التقاليد الشعرية في القصيدة العربية الجاهلية

التقاليد الشعرية  في القصيدة العربية الجاهلية

مع‭ ‬حلول‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬تبلورت‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬شعرية‭ ‬عربية،‭ ‬وتقاليد‭ ‬شعرية‭ ‬متميّزة‭ ‬ذات‭ ‬شخصية‭ ‬غنيّة‭ ‬موحّدة‭ ‬تمثّلت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬شعري‭ ‬اصْطُلح‭ ‬على‭ ‬تسميته‭ ‬بالشعر‭ ‬الجاهلي‭. ‬وتثبت‭ ‬تلك‭ ‬التقاليد‭ ‬الشعرية‭ ‬مرور‭ ‬الفن‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬بمراحل‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬التطوّر‭ ‬قبل‭ ‬استقراره‭ ‬على‭ ‬الحال‭ ‬التي‭ ‬نعرف،‭ ‬وتحوّله‭ ‬إلى‭ ‬تراث‭ ‬شعري‭ ‬عريق‭. ‬ويرى‭ ‬المستشرق‭ ‬الإنجليزي‭ ‬هاملتون‭ ‬جيب‭ (‬H‭.‬A‭.‬R‭. ‬Gibb‭) ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الجاهلية‭ ‬كما‭ ‬وصلت‭ ‬إلينا‭ ‬تمثّل‭ ‬خاتمة‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الشعرية‭ ‬اكتُشفت‭ ‬فيها‭ ‬الأوزان‭ ‬الجديدة‭ ‬ونُمّطت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تطوّرت‭ ‬عن‭ ‬الرجز‭ ‬الذي‭ ‬نشأ‭ ‬بدوره‭ ‬عن‭ ‬السجع‭. ‬ويقول‭ ‬إن‭ ‬استبعاد‭ ‬الرجز‭ ‬من‭ ‬الأوزان‭ ‬المصطلح‭ ‬على‭ ‬استخدامها‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬الجاهلية‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬الفصل‭ ‬الواعي‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الأوزان‭ ‬المُستحدثة‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬استقرار‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬لدينا‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬رسخ‭ ‬بعد‭ ‬تجارب،‭ ‬وبعد‭ ‬تطوّر‭ ‬مبدأ‭ ‬التقاليد‭ ‬الشعرية‭ ‬الجاهلية،‭ ‬فأصبحت‭ ‬القصيدة‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬شعري‭ ‬تستمدّ‭ ‬ذاتها‭ ‬ودلالاتها‭ ‬منه،‭ ‬وتسهم‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬هويته‭ ‬وجلاء‭ ‬معناه‭. ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬القصيدة‭ ‬الواحدة‭ ‬والتراث‭ ‬الشعري‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬فنّاً‭ ‬له‭ ‬أصوله‭ ‬وتقاليده،‭ ‬وغدا‭ ‬بنية‭ ‬متواشجة‭ ‬الأجزاء‭ ‬يستمدّ‭ ‬فيها‭ ‬الجزء‭ ‬كينونته‭ ‬وتعريفه‭ ‬من‭ ‬الكلّ‭ ‬المتكامل‭. ‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الوثيقة‭ ‬بين‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬والتقاليد‭ ‬الشعرية‭ ‬لفتت‭ ‬انتباه‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬دارسي‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬غير‭ ‬أنهم‭ ‬اختلفوا‭ ‬في‭ ‬تعليل‭ ‬أسبابها،‭ ‬فالمستشرق‭ ‬الروسي‭ ‬إسحق‭ ‬فيلشتنسكي‭ (‬I.M‭. ‬Filshtinsky‭) ‬مثلاً،‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬نادراً‭ ‬جدّاً‭ ‬ما‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬الشاعر‭ ‬وتجربته‭ ‬العاطفية‭ ‬والأسباب‭ ‬الذاتية‭ ‬لحالته‭ ‬الذهنية،‭ ‬وهو‭ ‬يعزو‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الارتباط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والقبيلة‭ ‬الذي‭ ‬حدّد‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يرى،‭ ‬نظرته‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬ووعيه‭ ‬بها‭. ‬وفي‭ ‬الإطار‭ ‬نفسه‭ ‬يندرج‭ ‬رأي‭ ‬المستشرق‭ ‬السويدي‭ ‬رنغرن‭ (‬Helmer Ringgren‭) ‬في‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متفق‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬لا‭ ‬يعطي‭ ‬الصورة‭ ‬الصحيحة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬البدوية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬زمنه،‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬مقيّد‭ ‬بموضوعات‭ ‬متكرّرة‭ ‬وما‭ ‬أسماه‭ ‬بـ«كليشيهات‭ ‬شعرية‮»‬‭ ‬ضيّقت‭ ‬أمامه‭ ‬مجالات‭ ‬التعبير‭ ‬ومنعته‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحيط‭ ‬بالجوانب‭ ‬المتعدّدة‭ ‬للحياة‭ ‬الإنسانية‭.‬

