كُتُب التّراجِم في التّراث العربي كتاب الشِّعر والشُّعراء لابن قُتيبَة أنموذجاً

كُتُب التّراجِم في التّراث العربي كتاب الشِّعر والشُّعراء لابن قُتيبَة أنموذجاً

عندما‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬فنِّ‭ ‬التّراجِم،‭ ‬فإن‭ ‬أوّل‭ ‬ما‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬أذهاننا‭: ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬أنا‭ ‬أُتَرجِمُ‭ ‬لفُلان؟‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أنّني‭ ‬أقدِّم‭ ‬تعريفاً‭ ‬مُرتَبطاً‭ ‬بشاعِرٍ‭ ‬أو‭ ‬أديب‭ ‬أو‭ ‬لغويّ‭ ‬أو‭ ‬أيِّ‭ ‬عَلَمٍ‭ ‬من‭ ‬الأعلام‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬زوايا‭ ‬حياته‭ ‬العلميّة‭ ‬والثقافيّة‭ ‬والسّياسية،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬ينطلقُ‭ ‬من‭ ‬تحديد‭ ‬العصر‭  ‬ونوعيّة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالعَالِم،‭ ‬وربَّما‭ ‬تذكر‭ ‬بعض‭ ‬المراجع‭ ‬أو‭ ‬المصادر‭ ‬التي‭ ‬كتبها،‭ ‬ويمكن‭ ‬وضع‭ ‬بعض‭ ‬المعلومات‭ ‬عن‭ ‬المصادر‭ ‬التي‭ ‬تحدّّث‭ ‬عنها،‭ ‬لكنَّ‭ ‬عملية‭ ‬الترجمة‭ ‬توسّعت‭ ‬وابتعدَت‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الهدف‭ ‬مع‭ ‬عصر‭ ‬الازدهار‭ ‬العبّاسي‭ ‬لتُصبح‭ ‬فنَّاً‭ ‬قائماً‭ ‬بذاته‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬العربي،‭ ‬حيث‭ ‬تعدَّدت‭ ‬طُرق‭ ‬الكتابة‭ ‬بها‭ ‬وتنوّعَت‭ ‬مناهجها‭ ‬وفروعها‭.‬

ويُعَدُّ‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬اهتمامهم‭ ‬بأخبار‭ ‬رجال‭ ‬العلوم‭ ‬والآداب‭ ‬ورسم‭ ‬مَعالِم‭ ‬حياتهـــــم‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬الأمــم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار،‭ ‬فقــد‭ ‬شَغَلَــــت‭ ‬كُتُب‭ ‬التراجِم‭ ‬حيِّزاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬العـــرب،‭ ‬فهــــي‭ ‬تُقدِّم‭ ‬مثـــــلاً‭ ‬تاريـــــخ‭ ‬ولادة‭ ‬المُتــــرجِم،‭ ‬ونـــشأته‭ ‬العلمية‭ ‬ورحلاته،‭ ‬وتاريخ‭ ‬وفاته‭... ‬وغيرها‭.‬

وتُعدُّ‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجم‭ ‬هذه‭ ‬من‭ ‬أغنى‭ ‬الكُتُب‭ ‬فائدةً‭ ‬وأمتعها‭ ‬عرضاً،‭ ‬لأنّها‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬عرض‭ ‬سِيَر‭ ‬أولئك‭ ‬الأعلام‭ ‬وأخبارهم‭ ‬وتجاربهم‭ ‬ورحلاتهم،‭ ‬بل‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬تندرج‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬معارفٌ‭ ‬وحقائق‭ ‬وأخبار‭ ‬غنيَّة‭ ‬لا‭ ‬صِلَة‭ ‬لها‭ ‬مباشرة‭ ‬بالعَلَم‭ ‬الذي‭ ‬نقرأ‭ ‬ترجمته،‭ ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬المعارف‭ ‬الجانبية‭ ‬قد‭ ‬تفيد‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬أُخرى‭ ‬مختلفة،‭ ‬لِما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬تنوّع‭ ‬وجِدَّة‭ ‬وطرافة‭.‬

 

بواعث‭ ‬فن‭ ‬التّراجم‭ ‬

أمّا‭ ‬بواعث‭ ‬هذا‭ ‬الفن،‭ ‬فإنَّ‭ ‬الباعِث‭ ‬الأوّل‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬الرجال‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬عناية‭ ‬المُحدِّثين‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬تدوين‭ ‬الحديث‭ ‬برواية‭ ‬الأحاديث‭ ‬والآثار‭ ‬المُتعلِّقة‭ ‬بحياة‭ ‬النّبي‭ ‬الكريم‭ ‬‭ ‬وغزواته،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحوادث‭ ‬المُتعلِّقة‭ ‬بكبار‭ ‬الصّحابة،‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭ ‬أساساً‭ ‬لوضع‭ ‬كُتُب‭ ‬السِّيرة‭ ‬النبوية،‭ ‬ويُروى‭ ‬أنَّ‭ ‬أوّل‭ ‬مَنْ‭ ‬ألَّف‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬نبي‭ ‬الله‭ ‬الكريم‭ ‬‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عروة‭ ‬بن‭ ‬الزّبير‭ ‬بن‭ ‬العوّام‭ ‬وأبَان‭ ‬بن‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفّان‭.‬

وكانت‭ ‬الخطوة‭ ‬التالية‭ ‬للمحدِّثين‭ ‬بعد‭ ‬جمعهم‭ ‬للأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬أن‭ ‬قاموا‭ ‬بنقد‭ ‬رُواة‭ ‬تلك‭ ‬الأحاديث‭ ‬وتعديلهم‭ ‬أو‭ ‬تجريحهم،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬شعبة‭ ‬
بن‭ ‬الحجّاج،‭ ‬ويحيى‭ ‬بن‭ ‬سعيد‭ ‬القطّان،‭ ‬فتكوَّن‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬تراجم‭ ‬الرُّواة‭ ‬ورجال‭ ‬الحديث‭ ‬وسِيَرهم‭ ‬وألقابهم‭ ‬في‭ ‬كُتُبٍ‭ ‬عُرِفت‭ ‬بكُتُب‭ ‬الجرح‭ ‬والتّعديل،‭ ‬أو‭ ‬كُتُب‭ ‬معرفة‭ ‬الرجال،‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬كتاب‭ ‬الضعفاء‭ ‬للبخاري‮»‬‭ (‬ت256‭ ‬هـ‭) ‬‭*‬،‭ ‬و«كتاب‭ ‬الجرح‭ ‬والتّعديل‭ ‬لعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الرّازي‮»‬‭ (‬198‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬ثمّ‭ ‬جاء‭ ‬رجال‭ ‬الأدب‭ ‬واللغة‭ ‬وما‭ ‬إليها‭ ‬فقلَّدوا‭ ‬المُحدِّثين‭ ‬في‭ ‬تأليف‭ ‬كتُبٍ‭ ‬تُعنى‭ ‬بتراجم‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬فنٍّ‭ ‬وعلم،‭ ‬ويظهر‭ ‬في‭ ‬كُتُبهم‭ ‬تأثّرهم‭ ‬الواضح‭ ‬بالمُحدِّثين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عنايتهم‭ ‬بأسانيد‭ ‬رواياتهم‭.‬

أمّا‭ ‬الباعِث‭ ‬على‭ ‬ازدهار‭ ‬فنِّ‭ ‬التّراجِم‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العبّاسي،‭ ‬فيعود‭ ‬إلى‭ ‬اتّساع‭ ‬نطاق‭ ‬المعرفة‭ ‬وتنوّع‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬واللغة‭ ‬وغيرهما‭ ‬وكثرة‭ ‬عدد‭ ‬الأعيان‭ ‬والأعلام‭ ‬البارزين‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬فعاليّات‭ ‬قويّة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الحياة‭ ‬العربية‭ ‬والوعي‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الصُّعُد،‭ ‬وهذه‭ ‬الصورة‭ ‬للوعي‭ ‬العربي‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬تُبيِّن‭ ‬أسباب‭ ‬نشوء‭ ‬فنِّ‭ ‬التّراجِم‭ ‬وتُبيِّن‭ ‬أسباب‭ ‬وجود‭ ‬بعض‭ ‬السِّمات‭ ‬لهذا‭ ‬الفن،‭ ‬وبشيءٍ‭ ‬بسيط‭ ‬من‭ ‬التّفكير‭ ‬يستطيع‭ ‬أيّ‭ ‬باحث‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬والدّوافع‭ ‬التي‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬ولعلّ‭ ‬أهمّها‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬إسناد‭ ‬الخبر‭ ‬أو‭ ‬الحكاية‭ ‬أو‭ ‬أيّ‭ ‬متن‭ ‬مُرتَبط‭ ‬بالثّقافة‭ ‬الشفوية‭ ‬العربية،‭ ‬لأنّ‭ ‬الخبر‭ ‬يعني‭ ‬دلاليّاً‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالنّقل،‭ ‬والنّقل‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬توثيق،‭ ‬والتّوثيق‭ ‬مرتبط‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بالنّاقل‭ ‬أو‭ ‬العَلَم،‭ ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬الكُتُب‭ ‬التي‭ ‬اهتمّت‭ ‬بنقل‭ ‬الخبر‭ ‬وبالتالي‭ ‬اهتمّت‭ ‬بالإسناد‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الأغاني‮»‬‭ ‬لأبي‭ ‬الفرج‭ ‬الأصفهاني‭.‬

ونقول‭ ‬إنّ‭ ‬فنَّ‭ ‬التّرجَمة‭ ‬هو‭ ‬فنُّ‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالفرد،‭ ‬فعندما‭ ‬نشأت‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فإنّ‭ ‬أوّل‭ ‬عملية‭ ‬تدوين‭ ‬حصلت‭ ‬كانت‭ ‬تصبُّ‭ ‬اهتمامها‭ ‬على‭ ‬مَنْ‭ ‬كَتَب‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الرّسول‭ ‬،‭ ‬فلان‭ ‬عن‭ ‬فلان،‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬جزءان‭ ‬أساسيّان،‭ ‬الجزء‭ ‬الأوّل‭ ‬نُسمّيه‭ ‬الإسناد،‭ ‬والثاني‭ ‬المتن،‭ ‬فما‭ ‬معنى‭ ‬الإسناد‭ ‬والمتن؟

