وثائق العصر العباسي الذهبي كتاب طاهر بن الحسين إلى ابنه عبدالله
السلطة معضلة الإسلام السياسي، ولم ينج الإسلام الديني من تشوّهات، إلى انحرافات عن خطّه الجذري القيمي... والقائل - الفقيه حينئذ مصدر التشريع، والمشاهد كلها مفرطة الإثارة، أين منها مسارح الدم في العصور السحيقة مما قبل الإسلام بمئات السنين؟
حدث ذلك، والقاتلون «الخلفاء» والأمراء في الإسلام الجديد، يدركون تماماً فداحة الانحراف عن خط الإسلام الحنيف، فهم فقهاء السياسة والمال، وقد نصبوا أنفسهم مرجعياته، وعنهم تصدر الفتاوى والقرارات الملزمة، وحدود الحلال والحرام، بينما الإسلام - العقيدة في نأي عن كل ذلك، وهو المستهدف في النهاية لإفراغه من قيمه السامية، وتعاليمه السمحة، وتراثه الفكري المجيد، إنها تراكمات الأزمنة والسلطة على مداها لا تنفك محور الصراع، حيث التبس النصر مع الهزيمة، وتهاوت مبكراً الخلافة، و«الفتنة»، المصطلح المعبّر عن التصدّع، لما تزل مشبوبة، فإن خفتت نارها فلا تلبث أن تشتعل من جديد.
وعندما أخفقت المحاولات لإعادة إنتاج الخلافة، لم يكن في وسع رابع الخلفاء الراشدين وآخرهم، سوى التنظير لصورتها الراسخة في وعيه، بعدما أعجزه تطبيقها على الأرض. فكان «نهج البلاغة» قمة في الأدب السياسي، خصوصاً في رسمه خارطة «الدولة» بكل أبعادها الإدارية والمالية والحربية والأخلاقية والاجتماعية... وغير ذلك مما يتجسّد أنموذجاً في «عهد الأشتر» الذي وصفه الشيخ محمد عبده، بأنه «أجمع كتبه للمحاسن».
أحب الذخائر
هذا «العهد»، عبارة عن وصايا لأحد المقرّبين إلى الإمام علي، «مالك بن الحارث النخعي»، ومما جاء في مطلعه: «فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحل لك، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم». أما القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها «كتاب العهد»، فهي القائمة على ثنائية العدل والظلم والحق والباطل والخير والشر، ولكن الأولى منها أكثر ما يشدد عليها العهد، المطابق هنا للميثاق، في تأسيسه لسلطته قوامها العدل، ولن يكون ذلك إلا بتعميق الولاء العقدي للمجتمع، بما يؤدي إلى تجذير القيم فيه، وفي مبدئها كسر سطوة الظلم ورد الاعتبار لمن عانى التهميش واستلاب الدور من الرعية.
وليس في المجال متسع لشرح واف في القضايا التي عرض لها «العهد»، فهو أطروحة شاملة في مفهوم الدولة ورؤيتها في الإسلام. وبعد التحوّل إلى الحكم الوراثي، لم يصدر عن الخلفاء أو من حولهم، وثائق في الفكر السياسي، حتى من جانب عمر
بن عبدالعزيز، انطلاقاً من تجربته الإصلاحية القصيرة، ولعل النص الوحيد في هذا المجال، هو المنسوب إلى الوليد بن يزيد (المرواني) في تاريخ الطبري، بشأن البيعة لولديه (الحَكم وعثمان) بولاية العهد، وهو كتاب مفرد في موضوعه خلال العهد الأموي. ولم تكن مصادفة أن يصدر في أواخر سنيه، وذلك في محاولة يائسة لإنقاذ الخلافة المشرفة على الانهيار. وفي أوائل العصر العباسي، وانفتاح الحكم الجديد على الفرس، مستفيداً من خبراتهم، خصوصاً في الإدارة، ظهرت كتابات جريئة في الفكر السياسي، كان في طليعتها: «رسالة الصحابة» لعبدالله بن المقفع، ذلك المثقف الطموح، والمتضلع في اللغة العربية، آخذاً أسرارها البلاغية والبيانية من أساتذتها الكبار في البصرة.
