)‬،‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬مصادر‭ ‬أمنية‭ ‬أوربية‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬انتشال‭ ‬3‭ ‬آلاف‭ ‬جثة‭ ‬في‭ ‬مضيق‭ ‬جبل‭ ‬طارق‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1996‭ ‬و2002،‭ ‬فمدينة‭ ‬الخريبقة‭ ‬المغربية‭ ‬فقدت‭ ‬وحدها‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬ألفاً‭ ‬من‭ ‬سكانها‭ ‬تقريبا،‭ ‬نتيجة‭ ‬الإبحار‭ ‬خلسة‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا‭.‬

ومع‭ ‬تواصل‭ ‬الاضطرابات‭ ‬الأمنية‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وغياب‭ ‬سلطة‭ ‬موحدة‭ ‬للبلاد،‭ ‬تتكثف‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬ومالطا،‭ ‬وانتشرت‭ ‬شبكة‭ ‬الوسطاء‭ ‬والميليشيات‭ ‬المسلحة،‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المرافئ‭ ‬الليبية،‭ ‬مستغلة‭ ‬قدوم‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الأفارقة‭ ‬الحالمين‭ ‬بالثروة‭ ‬والرخاء،‭ ‬في‭ ‬عجلة‭ ‬من‭ ‬أمرهم،‭ ‬وكأنهم‭ ‬في‭ ‬غارة‭ ‬جديدة‭ ‬لاقتحام‭ ‬‮«‬الدرادو‮»‬،‭ ‬لسلبهم‭ ‬ما‭ ‬يملكون‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ضئيلا،‭ ‬فيتم‭ ‬حشرهم‭ ‬في‭ ‬قوارب‭ ‬بالية‭ ‬لا‭ ‬تصمد‭ ‬أمام‭ ‬تقلبات‭ ‬الجو،‭ ‬مثلما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬3‭ ‬أكتوبر‭ ‬2013‭ ‬قبالة‭ ‬سواحل‭ ‬جزيرة‭ ‬لمبادوزا‭ ‬الإيطالية،‭ ‬حيث‭ ‬أدى‭ ‬غرق‭ ‬مركبين‭ ‬إلى‭ ‬هلاك‭ ‬300‭ ‬إريتري‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭ ‬ونحن‭ ‬نستعرض‭ ‬هذه‭ ‬المآسي،‭ ‬لماذا‭ ‬يغامر‭ ‬الناس‭ ‬بحياتهم‭ ‬في‭ ‬رحلات‭ ‬محفوفة‭ ‬بالمخاطر‭ ‬وغير‭ ‬مأمونة‭ ‬العواقب؟‭ ‬هل‭ ‬انسدت‭ ‬كل‭ ‬الآفاق‭ ‬أمامهم؟‭ ‬هل‭ ‬عجزوا‭ ‬عن‭ ‬تلبية‭ ‬حاجاتهم‭ ‬اليومية؟‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬الإجابة‭ ‬بنعم‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬بلدان‭ ‬المغرب‭ ‬الغربي‭ ‬الثلاثة‭ (‬تونس،‭ ‬الجزائر‭ ‬والمغرب‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬مثل‭ ‬أكثر‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬صعوبات‭ ‬اقتصادية،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬الحدة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬سكانها‭ ‬يغامرون‭ ‬بحياتهم‭ ‬للجوء‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى،‭ ‬فما‭ ‬الدوافع‭ ‬الحقيقية؟

 

سماسرة‭ ‬الأوهام

يقع‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الشبان‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬أوضاعهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬وسطاء‭ ‬يبيعون‭ ‬الأوهام،‭ ‬مستغلين‭ ‬شعور‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفتيان‭ ‬بالإحباط‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬توافر‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬الذي‭ ‬يصبون‭ ‬إليه،‭ ‬فيقدمون‭ ‬لهم‭ ‬صورة‭ ‬مغرية‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬الموعودة‭ (‬أوربا‭)‬،‭ ‬ففيها‭ ‬العمل‭ ‬والمنزل‭ ‬اللائق‭ ‬والسيارة‭ ‬الفخمة‭ ‬ووسائل‭ ‬الترويح‭ ‬عن‭ ‬النفس،‭ ‬زارعين‭ ‬الأمل‭ ‬الكاذب‭ ‬في‭ ‬نفوسهم‭ ‬باليسر‭ ‬والهناء‭. ‬كما‭ ‬يجدون‭ ‬في‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬خيبات‭ ‬متتالية‭ (‬فشل‭ ‬دراسي،‭ ‬بطالة،‭ ‬خلافات‭ ‬مع‭ ‬الأسرة‭...)‬،‭ ‬فريسة‭ ‬سهلة،‭ ‬فيقدمون‭ ‬لهم‭ ‬‮«‬طوق‭ ‬النجاة‮»‬،‭ ‬واعدين‭ ‬إياهم‭ ‬بمستقبل‭ ‬وردي‭ ‬يقطع‭ ‬حاضرهم‭ ‬القاتم‭. ‬ولهؤلاء‭ ‬السماسرة‭ ‬أماكن‭ ‬مفضلة‭ ‬يترددون‭ ‬عليها‭ ‬باستمرار،‭ ‬مثل‭ ‬المناطق‭ ‬الفقيرة‭ ‬والمعزولة‭ ‬والأحياء‭ ‬الشعبية‭ ‬والحدائق‭ ‬العمومية‭ ‬والمقاهي،‭ ‬وأمام‭ ‬المدارس‭ ‬ومراكز‭ ‬التدريب‭ ‬المهني،‭ ‬حاثين‭ ‬المترددين‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬الفرصة‭ ‬المقدمة‭ ‬إليهم‭. ‬يتكفل‭ ‬الوسطاء‭ ‬بمراحل‭ ‬العملية،‭ ‬وبالتنسيق‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬المتدخلين،‭ ‬مثل‭ ‬المكلف‭ ‬بالإيواء‭ ‬والناقل‭ ‬والمراقب‭ ‬للحرس‭ ‬البحري‭ ‬مقابل‭ ‬مبلغ‭ ‬مالي‭ ‬يعجز‭ ‬عدد‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬عن‭ ‬توفيره‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬إجبار‭ ‬الأم،‭ ‬تحت‭ ‬التهديد‭ ‬والابتزاز،‭ ‬على‭ ‬بيع‭ ‬مصوغاتها،‭ ‬والأب‭ ‬على‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أملاكه‭ ‬أو‭ ‬كلها‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الإحباط‭ ‬يولد‭ ‬العنف،‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬الشبان‭ ‬العاجزين‭ ‬عن‭ ‬إيجاد‭ ‬المبلغ‭ ‬المالي‭ ‬لا‭ ‬يترددون‭ ‬في‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬أملاك‭ ‬الغير،‭ ‬بالسرقة‭ ‬أو‭ ‬النشل‭ ‬أو‭ ‬التحايل‭ ‬لتوفير‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مطلوب‭.‬

