وثائق العصر العباسي الذهبي كتاب طاهر بن الحسين إلى ابنه عبدالله

وثائق العصر العباسي الذهبي كتاب طاهر بن الحسين إلى ابنه عبدالله

السلطة‭ ‬معضلة‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬ولم‭ ‬ينج‭ ‬الإسلام‭ ‬الديني‭ ‬من‭ ‬تشوّهات،‭ ‬إلى‭ ‬انحرافات‭ ‬عن‭ ‬خطّه‭ ‬الجذري‭ ‬القيمي‭... ‬والقائل‭ - ‬الفقيه‭ ‬حينئذ‭ ‬مصدر‭ ‬التشريع،‭ ‬والمشاهد‭ ‬كلها‭ ‬مفرطة‭ ‬الإثارة،‭ ‬أين‭ ‬منها‭ ‬مسارح‭ ‬الدم‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬السحيقة‭ ‬مما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬بمئات‭ ‬السنين؟

حدث‭ ‬ذلك،‭ ‬والقاتلون‭ ‬‮«‬الخلفاء‮»‬‭ ‬والأمراء‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬الجديد،‭ ‬يدركون‭ ‬تماماً‭ ‬فداحة‭ ‬الانحراف‭ ‬عن‭ ‬خط‭ ‬الإسلام‭ ‬الحنيف،‭ ‬فهم‭ ‬فقهاء‭ ‬السياسة‭ ‬والمال،‭ ‬وقد‭ ‬نصبوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬مرجعياته،‭ ‬وعنهم‭ ‬تصدر‭ ‬الفتاوى‭ ‬والقرارات‭ ‬الملزمة،‭ ‬وحدود‭ ‬الحلال‭ ‬والحرام،‭ ‬بينما‭ ‬الإسلام‭ - ‬العقيدة‭ ‬في‭ ‬نأي‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬وهو‭ ‬المستهدف‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬لإفراغه‭ ‬من‭ ‬قيمه‭ ‬السامية،‭ ‬وتعاليمه‭ ‬السمحة،‭ ‬وتراثه‭ ‬الفكري‭ ‬المجيد،‭ ‬إنها‭ ‬تراكمات‭ ‬الأزمنة‭ ‬والسلطة‭ ‬على‭ ‬مداها‭ ‬لا‭ ‬تنفك‭ ‬محور‭ ‬الصراع،‭ ‬حيث‭ ‬التبس‭ ‬النصر‭ ‬مع‭ ‬الهزيمة،‭ ‬وتهاوت‭ ‬مبكراً‭ ‬الخلافة،‭ ‬و«الفتنة‮»‬،‭ ‬المصطلح‭ ‬المعبّر‭ ‬عن‭ ‬التصدّع،‭ ‬لما‭ ‬تزل‭ ‬مشبوبة،‭ ‬فإن‭ ‬خفتت‭ ‬نارها‭ ‬فلا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تشتعل‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

وعندما‭ ‬أخفقت‭ ‬المحاولات‭ ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬الخلافة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬وسع‭ ‬رابع‭ ‬الخلفاء‭ ‬الراشدين‭ ‬وآخرهم،‭ ‬سوى‭ ‬التنظير‭ ‬لصورتها‭ ‬الراسخة‭ ‬في‭ ‬وعيه،‭ ‬بعدما‭ ‬أعجزه‭ ‬تطبيقها‭ ‬على‭ ‬الأرض‭. ‬فكان‭ ‬‮«‬نهج‭ ‬البلاغة‮»‬‭ ‬قمة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬السياسي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬رسمه‭ ‬خارطة‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬بكل‭ ‬أبعادها‭ ‬الإدارية‭ ‬والمالية‭ ‬والحربية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬والاجتماعية‭... ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬يتجسّد‭ ‬أنموذجاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬عهد‭ ‬الأشتر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬وصفه‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده،‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬أجمع‭ ‬كتبه‭ ‬للمحاسن‮»‬‭.‬

 

أحب‭ ‬الذخائر

هذا‭ ‬‮«‬العهد‮»‬،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬وصايا‭ ‬لأحد‭ ‬المقرّبين‭ ‬إلى‭ ‬الإمام‭ ‬علي،‭ ‬‮«‬مالك‭ ‬بن‭ ‬الحارث‭ ‬النخعي‮»‬،‭ ‬ومما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مطلعه‭: ‬‮«‬فليكن‭ ‬أحب‭ ‬الذخائر‭ ‬إليك‭ ‬ذخيرة‭ ‬العمل‭ ‬الصالح،‭ ‬فاملك‭ ‬هواك‭ ‬وشحّ‭ ‬بنفسك‭ ‬عما‭ ‬لا‭ ‬يحل‭ ‬لك،‭ ‬وأشعر‭ ‬قلبك‭ ‬الرحمة‭ ‬للرعية‭ ‬والمحبة‭ ‬لهم‭ ‬واللطف‭ ‬بهم‮»‬‭. ‬أما‭ ‬القاعدة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬يرتكز‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬العهد‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬ثنائية‭ ‬العدل‭ ‬والظلم‭ ‬والحق‭ ‬والباطل‭ ‬والخير‭ ‬والشر،‭ ‬ولكن‭ ‬الأولى‭ ‬منها‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يشدد‭ ‬عليها‭ ‬العهد،‭ ‬المطابق‭ ‬هنا‭ ‬للميثاق،‭ ‬في‭ ‬تأسيسه‭ ‬لسلطته‭ ‬قوامها‭ ‬العدل،‭ ‬ولن‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بتعميق‭ ‬الولاء‭ ‬العقدي‭ ‬للمجتمع،‭ ‬بما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تجذير‭ ‬القيم‭ ‬فيه،‭ ‬وفي‭ ‬مبدئها‭ ‬كسر‭ ‬سطوة‭ ‬الظلم‭ ‬ورد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لمن‭ ‬عانى‭ ‬التهميش‭ ‬واستلاب‭ ‬الدور‭ ‬من‭ ‬الرعية‭.‬

