كُتُب التّراجِم في التّراث العربي كتاب الشِّعر والشُّعراء لابن قُتيبَة أنموذجاً
عندما نتحدّث عن فنِّ التّراجِم، فإن أوّل ما يتبادر إلى أذهاننا: ما معنى أنا أُتَرجِمُ لفُلان؟ هذا يعني أنّني أقدِّم تعريفاً مُرتَبطاً بشاعِرٍ أو أديب أو لغويّ أو أيِّ عَلَمٍ من الأعلام من جميع زوايا حياته العلميّة والثقافيّة والسّياسية، وهو في الأصل ينطلقُ من تحديد العصر ونوعيّة الاهتمام بالعَالِم، وربَّما تذكر بعض المراجع أو المصادر التي كتبها، ويمكن وضع بعض المعلومات عن المصادر التي تحدّّث عنها، لكنَّ عملية الترجمة توسّعت وابتعدَت عن ذلك الهدف مع عصر الازدهار العبّاسي لتُصبح فنَّاً قائماً بذاته في تراثنا العربي، حيث تعدَّدت طُرق الكتابة بها وتنوّعَت مناهجها وفروعها.
ويُعَدُّ العرب من حيث اهتمامهم بأخبار رجال العلوم والآداب ورسم مَعالِم حياتهـــــم في طليعة الأمــم في هذا المضمار، فقــد شَغَلَــــت كُتُب التراجِم حيِّزاً كبيراً من اهتمام العـــرب، فهــــي تُقدِّم مثـــــلاً تاريـــــخ ولادة المُتــــرجِم، ونـــشأته العلمية ورحلاته، وتاريخ وفاته... وغيرها.
وتُعدُّ كُتُب التّراجم هذه من أغنى الكُتُب فائدةً وأمتعها عرضاً، لأنّها لا تقتصر على عرض سِيَر أولئك الأعلام وأخبارهم وتجاربهم ورحلاتهم، بل كثيراً ما تندرج خلال ذلك معارفٌ وحقائق وأخبار غنيَّة لا صِلَة لها مباشرة بالعَلَم الذي نقرأ ترجمته، ومثل هذه المعارف الجانبية قد تفيد الباحث في شؤون أُخرى مختلفة، لِما فيها من تنوّع وجِدَّة وطرافة.
بواعث فن التّراجم
أمّا بواعث هذا الفن، فإنَّ الباعِث الأوّل على ترجمة الرجال عند العرب يعود إلى عناية المُحدِّثين في بداية تدوين الحديث برواية الأحاديث والآثار المُتعلِّقة بحياة النّبي الكريم وغزواته، وكذلك الحوادث المُتعلِّقة بكبار الصّحابة، فكان ذلك أساساً لوضع كُتُب السِّيرة النبوية، ويُروى أنَّ أوّل مَنْ ألَّف في سيرة نبي الله الكريم كل من عروة بن الزّبير بن العوّام وأبَان بن عثمان بن عفّان.
وكانت الخطوة التالية للمحدِّثين بعد جمعهم للأحاديث النبوية أن قاموا بنقد رُواة تلك الأحاديث وتعديلهم أو تجريحهم، وفي مقدمتهم شعبة
بن الحجّاج، ويحيى بن سعيد القطّان، فتكوَّن من ذلك مجموعات من تراجم الرُّواة ورجال الحديث وسِيَرهم وألقابهم في كُتُبٍ عُرِفت بكُتُب الجرح والتّعديل، أو كُتُب معرفة الرجال، مثل: «كتاب الضعفاء للبخاري» (ت256 هـ) *، و«كتاب الجرح والتّعديل لعبد الرحمن الرّازي» (198 هـ)، ثمّ جاء رجال الأدب واللغة وما إليها فقلَّدوا المُحدِّثين في تأليف كتُبٍ تُعنى بتراجم الرجال والنساء في كلِّ فنٍّ وعلم، ويظهر في كُتُبهم تأثّرهم الواضح بالمُحدِّثين من خلال عنايتهم بأسانيد رواياتهم.
أمّا الباعِث على ازدهار فنِّ التّراجِم عند العرب في العصر العبّاسي، فيعود إلى اتّساع نطاق المعرفة وتنوّع العلوم في الأدب واللغة وغيرهما وكثرة عدد الأعيان والأعلام البارزين الذين كانت لهم فعاليّات قويّة في تاريخ الحياة العربية والوعي العربي على مختلف الصُّعُد، وهذه الصورة للوعي العربي الثقافي في العصر العباسي تُبيِّن أسباب نشوء فنِّ التّراجِم وتُبيِّن أسباب وجود بعض السِّمات لهذا الفن، وبشيءٍ بسيط من التّفكير يستطيع أيّ باحث أن يكتشف هذه الأسباب والدّوافع التي أدّت إلى ذلك، ولعلّ أهمّها الرغبة في إسناد الخبر أو الحكاية أو أيّ متن مُرتَبط بالثّقافة الشفوية العربية، لأنّ الخبر يعني دلاليّاً الاهتمام بالنّقل، والنّقل يحتاج إلى توثيق، والتّوثيق مرتبط بالاهتمام بالنّاقل أو العَلَم، ومن أشهر الكُتُب التي اهتمّت بنقل الخبر وبالتالي اهتمّت بالإسناد كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني.