إن‭ ‬تردي‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬هؤلاء‭ ‬المتاجرين‭ ‬بالبشر،‭ ‬وإدمانهم‭ ‬الكسب‭ ‬الخسيس،‭ ‬يزيدان‭ ‬في‭ ‬جشعهم،‭ ‬فلا‭ ‬يترددون‭ ‬في‭ ‬تحميل‭ ‬قوارب‭ ‬الصيد‭ ‬البحري‭ ‬الصغيرة‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تتحمله،‭ ‬غير‭ ‬مبالين‭ ‬ولا‭ ‬مكترثين‭ ‬بحياة‭ ‬ركابها‭. ‬عندما‭ ‬تلفظ‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬من‭ ‬النفس‭ ‬لفظ‭ ‬النواة‭ ‬ولا‭ ‬يبقى‭ ‬إلا‭ ‬المال‭ ‬سيد‭ ‬الموقف،‭ ‬فلا‭ ‬نستغرب‭ ‬فظاظة‭ ‬السلوك‭. ‬أما‭ ‬قائد‭ ‬المركب،‭ ‬إن‭ ‬كتب‭ ‬له‭ ‬الوصول،‭ ‬فلا‭ ‬يختلف‭ ‬عنهم‭ ‬قساوة‭ ‬ولا‭ ‬جشعا،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يغامر‭ ‬ببلوغ‭ ‬الشاطئ،‭ ‬ويلقي‭ ‬بالمسافرين‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬منذ‭ ‬ظهور‭ ‬العلامات‭ ‬الأولى‭ ‬للبلدان‭ ‬المقصودة،‭ ‬ويعود‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أتى‭ ‬وكأن‭ ‬شيئا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭. ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬تأثير‭ ‬الوسطاء‭ ‬العامل‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬استمالة‭ ‬الحالمين‭ ‬بالهجرة‭.‬

 

الصورة‭ ‬الخادعة‭ ‬للمهاجر‭ ‬العائد‭ ‬

إلى‭ ‬أرض‭ ‬الوطن

يعود‭ ‬جل‭ ‬المهاجرين‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬المستقرين‭ ‬بصفة‭ ‬شرعية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬إلى‭ ‬بلدانهم،‭ ‬لقضاء‭ ‬العطلة‭ ‬الصيفية‭ ‬فيها،‭ ‬محملين‭ ‬بالأمتعة،‭ ‬ممتطين‭ ‬السيارات‭ ‬التي‭ ‬جلبوها‭ ‬معهم،‭ ‬ما‭ ‬يوحي‭ ‬بعيشهم‭ ‬الرغيد‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬الإقامة‭. ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬يختلف‭ ‬مظهرهم‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬واقعهم‭ ‬المعيشي‭ ‬هناك،‭ ‬فأكثرهم‭ ‬يكابد‭ ‬المشقات‭ ‬اليومية‭ ‬المنجرة‭ ‬عن‭ ‬ضيق‭ ‬السكن‭ ‬وبعد‭ ‬أماكن‭ ‬العمل‭ ‬ونفقات‭ ‬تعليم‭ ‬الأبناء،‭ ‬وغلاء‭ ‬المعيشة‭ ‬والممارسات‭ ‬العنصرية‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الأفراد‭ ‬والمجموعات،‭ ‬ويدخرون‭ ‬بعض‭ ‬المال‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬حاجاتهم‭ ‬الأساسية،‭ ‬ليعودوا‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬مظهر‭ ‬الفائزين‭.‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يقوّم‭ ‬عادة‭ ‬ذاته‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬غيره،‭ ‬فإن‭ ‬سكان‭ ‬الحي‭ ‬أو‭ ‬القرية،‭ ‬خاصة‭ ‬الشباب‭ ‬منهم،‭ ‬يرون‭ ‬فيهم‭ ‬النموذج‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬الاقتداء‭ ‬به،‭ ‬والجماعة‭ ‬المرجعية‭ ‬التي‭ ‬يتماهون‭ ‬معها‭. ‬إن‭ ‬اشتكى‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬العائدين‭ ‬من‭ ‬ظروف‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬مثل‭ ‬قولهم‭ ‬إنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كما‭ ‬كانت،‭ ‬وإن‭ ‬البطالة‭ ‬تفاقمت‭ ‬فيها‭ ‬وإن‭ ‬القدرة‭ ‬الشرائية‭ ‬لسكانها‭ ‬تقلصت،‭ ‬فإن‭ ‬الحالم‭ ‬بالهجرة‭ ‬يتغاضى‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يوهن‭ ‬عزمه‭ ‬ولا‭ ‬يركز‭ ‬انتباهه‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬المغامرة،‭ ‬مثلما‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬شاب‭ ‬يعد‭ ‬نفسه‭ ‬لهجرة‭ ‬سرية،‭ ‬عندما‭ ‬سألته‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تثنه‭ ‬الأخبار‭ ‬السيئة‭ ‬عن‭ ‬مشروعه؟‭ ‬فأجابني‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تردد‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أهتم‭ ‬إلا‭ ‬بالأخبار‭ ‬السارة‮»‬‭. ‬إن‭ ‬التفاؤل‭ ‬ميزة‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬لكنه‭ ‬عندما‭ ‬ينقلب‭ ‬إلى‭ ‬اندفاع‭ ‬جامح‭ ‬لا‭ ‬تشده‭ ‬ضوابط‭ ‬ولا‭ ‬يكبحه‭ ‬واقع،‭ ‬فإنه‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬خطر‭ ‬داهم‭.‬

 

