خلاصة من الإعجاز الدلالي في سورة يوسف عليه السلام
تعد قصة سيدنا يوسف عليه السلام من أشهر القصص في التاريخ البشري، ولقد وجدت أن كثيرًا ممن تناول شأن هذه السورة لم ينتبه إلى قدر ألفاظها، فكل كلمة فيها لها قدرها وقيمتها وثقلها، وتحمل عظمة في دلالاتها، فوقفت عند كل لفظة وفقني الله إلى ورودها للتنبيه على ما بها. يبدأ كل مبحث بعرض آيات من السورة، ويجمل شرحها، ثم يتناول بعض الألفاظ التي تؤثر في توجيهها على تفسير السورة وبيان معانيها، والمقصود منها، وذلك نحو: قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (1 - 3) سورة يوسف
خلاصة دلالية
لما ختم الحق سبحانه وتعالى سورة هود عليه السلام بقوله: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (120) سورة هود. أتبعه بذكر قصة يوسف عليه السلام، لما فيها من تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بالتمكين في الأرض، كما مكّن الله لأخيه يوسف عليه السلام، وذلك جزاء المتقين المخلصين.
بخلاف الآية الأولى، فالمخاطب هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد فهــــمنا ذلك من قوله (تلك) وإن كانت الإشارة للآيات، فالكاف تدل على المخاطب المذكر، صلى الله عليه وسلم.
عظمة الاستهلال
اختلف العلماء في بيان الحروف المقطعة، وكان من أعلاها: إنها حروف مقطعة لا يعلم تأويلها إلا الله، أما قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (1) سورة يوسف فالكتاب المبين، يعني القرآن المبين.
وقد ورد الكــــتــــاب بـــمعان مخـــتلــــفة أوردها الفـــيروزابادي وختـــمها بــــقوله: والكتاب في الأصل: اسم للصحيفة مع المكتوب فيها.
أما دلالة اسم الإشارة «تلك» في قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (1) سورة يوسف: فاللام فيه كما هو معلوم تفيد البعد، بعد المشار إليه مكانًا ومكانة، وهو هنا إشارة إلى بُعد مكانته، والله أعلم.
أما «الكاف» فحرف خطاب، أي خطاب؟، ومَن المخاطب؟ المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم، فحينما تسمع: تلك أو ذلك أو أولئك، فلتصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الكاف تعني إشارة إلى المخاطب في الحوار الممتد بين المتكلم والمخاطب والمشار إليه، والله أعلم.
وأما دلالة «الإنزال» في قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} (2) سورة يوسف، فإشارة إلى الإنزال لا التنزيل، والإنزال يكون جملة واحدة، والتنزيل يكون على مراحل متعددة على اعتبار أسباب النزول، ولذا قيل: الإنزال يستعمل في الدفعة، والتنزيل في التدريج.
فلماذا استخدم «الإنزال» دون «التنزيل» في تلك الآية؟
أما قوله تعالى «عربيًا» فقد نالت «العربية» شرفها بل قداستها من ارتباطها بقداسة الموصوف، وهو القرآن الكريم.
ولما كان الإنزال من علو وشرف ناسبته الدلالة في قوله {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف، أضف إلى ذلك أن لدى العرب وسائل فهمه، فقد نزل بلسانهم العربي المبين.
أي: لكي تعلموا معانيه، وتفهــــموا ما فيه، وبعــــض العــــرب يــــأتي بـ«أن» مــــع «لعــــل» تشبيها بـ«عسى»، واللام في «لعل» زائدة للتوكيد.
وقيل {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف أي: لتكونوا على رجاء من تدبّره، فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب».
دلالة {تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف.
أما العقل لغة: «فمأخوذ من عقال البعير يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل.
وأما العقل اصطلاحا فما تعقل به حقائق الأشياء، وقيل: محله الرأس، وقيل محله القلب».
والمعنى: لعلكم تعقلون ما فيه، وذلك قوله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد، وقوله تعالى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء.
قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) سورة يوسف.
دلالة وصف القصص بالحسن:
أما الحسن فقد قيل: «الحسن: عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه، وذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى، ومستحسن من جهة الحس».
وفي التعريفات للجرجاني «إن الحسن هو كون الشيء ملائمًا للطبع كالفرح، وكون الشيء صفة كمال: كالعلم، وكون الشيء متعلقًا بالمدح كالصلوات، وقيل الحسن هو ما يكون متعلقًا بالمدح في العاجل والثواب في الآجل».
يوضع في معنى الإحســـان: والإحــــسان يقال على وجهين. أحدهما الإنعام على الغير: أحسن إلى فلان. والثاني إحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا أو عمل عملاً حسنًا. ومنه قول علي (رضي الله عنه) الناس أبناء ما يحسنون، أي منسوبون إلى ما يعلمونه ويعملونه من الأفعال الحسنة. والإحسان أعمّ من الإنعام.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (90) سورة النحل فالإحسان فوق العدل. وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له. فالإحسان زائد عليه. فتحرِّي العدل واجب، وتحرّي الإحسان ندب وتطوع، ولذلك عظّم الله ثواب أهل الإحسان، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة.
والإحسان من أفـــضل مــنازل العــــبودية، لأنه لب الإيمان وروحــــه وكمــــالُه. وجمـيع المنازل منطوية فيها. قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (60) سورة الرحمن. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.