ونقول إنّ فنَّ التّرجَمة هو فنُّ الاهتمام بالفرد، فعندما نشأت الدولة الإسلامية، فإنّ أوّل عملية تدوين حصلت كانت تصبُّ اهتمامها على مَنْ كَتَب هذا الحديث عن الرّسول ، فلان عن فلان، وهناك في الحديث جزءان أساسيّان، الجزء الأوّل نُسمّيه الإسناد، والثاني المتن، فما معنى الإسناد والمتن؟
والسّنَد عند المُحدِّثين هو حكاية رجال الحديث الّذين رووه واحِداً عن واحِد إلى رسول الله (السلسلة أو العنعنة). أمّا الإسناد، فهو إضافة الحديث إلى قائله، أي «نسبته إليه»، وأحوال السّنَد، هي ما يطرأ على رجال السّنَد من اتّصال أو انقطاع أو تدليس، أو تساهُل بعض رجالِه في السّماع، أو سوء حفظه أو اتّهامه بالفسق أو الكَذِب أو غير ذلك.
أمّا المَتن، فهو ما ينتهي إليه السّند من الكلام، وأحواله تتمثّل في ما يطرأ عليه من رفع أو وقف أو شذوذ أو صحّة أو غير ذلك، وموضوعه هو السّند والمَتن من حيث التّوصُّل إلى معرِفَة المَقبول من المردود، ويُسمّي المُحدِّثون كلّ حالٍ من أحوال السّنَد والمتن علماً، مثل: «علم الصحيح، علم الضّعيف، علم الموقوف،... إلخ»، ولكن ما الغاية من الاهتمام بموضوع السّنَد والمَتن؟
إنّ الغاية من ذلك جليلة، وهي حفظ الحديث النّبوي من الخَلط أو الدّسِّ أو الافتراء، وبذلك يتمّ حفظ الدِّين الإسلامي من التّحريف أو التّبديل، وقد خصَّ الله الأمّة بأن وفّقها لِحفظ كتاب ربِّها حِفظاً متواتراً دقيقاً بكلِّ حركاته وسكناته ومدَّاته وغُنَّاته، ووفَّقها لصيانة حديث نبيِّها فابتَكَرت هذا العِلم وكان خصوصيّة لها.
يقول أبو علي الجياني: «خصَّ الله سبحانه وتعالى هذه الأُمّة بثلاثة أشياء لم يُعطِها مَنْ قبلها: «الإسناد، والأنساب، والإعراب»، إذن فالسّند والمتن يخضعان لعملية نقد من أجل الوصول إلى المَتن الصحيح من النّاحية الّلغوية الحرفية، وممَّا ينظر إليه في عملية النّقد هذه ما يطرأ على رجال السّنَد من اتّصال أو انقطاع، كما يُنظَر إلى مدى توافق هذا المَتن مع العقل والمنطِق، والقول إنّ حالة الاهتمام بالإسناد هي حالة الاهتمام بالفرد، ولعلّ، هذه الحالة عزَّزت في الوعي العربي الاهتمام بالفرد على جميع المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية.
وانطلاقاً من هذا الفرد الذي قام بالنّقل، نقول إنّ الثقافة العربية منقولة شفوياً، وهذا التناقل الشفوي أدَّى إلى تداخل المُشارِكين في التأليف، ولذلك نستطيع القول إنَّ هذه المادّة هي مُنتَج جماعي، وهذه أهم سِمَة للنّص المنقول شفويّاً، فعندما نقول إنَّ هذا النّص منقول شفوياً، فهذا يعني أنَّه ليس من إنتاج فردٍ واحد.
إذاً نستطيع القول إنَّ عمليّة الاهتمام بالشِّعر والأدب واللغة والنّحو تعود في أصلها كفكرة إلى مسألة الاهتمام بالحديث الشّريف، ولعلَّ أول اهتماماتهم في هذا المجال كان ينصَبُّ على رجال الإسناد، وهذه الطريقة في التّفكير أبرَزت أهميّة دور الفرد، فراح هذا الاهتمام يمتدُّ بعيداً عن الحديث لتُصبِح ترجمة الفرد غايَةً في ذاتها.
ومع توسُّع العلوم والمَعارِف والثقافات لم يتخلَّ الوعي العربي عن هذه الحالة، إنّما أعاد إنتاج هذا الوعي في إطاراتٍ مُختلِفة، فازدهرت بشكلٍ كبير الكُتُب التي تُترجِم للأَعلام، وذلك كما سبق أن أشرنا، لأنّ الثقافة العربية ما هي في الأساس إلاَّ تناقُل شفوي، أي إنَّها تقوم على الخبر والحِكاية، ومن هنا جاء الاهتمام بناقل الخبر بِغَّضِّ النّظر عن متن المنقول، وذلك من أجل إعطاء مصداقيّة لذلك الخبَر ومتنه؛ إذن فالإسناد جزء أساسي في الوعي، ولذلك نجد أنّ جميع الكُتُب التاريخيّة في الثقافة العربية تكتظُّ بسلاسل الإسناد.
السِّمات العامّة لكُتُب التَّراجِم
من أبرز السمات العامة لكتب التراجم، الموسوعيّة الثقافيّة، وتعدُّد المَعارِف والعلوم، وتعدُّد المناهِج المُتَخصِّصة في التأليف وطُرُق التّصنيف، وكذلك الاختلاف في العناوين والمَضامين وطبيعة الأَعلام الَّذين تُتَرجِم لهم.
وممَّا يُلفت النّظَر أنّ بعض كُتُب التّراجِم يحمل عنوان الطّبقات، وهو نوع يُتَرجِم لأَعلام اتَّفَقوا في الاختصاص والتَقوا في الثّقافة، فَيُصَنَّفون تصنيفاً طبقيّاً يُراعى فيه الزّمان والمكان والمنزِلَة العِلميّة، وقد تخرج عن ذلك إلى التّصنيف بحسَب حروف الهِجاء، ومن أوائِل الكُتُب في هذا النّوع «طبقات فحول الشُّعراء».