ارتبط اسم ابن المقفع بالكتاب الشهير «كليلة ودمنة»، إذ نُسبت إليه ترجمته إلى العربية عن الترجمة الفارسية، المترجمة بدورها عن الهندية. وقد شاع ذلك عبر القرون، من دون ما يؤكد صحته إلى حد التسليم به. فهو شبيه بـ«رسالة الصحابة» الموجهة إلى الخليفة المنصور، ولكنه يمتاز عنه في المنحى الرمزي المفعم بأفكار إصلاحية موجهة إلى «ملك» مستبد. وإذ استظل ابن المقفع بالخرافة منهجاً، في حين ارتكز إلى حوارات غير مباشرة على ألسنة الحيوانات، فمن الجائز أن تكتمل الخرافة، بانضمام الفيلسوف «بيدبا» والملك المستبد «دبشليم» إليها، وفي الوقت عينه يتم تبادل الأدوار، فقد يرمز الفيلسوف إلى ابن المقفع والملك المستبد إلى المنصور. إنها فرضية ربما قاربت الحقيقة في معرض المقارنة، بين واقع المرحلة ومنهج الحوارية المؤسطرة.
خارج «كليلة ودمنة»
ولم يكن هذا النمط من الكتابة محصوراً بـ «كليلة ودمنة» فثمة نماذج من أصول تتمثل في الحكاية الرمزية من القرن الخامس الهجري، حاملة عنوان «الأسد والغواص»، من دون الإشارة في مخطوطات ثلاث إلى كاتبها، وكان واضحاً، تأثر الأخير بسلفه، متماهياً معه في أطروحات عدة، كانت موضوع جدال في مرحلة مضطربة من النفوذ السلجوقي. فالأسد هو الملك الظالم، والغواص ذلك الرجل الحكيم، المتسلّح بالعلم لإصلاح مسار الملك وتصويبه، ويلفت من أقواله في هذا السياق، التشديد على الرأي المقترن بالعقل.
ويبدو أن المؤلف عاش في المشرق، واكتسب ثقافة فارسية مكّنته من الإبحار في مروِّيات عن العهد الساساني، كتلك التي أوردها عن إيفاد كسرى أبرويز، قائده شهر براز (بارز) لقتال الروم، وهي رواية شائعة في المصنفات التاريخية، ولا تنطوي على دلالات سياسية ذاهبة في العمق. وبعيداً عن الترميز في الأدب السياسي، فثمة كثير من المصنفات العربية المنسوبة إلى أعلام مشتهرين أمثال: الماوردي (الأحكام السلطانية، وقوانين الوزارة وسياسة الملك) من القرن الخامس الهجري، الإشارة إلى أدب الإمارة للمرادي في أواخر القرن الخامس، وابن حمدون (التذكرة الحمدونية) في القرن السادس، وليس أخيراً ابن حداد (الجوهر النفيس في سياسة الرئيس) من القرن السابع، وغيرهم من أقطاب الفكر السياسي الإسلامي، بعضهم كتب على طريقة الماوردي، مستطرداً في موضوعات الإمامة والوزارة والملك، وآخر على طريقة ابن المقفع في الفصول والأبواب، بعناوينها المتنوعة، على غرار ابن الحداد، أو المؤلف المجهول لكتاب الأسد والغواص، أو المرادي، في عناوينه غير المتطابقة كلياً مع العنوان الرئيس (الإشارة إلى أدب الإمارة)، حيث غلبت على الكتاب مسحة أخلاقية واجتماعية وتربوية، وما إلى ذلك مثل: باب الكلام في الصمت، باب في الحلم والصبر، باب في العجلة والتواني، باب في آداب النظر والتفهّم، و باب في الحض على القراءة...إلخ.