وليس‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬متسع‭ ‬لشرح‭ ‬واف‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬عرض‭ ‬لها‭ ‬‮«‬العهد‮»‬،‭ ‬فهو‭ ‬أطروحة‭ ‬شاملة‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬ورؤيتها‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭. ‬وبعد‭ ‬التحوّل‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬الوراثي،‭ ‬لم‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬الخلفاء‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حولهم،‭ ‬وثائق‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬عمر‭ ‬
بن‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬تجربته‭ ‬الإصلاحية‭ ‬القصيرة،‭ ‬ولعل‭ ‬النص‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬هو‭ ‬المنسوب‭ ‬إلى‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬يزيد‭ (‬المرواني‭) ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الطبري،‭ ‬بشأن‭ ‬البيعة‭ ‬لولديه‭ (‬الحَكم‭ ‬وعثمان‭) ‬بولاية‭ ‬العهد،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬مفرد‭ ‬في‭ ‬موضوعه‭ ‬خلال‭ ‬العهد‭ ‬الأموي‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬مصادفة‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬سنيه،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬يائسة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الخلافة‭ ‬المشرفة‭ ‬على‭ ‬الانهيار‭. ‬وفي‭ ‬أوائل‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬وانفتاح‭ ‬الحكم‭ ‬الجديد‭ ‬على‭ ‬الفرس،‭ ‬مستفيداً‭ ‬من‭ ‬خبراتهم،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬الإدارة،‭ ‬ظهرت‭ ‬كتابات‭ ‬جريئة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬طليعتها‭: ‬‮«‬رسالة‭ ‬الصحابة‮»‬‭ ‬لعبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع،‭ ‬ذلك‭ ‬المثقف‭ ‬الطموح،‭ ‬والمتضلع‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬آخذاً‭ ‬أسرارها‭ ‬البلاغية‭ ‬والبيانية‭ ‬من‭ ‬أساتذتها‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬البصرة‭.‬

ارتبط‭ ‬اسم‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬بالكتاب‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬نُسبت‭ ‬إليه‭ ‬ترجمته‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬الترجمة‭ ‬الفارسية،‭ ‬المترجمة‭ ‬بدورها‭ ‬عن‭ ‬الهندية‭. ‬وقد‭ ‬شاع‭ ‬ذلك‭ ‬عبر‭ ‬القرون،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬صحته‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التسليم‭ ‬به‭. ‬فهو‭ ‬شبيه‭ ‬بـ«رسالة‭ ‬الصحابة‮»‬‭ ‬الموجهة‭ ‬إلى‭ ‬الخليفة‭ ‬المنصور،‭ ‬ولكنه‭ ‬يمتاز‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬المنحى‭ ‬الرمزي‭ ‬المفعم‭ ‬بأفكار‭ ‬إصلاحية‭ ‬موجهة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬ملك‮»‬‭ ‬مستبد‭. ‬وإذ‭ ‬استظل‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬بالخرافة‭ ‬منهجاً،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬ارتكز‭ ‬إلى‭ ‬حوارات‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬الحيوانات،‭ ‬فمن‭ ‬الجائز‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬الخرافة،‭ ‬بانضمام‭ ‬الفيلسوف‭ ‬‮«‬بيدبا‮»‬‭ ‬والملك‭ ‬المستبد‭ ‬‮«‬دبشليم‮»‬‭ ‬إليها،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬عينه‭ ‬يتم‭ ‬تبادل‭ ‬الأدوار،‭ ‬فقد‭ ‬يرمز‭ ‬الفيلسوف‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬والملك‭ ‬المستبد‭ ‬إلى‭ ‬المنصور‭. ‬إنها‭ ‬فرضية‭ ‬ربما‭ ‬قاربت‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬المقارنة،‭ ‬بين‭ ‬واقع‭ ‬المرحلة‭ ‬ومنهج‭ ‬الحوارية‭ ‬المؤسطرة‭.‬

 