وسائل‭ ‬الإعلام

لأسباب‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭ ‬البعد‭ ‬وبرودة‭ ‬الطقس‭ ‬وكثرة‭ ‬الضباب‭ ‬واختلاف‭ ‬الثقافة،‭ ‬ظلت‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬مخيلة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي،‭ ‬قرونا‭ ‬عديدة،‭ ‬مقصدا‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه‭ ‬وهو‭ ‬المتعود‭ ‬على‭ ‬صفاء‭ ‬الجو‭ ‬وحرارة‭ ‬الطقس‭ ‬وروابط‭ ‬العشيرة،‭ ‬وينعكس‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬دونه‭ ‬الرحالة‭ ‬العرب،‭ ‬مثل‭ ‬ابن‭ ‬فضلان‭ ‬والإدريسي‭ ‬من‭ ‬أهوال‭ ‬ومخاطر‭ ‬كادت‭ ‬تعصف‭ ‬بحياتهم‭ ‬وهم‭ ‬يشقون‭ ‬طريقهم‭ ‬داخل‭ ‬هذه‭ ‬القارة‭. ‬أما‭ ‬ابن‭ ‬جبير‭ ‬الذي‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬موت‭ ‬محقق‭ ‬نتيجة‭ ‬غرق‭ ‬السفينة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنقله‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬قبالة‭ ‬سواحل‭ ‬صقلية،‭ ‬فقد‭ ‬دون‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬أنه‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬الناجين‭ ‬في‭ ‬ضيافة‭ ‬ملكها‭ ‬غيوم‭ ‬الثاني‭. ‬وشعر‭ ‬أثناء‭ ‬إقامته‭ ‬ببعض‭ ‬الانجذاب‭ ‬والتعاطف‭ ‬مع‭ ‬سكان‭ ‬هذه‭ ‬الجزيرة،‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬قاوم‭ ‬هذه‭ ‬الفتنة‭ ‬وفق‭ ‬تعبيره،‭ ‬وطرد‭ ‬الإغواء‭ ‬من‭ ‬نفسه‭. ‬لقد‭ ‬ساهمت‭ ‬الحروب‭ ‬الفتاكة‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬هذه‭ ‬القارة‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬التي‭ ‬قضت‭ ‬على‭ ‬ملايين‭ ‬السكان‭ ‬وخلفت‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المعوقين،‭ ‬ودمرت‭ ‬آلاف‭ ‬المدن‭, ‬وعمق‭ ‬الاستعمار‭ ‬الذي‭ ‬أخضع‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬بالحديد‭ ‬والنار،‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬السيئة‭ ‬عن‭ ‬الغرب،‭ ‬مثلما‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم‭:‬

لا‭ ‬هُم‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬أصبح‭ ‬شغلة

من‭ ‬هولها‭ ‬أم‭ ‬الصواعق‭ ‬تفرق

العلم‭ ‬يذكي‭ ‬نارها‭ ‬وتثيرها

مدنية‭ ‬خرقاء‭ ‬لا‭ ‬تترفق

تغيرت‭ ‬صورة‭ ‬أوربا‭ ‬لدى‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية‭ ‬بعد‭ ‬الاستعمار‭ ‬نتيجة‭ ‬عوامل‭ ‬كثيرة،‭ ‬لعل‭ ‬أهمها‭ ‬تأثير‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬المحلية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تقدم‭ ‬هذه‭ ‬القارة‭ ‬كجنة‭ ‬ترفرف‭ ‬فيها‭ ‬السعادة‭ ‬ويعم‭ ‬فيها‭ ‬الهناء،‭ ‬متغاضية‭ ‬عن‭ ‬مظاهر‭ ‬البؤس‭ ‬فيها،‭ ‬مثل‭ ‬الإدمان‭ ‬على‭ ‬الكحول‭ ‬والمخدرات‭ ‬والانتحار‭ ‬والتفكك‭ ‬الأسري،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تشير‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬المعاكسة‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬هذه‭ ‬القارة‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬وأستراليا،‭ ‬حيث‭ ‬يجد‭ ‬المهاجرون‭ ‬إطاراً‭ ‬أفضل‭ ‬للعيش‭.‬

كان‭ ‬لهذا‭ ‬الإغراء‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الشباب‭ ‬فنجد‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬48‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي‭ ‬يرغبون‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬أوربا‭ ‬مقابل‭ ‬11‭.‬5‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬يرغبون‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬و2‭.‬5‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬يرغبون‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬أمريكا‭ (‬المرصد‭ ‬الوطني‭ ‬للشباب،‭ ‬تونس،‭ ‬2010‭). ‬

تبلغ‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬عن‭ ‬أوربا‭ ‬حالة‭ ‬الاستيهام‭ ‬Fantasme‭ ‬وكأننا‭ ‬نقرأ‭ ‬في‭ ‬أذهانهم‭ ‬كتاب‭ ‬المؤلف‭ ‬الإنجليزي‭ ‬لويس‭ ‬كارول‭ ‬‮«‬أليس‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العجائب‭ ‬Alice au pays des merveilles‮»‬‭. ‬لكن‭ ‬النزعة‭ ‬الجامحة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬بأوربا‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬زيارتها‭ ‬تصطدم‭ ‬بإجراءات‭ ‬صارمة‭ ‬يفرضها‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬على‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬المتوسط‭.‬

 

الصد‭ ‬يولد‭ ‬بالإغراء

كان‭ ‬انتقال‭ ‬مواطني‭ ‬بلدان‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬الثلاثة‭ (‬تونس،‭ ‬الجزائر‭ ‬والمغرب‭) ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لتأشيرة‭ ‬دخول‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬اتفاقية‭ ‬‮«‬شنجن‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1985‭ ‬بين‭ ‬خمس‭ ‬دول‭ ‬أوربية‭ (‬فرنسا،‭ ‬ألمانيا،‭ ‬بلجيكا،‭ ‬هولندا،‭ ‬لكسمبورج‭).‬

وتقضي‭ ‬هذه‭ ‬الاتفاقية‭ ‬بحرية‭ ‬انتقال‭ ‬مواطني‭ ‬البلدان‭ ‬المذكورة‭ ‬داخل‭ ‬فضائها‭ ‬الجغرافي،‭ ‬مع‭ ‬إجراءات‭ ‬موحدة‭ ‬لمراقبة‭ ‬الهجرة‭ ‬ومنح‭ ‬التأشيرة‭ ‬للقادمين‭ ‬من‭ ‬خارجها،‭ ‬ثم‭ ‬توسعت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لتشمل‭ (‬عام‭ ‬1990‭) ‬26‭ ‬بلدا‭ ‬أوربيا‭ ‬تخضع‭ ‬للإجراءات‭ ‬التي‭ ‬أقرتها‭ ‬الاتفاقية‭ ‬المذكورة،‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬مواطنو‭ ‬بلدان‭ ‬جنوب‭ ‬المتوسط‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬أراضي‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تأشيرة‭.‬

وقد‭ ‬اتسم‭ ‬سفر‭ ‬مواطني‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬قبل‭ ‬اتفاقية‭ ‬‮«‬شنجن‮»‬‭ ‬بالمرونة،‭ ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬التونسيين‭ ‬والجزائريين‭ ‬والمغاربة‭ ‬كانوا‭ ‬ينتقلون‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬لقضاء‭ ‬شؤونهم،‭ ‬مثل‭ ‬السياحة‭ ‬والدراسة‭ ‬والعلاج،‭ ‬ثم‭ ‬يعودون‭ ‬إلى‭ ‬بلدانهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬قضوا‭ ‬حاجاتهم،‭ ‬والبعض‭ ‬منهم‭ ‬لا‭ ‬يعمل‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬المواسم‭ ‬الفلاحية‭ ‬والسياحية‭ ‬ويستقر‭ ‬بقية‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬بلاده‭. ‬ولعله‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬العمال‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬الثلاثة‭ ‬ساهموا‭ ‬مساهمة‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬دمرتها‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وشاركوا‭ ‬بنجاعة‭ ‬في‭ ‬تقدمها‭ ‬السريع‭ ‬خلال‭ ‬الثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬والتي‭ ‬يسميها‭ ‬الأوربيون‭ ‬‮«‬الثلاثين‭ ‬المجيدة‮»‬‭ ‬Les trente glorieuses‭.‬