***
ومن اللافت أن هذا النمط من الكتابات السالفة، راج في مراحل اتّسمت بالفوضى أو عصفت فيها أزمات سياسة حادة، كتلك التي انبثق عنها كتاب ولاية العهد في أواخر الحكم الأموي، أو تلك التي نجمت عن غزوة بني سليم وبني هلال للمغرب، وكانت على قدر من التوحش ما اعتبره ابن خلدون تدميراً للحضارة. ومن اللافت أيضاً، أن الخلافة العباسية التي مهّدت لثورتها دعوة غامضة، خيّبت ظن المراهنين على سلطة عادلة، فإذا بها نمط جديد من الاستبداد لم يكن مألوفاً حينذاك، وما لبث أن صبغ سياسات الدولة بالدماء منذ نشأتها الأولى، بدءاً بالوزير الأول (أبو سلمة الخلال)، إلى صانع انتصارها (أبو مسلم الخراساني)، إلى قائدها الكبير بطل معركة الزاب الحاسمة (عبدالله بن علي العباسي)، من دون التوقف عن ملاحقة الشخصيات الفكرية وسوقها على الشبهة إلى مصيرها المحتوم (ابن المقفع مثالاً). لقد شهد الأخير تلك المشاهد، واستفزته المبالغة في إهراق الدماء، وهو المتخم بحسّ إنساني رهيف، والحالم بنظام أركانه «الحكمة والعفّة والعقل والعدل»، وقد صاغها أفكاراً لا تخلو من نصائح مخففة لرأس السلطة، والنظام عادة يخشى المثقفين من رعيّته، ولا يحتاج إلى ذرائع لسوقهم إلى القتل أو زجهم في السجون.
ليس ثمة شك في أن ابن المقفع كان رائداً في الأدب السياسي العباسي، عدا إبداعه البلاغي في كتابيه الشهيرين: الأدب الكبير والأدب الصغير، وفي ترجمته، إن كانت حقاً ترجمة، لـ «كليلة ودمنة». فقد بدا في أسلوبه واستعاراته ومفرداته، متفوقاً على الأصل، وربما أغنى الأخير وضخه بأفكار فيها من العمق، كما فيها من الجمال ومن تدفق الخيال. ولعل ابن المقفع شق الطريق أمام كثيرين تصدّوا لإشكالية السلطة في العهود العباسية، سواء إبان وحدة الخلافة، أو تفرّعها، أو تقسيمها إلى دويلات، مما كان ينبثق عن حاجة إلى الخوض في هذا الموضوع، لاسيما في مراحل التشرذم والانقسام. أما في عهد القوة، حين كان الطابع المدني غالباً على «الدولة»، فثمة نص مسهب يعود إلى عهد الخليفة المأمون، وكاتبه من أصل فارسي أيضاً، هو طاهر بن الحسين. فليس ما يفاجئ أن يهتم الفرس بموضوعة (السلطة والسلاطين)، لاسيما أنهم ينتمون إلى دولة عريقة، تعاقبتْ عليها ثلاث أسر حاكمة قبل الإسلام، ما أكسبهم ثقافة واسعة في هذا المجال عبّروا من خلالها عن قضايا تندرج خاصة بهم، أو تندرج في علاقتهم بالإسلام، أو السلطة العليا التي كان لبعضهم دور بارز فيها.
***
كان طاهر بن الحسين (ت 207 هـ/822 م) من أبرز أعوان الخليفة المأمون وقادته، وقد اختاره على رأس الحملة من خراسان إلى بغداد، بعد استشراء الصراع بين الأخوين ابني الرشيد على خلافته، فهزم جيش الأمين، وأخذ البيعة للمأمون الذي كافأه بتعيينه والياً على خراسان، مؤسساً حينذاك أول دويلة شبه مستقلة في مشرق الخلافة العباسية، وعندما قوي شأنه أعلنها سلطة خاصة بأسرته، يتوارثها أبناؤها من بعده. وقد وجّه في هذا السياق كتاباً مطولاً إلى ابنه عبدالله، أشبه بوصية في موضوع السلطة وشروطها ومقتضياتها وكل شؤونها، بما يتماهى مع صورتها في الإسلام.
هذا «الكتاب»، ككل الكتب في مجاله، ينطلق من نظرة دينية، باتت تقليداً منذ أن سار عليه الإمام علي في «نهجه»، واقتبسه بعده بعض مَن خاضوا في هذه المسألة، هذا عدا محاولات أخرى مستلة أيضاً من «النهج»، ما يرجح أن طاهراً سبر جيداً الأخير وتأثر به، وأحياناً ببعض مفرداته. هذه النظرة تتجلى في مطلع «الكتاب»، وقد جاء فيه: «أما بعد فعليك بتقوى الله، واحفظ رعيّتك في الليل والنهار، والبس ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه».