خارج‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬محصوراً‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬فثمة‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬الرمزية‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬الهجري،‭ ‬حاملة‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الأسد‭ ‬والغواص‮»‬،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الإشارة‭ ‬في‭ ‬مخطوطات‭ ‬ثلاث‭ ‬إلى‭ ‬كاتبها،‭ ‬وكان‭ ‬واضحاً،‭ ‬تأثر‭ ‬الأخير‭ ‬بسلفه،‭ ‬متماهياً‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬أطروحات‭ ‬عدة،‭ ‬كانت‭ ‬موضوع‭ ‬جدال‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مضطربة‭ ‬من‭ ‬النفوذ‭ ‬السلجوقي‭. ‬فالأسد‭ ‬هو‭ ‬الملك‭ ‬الظالم،‭ ‬والغواص‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬الحكيم،‭ ‬المتسلّح‭ ‬بالعلم‭ ‬لإصلاح‭ ‬مسار‭ ‬الملك‭ ‬وتصويبه،‭ ‬ويلفت‭ ‬من‭ ‬أقواله‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬التشديد‭ ‬على‭ ‬الرأي‭ ‬المقترن‭ ‬بالعقل‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬المؤلف‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬المشرق،‭ ‬واكتسب‭ ‬ثقافة‭ ‬فارسية‭ ‬مكّنته‭ ‬من‭ ‬الإبحار‭ ‬في‭ ‬مروِّيات‭ ‬عن‭ ‬العهد‭ ‬الساساني،‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬أوردها‭ ‬عن‭ ‬إيفاد‭ ‬كسرى‭ ‬أبرويز،‭ ‬قائده‭ ‬شهر‭ ‬براز‭ (‬بارز‭) ‬لقتال‭ ‬الروم،‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬المصنفات‭ ‬التاريخية،‭ ‬ولا‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬دلالات‭ ‬سياسية‭ ‬ذاهبة‭ ‬في‭ ‬العمق‭.‬‭ ‬وبعيداً‭ ‬عن‭ ‬الترميز‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬السياسي،‭ ‬فثمة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المصنفات‭ ‬العربية‭ ‬المنسوبة‭ ‬إلى‭ ‬أعلام‭ ‬مشتهرين‭ ‬أمثال‭: ‬الماوردي‭ (‬الأحكام‭ ‬السلطانية،‭ ‬وقوانين‭ ‬الوزارة‭ ‬وسياسة‭ ‬الملك‭) ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬الهجري،‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أدب‭ ‬الإمارة‭ ‬للمرادي‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الخامس،‭ ‬وابن‭ ‬حمدون‭ (‬التذكرة‭ ‬الحمدونية‭) ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس،‭ ‬وليس‭ ‬أخيراً‭ ‬ابن‭ ‬حداد‭ (‬الجوهر‭ ‬النفيس‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬الرئيس‭) ‬من‭ ‬القرن‭ ‬السابع،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬أقطاب‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬بعضهم‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الماوردي،‭ ‬مستطرداً‭ ‬في‭ ‬موضوعات‭ ‬الإمامة‭ ‬والوزارة‭ ‬والملك،‭ ‬وآخر‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬الفصول‭ ‬والأبواب،‭ ‬بعناوينها‭ ‬المتنوعة،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ابن‭ ‬الحداد،‭ ‬أو‭ ‬المؤلف‭ ‬المجهول‭ ‬لكتاب‭ ‬الأسد‭ ‬والغواص،‭ ‬أو‭ ‬المرادي،‭ ‬في‭ ‬عناوينه‭ ‬غير‭ ‬المتطابقة‭ ‬كلياً‭ ‬مع‭ ‬العنوان‭ ‬الرئيس‭ (‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أدب‭ ‬الإمارة‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬غلبت‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬مسحة‭ ‬أخلاقية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وتربوية،‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬مثل‭: ‬باب‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬الصمت،‭ ‬باب‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬والصبر،‭  ‬باب‭ ‬في‭ ‬العجلة‭ ‬والتواني،‭ ‬باب‭ ‬في‭ ‬آداب‭ ‬النظر‭ ‬والتفهّم،‭ ‬و‭ ‬باب‭ ‬في‭ ‬الحض‭ ‬على‭ ‬القراءة‭...‬إلخ‭.‬

‭***‬

ومن‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬السالفة،‭ ‬راج‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬اتّسمت‭ ‬بالفوضى‭ ‬أو‭ ‬عصفت‭ ‬فيها‭ ‬أزمات‭ ‬سياسة‭ ‬حادة،‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬انبثق‭ ‬عنها‭ ‬كتاب‭ ‬ولاية‭ ‬العهد‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الحكم‭ ‬الأموي،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬نجمت‭ ‬عن‭ ‬غزوة‭ ‬بني‭ ‬سليم‭ ‬وبني‭ ‬هلال‭ ‬للمغرب،‭ ‬وكانت‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬التوحش‭ ‬ما‭ ‬اعتبره‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬تدميراً‭ ‬للحضارة‭. ‬ومن‭ ‬اللافت‭ ‬أيضاً،‭ ‬أن‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬التي‭ ‬مهّدت‭ ‬لثورتها‭ ‬دعوة‭ ‬غامضة،‭ ‬خيّبت‭ ‬ظن‭ ‬المراهنين‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬عادلة،‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬نمط‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬الاستبداد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مألوفاً‭ ‬حينذاك،‭ ‬وما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬صبغ‭ ‬سياسات‭ ‬الدولة‭ ‬بالدماء‭ ‬منذ‭ ‬نشأتها‭ ‬الأولى،‭ ‬بدءاً‭ ‬بالوزير‭ ‬الأول‭ ‬‭(‬أبو‭ ‬سلمة‭ ‬الخلال‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬صانع‭ ‬انتصارها‭ (‬أبو‭ ‬مسلم‭ ‬الخراساني‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬قائدها‭ ‬الكبير‭ ‬بطل‭ ‬معركة‭ ‬الزاب‭ ‬الحاسمة‭ (‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬العباسي‭)‬،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التوقف‭ ‬عن‭ ‬ملاحقة‭ ‬الشخصيات‭ ‬الفكرية‭ ‬وسوقها‭ ‬على‭ ‬الشبهة‭ ‬إلى‭ ‬مصيرها‭ ‬المحتوم‭ (‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬مثالاً‭). ‬لقد‭ ‬شهد‭ ‬الأخير‭ ‬تلك‭ ‬المشاهد،‭ ‬واستفزته‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬إهراق‭ ‬الدماء،‭ ‬وهو‭ ‬المتخم‭ ‬بحسّ‭ ‬إنساني‭ ‬رهيف،‭ ‬والحالم‭ ‬بنظام‭ ‬أركانه‭ ‬‮«‬الحكمة‭ ‬والعفّة‭ ‬والعقل‭ ‬والعدل‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬صاغها‭ ‬أفكاراً‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬نصائح‭ ‬مخففة‭ ‬لرأس‭ ‬السلطة،‭ ‬والنظام‭ ‬عادة‭ ‬يخشى‭ ‬المثقفين‭ ‬من‭ ‬رعيّته،‭ ‬ولا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ذرائع‭ ‬لسوقهم‭ ‬إلى‭ ‬القتل‭ ‬أو‭ ‬زجهم‭ ‬في‭ ‬السجون‭.‬