والسّنَد‭ ‬عند‭ ‬المُحدِّثين‭ ‬هو‭ ‬حكاية‭ ‬رجال‭ ‬الحديث‭ ‬الّذين‭ ‬رووه‭ ‬واحِداً‭ ‬عن‭ ‬واحِد‭ ‬إلى‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬‭ (‬السلسلة‭ ‬أو‭ ‬العنعنة‭). ‬أمّا‭ ‬الإسناد،‭ ‬فهو‭ ‬إضافة‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬قائله،‭ ‬أي‭ ‬‮«‬نسبته‭ ‬إليه‮»‬،‭ ‬وأحوال‭ ‬السّنَد،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يطرأ‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬السّنَد‭ ‬من‭ ‬اتّصال‭ ‬أو‭ ‬انقطاع‭ ‬أو‭ ‬تدليس،‭ ‬أو‭ ‬تساهُل‭ ‬بعض‭ ‬رجالِه‭ ‬في‭ ‬السّماع،‭ ‬أو‭ ‬سوء‭ ‬حفظه‭ ‬أو‭ ‬اتّهامه‭ ‬بالفسق‭ ‬أو‭ ‬الكَذِب‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭.‬

أمّا‭ ‬المَتن،‭ ‬فهو‭ ‬ما‭ ‬ينتهي‭ ‬إليه‭ ‬السّند‭ ‬من‭ ‬الكلام،‭ ‬وأحواله‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يطرأ‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬رفع‭ ‬أو‭ ‬وقف‭ ‬أو‭ ‬شذوذ‭ ‬أو‭ ‬صحّة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬وموضوعه‭ ‬هو‭ ‬السّند‭ ‬والمَتن‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التّوصُّل‭ ‬إلى‭ ‬معرِفَة‭ ‬المَقبول‭ ‬من‭ ‬المردود،‭ ‬ويُسمّي‭ ‬المُحدِّثون‭ ‬كلّ‭ ‬حالٍ‭ ‬من‭ ‬أحوال‭ ‬السّنَد‭ ‬والمتن‭ ‬علماً،‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬علم‭ ‬الصحيح،‭ ‬علم‭ ‬الضّعيف،‭ ‬علم‭ ‬الموقوف،‭... ‬إلخ‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بموضوع‭ ‬السّنَد‭ ‬والمَتن؟

إنّ‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬جليلة،‭ ‬وهي‭ ‬حفظ‭ ‬الحديث‭ ‬النّبوي‭ ‬من‭ ‬الخَلط‭ ‬أو‭ ‬الدّسِّ‭ ‬أو‭ ‬الافتراء،‭ ‬وبذلك‭ ‬يتمّ‭ ‬حفظ‭ ‬الدِّين‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬التّحريف‭ ‬أو‭ ‬التّبديل،‭ ‬وقد‭ ‬خصَّ‭ ‬الله‭ ‬الأمّة‭ ‬بأن‭ ‬وفّقها‭ ‬لِحفظ‭ ‬كتاب‭ ‬ربِّها‭ ‬حِفظاً‭ ‬متواتراً‭ ‬دقيقاً‭ ‬بكلِّ‭ ‬حركاته‭ ‬وسكناته‭ ‬ومدَّاته‭ ‬وغُنَّاته،‭ ‬ووفَّقها‭ ‬لصيانة‭ ‬حديث‭ ‬نبيِّها‭ ‬فابتَكَرت‭ ‬هذا‭ ‬العِلم‭ ‬وكان‭ ‬خصوصيّة‭ ‬لها‭.‬

يقول‭ ‬أبو‭ ‬علي‭ ‬الجياني‭: ‬‮«‬خصَّ‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬هذه‭ ‬الأُمّة‭ ‬بثلاثة‭ ‬أشياء‭ ‬لم‭ ‬يُعطِها‭ ‬مَنْ‭ ‬قبلها‭: ‬‮«‬الإسناد،‭ ‬والأنساب،‭ ‬والإعراب‮»‬،‭ ‬إذن‭ ‬فالسّند‭ ‬والمتن‭ ‬يخضعان‭ ‬لعملية‭ ‬نقد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المَتن‭ ‬الصحيح‭ ‬من‭ ‬النّاحية‭ ‬الّلغوية‭ ‬الحرفية،‭ ‬وممَّا‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬النّقد‭ ‬هذه‭ ‬ما‭ ‬يطرأ‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬السّنَد‭ ‬من‭ ‬اتّصال‭ ‬أو‭ ‬انقطاع،‭ ‬كما‭ ‬يُنظَر‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬توافق‭ ‬هذا‭ ‬المَتن‭ ‬مع‭ ‬العقل‭ ‬والمنطِق،‭ ‬والقول‭ ‬إنّ‭ ‬حالة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالإسناد‭ ‬هي‭ ‬حالة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالفرد،‭ ‬ولعلّ،‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬عزَّزت‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬العربي‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالفرد‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والاجتماعية‭.‬

وانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الفرد‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بالنّقل،‭ ‬نقول‭ ‬إنّ‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬منقولة‭ ‬شفوياً،‭ ‬وهذا‭ ‬التناقل‭ ‬الشفوي‭ ‬أدَّى‭ ‬إلى‭ ‬تداخل‭ ‬المُشارِكين‭ ‬في‭ ‬التأليف،‭ ‬ولذلك‭ ‬نستطيع‭ ‬القول‭ ‬إنَّ‭ ‬هذه‭ ‬المادّة‭ ‬هي‭ ‬مُنتَج‭ ‬جماعي،‭ ‬وهذه‭ ‬أهم‭ ‬سِمَة‭ ‬للنّص‭ ‬المنقول‭ ‬شفويّاً،‭ ‬فعندما‭ ‬نقول‭ ‬إنَّ‭ ‬هذا‭ ‬النّص‭ ‬منقول‭ ‬شفوياً،‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬فردٍ‭ ‬واحد‭.‬

إذاً‭ ‬نستطيع‭ ‬القول‭ ‬إنَّ‭ ‬عمليّة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالشِّعر‭ ‬والأدب‭ ‬واللغة‭ ‬والنّحو‭ ‬تعود‭ ‬في‭ ‬أصلها‭ ‬كفكرة‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالحديث‭ ‬الشّريف،‭ ‬ولعلَّ‭ ‬أول‭ ‬اهتماماتهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬كان‭ ‬ينصَبُّ‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الإسناد،‭ ‬وهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬في‭ ‬التّفكير‭ ‬أبرَزت‭ ‬أهميّة‭ ‬دور‭ ‬الفرد،‭ ‬فراح‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬يمتدُّ‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الحديث‭ ‬لتُصبِح‭ ‬ترجمة‭ ‬الفرد‭ ‬غايَةً‭ ‬في‭ ‬ذاتها‭.‬

ومع‭ ‬توسُّع‭ ‬العلوم‭ ‬والمَعارِف‭ ‬والثقافات‭ ‬لم‭ ‬يتخلَّ‭ ‬الوعي‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬إنّما‭ ‬أعاد‭ ‬إنتاج‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬إطاراتٍ‭ ‬مُختلِفة،‭ ‬فازدهرت‭ ‬بشكلٍ‭ ‬كبير‭ ‬الكُتُب‭ ‬التي‭ ‬تُترجِم‭ ‬للأَعلام،‭ ‬وذلك‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرنا،‭ ‬لأنّ‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬إلاَّ‭ ‬تناقُل‭ ‬شفوي،‭ ‬أي‭ ‬إنَّها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الخبر‭ ‬والحِكاية،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬جاء‭ ‬الاهتمام‭ ‬بناقل‭ ‬الخبر‭ ‬بِغَّضِّ‭ ‬النّظر‭ ‬عن‭ ‬متن‭ ‬المنقول،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعطاء‭ ‬مصداقيّة‭ ‬لذلك‭ ‬الخبَر‭ ‬ومتنه؛‭ ‬إذن‭ ‬فالإسناد‭ ‬جزء‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬الوعي،‭ ‬ولذلك‭ ‬نجد‭ ‬أنّ‭ ‬جميع‭ ‬الكُتُب‭ ‬التاريخيّة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬تكتظُّ‭ ‬بسلاسل‭ ‬الإسناد‭.‬

 

السِّمات‭ ‬العامّة‭ ‬لكُتُب‭ ‬التَّراجِم

من‭ ‬أبرز‭ ‬السمات‭ ‬العامة‭ ‬لكتب‭ ‬التراجم،‭ ‬الموسوعيّة‭ ‬الثقافيّة،‭ ‬وتعدُّد‭ ‬المَعارِف‭ ‬والعلوم،‭ ‬وتعدُّد‭ ‬المناهِج‭ ‬المُتَخصِّصة‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬وطُرُق‭ ‬التّصنيف،‭ ‬وكذلك‭ ‬الاختلاف‭ ‬في‭ ‬العناوين‭ ‬والمَضامين‭ ‬وطبيعة‭ ‬الأَعلام‭ ‬الَّذين‭ ‬تُتَرجِم‭ ‬لهم‭.‬

وممَّا‭ ‬يُلفت‭ ‬النّظَر‭ ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬الطّبقات،‭ ‬وهو‭ ‬نوع‭ ‬يُتَرجِم‭ ‬لأَعلام‭ ‬اتَّفَقوا‭ ‬في‭ ‬الاختصاص‭ ‬والتَقوا‭ ‬في‭ ‬الثّقافة،‭ ‬فَيُصَنَّفون‭ ‬تصنيفاً‭ ‬طبقيّاً‭ ‬يُراعى‭ ‬فيه‭ ‬الزّمان‭ ‬والمكان‭ ‬والمنزِلَة‭ ‬العِلميّة،‭ ‬وقد‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬التّصنيف‭ ‬بحسَب‭ ‬حروف‭ ‬الهِجاء،‭ ‬ومن‭ ‬أوائِل‭ ‬الكُتُب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النّوع‭  ‬‮«‬طبقات‭ ‬فحول‭ ‬الشُّعراء‮»‬‭.‬

