التقاليد الشعرية في القصيدة العربية الجاهلية
مع حلول القرن السادس الميلادي كانت قد تبلورت في شبه الجزيرة العربية لغة شعرية عربية، وتقاليد شعرية متميّزة ذات شخصية غنيّة موحّدة تمثّلت في ما وصل إلينا من تراث شعري اصْطُلح على تسميته بالشعر الجاهلي. وتثبت تلك التقاليد الشعرية مرور الفن الشعري العربي بمراحل طويلة من التطوّر قبل استقراره على الحال التي نعرف، وتحوّله إلى تراث شعري عريق. ويرى المستشرق الإنجليزي هاملتون جيب (H.A.R. Gibb) أن القصيدة العربية الجاهلية كما وصلت إلينا تمثّل خاتمة مرحلة من التجارب الشعرية اكتُشفت فيها الأوزان الجديدة ونُمّطت بعد أن تطوّرت عن الرجز الذي نشأ بدوره عن السجع. ويقول إن استبعاد الرجز من الأوزان المصطلح على استخدامها في القصيدة الجاهلية دليل على الفصل الواعي بينه وبين الأوزان المُستحدثة.
إن استقرار القصيدة العربية على الشكل الذي نعرفه في ما لدينا من الشعر الجاهلي رسخ بعد تجارب، وبعد تطوّر مبدأ التقاليد الشعرية الجاهلية، فأصبحت القصيدة جزءاً من تراث شعري تستمدّ ذاتها ودلالاتها منه، وتسهم في تحقيق هويته وجلاء معناه. إن هذه العلاقة بين القصيدة الواحدة والتراث الشعري دليل على أن الشعر في تلك الفترة كان قد أصبح فنّاً له أصوله وتقاليده، وغدا بنية متواشجة الأجزاء يستمدّ فيها الجزء كينونته وتعريفه من الكلّ المتكامل.
إن هذه العلاقة الوثيقة بين القصيدة العربية والتقاليد الشعرية لفتت انتباه عديد من دارسي الشعر الجاهلي، غير أنهم اختلفوا في تعليل أسبابها، فالمستشرق الروسي إسحق فيلشتنسكي (I.M. Filshtinsky) مثلاً، يرى أن الشعر الجاهلي نادراً جدّاً ما يعبّر عن شخصية الشاعر وتجربته العاطفية والأسباب الذاتية لحالته الذهنية، وهو يعزو ذلك إلى الارتباط الوثيق بين الشاعر والقبيلة الذي حدّد في ما يرى، نظرته إلى الحياة ووعيه بها. وفي الإطار نفسه يندرج رأي المستشرق السويدي رنغرن (Helmer Ringgren) في أن ما هو متفق عليه من أن الشعر الجاهلي لا يعطي الصورة الصحيحة عن الحياة البدوية العربية في زمنه، يعود إلى أن ذلك الشعر مقيّد بموضوعات متكرّرة وما أسماه بـ«كليشيهات شعرية» ضيّقت أمامه مجالات التعبير ومنعته من أن يحيط بالجوانب المتعدّدة للحياة الإنسانية.
القصيدة الجاهلية بين الانتحال والامتثال!
أما طه حسين في كتابه «في الأدب الجاهلي»، فإنه يجعل غياب شخصية الشاعر من أعماله الشعرية خاصية من خصائص الشعر الجاهلي الذي يشكّ في صحة نسبته إلى شعراء ما قبل الإسلام، فحين ينظر مثلاً، في قصيدتي امرئ القيس «خليليّ مرّا بي على أُمّ جندب» وعلقمة بن عبدة الفحل «ذهبتَ من الهجران في غير مذهب»، اللتين قيل إنّ الشاعرين احتكما فيهما إلى أُمّ جندب، زوج امرئ القيس، يقول: «وأنت تستطيع أن تقرأ القصيدتين دون أن تجد فيهما فرقاً بين شخصية الشاعرين، بل أنتَ لا تجد فيهما شخصية ما». ويعلل طه حسين هذه الظاهرة بانتحال ذلك الشعر في القرن الثاني بعد الهجرة من قبل مجموعة من الرواة، بل إنه يعدّ الظاهرة أحد الأدلة على ما ذهب إليه، مؤكداً خلو الشعر الإسلامي منها، حيث «شخصية الشاعر فيه ليست أقلّ ظهوراً منها في أي شعر أجنبي».