ليس‭ ‬ثمة‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬كان‭ ‬رائداً‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬السياسي‭ ‬العباسي،‭ ‬عدا‭ ‬إبداعه‭ ‬البلاغي‭ ‬في‭ ‬كتابيه‭ ‬الشهيرين‭: ‬الأدب‭ ‬الكبير‭ ‬والأدب‭ ‬الصغير،‭ ‬وفي‭ ‬ترجمته،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬حقاً‭ ‬ترجمة،‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭. ‬فقد‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬أسلوبه‭ ‬واستعاراته‭ ‬ومفرداته،‭ ‬متفوقاً‭ ‬على‭ ‬الأصل،‭ ‬وربما‭ ‬أغنى‭ ‬الأخير‭ ‬وضخه‭ ‬بأفكار‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬العمق،‭ ‬كما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬ومن‭ ‬تدفق‭ ‬الخيال‭. ‬ولعل‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬شق‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬كثيرين‭ ‬تصدّوا‭ ‬لإشكالية‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬العهود‭ ‬العباسية،‭ ‬سواء‭ ‬إبان‭ ‬وحدة‭ ‬الخلافة،‭ ‬أو‭ ‬تفرّعها،‭ ‬أو‭ ‬تقسيمها‭ ‬إلى‭ ‬دويلات،‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬ينبثق‭ ‬عن‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬التشرذم‭ ‬والانقسام‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬القوة،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الطابع‭ ‬المدني‭ ‬غالباً‭ ‬على‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬،‭ ‬فثمة‭ ‬نص‭ ‬مسهب‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون،‭ ‬وكاتبه‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬فارسي‭ ‬أيضاً،‭ ‬هو‭ ‬طاهر‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭. ‬فليس‭ ‬ما‭ ‬يفاجئ‭ ‬أن‭ ‬يهتم‭ ‬الفرس‭ ‬بموضوعة‭ (‬السلطة‭ ‬والسلاطين‭)‬،‭ ‬لاسيما‭ ‬أنهم‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬عريقة،‭ ‬تعاقبتْ‭ ‬عليها‭ ‬ثلاث‭ ‬أسر‭ ‬حاكمة‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬ما‭ ‬أكسبهم‭ ‬ثقافة‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬عبّروا‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬تندرج‭ ‬خاصة‭ ‬بهم،‭ ‬أو‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬علاقتهم‭ ‬بالإسلام،‭ ‬أو‭ ‬السلطة‭ ‬العليا‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لبعضهم‭ ‬دور‭ ‬بارز‭ ‬فيها‭.‬

‭***‬

كان‭ ‬طاهر‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ (‬ت‭ ‬207‭ ‬هـ‭/‬822‭ ‬م‭) ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬أعوان‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬وقادته،‭ ‬وقد‭ ‬اختاره‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الحملة‭ ‬من‭ ‬خراسان‭ ‬إلى‭ ‬بغداد،‭ ‬بعد‭ ‬استشراء‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الأخوين‭ ‬ابني‭ ‬الرشيد‭ ‬على‭ ‬خلافته،‭ ‬فهزم‭ ‬جيش‭ ‬الأمين،‭ ‬وأخذ‭ ‬البيعة‭ ‬للمأمون‭ ‬الذي‭ ‬كافأه‭ ‬بتعيينه‭ ‬والياً‭ ‬على‭ ‬خراسان،‭ ‬مؤسساً‭ ‬حينذاك‭ ‬أول‭ ‬دويلة‭ ‬شبه‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬مشرق‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية،‭ ‬وعندما‭ ‬قوي‭ ‬شأنه‭ ‬أعلنها‭ ‬سلطة‭ ‬خاصة‭ ‬بأسرته،‭ ‬يتوارثها‭ ‬أبناؤها‭ ‬من‭ ‬بعده‭. ‬وقد‭ ‬وجّه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬كتاباً‭ ‬مطولاً‭ ‬إلى‭ ‬ابنه‭ ‬عبدالله،‭ ‬أشبه‭ ‬بوصية‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬السلطة‭ ‬وشروطها‭ ‬ومقتضياتها‭ ‬وكل‭ ‬شؤونها،‭ ‬بما‭ ‬يتماهى‭ ‬مع‭ ‬صورتها‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭.‬

هذا‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬،‭ ‬ككل‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬مجاله،‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬دينية،‭ ‬باتت‭ ‬تقليداً‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬سار‭ ‬عليه‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬‮«‬نهجه‮»‬،‭ ‬واقتبسه‭ ‬بعده‭ ‬بعض‭ ‬مَن‭ ‬خاضوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسألة،‭ ‬هذا‭ ‬عدا‭ ‬محاولات‭ ‬أخرى‭ ‬مستلة‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يرجح‭ ‬أن‭ ‬طاهراً‭ ‬سبر‭ ‬جيداً‭ ‬الأخير‭ ‬وتأثر‭ ‬به،‭ ‬وأحياناً‭ ‬ببعض‭ ‬مفرداته‭. ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬فيه‭: ‬‮«‬أما‭ ‬بعد‭ ‬فعليك‭ ‬بتقوى‭ ‬الله،‭ ‬واحفظ‭ ‬رعيّتك‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬والنهار،‭ ‬والبس‭ ‬ما‭ ‬ألبسك‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬العافية‭ ‬بالذكر‭ ‬لمعادك‭ ‬وما‭ ‬أنت‭ ‬صائر‭ ‬إليه‮»‬‭.‬

إن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬عمق‭ ‬التزام‭ ‬صاحبه‭ ‬بالعقيدة،‭ ‬واكتناه‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬ما‭ ‬يتجلى‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬الفروض‭ ‬والواجبات‭ (‬المواظبة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فرض‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬من‭ ‬الصلوات‭ ‬الخمس،‭ ‬والأخذ‭ ‬بسنن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬‭ ‬‭... ‬واقتفاء‭ ‬أثر‭ ‬السلف‭ ‬الصالح‭ ‬وإيثار‭ ‬الفقه‭ ‬وأهله‭ ‬والدين‭ ‬وحمَلته،‭ ‬وكتاب‭ ‬الله‭ - ‬عز‭ ‬وجل‭ - ‬والعاملين‭ ‬به،‭ ‬فإن‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬يتزيّن‭ ‬به‭ ‬المرء‭ ‬الفقه‭ ‬في‭ ‬الدين‭).‬