 

الاتّجاهات‭ ‬والطُرُق‭ ‬التي‭ ‬سلكها‭ ‬مؤلِّفو‭ ‬كُتُب‭ ‬التراجِم

هناك‭ ‬نوعان،‭ ‬كُتُب‭ ‬تراجِم‭ ‬عامّة‭ ‬وكُتُب‭ ‬تراجِم‭ ‬خاصّة،‭ ‬ويُمكِن‭ ‬أن‭ ‬نُميِّز‭ ‬من‭ ‬الاتّجاهات‭ ‬والميادين‭ ‬في‭ ‬تأليف‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

إنّ‭ ‬بعض‭ ‬المؤلِّفين‭ ‬اقتصر‭ ‬في‭ ‬تراجِمه‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬مدينةٍ‭ ‬بعينها‭ ‬ممَّن‭ ‬ولِد‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬ونشأ‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬قُربها‭ ‬أو‭ ‬توفِّي‭ ‬فيها،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬للخطيب‭ ‬البغدادي‭ (‬463‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬و«تاريخ‭ ‬دمشق‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬عساكِر‭ (‬571‭ ‬هـ‭)... ‬وغيرهما‭.‬

بعضهم‭ ‬اهتمَّ‭ ‬بتراجِم‭ ‬الصّحابَة‭ ‬وحدهم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الأَعلام‭ ‬الآخرين،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الكُتُب‭ ‬‮«‬الاستيعاب‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الأصحاب‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬عبدالبر‭ ‬
‭(‬463‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬و«أسَد‭ ‬الغابة‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الصّحابَة‮»‬‭ ‬لعِزِّ‭ ‬الدِّين‭ ‬بن‭ ‬الأَثير‭ (‬630‭ ‬هـ‭). ‬

وقد‭ ‬حَظي‭ ‬المُتَصوِّفة‭ ‬والزُّهاد‭ ‬بكُتُبٍ‭ ‬تترجِمُ‭ ‬لهم‭ ‬وتجمَع‭ ‬أخبارهم،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬الصوفية‮»‬‭ ‬للسلمي‭ (‬412‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬و«حلية‭ ‬الأولياء‮»‬‭ ‬لأبي‭ ‬نعيم‭ ‬الأصفهاني‭ (‬430‭ ‬هـ‭).‬

ومن‭ ‬المؤلِّفين‭ ‬مَنْ‭ ‬ترجَم‭ ‬لأعيان‭ ‬عصرِه‭ ‬الذي‭ ‬عاشه‭ ‬والعصر‭ ‬القريب‭ ‬منه،‭ ‬ومنها‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬يتيمة‭ ‬الدّهر‮»‬‭ ‬للثّعالبي‭ (‬429‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬و«دُميَة‭ ‬القَصر‮»‬‭ ‬للباخرزي‭ ‬
‭(‬467‭ ‬هـ‭). ‬

كما‭ ‬راعى‭ ‬بعض‭ ‬المؤلفين‭ ‬في‭ ‬تراجِمهم‭ ‬اختصاص‭ ‬المُترجَمين‭ ‬والميادين‭ ‬العلمية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬برزوا‭ ‬فيها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬مُتعدِّد‭ ‬الجوانب‭ ‬والاختصاصات،‭ ‬ومنها‭ ‬‮«‬الشِّعر،‭ ‬واللغة،‭ ‬والنّحو،‭ ‬والقراءات‭ ‬القرآنية‭... ‬وغيرها‮»‬،‭ ‬ونذكر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يلي‭ ‬كُتُباً‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الجوانب‭: ‬

في‭ ‬تراجم‭ ‬الشُّعراء‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬فحول‭ ‬الشُّعراء‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬الجمحي،‭ ‬و«الشِّعر‭ ‬والشُّعراء‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬قُتيبة،‭ ‬و«طبقات‭ ‬الشُّعراء‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬المُعتَز‭.‬

تراجِم‭ ‬اللغويين‭ ‬والنّحويين‭: ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الكُتُب‭ ‬‮«‬مراتب‭ ‬النّحويين‮»‬‭ ‬لأبي‭ ‬الطيِّب‭ ‬اللغوي،‭ ‬و«نُزهَة‭ ‬الألباء‭ ‬في‭ ‬طبَقات‭ ‬الأُدباء‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬الأنباري‭.‬

‭ ‬تراجِم‭ ‬الأطبَّاء‭ ‬والحُكماء‭ ‬والفلاسفة‭: ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكُتُب‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬الأطبَّاء‭ ‬والحُكماء‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬جلجل،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬حُكماء‭ ‬الإسلام‮»‬‭ ‬لِظَهير‭ ‬الدِّين‭ ‬البيهقي،‭ ‬و«عيون‭ ‬الأنباء‭ ‬في‭ ‬طبقات‭ ‬الأطبَّاء‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬أبي‭ ‬أُصيبِعَة‭. ‬

وهناك‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم‭ ‬العامّة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تختصُّ‭ ‬بفئَةٍ‭ ‬معيَّنة‭ ‬ولا‭ ‬بطائِفة‭ ‬محدودة،‭ ‬بل‭ ‬تشمل‭ ‬جمهَرة‭ ‬الأعلام‭ ‬والأعيان‭ ‬المشهورين‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬العصور‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬ثقافاتهم‭ ‬وصفاتهم‭ ‬العِلميّة‭ ‬والسّياسيّة‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والفنّية‭ ‬منذ‭ ‬القديم‭ ‬حتى‭ ‬عصر‭ ‬المؤلِّف،‭ ‬ومن‭ ‬تلك‭ ‬الكُتُب‭: ‬‮«‬المنتظم‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الملوك‭ ‬والأُمم‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬الجوزي،‭ ‬و«مُعجَم‭ ‬الأُدباء‮»‬‭ ‬لياقوت‭ ‬الحَموي،‭ ‬و‮«‬وفيّات‭ ‬الأعيان‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬خلّكان‭.. ‬وغيرها‭.‬

أمّا‭ ‬طريقة‭ ‬تصنيف‭ ‬هذه‭ ‬الكُتُب‭ ‬فقد‭ ‬يتَّبع‭ ‬فيها‭ ‬المؤلِّف‭ ‬القرون‭ ‬الهجرية،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الدّر‭ ‬الكامنَة‭ ‬في‭ ‬أعيان‭ ‬المائة‭ ‬الثّامِنَة‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬حجر،‭ ‬و«الضّوء‭ ‬اللاّمِع‭ ‬لأهل‭ ‬القرن‭ ‬التّاسِع‮»‬‭ ‬للسَّخاوي‭.‬

 

مَنهَج‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم

إنّ‭ ‬الكُتُب‭ ‬المؤلَّفة‭ ‬في‭ ‬التّراجِم‭ ‬المُختلفة‭ ‬لا‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬منهج‭ ‬واحِد‭ ‬في‭ ‬الترتيب‭ ‬والتّنظيم،‭ ‬فقد‭ ‬تتّفق‭ ‬حيناً‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬وتختلِف‭ ‬حيناً‭ ‬آخَر،‭ ‬فقد‭ ‬تُرتِّب‭ ‬أسماء‭ ‬الأعلام‭ ‬المُتَرجَمة‭ ‬ترتيباً‭ ‬هِجائيّاً‭ ‬بِحسب‭ ‬حروف‭ ‬الهجاء‭ ‬من‭ ‬الهمزة‭ ‬إلى‭ ‬الياء،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬بغية‭ ‬الوعاء‮»‬‭ ‬للسيوطي،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬التّرتيب‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الأعلام‭ ‬زمنيّاً‭ ‬في‭ ‬الأغلَب‭ ‬يُراعى‭ ‬فيه‭ ‬الأقدَم‭ ‬فالأقدَم،‭ ‬مثل‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الشِّعر‭ ‬والشُّعراء‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬قتيبة،‭ ‬و«نُزهَة‭ ‬الألباء‮»‬‭ ‬للأنباري،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم‭ ‬حُشدت‭ ‬فيها‭ ‬أسماء‭ ‬الأعلام‭ ‬موزّعَة‭ ‬على‭ ‬البلدان‭ ‬والأقاليم‭ ‬المُختلفة‭ ‬المشهورة‭ ‬كالعراق‭ ‬ومصر،‭ ‬وبلاد‭ ‬الشّام،‭ ‬ومنها‭ ‬‮«‬يتيمَة‭ ‬الدّهر‮»‬‭ ‬للثّعالبي،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬للمفهوم‭ ‬الطّبقي‭ ‬أثره‭ ‬في‭ ‬التّقسيم‭ ‬والترتيب‭ ‬بِحسب‭ ‬المنزِلَة‭ ‬العِلميّة‭ ‬أو‭ ‬الأدبية‭ ‬أو‭ ‬الشِّعريّة‭ ‬للمُتَرجَمين،‭ ‬فيُوزَّعون‭ ‬على‭ ‬طبقات‭ ‬مُختلفة،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬النّحويين‭ ‬والّلغويين‮»‬‭ ‬للزّبيدي‭ ‬الأندَلسي،‭ ‬وقد‭ ‬تتوالى‭ ‬تراجِم‭ ‬الأعلام‭ ‬مُتَسلسِلة‭ ‬بِحسب‭ ‬سنوات‭ ‬وفياتِهم‭ ‬سنَةً‭ ‬سنَةً‭ ‬مثل‭: ‬كتاب‭ ‬‮«‬المنتظم‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬الجوزي،‭ ‬و«شذرات‭ ‬الذّهَب‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬العِماد‭ ‬الحنبلي‭... ‬وقد‭ ‬يَجمَع‭ ‬المؤلِّف‭ ‬بين‭ ‬طريقتين‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الطّرائق‭ ‬بِحسب‭ ‬ما‭ ‬تقتضيه‭ ‬طبيعَة‭ ‬الكِتاب‭.‬