منذ‭ ‬توقيع‭ ‬اتفاقية‭ ‬‮«‬شنجن‮»‬‭ ‬أمسك‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬ملف‭ ‬الهجرة‭ ‬بقبضة‭ ‬من‭ ‬حديد،‭ ‬فتشدد‭ ‬في‭ ‬منح‭ ‬التأشيرة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬فرض‭ ‬وثائق‭ ‬جديدة،‭ ‬وتمسك‭ ‬بعدم‭ ‬تعليل‭ ‬الرفض‭ ‬وألغى‭ ‬إجراءات‭ ‬الطعن‭ ‬فيه‭. ‬وتوازيا‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات،‭ ‬كثف‭ ‬من‭ ‬المراقبة‭ ‬الأمنية‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬الجنوبية،‭ ‬ودفع‭ ‬بالطائرات‭ ‬وبواخر‭ ‬الاستطلاع‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬ثم‭ ‬أنشأ‭ ‬الوكالة‭ ‬الأوربية‭ ‬للتصرف‭ ‬والتعاون‭ ‬العملياتي‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ (‬فرونتكس‭ ‬Frontex‭). ‬واللافت‭ ‬للانتباه‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تنادي‭ ‬بفتح‭ ‬الحدود‭ ‬أمام‭ ‬البضائع‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬الإجراءات‭ ‬الجمركية،‭ ‬لكنها‭ ‬تتشدد‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬البشر‭. ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬تفتح‭ ‬بلدان‭ ‬جنوب‭ ‬المتوسط‭ ‬أذرعها‭ ‬لاستقبال‭ ‬ملايين‭ ‬الأوربيين‭ ‬القادمين‭ ‬لها،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضغوط‭ ‬ولا‭ ‬إكراهات‭.‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬المنع‭ ‬يولِّد‭ ‬الإغراء،‭ ‬فقد‭ ‬تجملت‭ ‬الأوهام‭ ‬وتزينت‭ ‬الأحلام‭ ‬ببلوغ‭ ‬الضفة‭ ‬الشمالية‭ ‬للمتوسط‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ (‬الاندساس‭ ‬في‭ ‬الحاويات‭ ‬المعدة‭ ‬للتصدير،‭ ‬التسرب‭ ‬خفية‭ ‬إلى‭ ‬البواخر،‭ ‬الاختفاء‭ ‬في‭ ‬الصناديق‭ ‬الخلفية‭ ‬للسيارات‭...)‬،‭ ‬ونورد‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الإمعان،‭ ‬فيقول‭ ‬شاب‭ ‬تونسي‭ ‬يعد‭ ‬نفسه‭ ‬للمغادرة‭: ‬‮«‬أوربا‭ ‬أو‭ ‬الموت‮»‬‭ ‬ويضيف‭ ‬ثان‭: ‬‮«‬أفضِّل‭ ‬أن‭ ‬يلتهمني‭ ‬الحوت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أبقى‭ ‬هنا‮»‬،‭ ‬ويلاحظ‭ ‬ثالث‭ ‬‮«‬أفضِّل‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬كناساً‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬موظفا‭ ‬هنا‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬الرابع‭ ‬فيطرح‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يهمني‭ ‬عيش‭ ‬رغيد‭ ‬هنا‭ ‬ورّقة‭ ‬حال‭ ‬هناك،‭ ‬فحياتي‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‮»‬‭... ‬تصريحات‭ ‬تعبِّر‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬إصرار‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشبان‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬مشروعهم‭ ‬وكأنه‭ ‬الاختيار‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭.‬

لكن‭ ‬لو‭ ‬سنحت‭ ‬لهم‭ ‬الفرصة‭ ‬لزيارة‭ ‬أوربا‭ ‬لخفضوا‭ ‬من‭ ‬إعجابهم‭ ‬بها‭ ‬وتخلوا‭ ‬عن‭ ‬هالة‭ ‬التعظيم‭ ‬التي‭ ‬يحيطونها‭ ‬بها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬السريين‭ ‬التونسيين‭ ‬العائدين‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الوطن‭ ‬بعد‭ ‬عناء‭ ‬أليم‭ ‬وغربة‭ ‬بائسة‭. ‬وتجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬حواجز‭ ‬الدخول‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬تدفق‭ ‬المسافرين‭ ‬على‭ ‬البلدان‭ ‬المقصودة،‭ ‬فقد‭ ‬بينت‭ ‬التجربة‭ ‬أن‭ ‬إلغاء‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬التأشيرة‭ ‬على‭ ‬بلدان‭ ‬البلقان‭ ‬لم‭ ‬يؤد‭ ‬إلى‭ ‬ازدياد‭ ‬عدد‭ ‬الوافدين‭ ‬على‭ ‬أقطارها‭. ‬وفي‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لا‭ ‬يرغب‭ ‬كل‭ ‬الشبان‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية،‭ ‬فالأغلبية‭ ‬وإن‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬وسيلة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬تساعدها‭ ‬على‭ ‬تحسين‭ ‬أوضاعها،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تسعى‭ ‬إليها‭ ‬بكل‭ ‬الطرق،‭ ‬لذلك‭ ‬ارتبطت‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬بملامح‭ ‬شخصية‭.‬

 

ملامح‭ ‬المهاجر‭ ‬السرّي

قلما‭ ‬يكون‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬خاطرا‭ ‬عابرا‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬شاردة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬نسق‭ ‬متجذر‭ ‬في‭ ‬الذات،‭ ‬يغذيه‭ ‬الطموح‭ ‬والخيبة،‭ ‬ويحركه‭ ‬الأمل‭ ‬واليأس‭ ‬مع‭ ‬فترات‭ ‬من‭ ‬الشك‭ ‬والتردد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬صاحب‭ ‬الفكرة‭ ‬مصمماً‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬مشروعه،‭ ‬مثل‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬امتحان،‭ ‬أو‭ ‬الفصل‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬توتر‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬الأسرة،‭ ‬حينئذٍ‭ ‬يبلغ‭ ‬نقطة‭ ‬‮«‬اللاعودة‮»‬،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬يثنيه‭ ‬عن‭ ‬المضي‭ ‬قدماً‭ ‬في‭ ‬مغامرته،‭ ‬فلا‭ ‬محاكمته‭ ‬في‭ ‬بلاده‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اجتياز‭ ‬الحدود‭ ‬بغير‭ ‬الصيغ‭ ‬القانونية،‭ ‬ولا‭ ‬الأخطار‭ ‬المحدقة‭ ‬بالسفر،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬الفرص‭ ‬الجديدة‭ ‬الواعدة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬محيطه‭ ‬تصرفه‭ ‬عن‭ ‬عزمه،‭ ‬فيمضي‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬إنجاز‭ ‬ما‭ ‬استقر‭ ‬عليه‭ ‬فكره‭.‬