وعندما‭ ‬يستهل‭ ‬طاهر‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ ‬وصيته‭ ‬بتقوى‭ ‬الله،‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬محصّن‭ ‬بالإسلام‭ ‬الرسالي،‭ ‬ملتزم‭ ‬بتعاليمه،‭ ‬ويريد‭ ‬لابنه‭ ‬ووريثه‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬نهجه‭. ‬هذا‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬الديني،‭ ‬وفي‭ ‬المعنى‭ ‬الخاص‭ ‬بالنظام،‭ ‬وكلاهما‭ ‬متداخل‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬فلم‭ ‬يحد‭ ‬عن‭ ‬الخط‭ ‬القيمي‭ ‬لحركة‭ ‬السلطة،‭ ‬وقد‭ ‬استلّ‭ ‬من‭ ‬تراثها‭ ‬المفردات‭ ‬الأساسية،‭ ‬مضيفاً‭ ‬إليها‭ ‬لمعة‭ ‬بلاغية‭ ‬غير‭ ‬متداولة‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬نصّه‭. ‬ويتابع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ - ‬والكلام‭ ‬موجَّه‭ ‬دائماً‭ ‬
لعبدالله‭ - ‬‮«‬وإذا‭ ‬ورد‭ ‬عليك‭ ‬أمر‭ ‬فاستعن‭ ‬عليه‭ ‬باستخارة‭ ‬الله
‭ - ‬عز‭ ‬وجل‭ - ‬وتقواه،‭ ‬وبلزوم‭ ‬ما‭ ‬أنزل‭ ‬الله‭ - ‬
عز‭ ‬وجل‭ - ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬من‭ ‬أمره‭ ‬ونهيه،‭ ‬وحلاله‭ ‬وحرامه،‭ ‬وائتمام‭ ‬ما‭ ‬جاءت‭ ‬به‭ ‬الآثار‭ ‬عن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬،‭ ‬ثم‭ ‬قم‭ ‬فيه‭ ‬بالحق‭ ‬لله‭ - ‬عز‭ ‬وجل‭ - ‬ولا‭ ‬تميلنّ‭ ‬عن‭ ‬العدل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أحببت‭ ‬أو‭ ‬كرهت،‭ ‬لقريب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أو‭ ‬لبعيد‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬عرفنا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سلف،‭ ‬أن‭ ‬طاهراً‭ ‬كان‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬المأمون‭ ‬وأثيراً‭ ‬لديه،‭ ‬ومن‭ ‬البديهي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬أن‭ ‬يتأثر‭ ‬بشخصيته،‭ ‬قيادة‭ ‬فذة،‭ ‬وخلقاً‭ ‬وثقافة،‭ ‬ونزعة‭ ‬إلى‭ ‬العدل،‭ ‬وهي‭ ‬صفات‭ ‬حاكم‭ ‬مقتدر‭ ‬وقيادي‭ ‬موهوب،‭ ‬فلا‭ ‬ينثني‭ ‬عن‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الرعيّة‭ ‬وتأمين‭ ‬حوائجها،‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬النفقة‭ ‬بعلوم‭ ‬الدين‭ ‬والاهتداء‭ ‬بها‭. ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ - ‬الوصية‭ ‬الذي‭ ‬أدرجه‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬‮«‬مقدمته‮»‬،‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬فيه،‭ ‬تلك‭ ‬النبرة‭ ‬الدينية‭ ‬العالية،‭ ‬حيث‭ ‬تتكرر‭ ‬مفردات‭ ‬التقوى‭ ‬والدين،‭ ‬والفقه‭ ‬والحلال‭ ‬والحرام‭ ‬والدنيا‭ ‬والآخرة،‭ ‬وهي‭ ‬توحي،‭ ‬وغيرها،‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬تقى‭ ‬وورع،‭ ‬وإيمان‭ ‬نقي‭ ‬يصطفق‭ ‬في‭ ‬قلبه،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬موضع‭ ‬ثقة‭ ‬خليفة‭ ‬متميز‭ ‬مثل‭ ‬المأمون‭.‬