 

القصيدة‭ ‬الجاهلية‭ ‬بين‭ ‬الانتحال‭ ‬والامتثال‭! ‬

أما‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الجاهلي‮»‬،‭ ‬فإنه‭ ‬يجعل‭ ‬غياب‭ ‬شخصية‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬الشعرية‭ ‬خاصية‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬الذي‭ ‬يشكّ‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬شعراء‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬فحين‭ ‬ينظر‭ ‬مثلاً،‭ ‬في‭ ‬قصيدتي‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬‮«‬خليليّ‭ ‬مرّا‭ ‬بي‭ ‬على‭ ‬أُمّ‭ ‬جندب‮»‬‭ ‬وعلقمة‭ ‬بن‭ ‬عبدة‭ ‬الفحل‭ ‬‮«‬ذهبتَ‭ ‬من‭ ‬الهجران‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬مذهب‮»‬،‭ ‬اللتين‭ ‬قيل‭ ‬إنّ‭ ‬الشاعرين‭ ‬احتكما‭ ‬فيهما‭ ‬إلى‭ ‬أُمّ‭ ‬جندب،‭ ‬زوج‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وأنت‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬القصيدتين‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬فيهما‭ ‬فرقاً‭ ‬بين‭ ‬شخصية‭ ‬الشاعرين،‭ ‬بل‭ ‬أنتَ‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬فيهما‭ ‬شخصية‭ ‬ما‮»‬‭. ‬ويعلل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬بانتحال‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬بعد‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الرواة،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يعدّ‭ ‬الظاهرة‭ ‬أحد‭ ‬الأدلة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه،‭ ‬مؤكداً‭ ‬خلو‭ ‬الشعر‭ ‬الإسلامي‭ ‬منها،‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬شخصية‭ ‬الشاعر‭ ‬فيه‭ ‬ليست‭ ‬أقلّ‭ ‬ظهوراً‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شعر‭ ‬أجنبي‮»‬‭. ‬

وينظر‭ ‬المستشرق‭ ‬الإيطالي‭ ‬ديللا‭ ‬فيدا‭ (‬G.L‭. ‬Della Vida‭) ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬مختلفة‭ ‬ويعطيه‭ ‬تفسيراً‭ ‬آخر،‭ ‬فيقول‭ ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬مصادر‭ ‬معلوماتنا‭ ‬عن‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬ولكنه‭ ‬يتساءل‭: ‬هل‭ ‬الشعر‭ ‬بذاته‭ ‬مصدر‭ ‬موثوق؟‭ ‬ويجيب‭ ‬بأن‭ ‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬يوفّر‭ ‬لنا‭ ‬صورة‭ ‬كاملة‭ ‬وحقيقية‭ ‬للجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬لأن‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬لم‭ ‬يعيدوا‭ ‬إنتاج‭ ‬التجارب‭ ‬الحقيقية‭ ‬الشاملة‭ ‬للحياة‭ ‬البدوية،‭ ‬بل‭ ‬أبرزوا‭ ‬الصورة‭ ‬المثالية‭ ‬لبعض‭ ‬مظاهرها،‭ ‬وخاصة‭ ‬المظهر‭ ‬البطولي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬مظاهر‭ ‬أخرى‭ ‬أُغفلت‭ ‬تماماً‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬تعليل‭ ‬ديللا‭ ‬فيدا‭ ‬لهذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬يتميّز‭ ‬بكونه‭ ‬لا‭ ‬يجعلها‭ ‬خاصية‭ ‬للشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬تحمل‭ ‬دلالات‭ ‬سلبية‭ ‬يتصف‭ ‬بها‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬بذاته،‭ ‬بل‭ ‬يراها‭ ‬صفة‭ ‬ذاتية‭ ‬للقصائد‭ ‬الملحمية‭ ‬كشعر‭ ‬هوميروس‭ ‬و«نشيد‭ ‬المآثر‭ ‬الفرنسية‮»‬‭ (‬Chanson de geste‭) ‬التي‭ ‬تمجَّد‭ ‬البطولة،‭ ‬وهذه‭ ‬القصائد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اتهامها‭ ‬–‭ ‬حسب‭ ‬قوله‭ ‬–‭ ‬بأنها‭ ‬تبدّل‭ ‬عمداً‭ ‬الجو‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬نشأت‭ ‬فيه،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬رأيه،‭ ‬كالشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬العربي،‭ ‬تبرز‭ ‬مظهراً‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬مظاهره‭. ‬