وخوفا‭ ‬من‭ ‬إفشال‭ ‬مشروعه،‭ ‬يُعد‭ ‬المهاجر‭ ‬السري‭ ‬نفسه‭ ‬للسفر‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬السرية‭ ‬وينطلق‭ ‬على‭ ‬جناح‭ ‬الظلام،‭ ‬فقد‭ ‬يمضي‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬مع‭ ‬أسرته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسرِّب‭ ‬لها‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬مقصده،‭ ‬وعندما‭ ‬يهم‭ ‬بركوب‭ ‬البحر‭ ‬يتجرد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هوية،‭ ‬فيحرق‭ ‬وثائقه‭ ‬الشخصية‭ ‬ويزيل‭ ‬بصماته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬أنامله‭ ‬على‭ ‬وعاء‭ ‬شديد‭ ‬الحرارة‭ ‬ثم‭ ‬يكني‭ ‬نفسه‭ ‬باسم‭ ‬مستعار‭. ‬إن‭ ‬تخلص‭ ‬المهاجر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬علامات‭ ‬الهوية‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬بواسطتها‭ ‬ضبطه‭ ‬وإرجاعه‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭ ‬لا‭ ‬يرمي‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬الزيادة‭ ‬في‭ ‬حظوظ‭ ‬إفلاته‭ ‬من‭ ‬الطرد،‭ ‬بل‭ ‬يكتسي‭ ‬أيضاً‭ ‬بعداً‭ ‬رمزياً‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬القطع‭ ‬مع‭ ‬هوية‭ ‬يعتبرها‭ ‬لا‭ ‬ترتقي‭ ‬إلى‭ ‬طموحاته‭.‬

 

ظاهرة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالشباب

تجمع‭ ‬الدراسات‭ ‬العالمية‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الهجرة‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬والهجرة‭ ‬السرية‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة،‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالشباب،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬خلوها‭ ‬من‭ ‬أشخاص‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأعمار‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الأطفال‭ ‬والكهول‭. ‬لقد‭ ‬وجدنا‭ ‬بعد‭ ‬اطلاعنا‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬168‭ ‬تونسياً‭ ‬حاولوا‭ ‬الهجرة‭ ‬خفية‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ‬2011‭ ‬هلكوا‭ ‬جميعا‭ ‬بعد‭ ‬غرق‭ ‬مركبيهم‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬أن‭ ‬68‭.‬5‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬منهم‭ ‬تتراوح‭ ‬أعمارهم‭ ‬بين‭ ‬21‭ ‬و30‭ ‬عاماً،‭ ‬ويبلغ‭ ‬معدل‭ ‬أعمارهم‭ ‬24‭ ‬عاماً‭. ‬أما‭ ‬المنتدى‭ ‬التونسي‭ ‬للحقوق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬فيذكر‭ ‬أن‭ ‬50‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬المفقودين‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬أعمارهم‭ ‬25‭ ‬عاماً،‭ ‬ربعهم‭ ‬من‭ ‬التلاميذ‭ ‬والطلبة‭. ‬ومن‭ ‬المؤسف‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬بعض‭ ‬تلاميذ‭ ‬المدارس‭ ‬الثانوية‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬الموجودة‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬سواحل‭ ‬بلدان‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬يقصدون‭ ‬مباشرة‭ ‬القوارب‭ ‬المتخفية‭ ‬بين‭ ‬الصخور‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬خروجهم‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الدراسة،‭ ‬واهبين‭ ‬محفظاتهم‭ ‬إلى‭ ‬زملائهم،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬معبرة‭ ‬إلی‭ ‬التحول‭ ‬الخطير‭ ‬الذي‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬حياتهم‭. ‬ولأسباب‭ ‬تتصل‭ ‬ببنية‭ ‬المجتمع‭ ‬وما‭ ‬يفرضه‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬وأدوار،‭ ‬فإن‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬تبقى‭ ‬أساساً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلدان‭ ‬ظاهرة‭ ‬ذكورية‭ ‬ومرتبطة‭ ‬أكثر‭ ‬بسن‭ ‬العزوبية‭.‬

 

الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬والبطالة

خلافا‭ ‬لما‭ ‬يُعتقد،‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬البطالة‭ ‬دائما‭ ‬الدافع‭ ‬الرئيس‭ ‬للهجرة‭ ‬السرية،‭ ‬إذ‭ ‬تبين‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬بلدان‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬نسبا‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬تخلوا‭ ‬عن‭ ‬أعمالهم‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬وحتى‭ ‬عن‭ ‬وظائف‭ ‬تابعة‭ ‬للدولة‭ ‬ليلتحقوا‭ ‬بجحافل‭ ‬المغامرين،‭ ‬فنجد‭ ‬بينهم‭ ‬الميكانيكي‭ ‬والحداد‭ ‬والسباك‭ ‬وقائد‭ ‬الشاحنات‭ ‬والشرطي‭ ‬وعون‭ ‬الاستقبال‭ ‬والسكرتير،‭ ‬ويمكن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬وضعية‭ ‬الجزائر‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬حالياً‭ ‬ثورة‭ ‬عمرانية‭ ‬وتجديداً‭ ‬مكثفاً‭ ‬للبنية‭ ‬التحتية‭ ‬يجعلانها‭ ‬تستورد‭ ‬10‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬اليد‭ ‬العاملة‭ ‬غير‭ ‬المختصة،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬تعرف‭ ‬شواطئها‭ ‬يوميا‭ ‬مئات‭ ‬المحاولات‭ ‬للإبحار‭ ‬خلسة‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬هو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الرقي‭ ‬السريع‭ ‬والكسب‭ ‬السهل‭ ‬والتحول‭ ‬من‭ ‬وضعية‭ ‬إلى‭ ‬نقيضها‭ ‬واعتقادهم‭ ‬الراسخ‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬لهم‭ ‬جمعه‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬بعد‭ ‬عمر‭ ‬من‭ ‬الكد‭ ‬والجد‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬يمكن‭ ‬الحصول‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أسابيع‭ ‬عدة‭ ‬أو‭ ‬أشهر‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬أقصى‭ ‬تقدير‭ ‬في‭ ‬المهجر‭. ‬كما‭ ‬يتقاسمون‭ ‬الشعور‭ ‬بعدم‭ ‬الرضا‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬والتشاؤم‭ ‬بمستقبلهم‭ ‬في‭ ‬الوطن،‭ ‬فبقدر‭ ‬ما‭ ‬هم‭ ‬متبرمون‭ ‬من‭ ‬يومهم‭ ‬في‭ ‬بلادهم‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هم‭ ‬متفائلون‭ ‬بغدهم‭ ‬خارج‭ ‬البلاد‭.‬