وينظر المستشرق الإيطالي ديللا فيدا (G.L. Della Vida) إلى الموضوع من زاوية مختلفة ويعطيه تفسيراً آخر، فيقول إن الشعر الجاهلي هو أحد مصادر معلوماتنا عن الجزيرة العربية في تلك الفترة. ولكنه يتساءل: هل الشعر بذاته مصدر موثوق؟ ويجيب بأن الشعر لا يوفّر لنا صورة كاملة وحقيقية للجزيرة العربية، لأن الشعراء العرب لم يعيدوا إنتاج التجارب الحقيقية الشاملة للحياة البدوية، بل أبرزوا الصورة المثالية لبعض مظاهرها، وخاصة المظهر البطولي الذي لا يزيد أهمية عن مظاهر أخرى أُغفلت تماماً. غير أن تعليل ديللا فيدا لهذه الظاهرة يتميّز بكونه لا يجعلها خاصية للشعر الجاهلي تحمل دلالات سلبية يتصف بها ذلك الشعر بذاته، بل يراها صفة ذاتية للقصائد الملحمية كشعر هوميروس و«نشيد المآثر الفرنسية» (Chanson de geste) التي تمجَّد البطولة، وهذه القصائد لا يمكن اتهامها – حسب قوله – بأنها تبدّل عمداً الجو التاريخي الذي نشأت فيه، وإنما هي في رأيه، كالشعر الجاهلي العربي، تبرز مظهراً واحداً من مظاهره.
إن ما اتفق عليه هؤلاء الباحثون وغيرهم من أن الشعر الجاهلي لا يعبّر عن شخصية الشعراء الذين أبدعوه ولا ينقل صورة الحياة البدوية العربية قبل الإسلام، يتضمّن جانباً من الصحة وإن كان هناك من يخالفهم الرأي في شأن تعليلاتهم التي غالباً ما ترمي إلى الغضّ من قيمة هذا الشعر مقارنة بغيره، أكان شعراً أجنبياً أم عربياً أبدع في عصور لاحقة. فما أوردوه من أسباب مختلفة تتفق في ما بينها على أمر واحد هو الافتراض أن الشعر تعبير عن شخصية قائله، أو أنه هكذا ينبغي أن يكون، أو أن الشعر محاكاة لمظاهر الواقع أو أنه هكذا يفترض أن يكون، وإن شذّت بعض أنواعه كالملحمة، كما رأى ديللا فيدا فوضع الشعر الجاهلي في الإطار نفسه لافتقاره إلى تعليل لتلك الظاهرة. غير أن الشعر العربي ما قبل الإسلام يختلف اختلافاً جوهرياً عن الشعر الكلاسيكي الأوربي، وخاصة من حيث خلو ذلك الشعر العربي من السرد القصصي الذي شكّل العمود الفقري للشعر الأوربي الملحمي. وليست التعليلات المختلفة الأخرى من ذوبان شخصية الفرد في شخصية القبيلة، أو تقييد الشعر الجاهلي في قوالب، وإلزامه بالكليشيهات، أو انتحاله في عصور لاحقة (وهي نظرية أثبتت الدراسات الحديثة تهافتها ولم تعد موضوعاً للنقاش)، مما يوفّر إجابة سليمة أو يقطع برأي مقنع أو يفيد في الدراسات النقدية.
والسبب في كون الشعر الجاهلي لا يكشف بوجه عام عن شخصية قائله، ولا يعطي «صورة صادقة» عن الحياة البدوية العربية في عصره، يكمن في أن الشعر بما هو فن ذو خصوصية معرّف بارتباطه بتقاليد شعرية يستمدّ منها معناه، وبها يتحوّل عنصراً في تراث شعري يحقّق بانتمائه إليه هويته الفنيّة، فارتباط الشعر الجاهلي بالتقاليد الشعرية يبتعد به عن التعبير عن شخصية مبدعه، وينفي كونه انعكاساً لصور الواقع ويكسبه البعد الرمزي الذي تتميّز به اللغة الشعرية، وذلك معيار التفريق بين الفن الشعري المعرّف بخلق شبكة من الدلالات المترابطة والمتداخلة وبين الكلام العادي، حيث الكلمة مفردة المعنى والجملة محدّدة الغرض، تعني كلُّ منهما ما قصد القائل إلى إبلاغه.
