من حلم جميل إلى كابوس مفزع الهجرة السرِّية من جنوب «المتوسط» إلى شماله

من المفارقات العجيبة أن يتحول البحر الأبيض المتوسط، مهد الحضارات وقبلة السواح وملهم الفنانين والفلاسفة، من فضاء يطيب على ضفافه المقام ويحلو في جواره العيش، إلى مقبرة تلتهم الأشخاص في ريعان شبابهم، يموتون في الخفاء، بلا توابيت ولا قبور ولا تأبين ولا صلوات، يلتهمهم الحوت وتتقاذف جثثهم الأمواج، تاركين أمهات ثكلى وأسراً ملتاعة لا تعرف مصير أبنائها، متشبثة، رغم كل ما حدث، بالأمل في بقاء أبنائها على قيد الحياة، ويظل أفراد هذه الأسر متنقلين من مدينة أوربية إلى أخرى، منفقين كل ما عندهم من مال لعلهم يعثرون على خيط يوصلهم إلى الابن المفقود. إنه من وظائف العزاء التخفيف على المصاب وإعداده لتجاوز محنته، لكن الفاقد لابن انقطعت جميع أخباره لا يتمتع حتى بهذه الفرصة، ويظل مرهقاً تتقاذفه مشاعر الأمل واليأس والرجاء والخوف.
تذكر منظمة الصحة العالمية (2015)، أن عبور البحر الأبيض المتوسط من قبل المهاجرين السريين أدى منذ عام 2000 إلى وفاة 22 ألفاً من جملة 40 ألف مهاجر سري في العالم لقوا حتفهم عند محاولاتهم الانتقال من بلد إلى آخر، ومن قارة إلى أخرى. وفي ثنايا هذا الكشف المأساوي يبرز عام 2014 كحامل للرقم القياسي في هذه الفواجع، فقد مات خلاله أثناء العبور 4077 مهاجراً سرياً، من بينهم 3072 في البحر الأبيض المتوسط.
يعكس عدد الأموات ارتفاع عدد الراكبين في البحر بطريقة غير شرعية. لقد ازدادت كثافة الهجرة السرية خاصة إلى إيطاليا مع ثورات ما يسمى بالربيع العربي، الذي صاحبه انحلال في مؤسسات الدولة وتلاشٍ للمراقبة الحدودية، ففي تونس، مثلا، امتطى في السنوات العشر الأخيرة 50 ألف تونسي قوارب لبلوغ إيطاليا، مات منهم 3 آلاف تقريبا، وظل بين 1700 و2000 في عداد المفقودين، وبقي أغلب الناجين في مراكز الاحتفاظ بإيطاليا في انتظار ترحيلهم إلى بلادهم. وتجمع التقارير على أن التلاميذ والطلبة يمثلون ربع المهاجرين تقريبا. وعرف عام 2011 (العام الذي اندلعت في بدايته الثورة التونسية) كثافة غير مسبوقة لظاهرة الهجرة السرية من تونس إلى إيطاليا، فقد تدفقت على السواحل الجنوبية الإيطالية، خاصة الجزيرة الصغيرة لمبادوزا، أمواج من المهاجرين التونسيين تجاوزت الخمسة وعشرين ألف شخص.
وفي أسابيع قليلة أصبح عدد الوافدين عليها من تونس يساوي أربع مرات عدد سكانها، ولم يتقلص الزحف إلا بعد عودة الأمن في بداية شهر أبريل من العام نفسه.
أما في الجزائر والمغرب وليبيا، فلا يخلو يوم من هذه الظاهرة. تذكر مجلة «حقائق» التونسية (عدد 12، من 9 إلى 22 فبراير 2009، ص 44)، استنادا إلى مصادر صحفية جزائرية، أن «حوالي 300 شاب أعمارهم بين 13 و37 عاماً يحاولون يوميا التسلل إلى الشواطئ الجزائرية في قوارب لا تكاد تحتمل عطبا طارئا لمحرك ضعيف وتقلبات مفاجئة». لا يقل الأمر خطورة في المغرب، نظرا لقرب سواحلها من السواحل الإسبانية، ولوجود مدينتي سبتة ومليلية التابعتين لإسبانيا داخل أراضيها، وهما تعرفان باستمرار محاولات متكررة للدخول إليهما رغم أسوارهما المحصنة، ورغم شواطئهما المحروسة، خاصة من قبل القادمين من بلدان جنوب الصحراء، ينتهي أغلبها بمآسٍ مخلفة عديداً من القتلى والجرحى مثلما حدث في عام 2005. يقدر عدد المهاجرين السريين من سكان المغرب القاصدين أوربا سنوياً باثني عشر ألف مهاجر، مات منهم عدد كبير في البحر، وأوردت مجلة «جالون لاديكوفارت» الفرنسية (بتاريخ 16 أكتوبر 2005)، استنادا إلى مصادر أمنية أوربية أنه تم انتشال 3 آلاف جثة في مضيق جبل طارق بين عامي 1996 و2002، فمدينة الخريبقة المغربية فقدت وحدها حتى الآن ألفاً من سكانها تقريبا، نتيجة الإبحار خلسة إلى إسبانيا.