إن‭ ‬ما‭ ‬اتفق‭ ‬عليه‭ ‬هؤلاء‭ ‬الباحثون‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬لا‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬أبدعوه‭ ‬ولا‭ ‬ينقل‭ ‬صورة‭ ‬الحياة‭ ‬البدوية‭ ‬العربية‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬يتضمّن‭ ‬جانباً‭ ‬من‭ ‬الصحة‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يخالفهم‭  ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬تعليلاتهم‭ ‬التي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬ترمي‭ ‬إلى‭ ‬الغضّ‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬مقارنة‭ ‬بغيره،‭ ‬أكان‭ ‬شعراً‭ ‬أجنبياً‭ ‬أم‭ ‬عربياً‭ ‬أبدع‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬لاحقة‭. ‬فما‭ ‬أوردوه‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬مختلفة‭ ‬تتفق‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬أمر‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬الافتراض‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬قائله،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬هكذا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬محاكاة‭ ‬لمظاهر‭ ‬الواقع‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬هكذا‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬وإن‭ ‬شذّت‭ ‬بعض‭ ‬أنواعه‭ ‬كالملحمة،‭ ‬كما‭ ‬رأى‭ ‬ديللا‭ ‬فيدا‭ ‬فوضع‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬في‭ ‬الإطار‭ ‬نفسه‭ ‬لافتقاره‭ ‬إلى‭ ‬تعليل‭ ‬لتلك‭ ‬الظاهرة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬يختلف‭ ‬اختلافاً‭ ‬جوهرياً‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬الأوربي،‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬خلو‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬القصصي‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬العمود‭ ‬الفقري‭ ‬للشعر‭ ‬الأوربي‭ ‬الملحمي‭. ‬وليست‭ ‬التعليلات‭ ‬المختلفة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬ذوبان‭ ‬شخصية‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬القبيلة،‭ ‬أو‭ ‬تقييد‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬في‭ ‬قوالب،‭ ‬وإلزامه‭ ‬بالكليشيهات،‭ ‬أو‭ ‬انتحاله‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬لاحقة‭ (‬وهي‭ ‬نظرية‭ ‬أثبتت‭ ‬الدراسات‭ ‬الحديثة‭ ‬تهافتها‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬موضوعاً‭ ‬للنقاش‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬يوفّر‭ ‬إجابة‭ ‬سليمة‭ ‬أو‭ ‬يقطع‭ ‬برأي‭ ‬مقنع‭ ‬أو‭ ‬يفيد‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭  ‬النقدية‭. ‬

والسبب‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬لا‭ ‬يكشف‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬قائله،‭ ‬ولا‭ ‬يعطي‭ ‬‮«‬صورة‭ ‬صادقة‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬البدوية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬فن‭ ‬ذو‭ ‬خصوصية‭ ‬معرّف‭ ‬بارتباطه‭ ‬بتقاليد‭ ‬شعرية‭ ‬يستمدّ‭ ‬منها‭ ‬معناه،‭ ‬وبها‭ ‬يتحوّل‭ ‬عنصراً‭ ‬في‭ ‬تراث‭ ‬شعري‭ ‬يحقّق‭ ‬بانتمائه‭ ‬إليه‭ ‬هويته‭ ‬الفنيّة،‭ ‬فارتباط‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬بالتقاليد‭ ‬الشعرية‭ ‬يبتعد‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬مبدعه،‭ ‬وينفي‭ ‬كونه‭ ‬انعكاساً‭ ‬لصور‭ ‬الواقع‭ ‬ويكسبه‭ ‬البعد‭ ‬الرمزي‭ ‬الذي‭ ‬تتميّز‭ ‬به‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وذلك‭ ‬معيار‭ ‬التفريق‭ ‬بين‭ ‬الفن‭ ‬الشعري‭ ‬المعرّف‭ ‬بخلق‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭ ‬المترابطة‭ ‬والمتداخلة‭ ‬وبين‭ ‬الكلام‭ ‬العادي،‭ ‬حيث‭ ‬الكلمة‭ ‬مفردة‭ ‬المعنى‭ ‬والجملة‭ ‬محدّدة‭ ‬الغرض،‭ ‬تعني‭ ‬كلُّ‭ ‬منهما‭ ‬ما‭ ‬قصد‭ ‬القائل‭ ‬إلى‭ ‬إبلاغه‭. ‬