حول جدل الواقع والشعر
لكن القول إن الشعر الجاهلي لم يكن تعبيراً عن صور الحياة البدوية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام لا يعني انقطاع الصلة بين ذلك الشعر ومحيطه الاجتماعي وإطاره التاريخي والحضاري، بل ينطوي على مبدأ مؤداه أن هذا الفن الشعري العربي لم يكن انعكاساً مباشراً للواقع الذي نشأ فيه، ولم ينقل الصورة المباشرة لذلك الواقع، وإن كانت ظروف ذلك الواقع وشروطه، وهي ظروف وشروط تاريخية وحضارية بالضرورة، تلعب دوراً حاسماً في تحديد الشكل الفني لهذا الشعر ومضمونه. إن الشعر بما هو فن ليس تمثيلاً لمظاهر الواقع الخارجي، ولا هو محاكاة للفعل الإنساني المتحقّق متسلسلاً في الزمان، ويرتبط هذا التوجه الفني بموقف من الوجود يتصف بعدم التوازن بين الإنسان وتجلّيات وجوده، ويكشف الشعور بأن ذلك الوجود يفتقد الثبات والنظام، ويعبّر عن إحساس بفقدان الانسجام بين الإنسان والبيئة الطبيعية، حيث يعيش، ورفض للمبادئ السائدة في الواقع وثورة عليها، وهكذا كانت علاقة الشاعر الجاهلي بواقعه وبيئته، وكذلك كان موقفه من الزمن والوجود. إن شبه الجزيرة العربية في الفترة السابقة من تاريخها على الدعوة الإسلامية، كانت تعيش ما أسماه ديللا فيدا «عصورها الوسطى» بعد انهيار تجارتها الخارجية وضياع قوّتها السياسية وغلبة البداوة والفوضى على التمدّن. فقد هُجرت معظم المدن وأقفرت، وتدنّى مستوى المعيشة، وأصبحت شبه الجزيرة العربية بين القرن الرابع والقرن السابع للميلاد تعيش في عزلة وعصور مظلمة لم تعرفها من قبل. كذلك ساد التصحّر وتراجعت الأرض الخصبة المرويّة أمام القحط والجدب، وهي الظاهرة التي كان انهيار سدّ مأرب رمزها الأكبر في التاريخ العربي، وغدت تربية الإبل والماشية عماد الحياة الاقتصادية، فكان مستوى المعيشة يُقاس بما يملكه الإنسان منها. وهذا الأسلوب في كسب العيش يعتمد اعتماداً مطلقاً على عوامل طبيعية كمواسم هبوط المطر وخصوبة الأرض أو جفافها، لم يكن بيد الإنسان في ذلك الزمن أمر تطويعها. وإذا كان الرعي شبيهاً بالزراعة من حيث ارتباطه بظروف طبيعية وجد الإنسان نفسه حينذاك خاضعاً لها، فإنه يختلف عنها في كونه يُلزم الإنسان بالتنقّل المستمرّ بحثاً عن الماء والكلأ، بينما توجِد الزراعة مجتمعات مستقرّة نسبيًّا يشعر فيها الإنسان بارتباط أوثق بأرض يتعامل معها ويسهم بعمله في تحقيق إمكاناتها.