ومع تواصل الاضطرابات الأمنية في ليبيا وغياب سلطة موحدة للبلاد، تتكثف يوما بعد يوم الهجرة السرية إلى إيطاليا ومالطا، وانتشرت شبكة الوسطاء والميليشيات المسلحة، التي تجمع المال من الهجرة السرية في كل المرافئ الليبية، مستغلة قدوم عشرات الآلاف من الأفارقة الحالمين بالثروة والرخاء، في عجلة من أمرهم، وكأنهم في غارة جديدة لاقتحام «الدرادو»، لسلبهم ما يملكون ولو كان ضئيلا، فيتم حشرهم في قوارب بالية لا تصمد أمام تقلبات الجو، مثلما حدث في 3 أكتوبر 2013 قبالة سواحل جزيرة لمبادوزا الإيطالية، حيث أدى غرق مركبين إلى هلاك 300 إريتري.
ويمكن أن نتساءل ونحن نستعرض هذه المآسي، لماذا يغامر الناس بحياتهم في رحلات محفوفة بالمخاطر وغير مأمونة العواقب؟ هل انسدت كل الآفاق أمامهم؟ هل عجزوا عن تلبية حاجاتهم اليومية؟ من الصعب الإجابة بنعم عن هذه الأسئلة على الأقل في مستوى بلدان المغرب الغربي الثلاثة (تونس، الجزائر والمغرب)، التي تعيش مثل أكثر بلدان العالم صعوبات اقتصادية، لكنها لم تبلغ الحدة التي تجعل سكانها يغامرون بحياتهم للجوء إلى بلدان أخرى، فما الدوافع الحقيقية؟
سماسرة الأوهام
يقع عديد من الشبان الراغبين في تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية تحت تأثير وسطاء يبيعون الأوهام، مستغلين شعور هؤلاء الفتيان بالإحباط من عدم توافر نمط الحياة الذي يصبون إليه، فيقدمون لهم صورة مغرية عن الأرض الموعودة (أوربا)، ففيها العمل والمنزل اللائق والسيارة الفخمة ووسائل الترويح عن النفس، زارعين الأمل الكاذب في نفوسهم باليسر والهناء. كما يجدون في الشباب الذي يعرف خيبات متتالية (فشل دراسي، بطالة، خلافات مع الأسرة...)، فريسة سهلة، فيقدمون لهم «طوق النجاة»، واعدين إياهم بمستقبل وردي يقطع حاضرهم القاتم. ولهؤلاء السماسرة أماكن مفضلة يترددون عليها باستمرار، مثل المناطق الفقيرة والمعزولة والأحياء الشعبية والحدائق العمومية والمقاهي، وأمام المدارس ومراكز التدريب المهني، حاثين المترددين على عدم التفريط في الفرصة المقدمة إليهم. يتكفل الوسطاء بمراحل العملية، وبالتنسيق مع مختلف المتدخلين، مثل المكلف بالإيواء والناقل والمراقب للحرس البحري مقابل مبلغ مالي يعجز عدد مهم من الراغبين في الهجرة عن توفيره إلا بعد إجبار الأم، تحت التهديد والابتزاز، على بيع مصوغاتها، والأب على التفريط في بعض أملاكه أو كلها. وبما أن الإحباط يولد العنف، فإن بعض الشبان العاجزين عن إيجاد المبلغ المالي لا يترددون في الاعتداء على أملاك الغير، بالسرقة أو النشل أو التحايل لتوفير ما هو مطلوب.