الاتّجاهات والطُرُق التي سلكها مؤلِّفو كُتُب التراجِم
هناك نوعان، كُتُب تراجِم عامّة وكُتُب تراجِم خاصّة، ويُمكِن أن نُميِّز من الاتّجاهات والميادين في تأليف كُتُب التّراجِم ما يلي:
إنّ بعض المؤلِّفين اقتصر في تراجِمه على أهل مدينةٍ بعينها ممَّن ولِد في تلك المدينة ونشأ فيها أو قُربها أو توفِّي فيها، مثل «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (463 هـ)، و«تاريخ دمشق» لابن عساكِر (571 هـ)... وغيرهما.
بعضهم اهتمَّ بتراجِم الصّحابَة وحدهم من دون غيرهم من الأَعلام الآخرين، ومن هذه الكُتُب «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» لابن عبدالبر
(463 هـ)، و«أسَد الغابة في معرفة الصّحابَة» لعِزِّ الدِّين بن الأَثير (630 هـ).
وقد حَظي المُتَصوِّفة والزُّهاد بكُتُبٍ تترجِمُ لهم وتجمَع أخبارهم، مثل «طبقات الصوفية» للسلمي (412 هـ)، و«حلية الأولياء» لأبي نعيم الأصفهاني (430 هـ).
ومن المؤلِّفين مَنْ ترجَم لأعيان عصرِه الذي عاشه والعصر القريب منه، ومنها كتاب «يتيمة الدّهر» للثّعالبي (429 هـ)، و«دُميَة القَصر» للباخرزي
(467 هـ).
كما راعى بعض المؤلفين في تراجِمهم اختصاص المُترجَمين والميادين العلمية والفكرية التي برزوا فيها أكثر من غيرها، إذ كان الواحد منهم مُتعدِّد الجوانب والاختصاصات، ومنها «الشِّعر، واللغة، والنّحو، والقراءات القرآنية... وغيرها»، ونذكر في ما يلي كُتُباً في بعض هذه الجوانب:
في تراجم الشُّعراء «طبقات فحول الشُّعراء» لابن الجمحي، و«الشِّعر والشُّعراء» لابن قُتيبة، و«طبقات الشُّعراء» لابن المُعتَز.
تراجِم اللغويين والنّحويين: ومن هذه الكُتُب «مراتب النّحويين» لأبي الطيِّب اللغوي، و«نُزهَة الألباء في طبَقات الأُدباء» لابن الأنباري.
تراجِم الأطبَّاء والحُكماء والفلاسفة: من هذه الكُتُب «طبقات الأطبَّاء والحُكماء» لابن جلجل، وكتاب «تاريخ حُكماء الإسلام» لِظَهير الدِّين البيهقي، و«عيون الأنباء في طبقات الأطبَّاء» لابن أبي أُصيبِعَة.
وهناك كُتُب التّراجِم العامّة التي لا تختصُّ بفئَةٍ معيَّنة ولا بطائِفة محدودة، بل تشمل جمهَرة الأعلام والأعيان المشهورين في جميع العصور على اختلاف ثقافاتهم وصفاتهم العِلميّة والسّياسيّة والاجتماعية والفنّية منذ القديم حتى عصر المؤلِّف، ومن تلك الكُتُب: «المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم» لابن الجوزي، و«مُعجَم الأُدباء» لياقوت الحَموي، و«وفيّات الأعيان» لابن خلّكان.. وغيرها.
أمّا طريقة تصنيف هذه الكُتُب فقد يتَّبع فيها المؤلِّف القرون الهجرية، مثل «الدّر الكامنَة في أعيان المائة الثّامِنَة» لابن حجر، و«الضّوء اللاّمِع لأهل القرن التّاسِع» للسَّخاوي.
مَنهَج كُتُب التّراجِم
إنّ الكُتُب المؤلَّفة في التّراجِم المُختلفة لا تسير على منهج واحِد في الترتيب والتّنظيم، فقد تتّفق حيناً في ما بينها وتختلِف حيناً آخَر، فقد تُرتِّب أسماء الأعلام المُتَرجَمة ترتيباً هِجائيّاً بِحسب حروف الهجاء من الهمزة إلى الياء، مثل «بغية الوعاء» للسيوطي، وقد يكون التّرتيب فيها بين الأعلام زمنيّاً في الأغلَب يُراعى فيه الأقدَم فالأقدَم، مثل كتاب «الشِّعر والشُّعراء» لابن قتيبة، و«نُزهَة الألباء» للأنباري، في حين أنّ بعض كُتُب التّراجِم حُشدت فيها أسماء الأعلام موزّعَة على البلدان والأقاليم المُختلفة المشهورة كالعراق ومصر، وبلاد الشّام، ومنها «يتيمَة الدّهر» للثّعالبي، وقد يكون للمفهوم الطّبقي أثره في التّقسيم والترتيب بِحسب المنزِلَة العِلميّة أو الأدبية أو الشِّعريّة للمُتَرجَمين، فيُوزَّعون على طبقات مُختلفة، كما في «طبقات النّحويين والّلغويين» للزّبيدي الأندَلسي، وقد تتوالى تراجِم الأعلام مُتَسلسِلة بِحسب سنوات وفياتِهم سنَةً سنَةً مثل: كتاب «المنتظم» لابن الجوزي، و«شذرات الذّهَب» لابن العِماد الحنبلي... وقد يَجمَع المؤلِّف بين طريقتين أو أكثر من هذه الطّرائق بِحسب ما تقتضيه طبيعَة الكِتاب.
وهناك كُتُب أُخرى يُمكِن أن تسلك في هذا السَّمط، وهي كُتُب تُعنى بترجمة المادّة العِلميّة نفسها وتُعرِّف بأبرز أصحابها في الوقت ذاته، ومنها «الفهرست» لابن النّديم، و«إرشاد القاصِد إلى أسمى المقاصِد» لابن ساعِد الأنصاري السِّنجاري.