 

حول‭ ‬جدل‭ ‬الواقع‭ ‬والشعر‭ ‬

لكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬صور‭ ‬الحياة‭ ‬البدوية‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬انقطاع‭ ‬الصلة‭ ‬بين‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬ومحيطه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وإطاره‭ ‬التاريخي‭ ‬والحضاري،‭ ‬بل‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬مؤداه‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬انعكاساً‭ ‬مباشراً‭ ‬للواقع‭ ‬الذي‭ ‬نشأ‭ ‬فيه،‭ ‬ولم‭ ‬ينقل‭ ‬الصورة‭ ‬المباشرة‭ ‬لذلك‭ ‬الواقع،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬ظروف‭ ‬ذلك‭ ‬الواقع‭ ‬وشروطه،‭ ‬وهي‭ ‬ظروف‭ ‬وشروط‭ ‬تاريخية‭ ‬وحضارية‭ ‬بالضرورة،‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬حاسماً‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬الشكل‭ ‬الفني‭ ‬لهذا‭ ‬الشعر‭ ‬ومضمونه‭. ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬فن‭ ‬ليس‭ ‬تمثيلاً‭ ‬لمظاهر‭ ‬الواقع‭ ‬الخارجي،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬محاكاة‭ ‬للفعل‭ ‬الإنساني‭ ‬المتحقّق‭ ‬متسلسلاً‭ ‬في‭ ‬الزمان،‭ ‬ويرتبط‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬الفني‭ ‬بموقف‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬يتصف‭ ‬بعدم‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬وتجلّيات‭ ‬وجوده،‭ ‬ويكشف‭ ‬الشعور‭ ‬بأن‭ ‬ذلك‭ ‬الوجود‭ ‬يفتقد‭ ‬الثبات‭ ‬والنظام،‭ ‬ويعبّر‭ ‬عن‭ ‬إحساس‭ ‬بفقدان‭ ‬الانسجام‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والبيئة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬حيث‭ ‬يعيش،‭ ‬ورفض‭ ‬للمبادئ‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وثورة‭ ‬عليها،‭ ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬علاقة‭ ‬الشاعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬بواقعه‭ ‬وبيئته،‭ ‬وكذلك‭ ‬كان‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬والوجود‭. ‬إن‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬السابقة‭ ‬من‭ ‬تاريخها‭ ‬على‭ ‬الدعوة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬ديللا‭ ‬فيدا‭ ‬‮«‬عصورها‭ ‬الوسطى‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬تجارتها‭ ‬الخارجية‭ ‬وضياع‭ ‬قوّتها‭ ‬السياسية‭ ‬وغلبة‭ ‬البداوة‭ ‬والفوضى‭ ‬على‭ ‬التمدّن‭. ‬فقد‭ ‬هُجرت‭ ‬معظم‭ ‬المدن‭ ‬وأقفرت،‭ ‬وتدنّى‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬بين‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬والقرن‭ ‬السابع‭ ‬للميلاد‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬وعصور‭ ‬مظلمة‭ ‬لم‭ ‬تعرفها‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬كذلك‭ ‬ساد‭ ‬التصحّر‭ ‬وتراجعت‭ ‬الأرض‭ ‬الخصبة‭ ‬المرويّة‭ ‬أمام‭ ‬القحط‭ ‬والجدب،‭ ‬وهي‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬انهيار‭ ‬سدّ‭ ‬مأرب‭ ‬رمزها‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي،‭ ‬وغدت‭ ‬تربية‭ ‬الإبل‭ ‬والماشية‭ ‬عماد‭ ‬الحياة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬فكان‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬يُقاس‭ ‬بما‭ ‬يملكه‭ ‬الإنسان‭ ‬منها‭. ‬وهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬في‭ ‬كسب‭ ‬العيش‭ ‬يعتمد‭ ‬اعتماداً‭ ‬مطلقاً‭ ‬على‭ ‬عوامل‭ ‬طبيعية‭ ‬كمواسم‭ ‬هبوط‭ ‬المطر‭ ‬وخصوبة‭ ‬الأرض‭ ‬أو‭ ‬جفافها،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بيد‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬أمر‭ ‬تطويعها‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الرعي‭ ‬شبيهاً‭ ‬بالزراعة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ارتباطه‭ ‬بظروف‭ ‬طبيعية‭ ‬وجد‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭ ‬حينذاك‭ ‬خاضعاً‭ ‬لها،‭ ‬فإنه‭ ‬يختلف‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬يُلزم‭ ‬الإنسان‭ ‬بالتنقّل‭ ‬المستمرّ‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الماء‭ ‬والكلأ،‭ ‬بينما‭ ‬توجِد‭ ‬الزراعة‭ ‬مجتمعات‭ ‬مستقرّة‭ ‬نسبيًّا‭ ‬يشعر‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان‭ ‬بارتباط‭ ‬أوثق‭ ‬بأرض‭ ‬يتعامل‭ ‬معها‭ ‬ويسهم‭ ‬بعمله‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬إمكاناتها‭. ‬