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬التقليد،‭ ‬شأن‭ ‬نصوص‭ ‬مماثلة‭ ‬صدرت‭ ‬بهذا‭ ‬النفَس‭ ‬أو‭ ‬بهذه‭ ‬الرتابة،‭ ‬ولكن‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬المهم،‭ ‬وهو‭: ‬أين‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬مضموناً،‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬المأمون‭ ‬المعتزلي،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬التوكيد‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬العقل،‭ ‬مصدراً‭ ‬آخر‭ ‬للمعرفة‭ ‬في‭ ‬مسائل‭ ‬العقيدة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬والسنة‭ ‬في‭ ‬المفهوم‭ ‬الاعتزالي؟‭ ‬ومن‭ ‬الراجح‭ ‬أن‭ ‬حاكم‭ ‬خراسان‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬مذهب‭ ‬سيده،‭ ‬وربما‭ ‬خالفه‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أن‭ ‬نصّه‭ ‬المسهب‭ ‬لم‭ ‬ترد‭ ‬فيه‭ ‬سوى‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬وبصورة‭ ‬عرضية،‭ ‬مفردة‭ ‬العقل،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬شاع‭ ‬خبره،‭ ‬واطلع‭ ‬عليه‭ ‬الناس،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬خافياً‭ ‬على‭ ‬الخليفة‭ ‬المثقف‭ ‬ومؤسس‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬الحكمة‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬أو‭ ‬الجامعة‭ ‬الرائدة‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬التي‭ ‬أطلّت‭ ‬على‭ ‬ثقافات‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬في‭ ‬زمانها‭ ‬واكتنهت‭ ‬تراثه‭. ‬ومن‭ ‬البديهي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬طاهر‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬النهضوية،‭ ‬وأن‭ ‬يتأثر‭ ‬بالمناخ‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬أشاعته‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬الخلافة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الحواضر‭ ‬المشتهرة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭. ‬وسواء‭ ‬كان‭ ‬حاكم‭ ‬خراسان‭ ‬محرّر‭ ‬النص،‭ ‬أو‭ ‬قام‭ ‬بالمهمة‭ ‬أحد‭ ‬كتابه،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬المعطيات،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬التوقيت،‭ ‬لم‭ ‬تغب‭ ‬عن‭ ‬ذهن‭ ‬شخصية‭ ‬طموحة‭ ‬مثل‭ ‬طاهر‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ ‬الذي‭ ‬استحق‭ ‬مكافأة‭ ‬سخية‭ ‬على‭ ‬جهوده‭ ‬في‭ ‬استعادة‭ ‬الخلافة‭ ‬للمأمون‭.‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬طاهراً‭ ‬حمل‭ ‬معه‭ ‬تجربة‭ ‬غنية‭ ‬إلى‭ ‬خراسان،‭ ‬ما‭ ‬انفكت‭ ‬تتراكم‭ ‬في‭ ‬وعيه‭ ‬بعناصرها‭ ‬الجامعة‭ ‬للدين‭ ‬والسياسة‭ ‬والإدارة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إغفال‭ ‬المعرفة‭ ‬المعمّقة‭ ‬بكتاب‭ ‬الله‭ ‬وسنن‭ ‬الرسول‭ ‬،‭ ‬وعدم‭ ‬التقصير‭ ‬في‭ ‬‮«‬طلب‭ ‬الآخرة‭... ‬والاستكثار‭ ‬من‭ ‬البرّ‭....‬‮»‬‭. ‬وحتى‭ ‬الآن‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬سلف‭ ‬من‭ ‬وصايا‭ ‬في‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬،‭ ‬مقتبس‭ ‬في‭ ‬معظمه،‭ ‬بتصرّف‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬‮«‬نهج‭ ‬البلاغة‮»‬،‭ ‬ولاسيما‭ ‬الأمر‭ ‬بتقوى‭ ‬الله‭ ‬وطاعته‭ (‬استبدل‭ ‬بالأخيرة‭ ‬وخشيته‭)‬،‭ ‬واتباع‭ ‬ما‭ ‬أمر‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬من‭ ‬فرائضه‭ ‬وسننه‭. ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬حسن‭ ‬الظن‭ ‬بالرعية،‭ ‬فلا‭ ‬يتّهم‭ ‬أحداً‭ ‬قبل‭ ‬كشف‭ ‬أمره‭. ‬يقابل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ (‬عهد‭ ‬الأشتر‭): ‬‮«‬أشعر‭ ‬قلبك‭ ‬الرحمة‭ ‬للرعية‭ ‬والمحبة‭ ‬لهم‭ ‬واللطف‭ ‬بهم‮»‬‭.‬

لا‭ ‬نعني‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬طاهر،‭ ‬منسوخ‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬اقتباسات‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬الثاني،‭ ‬كقوله‭: ‬‮«‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مشاورة‭ ‬الفقهاء‭ ‬واستعمل‭ ‬نفسك‭ ‬بالحلم‭ ‬وخذ‭ ‬عن‭ ‬أهل‭ ‬التجارب‭ ‬والحكمة،‭ ‬ولا‭ ‬تدخلن‭ ‬في‭ ‬مشورتك‭ ‬أهل‭ ‬الرّفة‭ ‬والبخل،‭ ‬ولا‭ ‬تسمعن‭ ‬لهم‭ ‬قولاً،‭ ‬فإن‭ ‬ضررهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نفعهم‮»‬‭. ‬يقابل‭ ‬ما‭ ‬سلف‭ ‬في‭ ‬النهج‭: ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مدارسة‭ ‬العلماء‭ ‬ومنافثة‭ ‬الحكماء‭ ‬في‭ ‬تثبيت‭ ‬ما‭ ‬صلح‭ ‬عليه‭ ‬أمر‭ ‬بلادك‭...‬‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الاقتباس‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬النقل،‭ ‬أو‭ ‬مشابهاً‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تدخلن‭ ‬في‭ ‬مشورتك‭ ‬بخيلاً‭ ‬يعدل‭ ‬بك‭ ‬عن‭ ‬الفضل‭... ‬ولا‭ ‬حريصاً‭ ‬يزيّن‭ ‬لكل‭ ‬الشّره‭ ‬بالجور،‭ ‬فإن‭ ‬البخل‭ ‬والجبن‭ ‬والحرص،‭ ‬غرائز‭ ‬شتى‭ ‬يجمعها‭ ‬سوء‭ ‬الظن‭ ‬بالله‮»‬‭.‬

إن‭ ‬ثمة‭ ‬مطابقات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬المضمون‭ ‬التوجيهي‭ ‬والإصلاحي‭ ‬وأدبيات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬مثل‭: ‬كتاب‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬يزيد‭ ‬المرواني‭ ‬لابنيه‭ (‬الحَكم‭ ‬وعثمان‭)‬،‭ ‬وكتاب‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬إلى‭ ‬الأشتر،‭ ‬الذي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬اتكأ‭ ‬عليه‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول،‭ ‬إلى‭ ‬تماثلات‭ ‬مع‭ ‬أدبيات‭ ‬ينتمي‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬قرون‭ ‬لاحقة‭.‬