وقد قيل: «هي أحسن القصص، لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والممالك والتجار والعلماء والرجال والنساء وكيدهن ومكرهن، مع ما فيها من ذكر التوحيد والفقه والسير والسياسة وحُسن الملكة والعفو عند المقدرة وحسن المعاشرة، والحيل وتدبير المعاش والمعاد وحسن العاقبة في العفة والجهاد، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب، وذكر الحبيب والمحبوب، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا...».
وقد قيل «يقال لما أخبر الله سبحانه أن هذه القصة أحسن القصص وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه مزايا وزوائد لتخصيصه, فعلم أن الله تعالى لم يُرَقِّ أحدًا إلى مثل ما رقاه.. ويقتضي هذا أن نفرق بين القصة والحكاية.
وفي دلالة «المحسنين» يقول الطبري: «هذا وإن كان مخرجه ظاهرًا على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: كما فعلت هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم أعطيته ما أعطيته، كذلك أنجيك من مشركي قومك، الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكِّن لك في الأرض».
فالنص يحمل دلالة حكمية وتبشيرية خارج النص، لما ارتبط به من سبب نزول.
الدلالة بين القصة والحكاية
أما «القصص» فاتبــاع الخــــبر بعضــــه بعضا، وأصله في اللغة: المتابعة، قال تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} (11) سورة القصص. أي: اتبعي أثره، وقال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (64) سورة الكهف، أي: اتباعا.
وإنما سميت الحكاية قصصًا، لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئًا فشيئًا، كما يقال: تلا القرآن، إذا قرأه، أي يتلو، أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية، والقصص في هذه الآية يحتمل مصدرًا بمعنى الاقتصاص، يقال: قص الحديث يقصه وقصصا، إذا رواه وساقه..
ولماذا قال الحق «نقص» ولم يقل: نحكي؟! لاشك في أن المعنى اللغوي الذي أشار إليه الرازي يعد سببا من الأسباب، ففي القص دقة في سرد الخبر، وفيها لون من التنظـــيم والترتيب يدل عليه أصل تلك الكلمة: إذ تدل على تتبُّع الأثر شيئًا فشيئًا.
أما «الحكاية»، أو الفعل «يحكي» فقد تنصرف إلى الإتيان على مثال سابق من القصص الأخرى بما تحمله تحكي في أصلها اللغوي من معنى المحاكاة، إذ يقال: حكيت فلانا وحاكيته: فعلت مثل فعله، أو قلت: مثل قوله، وقص الحق سبحانه لم يأت على مثال سبق سبحانه {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (117) سورة البقرة، وسبب آخر هو أن الفعل حكاه وحاكاه أكثر ما يستعمل في القبيح.
دلالة الغفلة بين الحقيقة والمعنى المجاز في قوله تعالى {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) سورة يوسف فقد قيل فيها: أي: إنك لم تصل إلى معرفتها بكدك وجهدك ولا بطلبك وجدك، بل هذه مواهب لا مكاسب، فبعطائنا وجدتها لا بعنائك، وبتفضلنا لا بتعلُّمك، وبتلطفنا لا بتكلفك، وبنا لا بك.
وفي قوله {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) سورة يوسف قيل: أي من الغافلين عما عرفناك.
وهو اتجاه حسن نحو التفسير اللغوي للكلمة لا التفسير الاصطلاحي، فقد قيل: «الغفلة عن الشيء: هي ألا يخطر بباله». وقيل: الغفلة: «هي سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ».
وقد ورد في المفردات: غفل: الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ: يقال: غفل فهو غافل. قال تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} (22) سورة ق، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} (1) سورة الأنبياء، {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} (15) سورة القصص، {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (5) سورة الأحقاف، {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) سورة يوسف، {هُمُ الْغَافِلُونَ} (179) سورة الأعراف، {بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (144) سورة البقرة{لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} (102) سورة النساء{فَهُمْ غَافِلُونَ} (6) سورة يــس {عَنْهَا غَافِلِينَ} (136) سورة الأعراف.
وقد أورد الفيروزابادي في بصائر معنى عشرة للغفلة.
أما المعنى الشرعي أو الاصطلاحي للغفلة فهو: متابعة النفس ما تشتهيه.
وذلك المعنى الاصطلاحي لا يليق نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومناط تفسير الآيات لا يكون إلا بالسوابق واللواحق، فالحق يقول {نَحْنُ نَقُصُّ} (3) سورة يوسف ثم يزيلها بقوله {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) سورة يوسف فالغفلة هي عدم ورود تلك القصة على بال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكاها الله لنبيه تسلية له عما يلاقيه من أهل مكة، وتثبيتا لقلبه.
فالغفلة متعلقة بالقصــص الذي يقصه الحق سبحانه، ويؤيده الرازي في قوله {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) سورة يوسف قال: «من غافلين عن قصة يوسف وإخوته، لأنه - عليه السلام - علم ذلك بالوحي، ومنهم من قال: المــــراد أنه كان من الغافلين عن الدين والشريعة قبل ذلك»، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} (52) سورة الشورى.
وأرى أن في ذلك بعدًا لا يليق بمقامه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أدبًا أن نصرف الغفلة إلى الغفلة عن الدين والشريعة، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي وآدم منجدل في طينته، إن الآية تثبت أن مصدر العلم لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلهي لا من تلقاء نفسه، فقد علمه الله كتابه وعلمه ماهية الإيمان، قال تعالى {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (113) سورة النساء
وقال أيضًا: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3 - 4) سورة النجم.
وهكذا تـــــناولت الدراسة بالتحليل والتعليل كثيرًا من الألفاظ الدلالية التي كان لها أكبر الأثر في البيان الدلالي بل الإعجازي في سورة (قصة) يوسف عليه السلام .