إن مثل هذا الكلام يعبّر عن عمق التزام صاحبه بالعقيدة، واكتناه تفاصيلها، ما يتجلى أيضاً في الحرص على إقامة الفروض والواجبات (المواظبة على ما فرض الله عز وجل من الصلوات الخمس، والأخذ بسنن رسول الله ... واقتفاء أثر السلف الصالح وإيثار الفقه وأهله والدين وحمَلته، وكتاب الله - عز وجل - والعاملين به، فإن أفضل ما يتزيّن به المرء الفقه في الدين).
وعندما يستهل طاهر بن الحسين وصيته بتقوى الله، فهذا يعني أنه محصّن بالإسلام الرسالي، ملتزم بتعاليمه، ويريد لابنه ووريثه أن يسير على نهجه. هذا في المعنى الديني، وفي المعنى الخاص بالنظام، وكلاهما متداخل مع الآخر، فلم يحد عن الخط القيمي لحركة السلطة، وقد استلّ من تراثها المفردات الأساسية، مضيفاً إليها لمعة بلاغية غير متداولة كثيراً في نصّه. ويتابع في هذا السياق - والكلام موجَّه دائماً
لعبدالله - «وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله
- عز وجل - وتقواه، وبلزوم ما أنزل الله -
عز وجل - في كتابه من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله ، ثم قم فيه بالحق لله - عز وجل - ولا تميلنّ عن العدل في ما أحببت أو كرهت، لقريب من الناس أو لبعيد».
لقد عرفنا في ما سلف، أن طاهراً كان قريباً من المأمون وأثيراً لديه، ومن البديهي في هذه الحالة أن يتأثر بشخصيته، قيادة فذة، وخلقاً وثقافة، ونزعة إلى العدل، وهي صفات حاكم مقتدر وقيادي موهوب، فلا ينثني عن النظر في شؤون الرعيّة وتأمين حوائجها، والحرص على النفقة بعلوم الدين والاهتداء بها. هذا الكتاب - الوصية الذي أدرجه ابن خلدون في «مقدمته»، أكثر ما يلفت فيه، تلك النبرة الدينية العالية، حيث تتكرر مفردات التقوى والدين، والفقه والحلال والحرام والدنيا والآخرة، وهي توحي، وغيرها، بأن هذا الرجل كان على تقى وورع، وإيمان نقي يصطفق في قلبه، ما جعله موضع ثقة خليفة متميز مثل المأمون.
من الواضح أن هذا النص يميل إلى التقليد، شأن نصوص مماثلة صدرت بهذا النفَس أو بهذه الرتابة، ولكن يبقى السؤال المهم، وهو: أين هذا النص، مضموناً، من فكر المأمون المعتزلي، ولاسيما في التوكيد على دور العقل، مصدراً آخر للمعرفة في مسائل العقيدة، إلى جانب القرآن الكريم والسنة في المفهوم الاعتزالي؟ ومن الراجح أن حاكم خراسان لم يكن على مذهب سيده، وربما خالفه في ذلك، خصوصاً أن نصّه المسهب لم ترد فيه سوى مرة واحدة، وبصورة عرضية، مفردة العقل، مع العلم بأن «الكتاب» شاع خبره، واطلع عليه الناس، ولم يكن خافياً على الخليفة المثقف ومؤسس «بيت الحكمة»، تلك المكتبة أو الجامعة الرائدة في الإسلام، التي أطلّت على ثقافات العالم المتقدم في زمانها واكتنهت تراثه. ومن البديهي أن يكون طاهر بن الحسين في صميم هذه الحركة النهضوية، وأن يتأثر بالمناخ العلمي الذي أشاعته في عاصمة الخلافة وغيرها من الحواضر المشتهرة في ذلك الزمن. وسواء كان حاكم خراسان محرّر النص، أو قام بالمهمة أحد كتابه، فإن هذه المعطيات، إضافة إلى التوقيت، لم تغب عن ذهن شخصية طموحة مثل طاهر بن الحسين الذي استحق مكافأة سخية على جهوده في استعادة الخلافة للمأمون.