إن تردي القيم الإنسانية في نفوس هؤلاء المتاجرين بالبشر، وإدمانهم الكسب الخسيس، يزيدان في جشعهم، فلا يترددون في تحميل قوارب الصيد البحري الصغيرة ما لا تتحمله، غير مبالين ولا مكترثين بحياة ركابها. عندما تلفظ القيم الأخلاقية من النفس لفظ النواة ولا يبقى إلا المال سيد الموقف، فلا نستغرب فظاظة السلوك. أما قائد المركب، إن كتب له الوصول، فلا يختلف عنهم قساوة ولا جشعا، لأنه لا يغامر ببلوغ الشاطئ، ويلقي بالمسافرين في البحر منذ ظهور العلامات الأولى للبلدان المقصودة، ويعود من حيث أتى وكأن شيئا لم يكن. لكن لا يمثل تأثير الوسطاء العامل الوحيد في استمالة الحالمين بالهجرة.
الصورة الخادعة للمهاجر العائد
إلى أرض الوطن
يعود جل المهاجرين من بلدان المغرب العربي المستقرين بصفة شرعية في أوربا إلى بلدانهم، لقضاء العطلة الصيفية فيها، محملين بالأمتعة، ممتطين السيارات التي جلبوها معهم، ما يوحي بعيشهم الرغيد في بلدان الإقامة. وفي الحقيقة يختلف مظهرهم هنا عن واقعهم المعيشي هناك، فأكثرهم يكابد المشقات اليومية المنجرة عن ضيق السكن وبعد أماكن العمل ونفقات تعليم الأبناء، وغلاء المعيشة والممارسات العنصرية الصادرة عن بعض الأفراد والمجموعات، ويدخرون بعض المال على حساب حاجاتهم الأساسية، ليعودوا إلى أرض الوطن في مظهر الفائزين.
وبما أن الإنسان يقوّم عادة ذاته بالمقارنة مع غيره، فإن سكان الحي أو القرية، خاصة الشباب منهم، يرون فيهم النموذج الذي ينبغي الاقتداء به، والجماعة المرجعية التي يتماهون معها. إن اشتكى البعض من هؤلاء العائدين من ظروف الحياة في أوربا مثل قولهم إنها لم تعد كما كانت، وإن البطالة تفاقمت فيها وإن القدرة الشرائية لسكانها تقلصت، فإن الحالم بالهجرة يتغاضى عن كل ما من شأنه أن يوهن عزمه ولا يركز انتباهه إلا على المغامرة، مثلما قال لي شاب يعد نفسه لهجرة سرية، عندما سألته لماذا لم تثنه الأخبار السيئة عن مشروعه؟ فأجابني من دون تردد: «أنا لا أهتم إلا بالأخبار السارة». إن التفاؤل ميزة دون شك، لكنه عندما ينقلب إلى اندفاع جامح لا تشده ضوابط ولا يكبحه واقع، فإنه يتحول إلى خطر داهم.
وسائل الإعلام
لأسباب عديدة، منها البعد وبرودة الطقس وكثرة الضباب واختلاف الثقافة، ظلت أوربا في مخيلة الإنسان العربي، قرونا عديدة، مقصدا غير مرغوب فيه وهو المتعود على صفاء الجو وحرارة الطقس وروابط العشيرة، وينعكس ذلك في ما دونه الرحالة العرب، مثل ابن فضلان والإدريسي من أهوال ومخاطر كادت تعصف بحياتهم وهم يشقون طريقهم داخل هذه القارة. أما ابن جبير الذي نجا من موت محقق نتيجة غرق السفينة التي كانت تنقله إلى الشرق قبالة سواحل صقلية، فقد دون في رحلته أنه وجد نفسه مع بقية الناجين في ضيافة ملكها غيوم الثاني. وشعر أثناء إقامته ببعض الانجذاب والتعاطف مع سكان هذه الجزيرة، لكنه سرعان ما قاوم هذه الفتنة وفق تعبيره، وطرد الإغواء من نفسه. لقد ساهمت الحروب الفتاكة التي شهدتها هذه القارة منذ القرن التاسع عشر، التي قضت على ملايين السكان وخلفت مئات الآلاف من المعوقين، ودمرت آلاف المدن, وعمق الاستعمار الذي أخضع شعوب العالم الثالث بالحديد والنار، هذه الفكرة السيئة عن الغرب، مثلما يقول الشاعر حافظ إبراهيم:
لا هُم أن الغرب أصبح شغلة
من هولها أم الصواعق تفرق
العلم يذكي نارها وتثيرها
مدنية خرقاء لا تترفق
تغيرت صورة أوربا لدى الطبقات الشعبية بعد الاستعمار نتيجة عوامل كثيرة، لعل أهمها تأثير وسائل الإعلام المحلية التي ما فتئت تقدم هذه القارة كجنة ترفرف فيها السعادة ويعم فيها الهناء، متغاضية عن مظاهر البؤس فيها، مثل الإدمان على الكحول والمخدرات والانتحار والتفكك الأسري، من دون أن تشير كذلك إلى الهجرة المعاكسة التي تعيشها هذه القارة إلى أمريكا وأستراليا، حيث يجد المهاجرون إطاراً أفضل للعيش.