ويحسن أن نُلحِق بهذا الجانِب أيضاً ما ألَّفه العُلماء من كُتُب تُعرِّف بالمُدن والأقاليم والمواضيع التي كانت مراكِز للعِلم والثّقافة أو مُنتَجعات للرَّحَالَة، وتُعرَف هذه الكُتُب بِكُتُب الرّحلات والبلدان، مثل: «رحلة ابن جُبير» (614 هجريّة)، و«رحلة ابن بطوطة» (797 هـ) المُسمّاة «تُحفَة النّاظِر في غرائِب الأمصار وعجائِب الأسفار»، و«أحسَن التّقاسيم في معرفَة الأقاليم» للمقدسي... وغيرها.
ومن كُتُب التّراجِم العامّة في العصر الحديث كِتاب «الأعلام» للزّركلي، و«أعلام النّساء» لرضا كحَّالة، إلاّ أنّ التأليف في كُتُب التّراجِم الخاصّة انتشَر حتى كاد يطغى على كُتُب التّراجِم العامّة.
كُتُب تراجِم الشُّعراء
لقد مهّدنا في البداية إلى كُتُب التّراجِم واتّجاهاتها وطُرقها، وهنا سنتطرّق إلى هذه الاتّجاهات وما تتضمّنه من الكُتُب كل على حدة، ومنها:
كتاب طبقات فحول الشُّعراء
وضّحنا في ما سلف الأسباب التي دعت إلى الكِتابة انطلاقاً من مفهوم الإسناد والمتن، وهنا سوف نتحدّث عن كتابٍ يدخل ضمن كُتُب التّراجِم، وهو بعنوان: «طبقات فحول الشُّعراء الجاهليين والإسلاميين» لابن سلَّام الجمحي، وقبل الدّخول في سِمات هذا الكِتاب وتفاصيله، لابدّ لنا أن نتحدّث عن آلية التّفكير لدى الكاتب، وذلك حتّى نستطيع فهم آلية التأليف عنده وفهم عقليَّته التي كانت وراء هذا الكتاب.
هذا الكِتاب هو أوّل كتاب في فنِّ التّرجمة، لذلك فمن الطبيعي أن نقول إنّ هذه الرِّيادة بقدر ما لها من إيجابيّات، فإنّ لها سلبيّات أيضاً، ولعلّ قولنا عن هذا الكتاب إنَّه يُمثِّل التّجربة الأولى يجعلنا نتغاضى عن سلبيّاته.
وبادئ ذي بدء نريد أن نَعرف ما هو الإطار الثقافي الذي أُلِّف فيه هذا الكِتاب، وهنا يجدر القول: إنّ الغاية من الكِتاب كانت تصنيفيّة، والتّصنيف له علاقة بالمنطِق والكِتابَة العلميّة، فالتّصنيف يعني قوانين وملاحظة بديهيّة مُرتبطة بالكِتاب، وهنا نتساءل: كيف يتعامَل المُصَنِّف أو العالِم مع الشِّعر؟
من الطبيعي أن تكون لديه رؤية للشِّعر، وإذا كان هذا الشعر الجاهلي والإسلامي فيه مجموعة من القضايا التي سوف تنعكس على الكاتب، فإنَّه حتماً سيتعرَّض لمشكلات، والجمحي عاش في نهاية القرن الثاني للهجرة وأوائل القرن الثالث، أي في مرحلة التدوين – تدوين الشِّعر – فهو يعيش بشكل طبيعي ضمن الدائرة المُغلَقة لطبيعة ما يسجَّل، والسّؤال: لماذا التّسجيل؟
لأنّ الصّورة الشاملة من الشِّعر العربي الجاهلي تقول إنَّه مرَّ بمرحلةٍ طويلةٍ انتقل خلالها بشكل شفوي عبر الذاكِرة، وهذا يجعلنا نتساءل: ما الذي سُجِّل في عصر التّدوين، وما الذي دوِّن من الشِّعر؟... وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إنَّ هناك مسافة زمنيّة قد تمتدّ إلى ألف سنة بين النّص الذي أُنتِج أوّلاً وبين لحظة تدوين هذا النّص، وهذا يعني أنّ هذا النّص الشِّعري الجاهلي الذي نتعامَل معه على أنَّه نصٌّ جاهليّ ليس الصّورة الحقيقية للشِّعر الجاهلي، وذلك لكون المدوِّن نقله من النّاقِل، وهذا النّاقل يعتمد على الذاكِرة البشرية التي قد تخونه نتيجة تعرّض الإنسان للنّسيان، وعلى هذا فقد يكون هناك نقص أو زيادة في البيت، أو انتحال قصائد، وقد يكون للتناظر الديني سببٌ في ذلك، وهذا إضافة لِما تلْعبه الصراعات القبليّة من دور، فيضطرّ كلُّ شاعِر أنْ يُغلِّب جانباً على آخر، ففي العصر الأموي تحديداً كانت هناك مجموعة من التناحرات المَذهبية الدينية التي أدَّت إلى دخول طائفة لمصلحة هذا المَذهب أو ذاك، ولا نستطيع أن نقول إنَّ تلك الصّراعات أو مشكلات الذّاكِرة لا تؤثِّر في مرحلة التّدوين في المُدوِّن الذي نقل عن النّاقِل، وهناك أيضاً مشكلة الّلغوي الذي يبحث عن أبيات تدعم موقفه الّلغوي، وكذلك النّحوي الذي سيبحث عن أبيات تدعم موقفه النّحوي، ومَنْ يُسجِّل الأشعار لابدَّ أنَّه يقوم بذلك بناءً على رغبة داخليّة في التّسجيل، وهذا يعني أنَّه سيُدوِّن ما يدعَم موقفه.