وسط‭ ‬هذا‭ ‬المحيط‭ ‬المتّسم‭ ‬بالتفكّك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتضعضع‭ ‬السياسي‭ ‬والانهيار‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الانحدار‭ ‬الحضاري،‭ ‬كانت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تتكوّن‭ ‬وتحقّق‭ ‬ذاتها‭ ‬بنية‭ ‬مكتملة‭ ‬مترسّخة،‭ ‬وكانت‭ ‬أشكال‭ ‬التعبير‭ ‬الفني‭ ‬باللغة‭ ‬تتخذ‭ ‬صيغاً‭ ‬متطوّرة‭ ‬وناضجة‭. ‬ولعل‭ ‬الأمر‭ ‬يبدو‭ ‬متناقضاً‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى،‭ ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتواصل‭ ‬تطوّر‭ ‬التعبير‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬قفزات‭ ‬نوعية‭ ‬تحقّق‭ ‬التحوّل‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬الانحسار‭ ‬والانحدار‭ ‬الحضاري؟‭ ‬يطرح‭ ‬حسين‭ ‬مروّة‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬ويعالجه‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بالاستقلالية‭ ‬النسبية‭ ‬للشعر‭ ‬وللتعبير‭ ‬الثقافي‭ ‬عن‭ ‬الظروف‭ ‬والشروط‭ ‬الموضوعية‭ ‬التي‭ ‬ينشأ‭ ‬فيها،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أن‭ ‬مستوى‭ ‬تطوّر‭ ‬الأشكال‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬عرفناها‭ ‬عن‭ ‬مرحلة‭ ‬الجاهلية‭ ‬المتصلة‭ ‬بعصر‭ ‬الإسلام،‭ ‬كان‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬شكل‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لهذه‭ ‬المرحلة‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬التفاوت‭ ‬الذي‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬الانقطاع‭ ‬التاريخي‭ ‬النسبي‭ ‬بين‭ ‬المراحل‭ ‬القديمة‭ ‬للتاريخ‭ ‬العربي‭ ‬المتصفة‭ ‬بالرقي‭ ‬الحضاري‭ ‬ومرحلة‭ ‬الأفول‭ ‬الأخيرة،‭ ‬أحدث‭ ‬فجوة‭ ‬بين‭ ‬الأشكال‭ ‬الثقافية‭ ‬والبنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬حتى‭ ‬بدا‭ ‬التعبير‭ ‬الثقافي‭ ‬وكأنه‭ ‬مستقلّ‭ ‬استقلالاً‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬تامًّا‭ ‬عن‭ ‬شروط‭ ‬وجوده‭. ‬ويعلل‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭ ‬إن‭ ‬المعرفة‭ ‬والثقافة‭ ‬وإن‭ ‬كانتا‭ ‬انعكاساً‭ ‬للعالم‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬الإنسان،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬الانعكاس‭ ‬ليس‭ ‬انعكاساً‭ ‬مباشراً‭ ‬كانعكاس‭ ‬الأشياء‭ ‬والأشخاص‭ ‬في‭ ‬المرآة،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬عملية‭ ‬معقّدة‭ ‬لها‭ ‬قانونها‭ ‬الداخلي‭ ‬الذاتي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لها‭ ‬حركيّتها‭ ‬المستقلّة‭ ‬نسبيًّا‭ ‬عن‭ ‬حركيّة‭ ‬الوجود‭ ‬المادي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬الانعكاس،‭ ‬وينشأ‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬تتميّز‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬إيقاع‭ ‬خاص‭ ‬يتّصف‭ ‬بالبطء،‭ ‬أي‭ ‬بزمنيّة‭ ‬ذاتيّة‭ ‬لا‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬إيقاع‭ ‬زمن‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يتأخر‭ ‬تشكّل‭ ‬البُنى‭ ‬الثقافية‭ ‬عن‭ ‬تشكّل‭ ‬البنى‭ ‬الاجتماعية‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المعطيات‭ ‬جميعاً‭ ‬يستنتج‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬مروّة،‭ ‬لماذا‭ ‬كان‭ ‬الثبات‭ ‬والاستقرار‭ ‬النسبيّان‭ ‬من‭ ‬الصفات‭ ‬المميّزة‭ ‬للأشكال‭ ‬الثقافية،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬تتحوّل‭ ‬تلك‭ ‬الأشكال‭ ‬بتقلّب‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وتغيّرها‭ ‬فتظل‭ ‬محتفظة‭ ‬بزمنيّة‭ ‬تطوّرها‭ ‬الذاتي،‭ ‬وهذه‭ ‬الخصائص‭ ‬المشتركة‭ ‬التي‭ ‬تتصف‭ ‬بها‭ ‬الأعمال‭ ‬الثقافية‭ ‬والفنية‭ ‬تجعل‭ ‬منها‭ ‬نظاماً‭ ‬متماسكاً‭ ‬ومتكاملاً‭ ‬له‭ ‬كينونته‭ ‬وهويته،‭ ‬تحمل‭ ‬أجزاؤه‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬من‭ ‬الصلات‭ ‬والروابط‭ ‬الوثيقة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬وتنتمي‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬يضمّها‭ ‬فتسهم‭ ‬في‭ ‬تحقيقه‭ ‬وتستمدّ‭ ‬منه‭ ‬ذاتها‭ ‬ومعناها‭. ‬وهي‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬الواقع‭ ‬بصورة‭ ‬آلية‭ ‬ومباشرة‭ ‬لاستقلاليتها‭ ‬النسبيّة‭ ‬عنه،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬فراغ‭ ‬مكاني‭ ‬وزماني،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬الخارجيين‭ ‬يسهمان‭ ‬في‭ ‬تعريف‭ ‬مكانيّتها‭ ‬وزمانيّتها‭ ‬الخاصتين‭. ‬