ولا‭ ‬يلعب‭ ‬الجانب‭ ‬المادي‭ ‬وحده‭ ‬دور‭ ‬التحفيز‭ ‬على‭ ‬الهجرة،‭ ‬بل‭ ‬يتطلع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشبان‭ ‬إلى‭ ‬نوعية‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬فيها‭ ‬الحرية‭ ‬والعلاقات‭ ‬البشرية‭ ‬الممتازة‭ ‬والترويح‭ ‬عن‭ ‬النفس،‭ ‬مثلما‭ ‬صرح‭ ‬به‭ ‬فتى‭ ‬جزائري‭ ‬مسكون‭ ‬بهاجس‭ ‬مغادرة‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬فرصة‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬جمع‭ ‬المال‭ ‬فلنبق‭ ‬هنا،‭ ‬وإذا‭ ‬أردنا‭ ‬نوعية‭ ‬الحياة‭ ‬فلنرحل‮»‬،‭ ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬نستغرب‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬المتقدم‭ ‬للهجرة‭ ‬السرية‭ ‬حازماً‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬مشروعه،‭ ‬مصمماً‭ ‬على‭ ‬تخطي‭ ‬كل‭ ‬العراقيل،‭ ‬بل‭ ‬يذهب‭ ‬بعض‭ ‬المصممين‭ ‬على‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬صم‭ ‬آذانهم‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يفزع،‭ ‬وتلقي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يطمئن،‭ ‬حسب‭ ‬قولهم‭ ‬وهو‭ ‬إدراك‭ ‬انتقائي‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬تقدير‭ ‬الأمور‭ ‬تقديراً‭ ‬واقعياً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التهيؤ‭ ‬لعوامل‭ ‬النجاح‭ ‬والتوقي‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬الفشل‭. ‬يفسر‭ ‬هذا‭ ‬الخداع‭ ‬الذاتي‭ ‬الإمعان‭ ‬في‭ ‬المحاولات‭ ‬رغم‭ ‬فشلها‭ ‬المتكرر،‭ ‬وقد‭ ‬عثرنا‭ ‬على‭ ‬أمثلة‭ ‬غريبة‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬التونسي‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بـ‭ ‬33‭ ‬محاولة‭ ‬فاشلة،‭ ‬ومازال‭ ‬مصراً‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬مغامرته،‭ ‬أما‭ ‬صديقه‭ ‬فمازال‭ ‬في‭ ‬المحاولة‭ ‬العاشرة‭ ‬وجاره‭ ‬في‭ ‬المحاولة‭ ‬السابعة،‭ ‬غير‭ ‬مبالين‭ ‬بالفرص‭ ‬التي‭ ‬تتاح‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬بلادهم‭ ‬ولا‭ ‬ساعين‭ ‬لإيجاد‭ ‬حلول‭ ‬بديلة‭. ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المهاجر‭ ‬السري‭ ‬مغامراً‭ ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬انتحارياً،‭ ‬بل‭ ‬يبقى‭ ‬يصارع‭ ‬الأمواج‭ ‬عند‭ ‬غرق‭ ‬المركب‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬نفس‭ ‬في‭ ‬حياته‭, ‬فهل‭ ‬يوجد‭ ‬ما‭ ‬يبرر‭ ‬المغامرة‭ ‬وما‭ ‬يجعل‭ ‬الحياة‭ ‬تهون‭ ‬في‭ ‬سبيله؟

 

المصير‭ ‬القاتم

إن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يواجه‭ ‬المهاجر‭ ‬السري‭ ‬هو‭ ‬خطر‭ ‬الموت‭ ‬غرقاً‭ ‬أو‭ ‬اختناقاً‭ ‬أو‭ ‬جوعاً،‭ ‬فقوارب‭ ‬الصيد‭ ‬البحري‭ ‬الساحلي‭ ‬التي‭ ‬يمتطيها‭ ‬المهاجرون‭ ‬لبلوغ‭ ‬الضفة‭ ‬الشمالية‭ ‬للمتوسط،‭ ‬خاصة‭ ‬أراضي‭ ‬إيطاليا‭ ‬وإسبانيا،‭ ‬ليست‭ ‬معدة‭ ‬للسفر‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬العميقة‭ ‬والأمواج‭ ‬العاتية‭.‬

ويكمن‭ ‬الخطر‭ ‬في‭ ‬حشر‭ ‬هذه‭ ‬القوارب‭ ‬الصغيرة‭ ‬والمتداعية‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬المسافرين‭ ‬يتجاوز‭ ‬كثيرا‭ ‬حمولتها‭. ‬فما‭ ‬إن‭ ‬تبعد‭ ‬بعض‭ ‬الأميال‭ ‬عن‭ ‬اليابسة‭ ‬حتى‭ ‬يتسرب‭ ‬إليها‭ ‬الماء‭ ‬وتفقد‭ ‬التوازن‭ ‬وتقع‭ ‬مآس‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬صراع‭ ‬الركاب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تخفيف‭ ‬حمولة‭ ‬المركب‭ ‬بإلقاء‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضا‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬ويسود‭ ‬حينئذ‭ ‬قانون‭ ‬الغاب‭ ‬ومنطق‭ ‬القوة،‭ ‬وهو‭ ‬واقع‭ ‬مأساوي‭ ‬يذكره‭ ‬الناجون‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الجحيم‭ ‬وكأنهم‭ ‬ولدوا‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

ونظرا‭ ‬لعدم‭ ‬دراية‭ ‬أكثر‭ ‬قادة‭ ‬المراكب‭ ‬بقواعد‭ ‬الملاحة‭ ‬البحرية،‭ ‬فإن‭ ‬الزوارق‭ ‬التي‭ ‬يسيرونها‭ ‬تتوه‭ ‬في‭ ‬اتجاهات‭ ‬مختلفة،‭ ‬فينضب‭ ‬الوقود‭ ‬وتفقد‭ ‬المؤونة‭ ‬ويضطر‭ ‬المسافرون‭ ‬إلى‭ ‬إشعال‭ ‬بعض‭ ‬الملابس‭ ‬لجلب‭ ‬انتباه‭ ‬البواخر‭ ‬والطائرات‭ ‬القريبة،‭ ‬لكن‭ ‬قلما‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬مفيداً،‭ ‬مما‭ ‬يفسر‭ ‬فقدان‭ ‬عشرين‭ ‬ألف‭ ‬مهاجر‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2000‭.‬