ومن أمام صورة الرّواية المُدوَّنة في تلك اللحظة مبدئياً، وبناءً عليه، فإنّ هناك مَنْ شكّك في ذلك، لأنَّه لا توجد هناك وثائق تاريخية تؤكِّد وتقطع في هذه الرّوايات، فالثقافة العربية كانت منقولة شفوياً لاعتمادها على الذّاكِرة، وهذا يعني أنّ هذه النّصوص لا توجد لها وثائق تؤرِّخ لها، ومن هنا جاء تشكيك البعض الّذين قالوا إن الصورة الشِّعرية الحقيقية للشَّاعِر الجاهلي قد ضاعت، أي إنَّ ذاكِرة النّص الأولى غير موجودة، وهنا تكمن المشكِلة، فالنّص انتقل شفوياً عبر الثقافات المُختلفة، لذلك فهو يخضع لتغييراتٍ عامةٍ مع بقاء البُنية الأساسية ثابتة، ولابُدّ للمُصنِّف من الاستعانة بعُلماء الشِّعر لكي يُساعِدوه فيه، لكونه جزءاً ممّا يقوله العُلماء، والجمحي يُدرِك أنَّه يحتاج إلى عالِم بالشِّعر رغم أنَّه مُصنِّف ورجل عِلم.
إذن، فآليّة التّفكير عند الجمحي كانت منطقيّة، ومن الطبيعي أن نقول إنَّ تصنيف الجمحي لهذه الأشياء مبنيٌّ على الأخذ بجزءٍ من رأي العُلماء، لأنَّ المشكِلة قائمة في أنّ هذه المقولات خضعت للانتقائيّة، أي إنَّه لا يستطيع أن يُسجِّل كلَّ الأشعار، لأنَّ الكثير منها ضاع، لذلك فهو مُضطرّ لتسجيل ما هو مُنتشِر بين الناس.
تعريف ابن سلَّام الجمحي
هو عبدالله مُحمَّد بن سلَّام الجمحي، وُلِدَ في لجّة التدوين في البصرة لعائلة عِلمٍ وثقافة، عاش حياته في بغداد، درس على أيدي شيوخٍ في الأدب واللغة من أهل البصرة، كان أبوه راوياً، هو أيضاً عَمِل في الرّواية والتّدوين، (توفّي سنة 232 هـ) وقد ناهَزَ التّسعين من عمره، له من الكتب: كتاب «طبقات فحول الشُّعراء»، وكتاب «بيوتات العرب»، إلاَّ أنَّه لم يصلنا منها إلاَّ كتاب «طبقات فحول الشُّعراء» وهو موضوع بحثِنا هنا.
أقسام الكِتاب
المقدّمة: وفيها وضَّح ابن سلَّام منهجه، وتناول عدداً من القضايا المُهمّة التي تتّصل بتاريخ الأدب والنّقد الأدبي، وتعدُّ هذه المُقدّمة الأولى من نوعها، حيث تضمّنت موضوعاتها:
أ – قضيّة الانتحال، وهي أوّل ما تحدَّث عنه، فرأى أنَّ في الشِّعر الكثير من المُصطنَع المُفْتَعَل الذي لا أدب يُستفاد منه ولا معنىً، وقد بيّن سبب ذلك بأنَّ الناس لم يأخذوه من منبعه الأصلي ولم يعرضوه على العُلماء، ومن الجدير بالذِّكر هنا أنَّ كل مَنْ تناول قضيّة الانتحال في ما بعد كان عالَة على ابن سلَّام.
ويرى ابن سلَّام أنَّ الرَّاوية الإخباري مُحمَّد
بن اسحق المَطلبي (المُتَوفّى سنة 151 هـ) كان ممّن أفسَد الشِّعر وهَجَّنه وحمل كلَّ غثاءٍ منه، وكان أكثر عِلمه بالمَغازي والسِّير وغير ذلك، ولَعلَّ هذا ما جعل الناس تَقْبَل عنه الأشعار.
ب – قضيّة التّخصّص في العِلم والأدب ونقد الشِّعر، حيث شأن الشِّعر في ذلك – كما يرى
ابن سلَّام – شأن كلِّ صناعة، يقول: «وللشِّعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العِلم، كسائِر أصناف العِلم...».
ج – قضية أنساب العرب وأوَّل مَنْ تحدَّث بالعربيّةِ قديماً، فيُروى أنَّ ابن سلَّام يشكُّ في من فوق عدنان من أسماءٍ لم تُؤخذ إلاَّ عن الكُتُب، كما أنَّه يشكُّ في الشِّعر الذي يُنسَب إلى عادٍ وثمود.
د – أمّا عن قضيّة نشأة النّحو العربي، فيتحدَّث ابن سلَّام عن نشأة النّحو، فيعيده لأبي الأسود الدّؤلي ومَنْ أخذ عنه، مثل: «يحيى بن يَعمُر، ونصر بن عاصِم الليثي...»، وتحدَّث عن تفشّي اللَّحن، ولاسيّما في العصر الأموي، وتحدَّث أيضاً عن تصدّي عُلماء اللغة لهذه الآفة.
هـ - وعن قضيّة نشأة الشِّعر العربي، تحدَّث ابن سلَّام عن نشأة الشِّعر وانتقاله بين القبائل، وعن ضياع قسمٍ كبيرٍ منه، كما أنَّه أشار إلى عمل الخليل بن أحمد الفراهيدي في وضع عِلم العَروض.