وهناك‭ ‬كُتُب‭ ‬أُخرى‭ ‬يُمكِن‭ ‬أن‭ ‬تسلك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السَّمط،‭ ‬وهي‭ ‬كُتُب‭ ‬تُعنى‭ ‬بترجمة‭ ‬المادّة‭ ‬العِلميّة‭ ‬نفسها‭ ‬وتُعرِّف‭ ‬بأبرز‭ ‬أصحابها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬ومنها‭ ‬‮«‬الفهرست‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬النّديم،‭ ‬و‮«‬إرشاد‭ ‬القاصِد‭ ‬إلى‭ ‬أسمى‭ ‬المقاصِد‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬ساعِد‭ ‬الأنصاري‭ ‬السِّنجاري‭. ‬

ويحسن‭ ‬أن‭ ‬نُلحِق‭ ‬بهذا‭ ‬الجانِب‭ ‬أيضاً‭ ‬ما‭ ‬ألَّفه‭ ‬العُلماء‭ ‬من‭ ‬كُتُب‭ ‬تُعرِّف‭ ‬بالمُدن‭ ‬والأقاليم‭ ‬والمواضيع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مراكِز‭ ‬للعِلم‭ ‬والثّقافة‭ ‬أو‭ ‬مُنتَجعات‭ ‬للرَّحَالَة،‭ ‬وتُعرَف‭ ‬هذه‭ ‬الكُتُب‭ ‬بِكُتُب‭ ‬الرّحلات‭ ‬والبلدان،‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬رحلة‭ ‬ابن‭ ‬جُبير‮»‬‭ (‬614‭ ‬هجريّة‭)‬،‭ ‬و«رحلة‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‮»‬‭ (‬797‭ ‬هـ‭) ‬المُسمّاة‭ ‬‮«‬تُحفَة‭ ‬النّاظِر‭ ‬في‭ ‬غرائِب‭ ‬الأمصار‭ ‬وعجائِب‭ ‬الأسفار‮»‬،‭ ‬و‮«‬أحسَن‭ ‬التّقاسيم‭ ‬في‭ ‬معرفَة‭ ‬الأقاليم‮»‬‭ ‬للمقدسي‭... ‬وغيرها‭.‬

ومن‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم‭ ‬العامّة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬كِتاب‭ ‬‮«‬الأعلام‮»‬‭ ‬للزّركلي،‭ ‬و«أعلام‭ ‬النّساء‮»‬‭ ‬لرضا‭ ‬كحَّالة،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنّ‭ ‬التأليف‭ ‬في‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم‭ ‬الخاصّة‭ ‬انتشَر‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬يطغى‭ ‬على‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم‭ ‬العامّة‭.‬

 

كُتُب‭ ‬تراجِم‭ ‬الشُّعراء

لقد‭ ‬مهّدنا‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬إلى‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم‭ ‬واتّجاهاتها‭ ‬وطُرقها،‭ ‬وهنا‭ ‬سنتطرّق‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الاتّجاهات‭ ‬وما‭ ‬تتضمّنه‭ ‬من‭ ‬الكُتُب‭ ‬كل‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬ومنها‭:‬

 

كتاب‭ ‬طبقات‭ ‬فحول‭ ‬الشُّعراء

وضّحنا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سلف‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬دعت‭ ‬إلى‭ ‬الكِتابة‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬الإسناد‭ ‬والمتن،‭ ‬وهنا‭ ‬سوف‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬كتابٍ‭ ‬يدخل‭ ‬ضمن‭ ‬كُتُب‭ ‬التّراجِم،‭ ‬وهو‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬طبقات‭ ‬فحول‭ ‬الشُّعراء‭ ‬الجاهليين‭ ‬والإسلاميين‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬سلَّام‭ ‬الجمحي،‭ ‬وقبل‭ ‬الدّخول‭ ‬في‭ ‬سِمات‭ ‬هذا‭ ‬الكِتاب‭ ‬وتفاصيله،‭ ‬لابدّ‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬آلية‭ ‬التّفكير‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب،‭ ‬وذلك‭ ‬حتّى‭ ‬نستطيع‭ ‬فهم‭ ‬آلية‭ ‬التأليف‭ ‬عنده‭ ‬وفهم‭ ‬عقليَّته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭.‬

هذا‭ ‬الكِتاب‭ ‬هو‭ ‬أوّل‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬فنِّ‭ ‬التّرجمة،‭ ‬لذلك‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إنّ‭ ‬هذه‭ ‬الرِّيادة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬إيجابيّات،‭ ‬فإنّ‭ ‬لها‭ ‬سلبيّات‭ ‬أيضاً،‭ ‬ولعلّ‭ ‬قولنا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬إنَّه‭ ‬يُمثِّل‭ ‬التّجربة‭ ‬الأولى‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتغاضى‭ ‬عن‭ ‬سلبيّاته‭.‬

وبادئ‭ ‬ذي‭ ‬بدء‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نَعرف‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الإطار‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬أُلِّف‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬الكِتاب،‭ ‬وهنا‭ ‬يجدر‭ ‬القول‭: ‬إنّ‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬الكِتاب‭ ‬كانت‭ ‬تصنيفيّة،‭ ‬والتّصنيف‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالمنطِق‭ ‬والكِتابَة‭ ‬العلميّة،‭ ‬فالتّصنيف‭ ‬يعني‭ ‬قوانين‭ ‬وملاحظة‭ ‬بديهيّة‭ ‬مُرتبطة‭ ‬بالكِتاب،‭ ‬وهنا‭ ‬نتساءل‭: ‬كيف‭ ‬يتعامَل‭ ‬المُصَنِّف‭ ‬أو‭ ‬العالِم‭ ‬مع‭ ‬الشِّعر؟

من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لديه‭ ‬رؤية‭ ‬للشِّعر،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬والإسلامي‭ ‬فيه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تنعكس‭ ‬على‭ ‬الكاتب،‭ ‬فإنَّه‭ ‬حتماً‭ ‬سيتعرَّض‭ ‬لمشكلات،‭ ‬والجمحي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬للهجرة‭ ‬وأوائل‭ ‬القرن‭ ‬الثالث،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬التدوين‭ ‬–‭ ‬تدوين‭ ‬الشِّعر‭ ‬–‭ ‬فهو‭ ‬يعيش‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬ضمن‭ ‬الدائرة‭ ‬المُغلَقة‭ ‬لطبيعة‭ ‬ما‭ ‬يسجَّل،‭ ‬والسّؤال‭: ‬لماذا‭ ‬التّسجيل؟‭ ‬

لأنّ‭ ‬الصّورة‭ ‬الشاملة‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭ ‬العربي‭ ‬الجاهلي‭ ‬تقول‭ ‬إنَّه‭ ‬مرَّ‭ ‬بمرحلةٍ‭ ‬طويلةٍ‭ ‬انتقل‭ ‬خلالها‭ ‬بشكل‭ ‬شفوي‭ ‬عبر‭ ‬الذاكِرة،‭ ‬وهذا‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتساءل‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬سُجِّل‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التّدوين،‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬دوِّن‭ ‬من‭ ‬الشِّعر؟‭... ‬وللإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬نقول‭: ‬إنَّ‭ ‬هناك‭ ‬مسافة‭ ‬زمنيّة‭ ‬قد‭ ‬تمتدّ‭ ‬إلى‭ ‬ألف‭ ‬سنة‭ ‬بين‭ ‬النّص‭ ‬الذي‭ ‬أُنتِج‭ ‬أوّلاً‭ ‬وبين‭ ‬لحظة‭ ‬تدوين‭ ‬هذا‭ ‬النّص،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬النّص‭ ‬الشِّعري‭ ‬الجاهلي‭ ‬الذي‭ ‬نتعامَل‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬أنَّه‭ ‬نصٌّ‭ ‬جاهليّ‭ ‬ليس‭ ‬الصّورة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للشِّعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬وذلك‭ ‬لكون‭ ‬المدوِّن‭ ‬نقله‭ ‬من‭ ‬النّاقِل،‭ ‬وهذا‭ ‬النّاقل‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الذاكِرة‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تخونه‭ ‬نتيجة‭ ‬تعرّض‭ ‬الإنسان‭ ‬للنّسيان،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬نقص‭ ‬أو‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬أو‭ ‬انتحال‭ ‬قصائد،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬للتناظر‭ ‬الديني‭ ‬سببٌ‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬وهذا‭ ‬إضافة‭ ‬لِما‭ ‬تلْعبه‭ ‬الصراعات‭ ‬القبليّة‭ ‬من‭ ‬دور،‭ ‬فيضطرّ‭ ‬كلُّ‭ ‬شاعِر‭ ‬أنْ‭ ‬يُغلِّب‭ ‬جانباً‭ ‬على‭ ‬آخر،‭ ‬ففي‭ ‬العصر‭ ‬الأموي‭ ‬تحديداً‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التناحرات‭ ‬المَذهبية‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬أدَّت‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬طائفة‭ ‬لمصلحة‭ ‬هذا‭ ‬المَذهب‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬ولا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إنَّ‭ ‬تلك‭ ‬الصّراعات‭ ‬أو‭ ‬مشكلات‭ ‬الذّاكِرة‭ ‬لا‭ ‬تؤثِّر‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬التّدوين‭ ‬في‭ ‬المُدوِّن‭ ‬الذي‭ ‬نقل‭ ‬عن‭ ‬النّاقِل،‭ ‬وهناك‭ ‬أيضاً‭ ‬مشكلة‭ ‬الّلغوي‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أبيات‭ ‬تدعم‭ ‬موقفه‭ ‬الّلغوي،‭ ‬وكذلك‭ ‬النّحوي‭ ‬الذي‭ ‬سيبحث‭ ‬عن‭ ‬أبيات‭ ‬تدعم‭ ‬موقفه‭ ‬النّحوي،‭ ‬ومَنْ‭ ‬يُسجِّل‭ ‬الأشعار‭ ‬لابدَّ‭ ‬أنَّه‭ ‬يقوم‭ ‬بذلك‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬رغبة‭ ‬داخليّة‭ ‬في‭ ‬التّسجيل،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّه‭ ‬سيُدوِّن‭ ‬ما‭ ‬يدعَم‭ ‬موقفه‭.‬