كان لهذا الإغراء وقع في نفوس الشباب فنجد مثلاً أن 48 في المائة من الشباب التونسي يرغبون في زيارة أوربا مقابل 11.5 في المائة يرغبون في زيارة البلدان العربية و2.5 في المائة يرغبون في زيارة أمريكا (المرصد الوطني للشباب، تونس، 2010).
تبلغ الأفكار التي يحملها عديد من الشباب عن أوربا حالة الاستيهام Fantasme وكأننا نقرأ في أذهانهم كتاب المؤلف الإنجليزي لويس كارول «أليس في بلاد العجائب Alice au pays des merveilles». لكن النزعة الجامحة في العمل بأوربا أو حتى زيارتها تصطدم بإجراءات صارمة يفرضها الاتحاد الأوربي على القادمين من جنوب المتوسط.
الصد يولد بالإغراء
كان انتقال مواطني بلدان المغرب العربي الثلاثة (تونس، الجزائر والمغرب) إلى بلدان أوربا الغربية لا يخضع لتأشيرة دخول إلى حد التوقيع على اتفاقية «شنجن» عام 1985 بين خمس دول أوربية (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، هولندا، لكسمبورج).
وتقضي هذه الاتفاقية بحرية انتقال مواطني البلدان المذكورة داخل فضائها الجغرافي، مع إجراءات موحدة لمراقبة الهجرة ومنح التأشيرة للقادمين من خارجها، ثم توسعت بعد ذلك لتشمل (عام 1990) 26 بلدا أوربيا تخضع للإجراءات التي أقرتها الاتفاقية المذكورة، ومنذ ذلك الوقت، لا يستطيع مواطنو بلدان جنوب المتوسط الدخول إلى أراضي هذه المجموعة من دون تأشيرة.
وقد اتسم سفر مواطني شمال إفريقيا إلى أوربا قبل اتفاقية «شنجن» بالمرونة، فكثير من التونسيين والجزائريين والمغاربة كانوا ينتقلون إلى هذه المنطقة لقضاء شؤونهم، مثل السياحة والدراسة والعلاج، ثم يعودون إلى بلدانهم بعد أن يكونوا قضوا حاجاتهم، والبعض منهم لا يعمل إلا في المواسم الفلاحية والسياحية ويستقر بقية العام في بلاده. ولعله من المفيد التذكير بأن العمال القادمين من بلدان المغرب العربي الثلاثة ساهموا مساهمة فاعلة في إعادة بناء أوربا الغربية التي دمرتها الحرب العالمية الثانية وشاركوا بنجاعة في تقدمها السريع خلال الثلاثين عاماً التي تلت هذه الحرب، والتي يسميها الأوربيون «الثلاثين المجيدة» Les trente glorieuses.
منذ توقيع اتفاقية «شنجن» أمسك الاتحاد الأوربي ملف الهجرة بقبضة من حديد، فتشدد في منح التأشيرة عن طريق فرض وثائق جديدة، وتمسك بعدم تعليل الرفض وألغى إجراءات الطعن فيه. وتوازيا مع هذه الإجراءات، كثف من المراقبة الأمنية على الحدود الجنوبية، ودفع بالطائرات وبواخر الاستطلاع في البحر الأبيض المتوسط ثم أنشأ الوكالة الأوربية للتصرف والتعاون العملياتي على الحدود (فرونتكس Frontex). واللافت للانتباه أن هذه الدول ما فتئت تنادي بفتح الحدود أمام البضائع عن طريق التخفيف من الإجراءات الجمركية، لكنها تتشدد في التعامل مع البشر. وفي المقابل، تفتح بلدان جنوب المتوسط أذرعها لاستقبال ملايين الأوربيين القادمين لها، من دون ضغوط ولا إكراهات.