ومن المؤكد أن طاهراً حمل معه تجربة غنية إلى خراسان، ما انفكت تتراكم في وعيه بعناصرها الجامعة للدين والسياسة والإدارة، من دون إغفال المعرفة المعمّقة بكتاب الله وسنن الرسول ، وعدم التقصير في «طلب الآخرة... والاستكثار من البرّ....». وحتى الآن فإن ما سلف من وصايا في «الكتاب»، مقتبس في معظمه، بتصرّف ما عن «نهج البلاغة»، ولاسيما الأمر بتقوى الله وطاعته (استبدل بالأخيرة وخشيته)، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه. والدعوة إلى حسن الظن بالرعية، فلا يتّهم أحداً قبل كشف أمره. يقابل ذلك في «النهج» (عهد الأشتر): «أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم».
لا نعني هنا أن كتاب طاهر، منسوخ أو ما يشبه ذلك عن «النهج»، ولكن من الواضح أن في الأول اقتباسات كثيرة عن الثاني، كقوله: «أكثر من مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الرّفة والبخل، ولا تسمعن لهم قولاً، فإن ضررهم أكثر من نفعهم». يقابل ما سلف في النهج: أكثر من مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك...»، إلى أن يصبح الاقتباس أقرب إلى النقل، أو مشابهاً لما في «النهج»: «لا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل... ولا حريصاً يزيّن لكل الشّره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص، غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله».
إن ثمة مطابقات كثيرة في المضمون التوجيهي والإصلاحي وأدبيات في هذا الاتجاه، مثل: كتاب الوليد بن يزيد المرواني لابنيه (الحَكم وعثمان)، وكتاب الإمام علي إلى الأشتر، الذي غالباً ما اتكأ عليه الكتاب الأول، إلى تماثلات مع أدبيات ينتمي بعضها إلى قرون لاحقة.
لقد أقام طاهر بن الحسين «دويلته» في خراسان - كما سبقت الإشارة - وهي تندرج في ما يسمى بـ«البلاد المفتوحة» التي عانت مشكلات عدة في بعض العهود السالفة، قبل أن تتحوّل إلى بؤر معارضة، شكّلت خطراً على أمن الخلافة. ومن بين هذه المشكلات، تلك الناجمة عن «الخراج»، إذ كان يجبى أحياناً - خلافاً
للقاعدة - ممن اعتنقوا الإسلام، من دون الاهتمام بحاجاتهم وعمارة بلدانهم، كل ما هو ضروري في حياتهم. وفي هذا السياق يقول طاهر، مخاطباً ابنه: «دع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدّخر وتكنز البرّ والتقوى واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم». هذه الوصايا، متماثلة أو تكاد، مع تلك الدرجة بمستوى عالٍ في عهد الأشتر، ومنها بصورة خاصة: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا يتمادى في الزلّة، ولا تشرف نفسه على طمع، وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج».
ولا نتوخى هنا إجراء مقارنة بين «الكتاب» و«العهد»، وذلك لاختلاف المقصد أولاً، وتفاوت المدى التنظيري والنبرة البلاغية بينهما ثانياً. ونظراً لأسبقية «النهج» ومرجعيته في الفكر السياسي الإسلامي، فمن البديهي أن يقتبس الأول عن الثاني ما يتعدى المضمون إلى المفردات والمصطلحات، ولطالما أخذ المتأخرون عن المتقدمين. وفي هذه الحالة، تصبح المقارنة جائزة، بل مطابقة، بين هذا «الكتاب»، وآخر في الغرض عينه، ذلك المنسوب للخليفة الوليد بن يزيد، فكلاهما عبارة عن وصية، من أب حاكم إلى ابن يهيّئه لوراثته، مع الفارق والتأكيد على الالتزام بالعهد، بما يوائم طبيعة النظام الأموي، بينما «كتاب» ابن الحسين يعبّر عن تجربة جديدة خاضها قائد جسور، وبفضله استعاد المأمون ملكه، فعيَّنه، على سبيل المكافأة، والياً على أهم أقاليم الخلافة في ذلك الحين. ولأنه من أصول فارسية، وخراسان هي قطب في ذلك العالم الفارسي، فقد راوده شعور بالاستقلال أو بشيء منه، من دون أن يعني ذلك أنه تمرّد على السلطة المركزية. وهنا تكمن إشكالية العلاقة بين طاهر والخليفة، في أن الأول، رغم تمتعه بشخصية قيادية طموحة لم يبدر منه ما يمس صدقية عقيدته، مسلماً صافياً، لا يشبه أولئك المتمردين من معاصريه، الترك والفرس في خراسان وأذربيجان وبلاد ما وراء النهر.