ومن‭ ‬أمام‭ ‬صورة‭ ‬الرّواية‭ ‬المُدوَّنة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬مبدئياً،‭ ‬وبناءً‭ ‬عليه،‭ ‬فإنّ‭ ‬هناك‭ ‬مَنْ‭ ‬شكّك‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنَّه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬هناك‭ ‬وثائق‭ ‬تاريخية‭ ‬تؤكِّد‭ ‬وتقطع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرّوايات،‭ ‬فالثقافة‭ ‬العربية‭ ‬كانت‭ ‬منقولة‭ ‬شفوياً‭ ‬لاعتمادها‭ ‬على‭ ‬الذّاكِرة،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬النّصوص‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬لها‭ ‬وثائق‭ ‬تؤرِّخ‭ ‬لها،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬جاء‭ ‬تشكيك‭ ‬البعض‭ ‬الّذين‭ ‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬الصورة‭ ‬الشِّعرية‭ ‬الحقيقية‭ ‬للشَّاعِر‭ ‬الجاهلي‭ ‬قد‭ ‬ضاعت،‭ ‬أي‭ ‬إنَّ‭ ‬ذاكِرة‭ ‬النّص‭ ‬الأولى‭ ‬غير‭ ‬موجودة،‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬المشكِلة،‭ ‬فالنّص‭ ‬انتقل‭ ‬شفوياً‭ ‬عبر‭ ‬الثقافات‭ ‬المُختلفة،‭ ‬لذلك‭ ‬فهو‭ ‬يخضع‭ ‬لتغييراتٍ‭ ‬عامةٍ‭ ‬مع‭ ‬بقاء‭ ‬البُنية‭ ‬الأساسية‭ ‬ثابتة،‭ ‬ولابُدّ‭ ‬للمُصنِّف‭ ‬من‭ ‬الاستعانة‭ ‬بعُلماء‭ ‬الشِّعر‭ ‬لكي‭ ‬يُساعِدوه‭ ‬فيه،‭ ‬لكونه‭ ‬جزءاً‭ ‬ممّا‭ ‬يقوله‭ ‬العُلماء،‭ ‬والجمحي‭ ‬يُدرِك‭ ‬أنَّه‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عالِم‭ ‬بالشِّعر‭ ‬رغم‭ ‬أنَّه‭ ‬مُصنِّف‭ ‬ورجل‭ ‬عِلم‭.‬

إذن،‭ ‬فآليّة‭ ‬التّفكير‭ ‬عند‭ ‬الجمحي‭ ‬كانت‭ ‬منطقيّة،‭ ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إنَّ‭ ‬تصنيف‭ ‬الجمحي‭ ‬لهذه‭ ‬الأشياء‭ ‬مبنيٌّ‭ ‬على‭ ‬الأخذ‭ ‬بجزءٍ‭ ‬من‭ ‬رأي‭ ‬العُلماء،‭ ‬لأنَّ‭ ‬المشكِلة‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬المقولات‭ ‬خضعت‭ ‬للانتقائيّة،‭ ‬أي‭ ‬إنَّه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يُسجِّل‭ ‬كلَّ‭ ‬الأشعار،‭ ‬لأنَّ‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬ضاع،‭ ‬لذلك‭ ‬فهو‭ ‬مُضطرّ‭ ‬لتسجيل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مُنتشِر‭ ‬بين‭ ‬الناس‭.‬

 

تعريف‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬الجمحي

هو‭ ‬عبدالله‭ ‬مُحمَّد‭ ‬بن‭ ‬سلَّام‭ ‬الجمحي،‭ ‬وُلِدَ‭ ‬في‭ ‬لجّة‭ ‬التدوين‭ ‬في‭ ‬البصرة‭ ‬لعائلة‭ ‬عِلمٍ‭ ‬وثقافة،‭ ‬عاش‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬درس‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬شيوخٍ‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬واللغة‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬البصرة،‭ ‬كان‭ ‬أبوه‭ ‬راوياً،‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬عَمِل‭ ‬في‭ ‬الرّواية‭ ‬والتّدوين،‭ (‬توفّي‭ ‬سنة‭ ‬232‭ ‬هـ‭) ‬وقد‭ ‬ناهَزَ‭ ‬التّسعين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الكتب‭: ‬كتاب‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬فحول‭ ‬الشُّعراء‮»‬،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬بيوتات‭ ‬العرب‮»‬،‭ ‬إلاَّ‭ ‬أنَّه‭ ‬لم‭ ‬يصلنا‭ ‬منها‭ ‬إلاَّ‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬فحول‭ ‬الشُّعراء‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬موضوع‭ ‬بحثِنا‭ ‬هنا‭.‬

 

أقسام‭ ‬الكِتاب

المقدّمة‭: ‬وفيها‭ ‬وضَّح‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬منهجه،‭ ‬وتناول‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬المُهمّة‭ ‬التي‭ ‬تتّصل‭ ‬بتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬والنّقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬وتعدُّ‭ ‬هذه‭ ‬المُقدّمة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬حيث‭ ‬تضمّنت‭ ‬موضوعاتها‭:‬

أ‭ ‬–‭ ‬قضيّة‭ ‬الانتحال،‭ ‬وهي‭ ‬أوّل‭ ‬ما‭ ‬تحدَّث‭ ‬عنه،‭ ‬فرأى‭ ‬أنَّ‭ ‬في‭ ‬الشِّعر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المُصطنَع‭ ‬المُفْتَعَل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أدب‭ ‬يُستفاد‭ ‬منه‭ ‬ولا‭ ‬معنىً،‭ ‬وقد‭ ‬بيّن‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭ ‬بأنَّ‭ ‬الناس‭ ‬لم‭ ‬يأخذوه‭ ‬من‭ ‬منبعه‭ ‬الأصلي‭ ‬ولم‭ ‬يعرضوه‭ ‬على‭ ‬العُلماء،‭ ‬ومن‭ ‬الجدير‭ ‬بالذِّكر‭ ‬هنا‭ ‬أنَّ‭ ‬كل‭ ‬مَنْ‭ ‬تناول‭ ‬قضيّة‭ ‬الانتحال‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬كان‭ ‬عالَة‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭.‬

ويرى‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬أنَّ‭ ‬الرَّاوية‭ ‬الإخباري‭ ‬مُحمَّد‭ ‬
بن‭ ‬اسحق‭ ‬المَطلبي‭ (‬المُتَوفّى‭ ‬سنة‭ ‬151‭ ‬هـ‭)‬‭ ‬كان‭ ‬ممّن‭ ‬أفسَد‭ ‬الشِّعر‭ ‬وهَجَّنه‭ ‬وحمل‭ ‬كلَّ‭ ‬غثاءٍ‭ ‬منه،‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬عِلمه‭ ‬بالمَغازي‭ ‬والسِّير‭ ‬وغير‭ ‬ذلك،‭ ‬ولَعلَّ‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الناس‭ ‬تَقْبَل‭ ‬عنه‭ ‬الأشعار‭.‬

ب‭ ‬–‭ ‬قضيّة‭ ‬التّخصّص‭ ‬في‭ ‬العِلم‭ ‬والأدب‭ ‬ونقد‭ ‬الشِّعر،‭ ‬حيث‭ ‬شأن‭ ‬الشِّعر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬
ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬–‭ ‬شأن‭ ‬كلِّ‭ ‬صناعة،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وللشِّعر‭ ‬صناعة‭ ‬وثقافة‭ ‬يعرفها‭ ‬أهل‭ ‬العِلم،‭ ‬كسائِر‭ ‬أصناف‭ ‬العِلم‭...‬‮»‬‭.‬

ج‭ ‬–‭ ‬قضية‭ ‬أنساب‭ ‬العرب‭ ‬وأوَّل‭ ‬مَنْ‭ ‬تحدَّث‭ ‬بالعربيّةِ‭ ‬قديماً،‭ ‬فيُروى‭ ‬أنَّ‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬يشكُّ‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬عدنان‭ ‬من‭ ‬أسماءٍ‭ ‬لم‭ ‬تُؤخذ‭ ‬إلاَّ‭ ‬عن‭ ‬الكُتُب،‭ ‬كما‭ ‬أنَّه‭ ‬يشكُّ‭ ‬في‭ ‬الشِّعر‭ ‬الذي‭ ‬يُنسَب‭ ‬إلى‭ ‬عادٍ‭ ‬وثمود‭.‬

د‭ ‬–‭ ‬أمّا‭ ‬عن‭ ‬قضيّة‭ ‬نشأة‭ ‬النّحو‭ ‬العربي،‭ ‬فيتحدَّث‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬عن‭ ‬نشأة‭ ‬النّحو،‭ ‬فيعيده‭ ‬لأبي‭ ‬الأسود‭ ‬الدّؤلي‭ ‬ومَنْ‭ ‬أخذ‭ ‬عنه،‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬يَعمُر،‭ ‬ونصر‭ ‬بن‭ ‬عاصِم‭ ‬الليثي‭...‬‮»‬،‭ ‬وتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬تفشّي‭ ‬اللَّحن،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الأموي،‭ ‬وتحدَّث‭ ‬أيضاً‭ ‬عن‭ ‬تصدّي‭ ‬عُلماء‭ ‬اللغة‭ ‬لهذه‭ ‬الآفة‭.‬

هـ‭ - ‬وعن‭ ‬قضيّة‭ ‬نشأة‭ ‬الشِّعر‭ ‬العربي،‭ ‬تحدَّث‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬عن‭ ‬نشأة‭ ‬الشِّعر‭ ‬وانتقاله‭ ‬بين‭ ‬القبائل،‭ ‬وعن‭ ‬ضياع‭ ‬قسمٍ‭ ‬كبيرٍ‭ ‬منه،‭ ‬كما‭ ‬أنَّه‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬الخليل‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬الفراهيدي‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬عِلم‭ ‬العَروض‭.‬

 

