مكتبة «لندن أونتاريو» العامة المكتبة.. بين المعرفة ومعنى الحياة!

مكتبة «لندن أونتاريو» العامة المكتبة.. بين المعرفة ومعنى الحياة!
        

          ظننت نفسي واقفًا أمام أحد المتاجر الكبيرة، التي ربما تقوم بتنزيلات في أسعارها لكثرة الناس التي تؤم هذا المحل، زوار كثر، أطفال وعجائز، فتيان وفتيات، يحملون بأيديهم أكواب قهوة وأحيانًا أقراص كمبيوتر، يتوزعون في ثلاثة طوابق، هنا مجموعة يجلسون على طاولة ويلعبون الشطرنج، وهناك فتيات في غرفة زجاجية يتدربن على مقطوعة موسيقية، وأمهات يتبادلن أطراف الحديث وأطفالهن بأيديهن، أدوات رسم وآخرون أمام الكمبيوتر.. حرية حركة الناس ونوعياتهم دعتني للسؤال عن هوية هذا المكان، وكانت آخر إجابة أتوقع الحصول عليها أنها «مكتبة عامة»!

          كان ذلك عندما كنت أمشي في الوسط التجاري لمدينة لندن أونتاريو بكندا لأدخل في مجمع تجاري حديث، ظللت أتجول في محاله حتى استوقفتني في وسطه وعلى ثلاثة طوابق مكتبة عامة كبيرة يؤمها جمع كبير من مرتادي المجمع، يدخلون وبأيديهم أكواب الشاي والسندويتشات، يتوزعون في أقسام للبحث عن الوظائف، أو يجلسون ليناقشوا فكرة أعدتها لهم إدارة المكتبة ويدونوا رأيهم حولها، لتأتي مجموعة أخرى وتتسلم ما توصلت إليه سابقتها وتطور الفكرة وتضيف إليها، وفي ركن آخر من المكتبة يجلس الأطفال في مساحة واسعة يقرأون ويرسمون تحت إشراف متخصصة في مكتبات الأطفال. يا إلهي مئات الناس يؤمون مكتبة عامة! أنظر إلى الفئات الأكثر زيارة لها، إنهم شباب وفتيات، لا بل أكثر من ذلك المشردون والعاطلون ومدمنو المخدرات، واختير موقع المكتبة أساسًا لاستهداف هذه الشريحة من المجتمع التي يتركز وجودها في شارع «دنداس»، إذ الوسط التجاري للمدينة يستخدمون «الإنترنت» استخدامًا إيجابيًا في البحث عن عمل أو كتابة سيرة ذاتية في ظل وجود مدروس لرجال الأمن وموظفي مكتبات مدربين تدريبًا عاليًا، وللوافدين إلى كندا فصول لتعلم اللغة الإنجليزية توفرها لهم إدارة المكتبة مجانًا، وعندما ينتهون من فصل اللغة تقدم لهم قصص مدعمة بـ «سي دي» لتحسين الاستماع لديهم، وهناك في زاوية أخرى من المكتبة مجموعة من زوار المكتبة اجتمعوا بهدوء وتركيز للعب الشطرنج.

          أدوار ومهام جديدة للمكتبات العامة، بحثت عن هموم الناس وميولهم فابتكرت الوسائل التي تجذب الجمهور إليها. سألت نفسي ماذا لو طبقت الفكرة في مجتمعاتنا العربية؟ إذ تؤم أعداد كبيرة من الناس المجمعات التجارية بشكل دائم في معظم الأحيان ليس بهدف الشراء ولكن للجلوس على المقاهي ومراقبة الناس دونما هدف وفائدة تعود عليهم، هل تقبل إدارات هذه المجمعات بشيء اسمه المسئولية الاجتماعية وتمنح مكانًا للثقافة والفائدة؟ هل تنزل الثقافة عندنا من برجها العاجي لدى النخبة إلى المجتمع بفقرائه والعاطلين والشباب الذين يملأ حياتهم الفراغ؟ دخلت المكتبة فوجدت كثيرًا من المتسوقين يستريحون من عناء التسوق هنا وبين أيديهم كتب، أو يتصفحون «الإنترنت». يقول مدير المكتبة ديفيد كالورين إن الزائر له الحرية في الدخول للمواقع التي يريدها بمعدل 90 دقيقة، لكن من دون استخدامها لأغراض تجارية. وتشمل خدمات المكتبة خدمات الطباعة وإرسال الفاكس إلى أي مكان في العالم، وكلها مجانًا إذا كانت لغرض الدراسة والبحث، كما أن لديهم قسمًا للأطفال من سن 5 إلى 13 عامًا تتوافر فيه أجهزة كمبيوتر يمارسون عليها ألعابًا إلكترونية ويستمعون للموسيقى، مع محادثة أصدقائهم عبر موقع «الفيس بوك»، أما المراهقون من سن 13 إلى 19 عامًا فيستعيرون الأفلام البوليسية الوثائقية. ومن مشاهدتي لاحظت المقدرة العالية لموظفي المكتبة على مساعدة شرائح متنوعة من زوّار المكتبة وتوفير أقصى درجات الراحة، فالمكتبة تضم غرفًا لتعليم الكمبيوتر واللغة الإنجليزية يشرف عليها مدرسون متخصصون وهناك غرف خاصة لممارسة الأشغال الفنية.