وفي المحصّلة أسَّس طاهر دويلة في أسرته، ولم يكن لها طابع فارسي، كما ظلت موالية للخلافة وتحكم باسمها وتدين بعقيدتها الإسلامية، مما لا يخفى في الكتاب، ابتداء من المقدمة المستهلَّة بـ«البسملة»، إلى الإكثار من الدعوة، إلى التمسك «بـتقوى الله الذي لا شريك له»، ما انفك متخماً بهذا النفس الإيماني من أول كلمة فيه، حتى آخر عبارة تحث على اقتفاء سنن الرسول ، وقبل ذلك استلهام مبادئ القرآن الكريم، مفصِّلاً بعد ذلك في أمور «الدولة» وشؤون الرعية واحترام حقوقها، والعدل يبقى المعيار ونقطة الارتكاز.
من المؤكد أن محرر الكتاب المنسوب إلى طاهر بن الحسين، كان فقيهاً عالماً ومتمرّساً، فجاء توصيفه شاملاً للسلطة المنبثقة عن مبادئ الإسلام وقيمه، وليس في ما سلف تشكيك بقدرة طاهر على صوغ مثل هذا «الكتاب»، فالملوك والأمراء وأشباههم، لديهم عادة كتَّابهم ولا يتكلّفون - إلا قليلاً - مشقّة هذا الجهد، وطاهر الذي تأثر بالمناخ العلمي للمرحلة، ورافق أبرز خلفاء بني العباس، ثقافة ومعرفة وحكمة، أتقن، إضافة إلى ذلك، اللغة العربية التي «كان يضرب بسهم وافر (فيها) وفي ثقافتها»، بناء على قولة المستشرق بارتولد: «لا تخونه قدراته لصوغ مثل هذا الكتاب الرصين».
وفي الواقع أننا لا تواجهنا إشكالية في هذا السياق، فما يعنينا ما ينطوي عليه «الكتاب» من قراءة في مجاله وموضوعه معاً، فهو لم يترك شاردة تغيب عنه في أطروحة الفكر السياسي، ما يمكن اعتباره برنامجاً يتّسم بالشمول والتكامل والشفافية. هذا، وقد اختلف المؤرخون في شأن علاقة طاهر وخلفائه بالعباسيين، فبينما يشير بارتولد إلى خروجه على المأمون، كان للمؤرخ الفرنسي سورديل رأي آخر، فهو يشارك الأول في وصف «الطاهريين» بالسلالة، ولكنه لا يدرجهم سلطة أو دولة خاصة بهم، إذ تمتعوا - حسب قوله - «بشبه استقلال في مناطقهم مع بقائهم أوفياء للخلافة العباسية». هذه السلالة التي توالى على الحكم فيها خمسة من أبنائها، واتخذت من نيسابور حاضرة لها، لم تعش، رغم ذلك، ما يتعدى، إلا قليلاً، نصف قرن. وقد سارت كما يبدو، على النهج الذي خطّه مؤسسها في «كتابه»، كما شُهر حكامها بتأمين راحة رعاياهم، وبالدفاع عن الثقافة العربية، وجهدوا في التصدي للثورات التي قادها الصفّاريون في إقليم سجستان، وفاقاً لقول سورديل. وفي المحصّلة أنهكها الصراع مع سلالة منافسة، ما اضطرها إلى الانكفاء، فالسقوط بعد جهود مستميتة.
وقبل طي صفحات «الكتاب» الذي ورد مفصَّلاً لدى ابن خلدون، قد يكون من المناسب ترك الخاتمة للأخير، وقد جاء في تقويمه له: حدّث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره، أُعجب به الناس، واتصل بالمأمون، فلما قُرئ عليه، قال: «ما أبقى أبو الطيب، (يعني طاهراً)، شيئاً من أمور الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة، إلا وقد أحكمه وأوصى به، ثم أمر المأمون، فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به، ويعملوا بما فيه» .