لقد‭ ‬أقام‭ ‬طاهر‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ ‬‮«‬دويلته‮»‬‭ ‬في‭ ‬خراسان‭ - ‬كما‭ ‬سبقت‭ ‬الإشارة‭ - ‬وهي‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ«البلاد‭ ‬المفتوحة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬عانت‭ ‬مشكلات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬العهود‭ ‬السالفة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬بؤر‭ ‬معارضة،‭ ‬شكّلت‭ ‬خطراً‭ ‬على‭ ‬أمن‭ ‬الخلافة‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المشكلات،‭ ‬تلك‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الخراج‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يجبى‭ ‬أحياناً‭ - ‬خلافاً‭ ‬
للقاعدة‭ - ‬ممن‭ ‬اعتنقوا‭ ‬الإسلام،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الاهتمام‭ ‬بحاجاتهم‭ ‬وعمارة‭ ‬بلدانهم،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ضروري‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يقول‭ ‬طاهر،‭ ‬مخاطباً‭ ‬ابنه‭: ‬‮«‬دع‭ ‬عنك‭ ‬شره‭ ‬نفسك،‭ ‬ولتكن‭ ‬ذخائرك‭ ‬وكنوزك‭ ‬التي‭ ‬تدّخر‭ ‬وتكنز‭ ‬البرّ‭ ‬والتقوى‭ ‬واستصلاح‭ ‬الرعية‭ ‬وعمارة‭ ‬بلادهم،‭ ‬والتفقد‭ ‬لأمورهم‭ ‬والحفظ‭ ‬لدمائهم‭ ‬والإغاثة‭ ‬لملهوفهم‮»‬‭. ‬هذه‭ ‬الوصايا،‭ ‬متماثلة‭ ‬أو‭ ‬تكاد،‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الدرجة‭ ‬بمستوى‭ ‬عالٍ‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الأشتر،‭ ‬ومنها‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭: ‬‮«‬ثم‭ ‬اختر‭ ‬للحكم‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬أفضل‭ ‬رعيتك‭ ‬في‭ ‬نفسك،‭ ‬ممن‭ ‬لا‭ ‬يتمادى‭ ‬في‭ ‬الزلّة،‭ ‬ولا‭ ‬تشرف‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬طمع،‭ ‬وتفقد‭ ‬أمر‭ ‬الخراج‭ ‬بما‭ ‬يصلح‭ ‬أهله،‭ ‬وليكن‭ ‬نظرك‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬الأرض‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬نظرك‭ ‬في‭ ‬استجلاب‭ ‬الخراج‮»‬‭.‬

ولا‭ ‬نتوخى‭ ‬هنا‭ ‬إجراء‭ ‬مقارنة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬و«العهد‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬لاختلاف‭ ‬المقصد‭ ‬أولاً،‭ ‬وتفاوت‭ ‬المدى‭ ‬التنظيري‭ ‬والنبرة‭ ‬البلاغية‭ ‬بينهما‭ ‬ثانياً‭. ‬ونظراً‭ ‬لأسبقية‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬ومرجعيته‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فمن‭ ‬البديهي‭ ‬أن‭ ‬يقتبس‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬الثاني‭ ‬ما‭ ‬يتعدى‭ ‬المضمون‭ ‬إلى‭ ‬المفردات‭ ‬والمصطلحات،‭ ‬ولطالما‭ ‬أخذ‭ ‬المتأخرون‭ ‬عن‭ ‬المتقدمين‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬تصبح‭ ‬المقارنة‭ ‬جائزة،‭ ‬بل‭ ‬مطابقة،‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬،‭ ‬وآخر‭ ‬في‭ ‬الغرض‭ ‬عينه،‭ ‬ذلك‭ ‬المنسوب‭ ‬للخليفة‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬يزيد،‭ ‬فكلاهما‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬وصية،‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬حاكم‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬يهيّئه‭ ‬لوراثته،‭ ‬مع‭ ‬الفارق‭ ‬والتأكيد‭ ‬على‭ ‬الالتزام‭ ‬بالعهد،‭ ‬بما‭ ‬يوائم‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬الأموي،‭ ‬بينما‭ ‬‮«‬كتاب‮»‬‭ ‬ابن‭ ‬الحسين‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬جديدة‭ ‬خاضها‭ ‬قائد‭ ‬جسور،‭ ‬وبفضله‭ ‬استعاد‭ ‬المأمون‭ ‬ملكه،‭ ‬فعيَّنه،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المكافأة،‭ ‬والياً‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬أقاليم‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭. ‬ولأنه‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬فارسية،‭ ‬وخراسان‭ ‬هي‭ ‬قطب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬الفارسي،‭ ‬فقد‭ ‬راوده‭ ‬شعور‭ ‬بالاستقلال‭ ‬أو‭ ‬بشيء‭ ‬منه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬تمرّد‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية‭. ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬إشكالية‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬طاهر‭ ‬والخليفة،‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الأول،‭ ‬رغم‭ ‬تمتعه‭ ‬بشخصية‭ ‬قيادية‭ ‬طموحة‭ ‬لم‭ ‬يبدر‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬يمس‭ ‬صدقية‭ ‬عقيدته،‭ ‬مسلماً‭ ‬صافياً،‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬أولئك‭ ‬المتمردين‭ ‬من‭ ‬معاصريه،‭ ‬الترك‭ ‬والفرس‭ ‬في‭ ‬خراسان‭ ‬وأذربيجان‭ ‬وبلاد‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬النهر‭.‬

وفي‭ ‬المحصّلة‭ ‬أسَّس‭ ‬طاهر‭ ‬دويلة‭ ‬في‭ ‬أسرته،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬طابع‭ ‬فارسي،‭ ‬كما‭ ‬ظلت‭ ‬موالية‭ ‬للخلافة‭ ‬وتحكم‭ ‬باسمها‭ ‬وتدين‭ ‬بعقيدتها‭ ‬الإسلامية،‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يخفى‭ ‬في‭ ‬الكتاب،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬المقدمة‭ ‬المستهلَّة‭ ‬بـ«البسملة‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬الدعوة،‭ ‬إلى‭ ‬التمسك‭ ‬‮«‬بـتقوى‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬شريك‭ ‬له‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬انفك‭ ‬متخماً‭ ‬بهذا‭ ‬النفس‭ ‬الإيماني‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬كلمة‭ ‬فيه،‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬عبارة‭ ‬تحث‭ ‬على‭ ‬اقتفاء‭ ‬سنن‭ ‬الرسول‭ ‬،‭ ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬استلهام‭ ‬مبادئ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬مفصِّلاً‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬وشؤون‭ ‬الرعية‭ ‬واحترام‭ ‬حقوقها،‭ ‬والعدل‭ ‬يبقى‭ ‬المعيار‭ ‬ونقطة‭ ‬الارتكاز‭.‬