إن‭ ‬كُتِبَ‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬النجاة‭ ‬ووصلوا‭ ‬إلى‭ ‬البلدان‭ ‬المقصودة،‭ ‬فسيجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬ويتم‭ ‬تجميعهم‭ ‬داخل‭ ‬مراكز‭ ‬الإيواء‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬ترحيلهم‭ ‬إلى‭ ‬بلدانهم‭. ‬قد‭ ‬ينجح‭ ‬البعض‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬تخطي‭ ‬الحواجز‭ ‬الأمنية‭ ‬أو‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬المراكز،‭ ‬لكن‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬ظروفهم‭ ‬أفضل‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬عند‭ ‬الإيقاف،‭ ‬يفترشون‭ ‬الأرض‭ ‬ويلتحفون‭ ‬السماء‭ ‬وينامون‭ ‬في‭ ‬الحدائق‭ ‬العمومية‭ ‬وتحت‭ ‬الجسور‭ ‬وداخل‭ ‬هياكل‭ ‬السيارات‭ ‬القديمة‭ ‬والبنايات‭ ‬المهجورة‭ ‬المتداعية‭ ‬للسقوط‭ ‬وعيونهم‭ ‬ساهرة‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬الذين‭ ‬قد‭ ‬يفاجئونهم‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬تذكر‭ ‬جمعية‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬والتعاون‭ ‬الدولي‭ (‬تونس‭) ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬أعدتها‭ ‬حول‭ ‬الهجرة‭ ‬والتنمية‭ ‬عام‭ ‬2012‭ ‬أن‭ ‬31‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬السريين‭ ‬التونسيين‭ ‬العائدين‭ ‬إلى‭ ‬بلادهم‭ ‬سكنوا‭ ‬الحدائق‭ ‬العمومية‭ ‬و20‭.‬4‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬مراكز‭ ‬الإيواء‭ ‬و23‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬عند‭ ‬أقاربهم‭ ‬وأصدقائهم‭ ‬و1‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬في‭ ‬السجون،‭ ‬علما‭ ‬بأن‭ ‬المساعدة‭ ‬التي‭ ‬يجدها‭ ‬بعضهم‭ ‬عند‭ ‬أقاربهم‭ ‬أو‭ ‬أصدقائهم‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬ظرفية،‭ ‬فبعد‭ ‬مدة‭ ‬من‭ ‬إيوائهم‭ ‬يضجر‭ ‬هؤلاء‭ ‬من‭ ‬وجودهم‭ ‬المستمر‭ ‬بجانبهم‭ ‬ويطالبونهم‭ ‬بإيجاد‭ ‬حل‭ ‬لوضعيتهم،‭ ‬وتتصدع‭ ‬بذلك‭ ‬الروابط‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تربط‭ ‬طرفي‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬والمهجر‭.‬

ونظراً‭ ‬لصرامة‭ ‬الإجراءات‭ ‬المتصلة‭ ‬بانتداب‭ ‬الأجانب‭ ‬وخاصة‭ ‬المفتقرين‭ ‬إلى‭ ‬الوثائق‭ ‬المطلوبة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬واعتبارا‭ ‬للركود‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الذي‭ ‬تعيشه‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة،‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬استفحال‭ ‬البطالة‭ ‬فيها،‭ ‬فإن‭ ‬تطلع‭ ‬المهاجر‭ ‬السري‭ ‬لإيجاد‭ ‬العمل‭ ‬اللائق‭ ‬والأجر‭ ‬الوافر‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬سراب،‭ ‬فيظل‭ ‬يتنقل‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬ومن‭ ‬قرية‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬ومن‭ ‬ضيعة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬لعله‭ ‬يظفر‭ ‬بعمل‭ ‬يوفر‭ ‬له‭ ‬نفقات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬ويلجأ‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬وبعد‭ ‬الخيبة‭ ‬إلى‭ ‬طلب‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬رفضها‭ ‬بشدة‭ ‬في‭ ‬بلاده،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يجدها‭ ‬بسهولة‭. ‬وتشير‭ ‬دراسة‭ ‬الجمعية‭ ‬السابقة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬13‭.‬7‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬السريين‭ ‬التونسيين‭ ‬العائدين‭ ‬إلى‭ ‬بلادهم‭ ‬وجدوا‭ ‬بعض‭ ‬الأشغال‭ ‬الوقتية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تسمن‭ ‬ولا‭ ‬تغني‭ ‬من‭ ‬جوع‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الفلاحين‭ ‬الذين‭ ‬يستغلون‭ ‬وضعيتهم‭ ‬الهشة‭ ‬استغلالاً‭ ‬فاحشاً‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الابتزاز‭ ‬والتخويف‭ ‬والأجور‭ ‬الزهيدة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬عما‭ ‬كانوا‭ ‬يتقاضونه‭ ‬في‭ ‬أوطانهم‭.‬

وبمجرد‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬العامل‭ ‬الظرفي،‭ ‬مثل‭ ‬جني‭ ‬الطماطم‭ ‬أو‭ ‬الزيتون،‭ ‬يجد‭ ‬المهاجرون‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬تسكع‭ ‬جديد‭ ‬بجيوب‭ ‬فارغة‭ ‬وبطون‭ ‬خاوية،‭ ‬ويضطر‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬طلب‭ ‬المساعدات‭ ‬من‭ ‬المارة‭ ‬والجمعيات‭ ‬الخيرية،‭ ‬يعيشون‭ ‬ليومهم‭ ‬ولا‭ ‬يدرون‭ ‬ما‭ ‬سيكون‭ ‬عليه‭ ‬غدهم‭. ‬وعندما‭ ‬يضيق‭ ‬الأفق‭ ‬أمام‭ ‬المرء‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬يجعله‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬إلا‭ ‬ليومه،‭ ‬فإنه‭ ‬يصاب‭ ‬بالانكماش‭ ‬ويفقد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التطلع‭ ‬والاستشراف‭. ‬وإزاء‭ ‬الإحباط،‭ ‬يسقط‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الجريمة‭ ‬المنظمة،‭ ‬فتستغلهم‭ ‬شبكات‭ ‬بيع‭ ‬المخدرات،‭ ‬وينصهرون‭ ‬في‭ ‬حلقة‭ ‬مغلقة‭ ‬يصعب‭ ‬الخروج‭ ‬منها‭. ‬

غريب‭ ‬أمر‭ ‬هؤلاء‭ ‬الحالمين‭ ‬بالرخاء‭ ‬والسعادة‭ ‬وراء‭ ‬الحدود،‭ ‬يفرون‭ ‬من‭ ‬السيئ‭ ‬فيقعون‭ ‬في‭ ‬الأسوأ،‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬الجنة‭ ‬فيلقون‭ ‬الجحيم،‭ ‬يتجرعون‭ ‬العلقم‭ ‬الذي‭ ‬رفضوه‭ ‬ويتقبلون‭ ‬الهوان‭ ‬الذي‭ ‬نبذوه‭.‬