وبما أن المنع يولِّد الإغراء، فقد تجملت الأوهام وتزينت الأحلام ببلوغ الضفة الشمالية للمتوسط بكل الوسائل (الاندساس في الحاويات المعدة للتصدير، التسرب خفية إلى البواخر، الاختفاء في الصناديق الخلفية للسيارات...)، ونورد بعض الأمثلة عن هذا الإمعان، فيقول شاب تونسي يعد نفسه للمغادرة: «أوربا أو الموت» ويضيف ثان: «أفضِّل أن يلتهمني الحوت على أن أبقى هنا»، ويلاحظ ثالث «أفضِّل أن أكون كناساً في أوربا على أن أكون موظفا هنا»، أما الرابع فيطرح: «لا يهمني عيش رغيد هنا ورّقة حال هناك، فحياتي لا تستحق أن تكون في هذه البلاد»... تصريحات تعبِّر عن مدى إصرار هؤلاء الشبان على تنفيذ مشروعهم وكأنه الاختيار الوحيد في حياتهم.
لكن لو سنحت لهم الفرصة لزيارة أوربا لخفضوا من إعجابهم بها وتخلوا عن هالة التعظيم التي يحيطونها بها، وهو ما عبر عنه كثير من المهاجرين السريين التونسيين العائدين إلى أرض الوطن بعد عناء أليم وغربة بائسة. وتجدر الإشارة إلى أن التخفيف من حواجز الدخول لا يعني بالضرورة تدفق المسافرين على البلدان المقصودة، فقد بينت التجربة أن إلغاء الاتحاد الأوربي التأشيرة على بلدان البلقان لم يؤد إلى ازدياد عدد الوافدين على أقطارها. وفي الحقيقة، لا يرغب كل الشبان في الهجرة السرية، فالأغلبية وإن تجد في الهجرة وسيلة من بين الوسائل التي تساعدها على تحسين أوضاعها، فإنها لا تسعى إليها بكل الطرق، لذلك ارتبطت الهجرة السرية بملامح شخصية.
ملامح المهاجر السرّي
قلما يكون التفكير في الهجرة السرية خاطرا عابرا أو فكرة شاردة، بل هو نسق متجذر في الذات، يغذيه الطموح والخيبة، ويحركه الأمل واليأس مع فترات من الشك والتردد إلى أن يحدث شيء ما يجعل صاحب الفكرة مصمماً أكثر من أي وقت مضى على تنفيذ مشروعه، مثل الفشل في امتحان، أو الفصل من العمل أو توتر العلاقات مع الأسرة، حينئذٍ يبلغ نقطة «اللاعودة»، فلم يعد أي شيء يثنيه عن المضي قدماً في مغامرته، فلا محاكمته في بلاده من أجل اجتياز الحدود بغير الصيغ القانونية، ولا الأخطار المحدقة بالسفر، ولا حتى الفرص الجديدة الواعدة التي بدأت تظهر في محيطه تصرفه عن عزمه، فيمضي بقوة في إنجاز ما استقر عليه فكره.
وخوفا من إفشال مشروعه، يُعد المهاجر السري نفسه للسفر في كنف السرية وينطلق على جناح الظلام، فقد يمضي جزءا من الليل مع أسرته من دون أن يسرِّب لها شيئاً عن مقصده، وعندما يهم بركوب البحر يتجرد من كل هوية، فيحرق وثائقه الشخصية ويزيل بصماته بعد أن يضع أنامله على وعاء شديد الحرارة ثم يكني نفسه باسم مستعار. إن تخلص المهاجر من كل علامات الهوية الخارجية التي يمكن بواسطتها ضبطه وإرجاعه إلى بلاده لا يرمي فقط إلى الزيادة في حظوظ إفلاته من الطرد، بل يكتسي أيضاً بعداً رمزياً يتمثل في القطع مع هوية يعتبرها لا ترتقي إلى طموحاته.
ظاهرة مرتبطة بالشباب
تجمع الدراسات العالمية على أن الهجرة بصفة عامة والهجرة السرية بصفة خاصة، مرتبطة بالشباب، لكن هذا لا يعني خلوها من أشخاص من مختلف الأعمار بما في ذلك الأطفال والكهول. لقد وجدنا بعد اطلاعنا على هوية 168 تونسياً حاولوا الهجرة خفية إلى إيطاليا في مارس 2011 هلكوا جميعا بعد غرق مركبيهم في البحر أن 68.5 في المائة منهم تتراوح أعمارهم بين 21 و30 عاماً، ويبلغ معدل أعمارهم 24 عاماً. أما المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فيذكر أن 50 في المائة من المفقودين لا تتجاوز أعمارهم 25 عاماً، ربعهم من التلاميذ والطلبة. ومن المؤسف أن نرى بعض تلاميذ المدارس الثانوية في المدن والقرى الموجودة على طول سواحل بلدان المغرب العربي يقصدون مباشرة القوارب المتخفية بين الصخور مباشرة بعد خروجهم من فصول الدراسة، واهبين محفظاتهم إلى زملائهم، في إشارة معبرة إلی التحول الخطير الذي طرأ على حياتهم. ولأسباب تتصل ببنية المجتمع وما يفرضه من قيم وأدوار، فإن الهجرة السرية تبقى أساساً في هذه البلدان ظاهرة ذكورية ومرتبطة أكثر بسن العزوبية.