تراجِم‭ ‬الشُّعراء‭ ‬الجاهليين‭ ‬والإسلاميين

لقد‭ ‬ترجَم‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬لـ‭ ‬141‭ ‬شاعِراً‭ ‬من‭ ‬الجاهليين‭ ‬والإسلاميين‭ ‬والمُخضرمين،‭ ‬وقد‭ ‬اقتصر‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬التّرجَمة‭ ‬للمشهورين‭ ‬والمَعروفين‭ ‬منهم،‭ ‬فرتَّبهم‭ ‬في‭ ‬طبقاتٍ‭ ‬بحسَب‭ ‬معايير‭ ‬ارتضاها‭ ‬لنفسِه،‭ ‬وهي‭ ‬معايير‭ ‬غير‭ ‬ثابتة،‭ ‬وهذه‭ ‬المعايير‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬جغرافيّة‭ ‬مثل‭ ‬طبقة‭ ‬‮«‬شُعراء‭ ‬مكّة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬موضوعيّة،‭ ‬مثل‭ ‬طبقة‭ ‬‮«‬شُعراء‭ ‬المَراثي‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬تاريخية‭ ‬مثل‭ ‬طبقات‭ ‬‮«‬فحول‭ ‬الجاهلية‮»‬‭ ‬وطبقات‭ ‬‮«‬فحول‭ ‬الإسلام‮»‬،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يلتزم‭ ‬أيضاً‭ ‬بهذه‭ ‬المعايير‭ ‬وإنّما‭ ‬خَلَطَ‭ ‬بينها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬وكان‭ ‬أساس‭ ‬المفاضلة‭ ‬عنده‭ ‬بين‭ ‬شاعِر‭ ‬وآخر‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬حجم‭ ‬شِعر‭ ‬الشَّاعِر‭ ‬وجودته‭ ‬الفنِّية‭ ‬ورأي‭ ‬عُلماء‭ ‬الشِّعر‭ ‬فيه‭.‬

 

تفسير‭ ‬منهجيَّة‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬في‭ ‬طبقاته‭ ‬

اقتصر‭ ‬في‭ ‬ترجمته‭ ‬على‭ ‬عددٍ‭ ‬من‭ ‬الشُّعراء‭ ‬لأنّه‭ ‬يرى‭ ‬أنَّ‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭ ‬تعرَّض‭ ‬للانتحال‭ ‬والضّياع،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنّ‭ ‬التّرجمة‭ ‬للمشهورين‭ ‬تعني‭ ‬أنّه‭ ‬يترجم‭ ‬لِما‭ ‬هو‭ ‬مُثبت‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬العُلماء‭.‬

إنّ‭ ‬الترجمة‭ ‬لجميع‭ ‬شُعراء‭ ‬القبيلة‭ ‬تعني‭ ‬تسجيل‭ ‬الأشعار‭ ‬الكثيرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التثبُّت‭ ‬من‭ ‬صحَّتها،‭ ‬فكيف‭ ‬يدوِّنها‭ ‬وهو‭ ‬المُنتقد‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬لموضوع‭ ‬انتحال‭ ‬الشِّعر‭ ‬وضياعه؟

إنَّ‭ ‬عدم‭ ‬اكتفائه‭ ‬بالترجمة‭ ‬للشّاعِر‭ ‬هو‭ ‬سِمَةٌ‭ ‬من‭ ‬سِمات‭ ‬الموسوعيّة‭ ‬الثقافيّة‭ ‬المُنتَشِرة‭ ‬في‭ ‬عصرِه،‭ ‬ولأنَّه‭ ‬يتعامَل‭ ‬بهذه‭ ‬السِّمة‭ ‬فقد‭ ‬وُجدت‭ ‬في‭ ‬كتابِه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الآراء‭ ‬والمُلاحظات‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والشِّعر‭ ‬عموماً‭.‬

لا‭ ‬توجد‭ ‬منهجيّة‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬كتابه،‭ ‬وذلك‭ ‬لِعدم‭ ‬وجود‭ ‬تجربة‭ ‬سابقة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬فالمعايير‭ ‬كانت‭ ‬ذاتية‭ ‬من‭ ‬إنتاجه‭.‬

كان‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬ترجمته‭ ‬للشّاعِر‭ ‬بِذكر‭ ‬نَسَبِه،‭ ‬ثمّ‭ ‬يورد‭ ‬رأي‭ ‬العُلماء‭ ‬في‭ ‬شِعرِه،‭ ‬وقد‭ ‬يوازن‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬غيرِه‭ ‬من‭ ‬الشُّعراء‭ ‬مؤيِّداً‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬بأشعار‭ ‬لهُم‭ ‬جميعاً،‭ ‬وربَّما‭ ‬فسَّر‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬الألفاظ‭ ‬الغريبة‭ ‬الوارِدة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأشعار‭.‬

 

طبعات‭ ‬الكتاب

طُبعَ‭ ‬كتاب‭ ‬ابن‭ ‬سلَّام‭ ‬هذا‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬1913‭ ‬م‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭ ‬عدَّة‭ ‬طبعات،‭ ‬وكان‭ ‬آخِرها‭ ‬وأجودها‭ ‬الطبعة‭ ‬التي‭ ‬حقَّقها‭ ‬محمود‭ ‬محمّد‭ ‬شاكِر،‭ ‬وقد‭ ‬نُشِرت‭ ‬طبعَته‭ ‬هذه‭ ‬لأوَّل‭ ‬مرَّة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬سنة‭ ‬1952‭ ‬م،‭ ‬ثمَّ‭ ‬أعاد‭ ‬تحقيق‭ ‬الكِتاب‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬طبعةٍ‭ ‬ثانية‭ ‬كانت‭ ‬أكمَل‭ ‬وأوْفَى‭ ‬سنة‭ ‬1974‭ ‬م‭ ‬في‭ ‬جزأين،‭ ‬ثمَّ‭ ‬أضاف‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬الثمانينيات‭ ‬جزءاً‭ ‬آخَر‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬برنامج‭ ‬طبقات‭ ‬فحول‭ ‬الشُّعراء‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬ضمَّنه‭ ‬بعض‭ ‬الشّروحات‭ ‬حول‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬الكِتاب‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الردود‭ ‬على‭ ‬مَنْ‭ ‬انتقدوه‭ ‬في‭ ‬الطبعتين‭ ‬السابقتين‭.‬

 

كتاب‭ ‬الشِّعر‭ ‬والشُّعراء‭ ‬

كتاب‭ ‬الشِّعر‭ ‬والشُّعراء‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬كُتُب‭ ‬تراجِم‭ ‬الشُّعراء‭ ‬أيضاً،‭ ‬وهو‭ ‬لابن‭ ‬قتيبة،‭ ‬وفي‭ ‬البداية‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬نخوض‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الكِتاب‭ ‬لابدَّ‭ ‬أن‭ ‬نتعرَّف‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬المؤلِّف‭ ‬في‭ ‬الكِتاب‭ ‬بشكلٍ‭ ‬عام‭.‬

ونقول‭ ‬إنّه‭ ‬بحسب‭ ‬مُعطيات‭ ‬العصر‭ ‬وطبيعته‭ ‬وقضاياه‭ ‬يستطيع‭ ‬المؤلِّف‭ ‬أن‭ ‬يؤلِّف،‭ ‬وبناءً‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنّ‭ ‬أيّ‭ ‬إنتاج‭ ‬سوف‭ ‬يكون‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القضايا،‭ ‬وابن‭ ‬قُتيبة‭ ‬وُجِد‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬ظواهِر‭ ‬علمية‭ ‬جديدة‭ ‬ظهَرت‭ ‬منذ‭ ‬استقرار‭ ‬الدّولة‭ ‬وبداية‭ ‬الازدهار،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّ‭ ‬هناك‭ ‬مُتغيِّرات‭ ‬قد‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإنتاج،‭ ‬ولكنّه‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مُتغيّرات‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬ثوابت،‭ ‬وهذه‭ ‬الثوابت‭ ‬هي‭ ‬قضيّة‭ ‬شمولية‭ ‬العصر‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الثقافية،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬تخصُّصات‭ ‬بمفهومها‭ ‬الدّقيق‭ ‬وإنْ‭ ‬وُجدت‭ ‬بعض‭ ‬الكُتب‭ ‬المتخصِّصة،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنَّ‭ ‬السِّمة‭ ‬الموسوعيّة‭ ‬هي‭ ‬سِمَة‭ ‬العَصر،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنّ‭ ‬على‭ ‬المؤلِّف‭ ‬أن‭ ‬يمتلك‭ ‬مساحة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬جميعها،‭ ‬فالموسوعيّة‭ ‬جزءٌ‭ ‬أساسي‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬المؤلِّف‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬ألَّف‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬محدَّد،‭ ‬فالسِّمة‭ ‬الموسوعيّة‭ ‬هي‭ ‬الغالبة،‭ ‬وهنا‭ ‬نتساءل‭ ‬عن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬

لأنَّ‭ ‬المؤلِّف‭ ‬أو‭ ‬الكاتب‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يتَّسِم‭ ‬بها‭ ‬فسينتاب‭ ‬كتابه‭ ‬الشَّك،‭ ‬لذلك‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬العلوم،‭ ‬وحين‭ ‬يريد‭ ‬الكتابة‭ ‬بطريقة‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يتقدَّم‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬ضمن‭ ‬دائرة‭ ‬موسوعيّة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وأن‭ ‬يتحدّث‭ ‬بموسوعيّة‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬التّعريف‭ ‬بالشِّعر‭ ‬والشّاعِر،‭ ‬وهو‭ ‬مضطرٌّ‭ ‬إلى‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬لغوية‭ ‬أو‭ ‬نحوية،‭ ‬وفي‭ ‬بيان‭ ‬رأي‭ ‬العُلماء‭ ‬والشُّعراء‭ ‬في‭ ‬الشِّعر،‭ ‬وبالتّالي‭ ‬ترتبط‭ ‬القضيَّة‭ ‬بحالة‭ ‬موسوعية‭ ‬وإنْ‭ ‬كانت‭ ‬ضمن‭ ‬تخصُّص،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬وفي‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬عندما‭ ‬كَتَب‭ ‬مثلاً‭ ‬الزّركلي‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الأعلام‮»‬‭ ‬فالمَقصد‭ ‬منه‭ ‬الترجمة‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الموسوعية،‭ ‬ولذلك‭ ‬نجد‭ ‬فيه‭ ‬أنَّه‭ ‬يُترجِم‭ ‬للعَلمِ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬وقت‭ ‬وفاته،‭ ‬ومؤلَّفاته،‭ ‬وقد‭ ‬يُشير‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬أنّه‭ ‬مطبوع‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مطبوع،‭ ‬وبالتّالي‭ ‬فإنَّ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬هذا‭ ‬شيءٌ‭ ‬من‭ ‬التّخصُّص‭ ‬وليس‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالموسوعية،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنّ‭ ‬العصر‭ ‬تجاوز‭ ‬الموسوعية‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬التأليف‭ ‬والتفتَ‭ ‬إلى‭ ‬التّخصُّص،‭ ‬لأنّ‭ ‬المطلوب‭ ‬تقديم‭ ‬معرفة‭ ‬دقيقة‭ ‬لجوانب‭ ‬مُتعلّقة‭ ‬بهذا‭ ‬العِلم‭ ‬المُتناوَل‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬المؤلِّف،‭ ‬فإذا‭ ‬أردتَ‭ ‬أن‭ ‬تبحَث‭ ‬عن‭ ‬قضيَّة‭ ‬ما‭ ‬تتعلَّق‭ ‬بِعَلَمٍ‭ ‬ما،‭ ‬فلابدَّ‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الكُتُب‭ ‬القديمة‭.‬