تراجِم الشُّعراء الجاهليين والإسلاميين
لقد ترجَم ابن سلَّام لـ 141 شاعِراً من الجاهليين والإسلاميين والمُخضرمين، وقد اقتصر في عمله هذا على التّرجَمة للمشهورين والمَعروفين منهم، فرتَّبهم في طبقاتٍ بحسَب معايير ارتضاها لنفسِه، وهي معايير غير ثابتة، وهذه المعايير قد تكون جغرافيّة مثل طبقة «شُعراء مكّة»، أو موضوعيّة، مثل طبقة «شُعراء المَراثي»، أو تاريخية مثل طبقات «فحول الجاهلية» وطبقات «فحول الإسلام»، إلاّ أنّه لم يلتزم أيضاً بهذه المعايير وإنّما خَلَطَ بينها في كثير من الأحيان، وكان أساس المفاضلة عنده بين شاعِر وآخر يعتمد على حجم شِعر الشَّاعِر وجودته الفنِّية ورأي عُلماء الشِّعر فيه.
تفسير منهجيَّة ابن سلَّام في طبقاته
اقتصر في ترجمته على عددٍ من الشُّعراء لأنّه يرى أنَّ كثيراً من الشِّعر تعرَّض للانتحال والضّياع، ولذلك فإنّ التّرجمة للمشهورين تعني أنّه يترجم لِما هو مُثبت من الشِّعر من جهة العُلماء.
إنّ الترجمة لجميع شُعراء القبيلة تعني تسجيل الأشعار الكثيرة من دون التثبُّت من صحَّتها، فكيف يدوِّنها وهو المُنتقد في مقدمته لموضوع انتحال الشِّعر وضياعه؟
إنَّ عدم اكتفائه بالترجمة للشّاعِر هو سِمَةٌ من سِمات الموسوعيّة الثقافيّة المُنتَشِرة في عصرِه، ولأنَّه يتعامَل بهذه السِّمة فقد وُجدت في كتابِه مجموعة من الآراء والمُلاحظات في اللغة والشِّعر عموماً.
لا توجد منهجيّة واضحة في كتابه، وذلك لِعدم وجود تجربة سابقة في ذلك الوقت، فالمعايير كانت ذاتية من إنتاجه.
كان يبدأ في ترجمته للشّاعِر بِذكر نَسَبِه، ثمّ يورد رأي العُلماء في شِعرِه، وقد يوازن بينه وبين غيرِه من الشُّعراء مؤيِّداً ما يذهب إليه بأشعار لهُم جميعاً، وربَّما فسَّر في بعض الأحيان الألفاظ الغريبة الوارِدة في تلك الأشعار.
طبعات الكتاب
طُبعَ كتاب ابن سلَّام هذا منذ سنة 1913 م وحتى اليوم عدَّة طبعات، وكان آخِرها وأجودها الطبعة التي حقَّقها محمود محمّد شاكِر، وقد نُشِرت طبعَته هذه لأوَّل مرَّة في مصر سنة 1952 م، ثمَّ أعاد تحقيق الكِتاب من جديد في طبعةٍ ثانية كانت أكمَل وأوْفَى سنة 1974 م في جزأين، ثمَّ أضاف إليه في الثمانينيات جزءاً آخَر بعنوان «برنامج طبقات فحول الشُّعراء» وقد ضمَّنه بعض الشّروحات حول عمله في الكِتاب إضافة إلى بعض الردود على مَنْ انتقدوه في الطبعتين السابقتين.
كتاب الشِّعر والشُّعراء
كتاب الشِّعر والشُّعراء هذا من كُتُب تراجِم الشُّعراء أيضاً، وهو لابن قتيبة، وفي البداية وقبل أن نخوض في الحديث عن هذا الكِتاب لابدَّ أن نتعرَّف على طريقة المؤلِّف في الكِتاب بشكلٍ عام.
ونقول إنّه بحسب مُعطيات العصر وطبيعته وقضاياه يستطيع المؤلِّف أن يؤلِّف، وبناءً على ذلك، فإنّ أيّ إنتاج سوف يكون جزءاً من تلك القضايا، وابن قُتيبة وُجِد في القرن الثالث الهجري، حيث كانت هناك ظواهِر علمية جديدة ظهَرت منذ استقرار الدّولة وبداية الازدهار، وهذا يعني أنَّ هناك مُتغيِّرات قد تحصل على مستوى الإنتاج، ولكنّه وفي الوقت نفسه وبقدر ما كانت هناك مُتغيّرات كانت هناك ثوابت، وهذه الثوابت هي قضيّة شمولية العصر من الناحية الثقافية، إذا لم تكن هناك تخصُّصات بمفهومها الدّقيق وإنْ وُجدت بعض الكُتب المتخصِّصة، وذلك لأنَّ السِّمة الموسوعيّة هي سِمَة العَصر، ولذلك فإنّ على المؤلِّف أن يمتلك مساحة واسعة من العلوم جميعها، فالموسوعيّة جزءٌ أساسي من طبيعة المؤلِّف حتى وإن ألَّف في جانب محدَّد، فالسِّمة الموسوعيّة هي الغالبة، وهنا نتساءل عن السبب في ذلك.