الهجرة السرية والبطالة
خلافا لما يُعتقد، لا تمثل البطالة دائما الدافع الرئيس للهجرة السرية، إذ تبين عديد من الدراسات في جميع بلدان المغرب العربي أن نسبا مهمة من المهاجرين تخلوا عن أعمالهم في القطاع الخاص وحتى عن وظائف تابعة للدولة ليلتحقوا بجحافل المغامرين، فنجد بينهم الميكانيكي والحداد والسباك وقائد الشاحنات والشرطي وعون الاستقبال والسكرتير، ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى وضعية الجزائر التي تعيش حالياً ثورة عمرانية وتجديداً مكثفاً للبنية التحتية يجعلانها تستورد 10 في المائة من اليد العاملة غير المختصة، ومع ذلك تعرف شواطئها يوميا مئات المحاولات للإبحار خلسة. إن ما يجمع هؤلاء الشباب هو البحث عن الرقي السريع والكسب السهل والتحول من وضعية إلى نقيضها واعتقادهم الراسخ أن ما يمكن لهم جمعه من مال بعد عمر من الكد والجد في الوطن يمكن الحصول عليه في أسابيع عدة أو أشهر عدة على أقصى تقدير في المهجر. كما يتقاسمون الشعور بعدم الرضا عن النفس والتشاؤم بمستقبلهم في الوطن، فبقدر ما هم متبرمون من يومهم في بلادهم بقدر ما هم متفائلون بغدهم خارج البلاد.
ولا يلعب الجانب المادي وحده دور التحفيز على الهجرة، بل يتطلع هؤلاء الشبان إلى نوعية جديدة من الحياة فيها الحرية والعلاقات البشرية الممتازة والترويح عن النفس، مثلما صرح به فتى جزائري مسكون بهاجس مغادرة البلاد في أقرب فرصة: «إذا أردنا جمع المال فلنبق هنا، وإذا أردنا نوعية الحياة فلنرحل»، لذلك لا نستغرب أن نرى المتقدم للهجرة السرية حازماً في تنفيذ مشروعه، مصمماً على تخطي كل العراقيل، بل يذهب بعض المصممين على الهجرة إلى صم آذانهم عن كل ما يفزع، وتلقي كل ما يطمئن، حسب قولهم وهو إدراك انتقائي يحول دون تقدير الأمور تقديراً واقعياً من خلال التهيؤ لعوامل النجاح والتوقي من عوامل الفشل. يفسر هذا الخداع الذاتي الإمعان في المحاولات رغم فشلها المتكرر، وقد عثرنا على أمثلة غريبة مثل هذا الشاب التونسي الذي قام بـ 33 محاولة فاشلة، ومازال مصراً على إعادة مغامرته، أما صديقه فمازال في المحاولة العاشرة وجاره في المحاولة السابعة، غير مبالين بالفرص التي تتاح لهم في بلادهم ولا ساعين لإيجاد حلول بديلة. إذا كان المهاجر السري مغامراً فإنه ليس انتحارياً، بل يبقى يصارع الأمواج عند غرق المركب إلى آخر نفس في حياته, فهل يوجد ما يبرر المغامرة وما يجعل الحياة تهون في سبيله؟
المصير القاتم
إن أول ما يواجه المهاجر السري هو خطر الموت غرقاً أو اختناقاً أو جوعاً، فقوارب الصيد البحري الساحلي التي يمتطيها المهاجرون لبلوغ الضفة الشمالية للمتوسط، خاصة أراضي إيطاليا وإسبانيا، ليست معدة للسفر في المياه العميقة والأمواج العاتية.
ويكمن الخطر في حشر هذه القوارب الصغيرة والمتداعية بعدد من المسافرين يتجاوز كثيرا حمولتها. فما إن تبعد بعض الأميال عن اليابسة حتى يتسرب إليها الماء وتفقد التوازن وتقع مآس كثيرة من بينها صراع الركاب من أجل تخفيف حمولة المركب بإلقاء بعضهم بعضا في البحر، ويسود حينئذ قانون الغاب ومنطق القوة، وهو واقع مأساوي يذكره الناجون من هذا الجحيم وكأنهم ولدوا من جديد.