وابن‭ ‬قُتيبَة‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬العَصر‭ ‬الموسوعي،‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬والشِّعر،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يخرُج‭ ‬عن‭ ‬سِمَة‭ ‬الموضوعية‭ ‬ارتباطاً‭ ‬منه‭ ‬بطريقة‭ ‬العَصر‭ ‬ومُقتضياته،‭ ‬وهذا‭ ‬أمرٌ‭ ‬عام،‭ ‬فالزَّركلي‭ ‬مثلاً‭ ‬لم‭ ‬يُقدِّم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الأعلام‭ ‬المُقدِّمة‭ ‬في‭ ‬قسمٍ‭ ‬مستقل،‭ ‬والتّرجمة‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬آخَر،‭ ‬وإنّما‭ ‬هي‭ ‬مقدّمة‭ ‬موجودة‭ ‬بشكلٍ‭ ‬طبيعيّ‭ ‬تشتمل‭ ‬على‭ ‬توضيحٍ‭ ‬لِمَتن‭ ‬الكِتاب‭ ‬وللطّريقة‭ ‬التي‭ ‬تعامَل‭ ‬بها‭ ‬صاحب‭ ‬الكِتاب‭ ‬مع‭ ‬الأعلام،‭ ‬لذا‭ ‬فهي‭ ‬عِبارَة‭ ‬عن‭ ‬مُخطّط‭ ‬للكِتاب‭ ‬يقوم‭ ‬فيه‭ ‬الكاتِب‭ ‬بتوضيح‭ ‬الخطّة‭ ‬الدّراسية،‭ ‬ولكن‭ ‬بسبب‭ ‬اختلاف‭ ‬آليّة‭ ‬التّفكير‭ ‬والفترة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العَصر‭ ‬–‭ ‬عَصر‭ ‬ابن‭ ‬قُتيبَة‭ ‬–‭ ‬كان‭ ‬لابدَّ‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬مُقدِّمة‭ ‬على‭ ‬شكلٍ‭ ‬مُختَلِف،‭ ‬وإلاّ‭ ‬أصبَح‭ ‬النّاقِد‭ ‬قاصِراً‭ ‬يوجَّه‭ ‬إليه‭ ‬الّلوم،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬لابدَّ‭ ‬لابن‭ ‬قُتيبَة‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬المقدِّمة‭ ‬التي‭ ‬تتسّم‭ ‬بالموسوعية‭ ‬الثقافية‭ ‬تماشياً‭ ‬مع‭ ‬العَصر‭ ‬وقضاياه‭... ‬وهنا‭ ‬لابد‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬طرح‭ ‬سؤالين‭: ‬ماذا‭ ‬طرح‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬في‭ ‬مقدَّمته؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬استجدَّ‭ ‬عنده؟

 

القضايا‭ ‬المُثارة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ابن‭ ‬قُتيبة‭ ‬التي‭ ‬عالَجها‭ ‬في‭ ‬كتابه

انتقل‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬تنظيرية‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬نقديّة‭ ‬مهمة‭ ‬فقد‭ ‬ارتبطت‭ ‬المُقدّمة‭ ‬بقضايا‭ ‬تنظيرية‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يتطرّق‭ ‬إليها،‭ ‬ولذلك‭ ‬كتبَ‭ ‬في‭ ‬قِسمِه‭ ‬الأوّل‭ ‬الشِّعر‭ ‬القديم‭ ‬والشِّعر‭ ‬المُحدث‭ ‬وترجَم‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الشُّعراء،‭ ‬فجاءت‭ ‬الترجَمَة‭ ‬في‭ ‬كتابِه‭ ‬مُرتَبِطة‭ ‬بالعَصر‭ ‬الجاهِلي‭ ‬والعصر‭ ‬العبّاسي،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّ‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬قد‭ ‬تلمَّس‭ ‬موضوعات‭ ‬الشِّعر‭ ‬الحديث‭ ‬والشِّعر‭ ‬القديم‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬جماليّات‭ ‬الشِّعر،‭ ‬فترجَم‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الشُّعراء،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّه‭ ‬موافق‭ ‬عليها‭.‬

ثمَّ‭ ‬يبدأ‭ ‬بالنّقد‭ ‬لكي‭ ‬يُظهِر‭ ‬جماليات‭ ‬الشِّعر،‭ ‬وبالتّالي‭ ‬فهو‭ ‬يُعامِل‭ ‬الشِّعر‭ ‬بمقتَضى‭ ‬جماليّاته‭ ‬لا‭ ‬بمقتضى‭ ‬عَصرِه‭ ‬وفترَته،‭ ‬فَلِكُلِّ‭ ‬قصيدة‭ ‬خصوصيّتها‭ ‬وجماليّاتها‭.‬

بعد‭ ‬مرحلة‭ ‬التّدوين‭ ‬وبعد‭ ‬مرحلة‭ ‬التّثبيت،‭ ‬تبدأ‭ ‬مرحلة‭ ‬التّفتيش‭ ‬والبحث‭ ‬والتدقيق‭ ‬كما‭ ‬رأينا‭ ‬سابقاً،‭ ‬وهنا‭ ‬قضيَّةٌ‭ ‬أُخرى،‭ ‬فمثلاً‭ ‬لِماذا‭ ‬لا‭ ‬نعترف‭ ‬بالشِّعر‭ ‬الحديث‭ ‬أو‭ ‬قصائد‭ ‬المُحدثين؟

لأنّ‭ ‬الأنظار‭ ‬كانت‭ ‬موجَّهة‭ ‬نحو‭ ‬النموذج‭ ‬الأوّل‭ ‬على‭ ‬غِرار‭ ‬الشِّعر‭ ‬الجاهِلي،‭ ‬أي‭ ‬تفضيل‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الابتداء‭ ‬بِذِكر‭ ‬الأطلال،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬الغَزَل‭ ‬حتى‭ ‬ينتهي‭ ‬أخيراً‭ ‬إلى‭ ‬المديح‭. ‬أمّا‭ ‬ابن‭ ‬قُتيبة‭ ‬فقد‭ ‬استنتَج‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬جماليّة‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬كُلِّ‭ ‬عصر،‭ ‬فتحدَّث‭ ‬في‭ ‬قِسمِه‭ ‬الأوَّل‭ ‬عن‭ ‬النموذج‭ ‬الثابت‭ ‬وقضيّة‭ ‬الشَّاعِر‭ ‬الجديد،‭ ‬وهي‭ ‬القضيَّة‭ ‬الإشكالية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد،‭ ‬وابن‭ ‬قُتيبة‭ ‬عندما‭ ‬يَضَع‭ ‬مادّة‭ ‬مُرتبطَة‭ ‬بالشَّاعِر‭ ‬الجديد،‭ ‬فهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّه‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بقصيدة‭ ‬النموذج،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬تماماً،‭ ‬فقد‭ ‬ناقَش‭ ‬القصائد‭ ‬وارتباطها‭ ‬بالنّموذَج‭ ‬وقدَّم‭ ‬الشِّعر‭ ‬الحديث،‭ ‬وكذلك‭ ‬القديم‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬جمالياته،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّنا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعدَّ‭ ‬ابن‭ ‬قُتيبة‭ ‬أفضل‭ ‬ناقِد‭ ‬في‭ ‬عَصرِه‭.‬

وهنا‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭: ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الشِّعر‭ ‬الجاهِلي‭ ‬هو‭ ‬النّموذج،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الشِّعر‭ ‬المُحدث‭ ‬هو‭ ‬أقلُّ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النّموذَج،‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬الشِّعر‭ ‬الجميل؟

هناك‭ ‬مَنْ‭ ‬قال‭ ‬إنَّ‭ ‬الشِّعر‭ ‬الجميل‭ ‬هو‭ ‬الشِّعر‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التّدريب‭ ‬والتّنقيح‭ ‬والذي‭ ‬أصبَح‭ ‬مُتداوَلاً‭ ‬بينهم،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬القضيّة‭ ‬كانت‭ ‬نقديّة،‭ ‬وابن‭ ‬قُتيبة‭ ‬عكَسَ‭ ‬قضايا‭ ‬عصره،‭ ‬فهو‭ ‬صاحب‭ ‬موقف‭ ‬نقدي‭ ‬مُتطوّر‭ ‬ومُعاصِر‭ ‬لِزمنه،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬عالجه‭ ‬في‭ ‬قسمِه‭ ‬الأوّل‭ ‬من‭ ‬المُقدّمة،‭ ‬أمّا‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬فقد‭ ‬قَصَرَه‭ ‬على‭ ‬التّرجَمة،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحرص‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬تراجِم‭ ‬الشّعراء‭ ‬على‭ ‬منهج‭ ‬علمي‭ ‬دقيق،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يُرتِّب‭ ‬أسماء‭ ‬الشُّعراء‭ ‬حسب‭ ‬حروف‭ ‬المُعجَم،‭ ‬كما‭ ‬أخضع‭ ‬هذا‭ ‬الترتيب‭ ‬ضمن‭ ‬تصوّره‭ ‬الخاص‭ ‬أحياناً‭ ‬لأساسٍ‭ ‬بيئيٍّ‭ ‬أو‭ ‬فنّيّ‭. ‬