لأنَّ المؤلِّف أو الكاتب إذا لم يتَّسِم بها فسينتاب كتابه الشَّك، لذلك عليه أن يأخذ من جميع العلوم، وحين يريد الكتابة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عليه أن يتقدَّم بمجموعة من المعارف ضمن دائرة موسوعيّة كبيرة، وأن يتحدّث بموسوعيّة أكبر في دائرة التّعريف بالشِّعر والشّاعِر، وهو مضطرٌّ إلى الدخول في قضايا لغوية أو نحوية، وفي بيان رأي العُلماء والشُّعراء في الشِّعر، وبالتّالي ترتبط القضيَّة بحالة موسوعية وإنْ كانت ضمن تخصُّص، ولكن في ما بعد وفي العصر الحديث عندما كَتَب مثلاً الزّركلي كتاب «الأعلام» فالمَقصد منه الترجمة بعيداً عن الموسوعية، ولذلك نجد فيه أنَّه يُترجِم للعَلمِ من حيث وقت وفاته، ومؤلَّفاته، وقد يُشير أحياناً إلى أنّه مطبوع أو غير مطبوع، وبالتّالي فإنَّ في كتابه هذا شيءٌ من التّخصُّص وليس له علاقة بالموسوعية، وذلك لأنّ العصر تجاوز الموسوعية في حركة التأليف والتفتَ إلى التّخصُّص، لأنّ المطلوب تقديم معرفة دقيقة لجوانب مُتعلّقة بهذا العِلم المُتناوَل من قِبَل المؤلِّف، فإذا أردتَ أن تبحَث عن قضيَّة ما تتعلَّق بِعَلَمٍ ما، فلابدَّ من العودة إلى الكُتُب القديمة.
وابن قُتيبَة هو ابن العَصر الموسوعي، لذلك نجد في كتابه مجموعة كبيرة من الأخبار والشِّعر، فهو لا يخرُج عن سِمَة الموضوعية ارتباطاً منه بطريقة العَصر ومُقتضياته، وهذا أمرٌ عام، فالزَّركلي مثلاً لم يُقدِّم في كتابه الأعلام المُقدِّمة في قسمٍ مستقل، والتّرجمة في قسم آخَر، وإنّما هي مقدّمة موجودة بشكلٍ طبيعيّ تشتمل على توضيحٍ لِمَتن الكِتاب وللطّريقة التي تعامَل بها صاحب الكِتاب مع الأعلام، لذا فهي عِبارَة عن مُخطّط للكِتاب يقوم فيه الكاتِب بتوضيح الخطّة الدّراسية، ولكن بسبب اختلاف آليّة التّفكير والفترة الثقافية في ذلك العَصر – عَصر ابن قُتيبَة – كان لابدَّ من وجود مُقدِّمة على شكلٍ مُختَلِف، وإلاّ أصبَح النّاقِد قاصِراً يوجَّه إليه الّلوم، ولذلك كان لابدَّ لابن قُتيبَة من وجود هذه المقدِّمة التي تتسّم بالموسوعية الثقافية تماشياً مع العَصر وقضاياه... وهنا لابد لنا من طرح سؤالين: ماذا طرح ابن قتيبة في مقدَّمته؟ وما الذي استجدَّ عنده؟
القضايا المُثارة في عصر ابن قُتيبة التي عالَجها في كتابه
انتقل ابن قتيبة من حالة تنظيرية إلى حالة نقديّة مهمة فقد ارتبطت المُقدّمة بقضايا تنظيرية كان من الطبيعي أن يتطرّق إليها، ولذلك كتبَ في قِسمِه الأوّل الشِّعر القديم والشِّعر المُحدث وترجَم لهؤلاء الشُّعراء، فجاءت الترجَمَة في كتابِه مُرتَبِطة بالعَصر الجاهِلي والعصر العبّاسي، وهذا يعني أنَّ ابن قتيبة قد تلمَّس موضوعات الشِّعر الحديث والشِّعر القديم بناءً على جماليّات الشِّعر، فترجَم لهؤلاء الشُّعراء، وهذا يعني أنَّه موافق عليها.
ثمَّ يبدأ بالنّقد لكي يُظهِر جماليات الشِّعر، وبالتّالي فهو يُعامِل الشِّعر بمقتَضى جماليّاته لا بمقتضى عَصرِه وفترَته، فَلِكُلِّ قصيدة خصوصيّتها وجماليّاتها.
بعد مرحلة التّدوين وبعد مرحلة التّثبيت، تبدأ مرحلة التّفتيش والبحث والتدقيق كما رأينا سابقاً، وهنا قضيَّةٌ أُخرى، فمثلاً لِماذا لا نعترف بالشِّعر الحديث أو قصائد المُحدثين؟
لأنّ الأنظار كانت موجَّهة نحو النموذج الأوّل على غِرار الشِّعر الجاهِلي، أي تفضيل الكلام الذي يقوم على الابتداء بِذِكر الأطلال، ومن ثمّ الغَزَل حتى ينتهي أخيراً إلى المديح. أمّا ابن قُتيبة فقد استنتَج في كتابه جماليّة القصيدة في كُلِّ عصر، فتحدَّث في قِسمِه الأوَّل عن النموذج الثابت وقضيّة الشَّاعِر الجديد، وهي القضيَّة الإشكالية الجديدة في الواقع الجديد، وابن قُتيبة عندما يَضَع مادّة مُرتبطَة بالشَّاعِر الجديد، فهذا لا يعني أنَّه لا يعترف بقصيدة النموذج، بل على العكس تماماً، فقد ناقَش القصائد وارتباطها بالنّموذَج وقدَّم الشِّعر الحديث، وكذلك القديم بناءً على جمالياته، وهذا يعني أنَّنا يمكن أن نعدَّ ابن قُتيبة أفضل ناقِد في عَصرِه.