          إن الموقع الذي تم اختياره ليكون وسط مجمع تجاري قبل ثماني سنوات، ونوعية الخدمات التي قامت على دراسات وبحوث مكنت المكتبة من استقطاب 2000 زائر يوميًا ومن معظم شرائح المجتمع، وذلك باستهدافهم عبر برامج تنقلهم لأن يكونوا إيجابيين في مجتمعهم، وربما لاحظت أن المشرد يجلس إلى جانب المثقف على طاولة واحدة، في الوقت الذي كانت أعداد الزوار في السابق قليلة ولا تستهدفها الشرائح الواسعة الآن، وقد لاحظت أيضًا الحيوية في ردهات المكتبة، إذ لا تقييد لحركة الزوار، فسياسة المكتبة تسمح للناس بأن يمارسوا الأنشطة التي يفضلونها، فكل شيء مسموح مادام لا يزعج أحدًا، فالمكتبة مكان المجتمع بأكمله، وهي من الأماكن النادرة التي لا يُسأل فيها الفرد لماذا أنت هنا؟ ولم تعد المكتبة مكانًا للاطلاع والقراءة فقط بل بإمكانك أن تتواعد مع أصدقائك لتتقابلوا فيها، وخدماتها تشمل إلى جانب المشردين والعاطلين المكفوفين والمجانين وذوي الأمراض العقلية، إذ توجد برامج تُعنى بهم. أيضًا توجد مكتبة متنقلة توصل الكتب لكبار السن والوحيدين، وذلك فور اتصالهم بالمكتبة ورغبتهم في استعارة الكتب أو المواد المسموعة أو المرئية التي يرغبون في مشاهدتها، ونخصص كتبًا خفيفة الحمل لأولئك الذين لا يستطيعون حمل أشياء ثقيلة. الكثير من الشباب يستمتع بقضاء أوقات جميلة بالاستماع إلى تسجيلات موسيقية لمطربيهم المفضلين، ويشاهدون الأفلام السينمائية والوثائقية التي يرغبون في مشاهدتها في أجواء من الحرية والانطلاق، ولكن في ظل متابعة ومراقبة ووجود مشرفي الأمن الذين يتابعون حركة الزوّار عبر كاميرات موزعة في أقسام المكتبة.

          عشقت المكان وظللت أتردد عليه طوال أربعة أشهر بصفة يومية لأنه مأهول بالناس باستمرار، فأنت في قلب السوق تستطيع أن تتناول الغداء بمطاعم في المجمع نفسه الذي تقع فيه المكتبة، وتعود لا لتقرأ فقط ولكن ربما تشاهد فيلمًا أو تستمع لموسيقاك المفضلة، أو تتصفح «الإنترنت»، أو تسامر أصدقاء على طاولة مكتبة عامة! قلت لنفسي هل يعيد أمناء المدن بمشاركة وزارة الثقافة وملاك المجمعات التجارية تراثًا عربيًا أصيلًا حينما ينتهي العرب إلى ركن في أسواقهم ليتطارحوا الشعر والأدب والثقافة؟

          وفي الختام فإن قرار افتتاح مكتبة عامة ليس مقصورًا على وزارة الثقافة، ولكنه قرار يشارك فيه علماء اجتماع وجمعيات نفع عام ورجال أعمال، ويديرها مجموعة من الخبرات الثقافية المتنوعة القادرة على تقديم الإثراء المعرفي لكل أطياف المجتمع.
-----------------------------
* كاتب من السعودية.

 

عبدالسلام الخالدي*