من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬محرر‭ ‬الكتاب‭ ‬المنسوب‭ ‬إلى‭ ‬طاهر‭ ‬بن‭ ‬الحسين،‭ ‬كان‭ ‬فقيهاً‭ ‬عالماً‭ ‬ومتمرّساً،‭ ‬فجاء‭ ‬توصيفه‭ ‬شاملاً‭ ‬للسلطة‭ ‬المنبثقة‭ ‬عن‭ ‬مبادئ‭ ‬الإسلام‭ ‬وقيمه،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سلف‭ ‬تشكيك‭ ‬بقدرة‭ ‬طاهر‭ ‬على‭ ‬صوغ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬،‭ ‬فالملوك‭ ‬والأمراء‭ ‬وأشباههم،‭ ‬لديهم‭ ‬عادة‭ ‬كتَّابهم‭ ‬ولا‭ ‬يتكلّفون‭ - ‬إلا‭ ‬قليلاً‭ - ‬مشقّة‭ ‬هذا‭ ‬الجهد،‭ ‬وطاهر‭ ‬الذي‭ ‬تأثر‭ ‬بالمناخ‭ ‬العلمي‭ ‬للمرحلة،‭ ‬ورافق‭ ‬أبرز‭ ‬خلفاء‭ ‬بني‭ ‬العباس،‭ ‬ثقافة‭ ‬ومعرفة‭ ‬وحكمة،‭ ‬أتقن،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬‮«‬كان‭ ‬يضرب‭ ‬بسهم‭ ‬وافر‭ (‬فيها‭) ‬وفي‭ ‬ثقافتها‮»‬،‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬قولة‭ ‬المستشرق‭ ‬بارتولد‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تخونه‭ ‬قدراته‭ ‬لصوغ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الرصين‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬الواقع‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬تواجهنا‭ ‬إشكالية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬فما‭ ‬يعنينا‭ ‬ما‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬مجاله‭ ‬وموضوعه‭ ‬معاً،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬شاردة‭ ‬تغيب‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬أطروحة‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي،‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬اعتباره‭ ‬برنامجاً‭ ‬يتّسم‭ ‬بالشمول‭ ‬والتكامل‭ ‬والشفافية‭. ‬هذا،‭ ‬وقد‭ ‬اختلف‭ ‬المؤرخون‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬علاقة‭ ‬طاهر‭ ‬وخلفائه‭ ‬بالعباسيين،‭ ‬فبينما‭ ‬يشير‭ ‬بارتولد‭ ‬إلى‭ ‬خروجه‭ ‬على‭ ‬المأمون،‭ ‬كان‭ ‬للمؤرخ‭ ‬الفرنسي‭ ‬سورديل‭ ‬رأي‭ ‬آخر،‭ ‬فهو‭ ‬يشارك‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬‮«‬الطاهريين‮»‬‭ ‬بالسلالة،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يدرجهم‭ ‬سلطة‭ ‬أو‭ ‬دولة‭ ‬خاصة‭ ‬بهم،‭ ‬إذ‭ ‬تمتعوا‭ - ‬حسب‭ ‬قوله‭ - ‬‮«‬بشبه‭ ‬استقلال‭ ‬في‭ ‬مناطقهم‭ ‬مع‭ ‬بقائهم‭ ‬أوفياء‭ ‬للخلافة‭ ‬العباسية‮»‬‭. ‬هذه‭ ‬السلالة‭ ‬التي‭ ‬توالى‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬فيها‭ ‬خمسة‭ ‬من‭ ‬أبنائها،‭ ‬واتخذت‭ ‬من‭ ‬نيسابور‭ ‬حاضرة‭ ‬لها،‭ ‬لم‭ ‬تعش،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬ما‭ ‬يتعدى،‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً،‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭. ‬وقد‭ ‬سارت‭ ‬كما‭ ‬يبدو،‭ ‬على‭ ‬النهج‭ ‬الذي‭ ‬خطّه‭ ‬مؤسسها‭ ‬في‭ ‬‮«‬كتابه‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬شُهر‭ ‬حكامها‭ ‬بتأمين‭ ‬راحة‭ ‬رعاياهم،‭ ‬وبالدفاع‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬وجهدوا‭ ‬في‭ ‬التصدي‭ ‬للثورات‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬الصفّاريون‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬سجستان،‭ ‬وفاقاً‭ ‬لقول‭ ‬سورديل‭. ‬وفي‭ ‬المحصّلة‭ ‬أنهكها‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬سلالة‭ ‬منافسة،‭ ‬ما‭ ‬اضطرها‭ ‬إلى‭ ‬الانكفاء،‭ ‬فالسقوط‭ ‬بعد‭ ‬جهود‭ ‬مستميتة‭.‬

وقبل‭ ‬طي‭ ‬صفحات‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬ورد‭ ‬مفصَّلاً‭ ‬لدى‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المناسب‭ ‬ترك‭ ‬الخاتمة‭ ‬للأخير،‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬تقويمه‭ ‬له‭: ‬حدّث‭ ‬الإخباريون‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬لما‭ ‬ظهر‭ ‬وشاع‭ ‬أمره،‭ ‬أُعجب‭ ‬به‭ ‬الناس،‭ ‬واتصل‭ ‬بالمأمون،‭ ‬فلما‭ ‬قُرئ‭ ‬عليه،‭ ‬قال‭: ‬‮«‬ما‭ ‬أبقى‭ ‬أبو‭ ‬الطيب،‭ (‬يعني‭ ‬طاهراً‭)‬،‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬الدنيا‭ ‬والدين‭ ‬والتدبير‭ ‬والرأي‭ ‬والسياسة‭ ‬وصلاح‭ ‬الملك‭ ‬والرعية‭ ‬وحفظ‭ ‬السلطان‭ ‬وطاعة‭ ‬الخلفاء‭ ‬وتقويم‭ ‬الخلافة،‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬أحكمه‭ ‬وأوصى‭ ‬به،‭ ‬ثم‭ ‬أمر‭ ‬المأمون،‭ ‬فكتب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬العمال‭ ‬في‭ ‬النواحي‭ ‬ليقتدوا‭ ‬به،‭ ‬ويعملوا‭ ‬بما‭ ‬فيه‮»‬‭ ‬.