ونظرا لعدم دراية أكثر قادة المراكب بقواعد الملاحة البحرية، فإن الزوارق التي يسيرونها تتوه في اتجاهات مختلفة، فينضب الوقود وتفقد المؤونة ويضطر المسافرون إلى إشعال بعض الملابس لجلب انتباه البواخر والطائرات القريبة، لكن قلما يكون ذلك مفيداً، مما يفسر فقدان عشرين ألف مهاجر في البحر المتوسط منذ عام 2000.
إن كُتِبَ لعدد من المهاجرين النجاة ووصلوا إلى البلدان المقصودة، فسيجدون أنفسهم في قبضة رجال الأمن ويتم تجميعهم داخل مراكز الإيواء في انتظار ترحيلهم إلى بلدانهم. قد ينجح البعض منهم في تخطي الحواجز الأمنية أو الهروب من المراكز، لكن لن تكون ظروفهم أفضل مما كانت عليه عند الإيقاف، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وينامون في الحدائق العمومية وتحت الجسور وداخل هياكل السيارات القديمة والبنايات المهجورة المتداعية للسقوط وعيونهم ساهرة على رجال الأمن الذين قد يفاجئونهم في أي لحظة. وفي هذا الصدد، تذكر جمعية التنمية المستدامة والتعاون الدولي (تونس) في دراسة أعدتها حول الهجرة والتنمية عام 2012 أن 31 في المائة من المهاجرين السريين التونسيين العائدين إلى بلادهم سكنوا الحدائق العمومية و20.4 في المائة عاشوا في مراكز الإيواء و23 في المائة عند أقاربهم وأصدقائهم و1 في المائة في السجون، علما بأن المساعدة التي يجدها بعضهم عند أقاربهم أو أصدقائهم لا تكون إلا ظرفية، فبعد مدة من إيوائهم يضجر هؤلاء من وجودهم المستمر بجانبهم ويطالبونهم بإيجاد حل لوضعيتهم، وتتصدع بذلك الروابط التي كانت تربط طرفي العائلة في الوطن والمهجر.
ونظراً لصرامة الإجراءات المتصلة بانتداب الأجانب وخاصة المفتقرين إلى الوثائق المطلوبة في الاتحاد الأوربي، واعتبارا للركود الاقتصادي الذي تعيشه هذه المنطقة، الذي أدى إلى استفحال البطالة فيها، فإن تطلع المهاجر السري لإيجاد العمل اللائق والأجر الوافر يتحول إلى سراب، فيظل يتنقل من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية ومن ضيعة إلى أخرى، لعله يظفر بعمل يوفر له نفقات الحياة اليومية، ويلجأ في نهاية المطاف وبعد الخيبة إلى طلب الأعمال التي رفضها بشدة في بلاده، لكنه لا يجدها بسهولة. وتشير دراسة الجمعية السابقة إلى أن 13.7 في المائة فقط من المهاجرين السريين التونسيين العائدين إلى بلادهم وجدوا بعض الأشغال الوقتية التي لا تسمن ولا تغني من جوع عند بعض الفلاحين الذين يستغلون وضعيتهم الهشة استغلالاً فاحشاً عن طريق الابتزاز والتخويف والأجور الزهيدة التي لا تزيد عما كانوا يتقاضونه في أوطانهم.
وبمجرد أن ينتهي العامل الظرفي، مثل جني الطماطم أو الزيتون، يجد المهاجرون أنفسهم في تسكع جديد بجيوب فارغة وبطون خاوية، ويضطر كثير منهم إلى طلب المساعدات من المارة والجمعيات الخيرية، يعيشون ليومهم ولا يدرون ما سيكون عليه غدهم. وعندما يضيق الأفق أمام المرء إلى الحد الذي يجعله لا يعيش إلا ليومه، فإنه يصاب بالانكماش ويفقد القدرة على التطلع والاستشراف. وإزاء الإحباط، يسقط الكثير منهم في مجال الجريمة المنظمة، فتستغلهم شبكات بيع المخدرات، وينصهرون في حلقة مغلقة يصعب الخروج منها.
غريب أمر هؤلاء الحالمين بالرخاء والسعادة وراء الحدود، يفرون من السيئ فيقعون في الأسوأ، يبحثون عن الجنة فيلقون الجحيم، يتجرعون العلقم الذي رفضوه ويتقبلون الهوان الذي نبذوه.