وسط هذا المحيط المتّسم بالتفكّك الاجتماعي والتضعضع السياسي والانهيار الاقتصادي، وبالرغم من مرحلة الانحدار الحضاري، كانت اللغة العربية تتكوّن وتحقّق ذاتها بنية مكتملة مترسّخة، وكانت أشكال التعبير الفني باللغة تتخذ صيغاً متطوّرة وناضجة. ولعل الأمر يبدو متناقضاً للوهلة الأولى، فهل يمكن أن يتواصل تطوّر التعبير الثقافي في قفزات نوعية تحقّق التحوّل في فترات الانحسار والانحدار الحضاري؟ يطرح حسين مروّة هذا الموضوع ويعالجه في تحليل ينتهي إلى القول بالاستقلالية النسبية للشعر وللتعبير الثقافي عن الظروف والشروط الموضوعية التي ينشأ فيها، فبعد أن يشير إلى «أن مستوى تطوّر الأشكال الثقافية التي عرفناها عن مرحلة الجاهلية المتصلة بعصر الإسلام، كان أعلى من مستوى شكل العلاقات الاجتماعية لهذه المرحلة»، يقول إن هذا التفاوت الذي نتج عن الانقطاع التاريخي النسبي بين المراحل القديمة للتاريخ العربي المتصفة بالرقي الحضاري ومرحلة الأفول الأخيرة، أحدث فجوة بين الأشكال الثقافية والبنية الاجتماعية حتى بدا التعبير الثقافي وكأنه مستقلّ استقلالاً يكاد يكون تامًّا عن شروط وجوده. ويعلل ذلك بقوله إن المعرفة والثقافة وإن كانتا انعكاساً للعالم على وعي الإنسان، فإن ذلك الانعكاس ليس انعكاساً مباشراً كانعكاس الأشياء والأشخاص في المرآة، وإنما هو عملية معقّدة لها قانونها الداخلي الذاتي، وبالتالي لها حركيّتها المستقلّة نسبيًّا عن حركيّة الوجود المادي الذي هو مصدر الانعكاس، وينشأ عن ذلك ما تتميّز به من إيقاع خاص يتّصف بالبطء، أي بزمنيّة ذاتيّة لا تتناسب مع إيقاع زمن الواقع الاجتماعي. ومن هنا يتأخر تشكّل البُنى الثقافية عن تشكّل البنى الاجتماعية. من هذه المعطيات جميعاً يستنتج في رأي مروّة، لماذا كان الثبات والاستقرار النسبيّان من الصفات المميّزة للأشكال الثقافية، بحيث لا تتحوّل تلك الأشكال بتقلّب الأوضاع الاجتماعية وتغيّرها فتظل محتفظة بزمنيّة تطوّرها الذاتي، وهذه الخصائص المشتركة التي تتصف بها الأعمال الثقافية والفنية تجعل منها نظاماً متماسكاً ومتكاملاً له كينونته وهويته، تحمل أجزاؤه ما تحمل من الصلات والروابط الوثيقة في ما بينها وتنتمي إلى ذلك النظام الذي يضمّها فتسهم في تحقيقه وتستمدّ منه ذاتها ومعناها. وهي وإن كانت لا تعكس الواقع بصورة آلية ومباشرة لاستقلاليتها النسبيّة عنه، فإنها لا توجد في فراغ مكاني وزماني، بل إن المكان والزمان الخارجيين يسهمان في تعريف مكانيّتها وزمانيّتها الخاصتين.
الإسلام وإشراقة اللغة العربية
إن ذلك الإيقاع الزمني الخاص هو ما جعل اللغة العربية تواصل تطوّرها قبل الإسلام حتى بلغت ذروة النضج والاكتمال في فترة كانت فيها البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في طريق الانحدار والانهيار، فبدت كأنها منفصلة عنها ومستقلة استقلالاً كلياً بذاتها. ولعلّ اللغة العربية والفن الشعري العربي كانا سيبدآن مرحلة الانحدار بعد اكتمال لو استمرّت الظروف الخارجية في حالة جمود، أو أنها عانت مزيداً من الانهيار، أو لعلّ تلك المرحلة كانت تغلي بتحوّلات تمخّضت عن انطلاقة جديدة. إلا أن انبثاق الإسلام في تلك الفترة التاريخية في قلب شبه الجزيرة العربية، والانبعاث الحضاري الكبير الذي شهدته الأمة العربية نتيجة ذلك، انطلقا بتلك اللغة إلى آفاق جديدة لم تكن متاحة لها من قبل، وأضاف ذلك إليها أبعاداً فكرية ومعرفية وفنية لم تكن متاحة قبل الإسلام. وكانت النهضة الحضارية الرائعة التي حقّقها العرب وتوحّدهم في دولة عظيمة وفتوحاتهم الواسعة ودخول أقوام ذوي حضارات مختلفة وانصهارهم في الحضارة الفتيّة، نعمة على تلك اللغة التي تمكّنت بفضل حيويّتها من أن تستوعب ما جدّ على الحياة العربية من مضامين اغتنت بها وأغنتها .