 

التعريف‭ ‬بابن‭ ‬قُتيبَة

ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬هو‭ ‬أبو‭ ‬مُحمّد‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬مُسلِم‭ ‬بن‭ ‬قُتيبة‭ ‬الدّينوري،‭ ‬وُلِد‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ (‬سنة‭ ‬203‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬عُرِف‭ ‬بِعلمِه‭ ‬وموسوعِيَّته‭ ‬النَّحويّة‭ ‬والثّقافية‭ ‬واللّغويّة‭.‬

 

أقسام‭ ‬الكتاب

يُقْسَم‭ ‬كتابه‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭: ‬‮«‬المقدمة‭ ‬والترجمة‮»‬‭.‬

أمّا‭ ‬المقدمة‭ ‬فتتضمّن‭ ‬موضوعات‭ ‬وقضايا‭ ‬نقدية‭ ‬عِدَّة‭ ‬أَثارَها‭ ‬ابن‭ ‬قُتيّبة‭ ‬في‭ ‬كِتابِه،‭ ‬أهمّها‭:‬

‭- ‬كثرة‭ ‬الشّعراء‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬من‭ ‬العصور،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬المغمورون‭ ‬الذين‭ ‬قلَّ‭ ‬ذِكرهم‭ ‬وكَسَد‭ ‬شِعرهم‭.‬

‭- ‬منهج‭ ‬القصيدة‭ ‬التقليدية،‭ ‬أي‭ ‬النموذج‭ ‬النظري‭ ‬للقصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الابتداء‭ ‬بِذِكر‭ ‬الدّيار‭ ‬والأطلال‭ ‬وأهلها‭ ‬الظاعنين،‭ ‬ثمّ‭ ‬النسيب‭ ‬والغزَل‭ ‬وذِكر‭ ‬الرحلة‭ ‬وسُرى‭ ‬الليل‭ ‬حتى‭ ‬ينتهي‭ ‬أخيراً‭ ‬إلى‭ ‬الغَرَض‭ ‬الرئيس‭ ‬من‭ ‬قصيدته‭ ‬في‭ ‬المديح‭ ‬أو‭ ‬الرثاء‭ ‬أو‭(...).‬

‭- ‬الشّاعِر‭ ‬المُتَكلِّف‭ ‬والمطبوع،‭ ‬فالمُتَكلِّف‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬هو‭ ‬مَنْ‭ ‬قوَّم‭ ‬شِعره‭ ‬بالثِّقاف،‭ ‬ونقَّحه‭ ‬بطول‭ ‬التفتيش‭ ‬وإعادة‭ ‬النّظر،‭ ‬ومنهم‭ ‬زُهير‭ ‬والحُطيئَة،‭ ‬والمطبوع‭  ‬هو‭ ‬مَنْ‭ ‬سمحَ‭ ‬بالشِّعر‭ ‬واقتدَر‭ ‬على‭ ‬القوافي،‭ ‬وأراك‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬بيته‭ ‬عجزه‭ ‬وفي‭ ‬فاتحته‭ ‬قافيته،‭ ‬وقد‭ ‬أيَّد‭ ‬كلامه‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬الشِّعريّة‭. ‬المُساواة‭ ‬بين‭ ‬القُدماء‭ ‬والمُحدّثين‭ ‬في‭ ‬الترجَمَة‭ ‬لهم‭ ‬والاختيار‭ ‬من‭ ‬أشعارهم،‭ ‬فالله‭ ‬لم‭ ‬يقصُر‭ ‬الشِّعر‭ ‬والبلاغة‭ ‬على‭ ‬زمنٍ‭ ‬دون‭ ‬آخَر،‭ ‬ولا‭ ‬خصَّ‭ ‬به‭ ‬قوماً‭ ‬دون‭ ‬قوم،‭ ‬وبناءً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬ذَكَر‭ ‬كلَّ‭ ‬مَنْ‭ ‬أتى‭ ‬بِحسَنٍ‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬أو‭ ‬فعل،‭ ‬أي‭ ‬إنَّ‭ ‬اختياره‭ ‬جاء‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬جماليّات‭ ‬الشِّعر‭ ‬عند‭ ‬كلِّ‭ ‬واحد‭.‬

‭- ‬قضيّة‭ ‬أقسام‭ ‬الشِّعر‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬اللفظ‭ ‬والمعنى‭... ‬وقد‭ ‬قسَّمه‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬ضروب‭:‬

ضربٌ‭ ‬حسُن‭ ‬لفظه‭ ‬وجاد‭ ‬معناه‭.‬

ضربٌ‭ ‬حسُن‭ ‬لفظه‭ ‬وقصُر‭ ‬معناه‭.‬

ضربٌ‭ ‬جاد‭ ‬معناه،‭ ‬وقصُرت‭ ‬عنه‭ ‬ألفاظه‭.‬

ضربٌ‭ ‬تأخَّر‭ ‬معناه‭ ‬ولفظه‭.‬

‭ -‬الدّواعي‭ ‬التي‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬الشِّعر،‭ ‬ومنها‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬ابن‭ ‬قُتيبة‭: ‬الطمع،‭ ‬والشّوق،‭ ‬والشّراب،‭ ‬والشّرف‭ ‬العالي،‭ ‬والمكان‭ ‬الخضِر‭ ‬الخالي‭...‬،‭ ‬كما‭ ‬أنَّه‭ ‬بيَّن‭ ‬الأوقات‭ ‬المناسِبَة‭ ‬للنّظم،‭ ‬ومنها‭ ‬‮«‬أوَّل‭ ‬الليل،‭ ‬وصدر‭ ‬النّهار،‭...‬‮»‬‭.‬

‭- ‬ذَكَرَ‭ ‬بعض‭ ‬المقاييس‭ ‬الأُخرى‭ ‬التي‭ ‬يُختار‭ ‬الشِّعرُ‭ ‬على‭ ‬أساسها،‭ ‬ومنها،‭ ‬الإصابة‭ ‬في‭ ‬التّشبيه،‭ ‬وخِفّة‭ ‬الرّوي‭.‬

‭- ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬مقدّمته‭ ‬عن‭ ‬عيوب‭ ‬الشِّعر،‭ ‬كالإقواء،‭ ‬والسِّناد،‭ ‬والإجازة‭...‬،‭ ‬كما‭ ‬تحدّث‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الضّرائِر‭ ‬الشِّعرية‭.‬

وأخيراً‭... ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬منهج‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬في‭ ‬الترجمة‭ ‬أن‭ ‬قسّم‭ ‬الشُّعراء‭ ‬حسب‭ ‬العصور‭ ‬‮«‬جاهلي،‭ ‬مُخضرم،‭ ‬إسلامي،‭ ‬أموي،‭ ‬عباسي‭ ‬أوّل‭)‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يلتزم‭ ‬بترتيب‭ ‬شُعراء‭ ‬كلِّ‭ ‬عصر‭ ‬بحسب‭ ‬وفياتهم،‭ ‬كما‭ ‬أنّه‭ ‬قد‭ ‬يُقدِّم‭ ‬شاعِراً‭ ‬على‭ ‬عصره‭ ‬أو‭ ‬يؤخِّره‭ ‬عنه،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬ترتيبه‭ ‬الزّمني‭ ‬ليس‭ ‬دقيقاً‭. ‬كما‭ ‬رتّب‭ ‬أسماء‭ ‬الشُّعراء‭ ‬داخل‭ ‬العصر‭ ‬على‭ ‬حروف‭ ‬المُعجَم،‭ ‬ثمّ‭ ‬رتّبهم‭ ‬في‭ ‬طبقات‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬البيئة‭ ‬والقيمة‭ ‬الفنّيّة،‭ ‬حيث‭ ‬اقتصرت‭ ‬ترجمته‭ ‬على‭ ‬الشُّعراء‭ ‬المشهورين‭ ‬بغضِّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬العصر‭ ‬ومسألة‭ ‬القِدَم‭ ‬والحداثَة‭.‬

ويقصد‭ ‬بالمشهورين‭ ‬الذين‭ ‬يعرِفهم‭ ‬أهل‭ ‬الأدب،‭ ‬ويحتجُّ‭ ‬بأشعارهم‭ ‬في‭ ‬النّحو،‭ ‬وقد‭ ‬بَلغَ‭ ‬عدد‭ ‬الشُّعراء‭ ‬الذين‭ ‬ترجَم‭ ‬لهم‭ ‬206‭ ‬شُعراء‭.‬

كما‭ ‬اتّسَمَت‭ ‬التّرجمة‭ ‬لديه‭ ‬بالموسوعيّة،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬يذكُر‭ ‬الاسم‭ ‬والنّسَب،‭ ‬كما‭ ‬ذَكَر‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬والنّصوص‭ ‬النّقديّة‭ ‬المُرتبطَة‭ ‬بِشِعرِ‭ ‬هذا‭ ‬الشَّاعِر‭ .

 

المراجع

كتب‭ ‬التّراجم‭ ‬واتّجاهاتها‭ ‬وطرائقها‭  ‬للدكتور‭: ‬يوسف‭ ‬إسماعيل‭ ‬–‭ ‬جامعة‭ ‬حلب‭ ‬–‭ ‬2008م‭.‬

‭- ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬–‭ ‬حنا‭ ‬الفاخوري‭.‬

‭- ‬الفن‭ ‬ومذاهبه‭ ‬–‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭.‬

‭- ‬الكامل‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬–‭ ‬كمال‭ ‬أبو‭ ‬مصلح‭ ‬–‭ ‬ط2‭ ‬مزيدة‭ ‬–‭ ‬المكتبة‭ ‬الحديثة‭ ‬–‭ ‬بيروت‭.‬

‭- ‬تاريخ‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬–‭ ‬طه‭ ‬أحمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬–‭ ‬القاهرة‭ ‬–‭ ‬1937‭.‬