وهنا يمكن أن نتساءل: لماذا لا يعود المهاجر السري المغاربي إلى وطنه ويقر بأنه ضحية أوهام خادعة؟ ورغم قساوة العيش لا تقبل إلا أقلية العودة إلى أرض الوطن، على الأقل في الأشهر الأولى للهجرة، أما الأغلبية فتمني نفسها دائما بتسوية وضعيتها مع تغيير الحكومات، ويخجل البعض من عودته إلى قريته أو حيه بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها حتى لا تهتز صورته الاجتماعية من جديد، فكيف نوقف هذا النزيف المخيف؟
إعادة الأمل للشباب
بينت التجربة أن المعالجة الأمنية لظاهرة الهجرة السرية، سواء من قبل البلدان الأصلية أو بلدان المهجر، ظاهرة قاصرة لا تزيد إلا في إغراء الطامعين بالاستقرار في الضفة الشمالية للمتوسط. ومن الأفضل اعتماد سياسة متعددة الأبعاد، تقوم أولاً على التصدي لشبكات الوسطاء التي تبيع الأوهام لشباب يتطلع إلى تحسين وضعه، ثم على دور وسائل الإعلام في إظهار الهجرة السرية على حقيقتها. تذكر هذه الوسائط يومياً الحوادث المأساوية للمهاجرين في محاولاتهم بلوغ الضفة الأخرى للمتوسط، لكن لا يذهب أغلبها أبعد من ذلك. ولأن المهاجر السري لا يمثل ملفا يقدم للعدالة أو رقما يعرف به في مراكز الإيواء، بل يعكس قصة حياة كاملة تراكمت فيها العوامل التي جعلته ينفر من بلاده، فإنه من الضروري القيام بتحقيقات ميدانية حول حياته في بلده الأصلي وظروف عيشه في بلد المهجر، لأن التدخل الناجع يتطلب قبل كل شيء الوقوف على حقائق الأمور.
وإذا عاد المهاجر يوماً إلى وطنه مثل الجريح الباحث عمن يضمد جراحه، فلابد من احتضانه ومساعدته على تجاوز محنته بدلا من تجريمه وتقديمه للعدالة. وفي هذا الصدد، ينبغي إعداد برنامج لتحفيزه على الرجوع إلى الوطن، فهو لم يفشل بل انتصر على وهم عنيد ظل يستنزف طاقاته سنين طويلة وحال دون استثمار قدراته في بلاده.
وبما أن العمل لا يمثل وسيلة للارتزاق فحسب، بل طريقة فضلى للمشاركة في كل مظاهر الحياة الاجتماعية، فلابد أن يعقب عودته إلى وطنه برنامج لإدماجه في الحياة المهنية عن طريق الانتداب أو المساعدة على التشغيل الذاتي، وبذلك يشعر أن وطنه لم يتخل عنه ويحتضنه مثلما تحتضن الأم ابنها العائد من السفر بعد غياب طويل.
وبالتوازي مع ذلك ينبغي إعطاء الأولوية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للأحياء الفقيرة والمناطق المحرومة التي تمثل المصدر الرئيس للهجرة السرية.
إن المآسي التي تخلفها يومياً محاولات عبور الشباب العربي إلى الضفة الشمالية للمتوسط، هذا الجيل الذي يفترض أن يكون قد أخذ المشعل عن الجيل السابق لبناء البلاد والدفع بها نحو الأفضل، تعكس أوضاعا متأزمة في المجتمعات العربية حادت بها عن المنظومة الأخلاقية المتجذرة في كيانها وساقتها إلى حالة من الهشاشة والاضطراب. لقد أصبح الكسب المادي الفردي بكل الوسائل المقياس الوحيد للنجاح في الحياة بأوطاننا، وباتت مظاهر الرفاه والغنى المؤشر الأبرز على قيمة الفرد ومنزلته فيها. وفي خضم هذا الوضع الصعب، يصطدم سعي الشباب إلى العيش الكريم في وطنه بمعوقات كثيرة تثبط عزيمته وتقلص الأمل في نفسه، ولا يمكن التملُّص من محاسبة أنفسنا على ما قدمناه له. تتجاوز هذه الظاهرة الاجتماعية محيط الشباب والهجرة لتنعكس على المحيط الأرحب المتمثل في نوعية الحياة بأوطاننا، فلم تستطع هذه الأخيرة أن تحبب العيش لمواطنيها داخلها، فكيف نعمل حتى نحبب بلداننا إلى نفوس أهاليها ليفرحوا بالعيش فيها ولا يبحثوا عن ملاذ خارجها؟ .