 

الإسلام‭ ‬وإشراقة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية

إن‭ ‬ذلك‭ ‬الإيقاع‭ ‬الزمني‭ ‬الخاص‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تواصل‭ ‬تطوّرها‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬حتى‭ ‬بلغت‭ ‬ذروة‭ ‬النضج‭ ‬والاكتمال‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬البنى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الانحدار‭ ‬والانهيار،‭ ‬فبدت‭ ‬كأنها‭ ‬منفصلة‭ ‬عنها‭ ‬ومستقلة‭ ‬استقلالاً‭ ‬كلياً‭ ‬بذاتها‭. ‬ولعلّ‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬والفن‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬كانا‭ ‬سيبدآن‭ ‬مرحلة‭ ‬الانحدار‭ ‬بعد‭ ‬اكتمال‭ ‬لو‭ ‬استمرّت‭ ‬الظروف‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬جمود،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬عانت‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬الانهيار،‭ ‬أو‭ ‬لعلّ‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬كانت‭ ‬تغلي‭ ‬بتحوّلات‭ ‬تمخّضت‭ ‬عن‭ ‬انطلاقة‭ ‬جديدة‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬انبثاق‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬والانبعاث‭ ‬الحضاري‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬شهدته‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك،‭ ‬انطلقا‭ ‬بتلك‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متاحة‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وأضاف‭ ‬ذلك‭ ‬إليها‭ ‬أبعاداً‭ ‬فكرية‭ ‬ومعرفية‭ ‬وفنية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متاحة‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭. ‬وكانت‭ ‬النهضة‭ ‬الحضارية‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬حقّقها‭ ‬العرب‭ ‬وتوحّدهم‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬عظيمة‭ ‬وفتوحاتهم‭ ‬الواسعة‭ ‬ودخول‭ ‬أقوام‭ ‬ذوي‭ ‬حضارات‭ ‬مختلفة‭ ‬وانصهارهم‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬الفتيّة،‭ ‬نعمة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬تمكّنت‭ ‬بفضل‭ ‬حيويّتها‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تستوعب‭ ‬ما‭ ‬جدّ‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬مضامين‭ ‬اغتنت‭ ‬بها‭ ‬وأغنتها‭ .