وهنا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬المهاجر‭ ‬السري‭ ‬المغاربي‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬ويقر‭ ‬بأنه‭ ‬ضحية‭ ‬أوهام‭ ‬خادعة؟‭ ‬ورغم‭ ‬قساوة‭ ‬العيش‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬إلا‭ ‬أقلية‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الوطن،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬الأشهر‭ ‬الأولى‭ ‬للهجرة،‭ ‬أما‭ ‬الأغلبية‭ ‬فتمني‭ ‬نفسها‭ ‬دائما‭ ‬بتسوية‭ ‬وضعيتها‭ ‬مع‭ ‬تغيير‭ ‬الحكومات،‭ ‬ويخجل‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬قريته‭ ‬أو‭ ‬حيه‭ ‬بيد‭ ‬فارغة‭ ‬وأخرى‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تهتز‭ ‬صورته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬فكيف‭ ‬نوقف‭ ‬هذا‭ ‬النزيف‭ ‬المخيف؟

 

إعادة‭ ‬الأمل‭ ‬للشباب

بينت‭ ‬التجربة‭ ‬أن‭ ‬المعالجة‭ ‬الأمنية‭ ‬لظاهرة‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬البلدان‭ ‬الأصلية‭ ‬أو‭ ‬بلدان‭ ‬المهجر،‭ ‬ظاهرة‭ ‬قاصرة‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إغراء‭ ‬الطامعين‭ ‬بالاستقرار‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الشمالية‭ ‬للمتوسط‭. ‬ومن‭ ‬الأفضل‭ ‬اعتماد‭ ‬سياسة‭ ‬متعددة‭ ‬الأبعاد،‭ ‬تقوم‭ ‬أولاً‭ ‬على‭ ‬التصدي‭ ‬لشبكات‭ ‬الوسطاء‭ ‬التي‭ ‬تبيع‭ ‬الأوهام‭ ‬لشباب‭ ‬يتطلع‭ ‬إلى‭ ‬تحسين‭ ‬وضعه،‭ ‬ثم‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬إظهار‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬على‭ ‬حقيقتها‭. ‬تذكر‭ ‬هذه‭ ‬الوسائط‭ ‬يومياً‭ ‬الحوادث‭ ‬المأساوية‭ ‬للمهاجرين‭ ‬في‭ ‬محاولاتهم‭ ‬بلوغ‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬للمتوسط،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يذهب‭ ‬أغلبها‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬ولأن‭ ‬المهاجر‭ ‬السري‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬ملفا‭ ‬يقدم‭ ‬للعدالة‭ ‬أو‭ ‬رقما‭ ‬يعرف‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مراكز‭ ‬الإيواء،‭ ‬بل‭ ‬يعكس‭ ‬قصة‭ ‬حياة‭ ‬كاملة‭ ‬تراكمت‭ ‬فيها‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬ينفر‭ ‬من‭ ‬بلاده،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬القيام‭ ‬بتحقيقات‭ ‬ميدانية‭ ‬حول‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬بلده‭ ‬الأصلي‭ ‬وظروف‭ ‬عيشه‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬المهجر،‭ ‬لأن‭ ‬التدخل‭ ‬الناجع‭ ‬يتطلب‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬حقائق‭ ‬الأمور‭.‬

وإذا‭ ‬عاد‭ ‬المهاجر‭ ‬يوماً‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬مثل‭ ‬الجريح‭ ‬الباحث‭ ‬عمن‭ ‬يضمد‭ ‬جراحه،‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬احتضانه‭ ‬ومساعدته‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬محنته‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬تجريمه‭ ‬وتقديمه‭ ‬للعدالة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬ينبغي‭ ‬إعداد‭ ‬برنامج‭ ‬لتحفيزه‭ ‬على‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يفشل‭ ‬بل‭ ‬انتصر‭ ‬على‭ ‬وهم‭ ‬عنيد‭ ‬ظل‭ ‬يستنزف‭ ‬طاقاته‭ ‬سنين‭ ‬طويلة‭ ‬وحال‭ ‬دون‭ ‬استثمار‭ ‬قدراته‭ ‬في‭ ‬بلاده‭.‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬وسيلة‭ ‬للارتزاق‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬طريقة‭ ‬فضلى‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬يعقب‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬برنامج‭ ‬لإدماجه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬المهنية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الانتداب‭ ‬أو‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬التشغيل‭ ‬الذاتي،‭ ‬وبذلك‭ ‬يشعر‭ ‬أن‭ ‬وطنه‭ ‬لم‭ ‬يتخل‭ ‬عنه‭ ‬ويحتضنه‭ ‬مثلما‭ ‬تحتضن‭ ‬الأم‭ ‬ابنها‭ ‬العائد‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬بعد‭ ‬غياب‭ ‬طويل‭.‬

وبالتوازي‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬ينبغي‭ ‬إعطاء‭ ‬الأولوية‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬للأحياء‭ ‬الفقيرة‭ ‬والمناطق‭ ‬المحرومة‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬المصدر‭ ‬الرئيس‭ ‬للهجرة‭ ‬السرية‭.‬

إن‭ ‬المآسي‭ ‬التي‭ ‬تخلفها‭ ‬يومياً‭ ‬محاولات‭ ‬عبور‭ ‬الشباب‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬الشمالية‭ ‬للمتوسط،‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬أخذ‭ ‬المشعل‭ ‬عن‭ ‬الجيل‭ ‬السابق‭ ‬لبناء‭ ‬البلاد‭ ‬والدفع‭ ‬بها‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل،‭ ‬تعكس‭ ‬أوضاعا‭ ‬متأزمة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬حادت‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬المنظومة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬المتجذرة‭ ‬في‭ ‬كيانها‭ ‬وساقتها‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الهشاشة‭ ‬والاضطراب‭. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬الكسب‭ ‬المادي‭ ‬الفردي‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬المقياس‭ ‬الوحيد‭ ‬للنجاح‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬بأوطاننا،‭ ‬وباتت‭ ‬مظاهر‭ ‬الرفاه‭ ‬والغنى‭ ‬المؤشر‭ ‬الأبرز‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬الفرد‭ ‬ومنزلته‭ ‬فيها‭. ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الصعب،‭ ‬يصطدم‭ ‬سعي‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬العيش‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬وطنه‭ ‬بمعوقات‭ ‬كثيرة‭ ‬تثبط‭ ‬عزيمته‭ ‬وتقلص‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬التملُّص‭ ‬من‭ ‬محاسبة‭ ‬أنفسنا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قدمناه‭ ‬له‭. ‬تتجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬محيط‭ ‬الشباب‭ ‬والهجرة‭ ‬لتنعكس‭ ‬على‭ ‬المحيط‭ ‬الأرحب‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬نوعية‭ ‬الحياة‭ ‬بأوطاننا،‭ ‬فلم‭ ‬تستطع‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬أن‭ ‬تحبب‭ ‬العيش‭ ‬لمواطنيها‭ ‬داخلها،‭ ‬فكيف‭ ‬نعمل‭ ‬حتى‭ ‬نحبب‭ ‬بلداننا‭ ‬إلى‭ ‬نفوس‭ ‬أهاليها‭ ‬ليفرحوا‭ ‬بالعيش‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬يبحثوا‭ ‬عن‭ ‬ملاذ‭ ‬خارجها؟‭ .