وهنا لا بد لنا أن نتساءل: إذا كان الشِّعر الجاهِلي هو النّموذج، وإذا كان الشِّعر المُحدث هو أقلُّ من هذا النّموذَج، فما هو الشِّعر الجميل؟
هناك مَنْ قال إنَّ الشِّعر الجميل هو الشِّعر القائم على التّدريب والتّنقيح والذي أصبَح مُتداوَلاً بينهم، وهذا يعني أنّ القضيّة كانت نقديّة، وابن قُتيبة عكَسَ قضايا عصره، فهو صاحب موقف نقدي مُتطوّر ومُعاصِر لِزمنه، وهذا ما عالجه في قسمِه الأوّل من المُقدّمة، أمّا القسم الثاني فقد قَصَرَه على التّرجَمة، إلاّ أنّه لم يكن يحرص في سرد تراجِم الشّعراء على منهج علمي دقيق، فقد كان يُرتِّب أسماء الشُّعراء حسب حروف المُعجَم، كما أخضع هذا الترتيب ضمن تصوّره الخاص أحياناً لأساسٍ بيئيٍّ أو فنّيّ.
التعريف بابن قُتيبَة
ابن قتيبة هو أبو مُحمّد عبدالله بن مُسلِم بن قُتيبة الدّينوري، وُلِد في بغداد (سنة 203 هـ)، عُرِف بِعلمِه وموسوعِيَّته النَّحويّة والثّقافية واللّغويّة.
أقسام الكتاب
يُقْسَم كتابه إلى قسمين: «المقدمة والترجمة».
أمّا المقدمة فتتضمّن موضوعات وقضايا نقدية عِدَّة أَثارَها ابن قُتيّبة في كِتابِه، أهمّها:
- كثرة الشّعراء العرب في ما مضى من العصور، ولاسيّما المغمورون الذين قلَّ ذِكرهم وكَسَد شِعرهم.
- منهج القصيدة التقليدية، أي النموذج النظري للقصيدة العربية الذي يقوم على الابتداء بِذِكر الدّيار والأطلال وأهلها الظاعنين، ثمّ النسيب والغزَل وذِكر الرحلة وسُرى الليل حتى ينتهي أخيراً إلى الغَرَض الرئيس من قصيدته في المديح أو الرثاء أو(...).
- الشّاعِر المُتَكلِّف والمطبوع، فالمُتَكلِّف كما يرى ابن قتيبة هو مَنْ قوَّم شِعره بالثِّقاف، ونقَّحه بطول التفتيش وإعادة النّظر، ومنهم زُهير والحُطيئَة، والمطبوع هو مَنْ سمحَ بالشِّعر واقتدَر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته، وقد أيَّد كلامه بكثير من الأمثلة الشِّعريّة. المُساواة بين القُدماء والمُحدّثين في الترجَمَة لهم والاختيار من أشعارهم، فالله لم يقصُر الشِّعر والبلاغة على زمنٍ دون آخَر، ولا خصَّ به قوماً دون قوم، وبناءً على ذلك فقد ذَكَر كلَّ مَنْ أتى بِحسَنٍ من قول أو فعل، أي إنَّ اختياره جاء بناءً على جماليّات الشِّعر عند كلِّ واحد.
- قضيّة أقسام الشِّعر من حيث اللفظ والمعنى... وقد قسَّمه إلى أربعة ضروب:
ضربٌ حسُن لفظه وجاد معناه.
ضربٌ حسُن لفظه وقصُر معناه.
ضربٌ جاد معناه، وقصُرت عنه ألفاظه.
ضربٌ تأخَّر معناه ولفظه.
-الدّواعي التي تبعث على قول الشِّعر، ومنها كما يرى ابن قُتيبة: الطمع، والشّوق، والشّراب، والشّرف العالي، والمكان الخضِر الخالي...، كما أنَّه بيَّن الأوقات المناسِبَة للنّظم، ومنها «أوَّل الليل، وصدر النّهار،...».
- ذَكَرَ بعض المقاييس الأُخرى التي يُختار الشِّعرُ على أساسها، ومنها، الإصابة في التّشبيه، وخِفّة الرّوي.
- الحديث في خاتمة مقدّمته عن عيوب الشِّعر، كالإقواء، والسِّناد، والإجازة...، كما تحدّث عن بعض الضّرائِر الشِّعرية.
وأخيراً... فقد كان منهج ابن قتيبة في الترجمة أن قسّم الشُّعراء حسب العصور «جاهلي، مُخضرم، إسلامي، أموي، عباسي أوّل)، لكنه لم يلتزم بترتيب شُعراء كلِّ عصر بحسب وفياتهم، كما أنّه قد يُقدِّم شاعِراً على عصره أو يؤخِّره عنه، وهذا يعني أنّ ترتيبه الزّمني ليس دقيقاً. كما رتّب أسماء الشُّعراء داخل العصر على حروف المُعجَم، ثمّ رتّبهم في طبقات على أساس البيئة والقيمة الفنّيّة، حيث اقتصرت ترجمته على الشُّعراء المشهورين بغضِّ النظر عن العصر ومسألة القِدَم والحداثَة.
ويقصد بالمشهورين الذين يعرِفهم أهل الأدب، ويحتجُّ بأشعارهم في النّحو، وقد بَلغَ عدد الشُّعراء الذين ترجَم لهم 206 شُعراء.
كما اتّسَمَت التّرجمة لديه بالموسوعيّة، ذلك أنّه كان يذكُر الاسم والنّسَب، كما ذَكَر مجموعة من الأخبار والنّصوص النّقديّة المُرتبطَة بِشِعرِ هذا الشَّاعِر .
المراجع
كتب التّراجم واتّجاهاتها وطرائقها للدكتور: يوسف إسماعيل – جامعة حلب – 2008م.
- تاريخ الأدب العربي – حنا الفاخوري.
- الفن ومذاهبه – شوقي ضيف.
- الكامل في النقد الأدبي – كمال أبو مصلح – ط2 مزيدة – المكتبة الحديثة – بيروت.
- تاريخ النقد الأدبي عند العرب – طه أحمد إبراهيم – القاهرة – 1937.