أمم أمثالكم

أمم أمثالكم

يقول‭ ‬الحق‭ ‬جل‭ ‬وعلا‭: ‬‭{‬وما‭ ‬من‭ ‬دابة‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬ولا‭ ‬طائر‭ ‬يطير‭ ‬بجناحيه‭ ‬إلا‭ ‬أمم‭ ‬أمثالكم‭ ‬ما‭ ‬فرطنا‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬ربهم‭ ‬يحشرون‭}‬‭ ‬‮«‬الأنعام‭ ‬38‮»‬‭. ‬أي‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬حيوان‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬طائر‭ ‬يطير‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬بجناحيه‭ ‬إلا‭ ‬طوائف‭ ‬مخلوقة‭ ‬مثلكم،‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬وقدّر‭ ‬أحوالها‭ ‬وأرزاقها‭ ‬وآجالها‭.‬

عزيزي‭ ‬القارئ‭: ‬كم‭ ‬سورة‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬أسماها‭ ‬ربنا‭ ‬بأسماء‭ ‬حيوان؟‭ ‬تقول‭: ‬كثير‭. ‬فللبقرة‭ ‬سورة‭ ‬وللنحل‭ ‬سورة‭ ‬وللنمل‭ ‬سورة‭ ‬وللعنكبوت‭ ‬سورة‭. ‬وأقول‭: ‬أنت‭ ‬صادق‭.. ‬ولكن‭ ‬ألم‭ ‬تسأل‭ ‬نفسك‭ ‬لم‭ ‬جاءت‭ ‬السورتان‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة‭ ‬بصيغة‭ ‬المفرد‭ ‬والسورتان‭ ‬الثالثة‭ ‬والرابعة‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع،‭ ‬فلم‭ ‬تسمّيان‭ ‬سورة‭ ‬النحلة‭ ‬وسورة‭ ‬النملة‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬سورتي‭ ‬البقرة‭ ‬والعنكبوت؟‭ ‬إنه‭ ‬إعجاز‭ ‬علمي،‭ ‬فالنحل‭ ‬والنمل‭ ‬حشرات‭ ‬اجتماعية‭ ‬تشكّل‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬مملكة‭ ‬فائقة‭ ‬التنظيم‭. ‬وقد‭ ‬أثبت‭ ‬علم‭ ‬سلوك‭ ‬الحيوان‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬فصلت‭ ‬نحلة‭ ‬أو‭ ‬نملة‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬أفراد‭ ‬مملكتها‭ ‬ماتت،‭ ‬فكل‭ ‬منهما‭ ‬في‭ ‬مملكتها‭ ‬كمثل‭ ‬العضو‭ ‬في‭ ‬الجسم‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬له‭ ‬بانفصاله‭ ‬عنه،‭ ‬أما‭ ‬البقرة‭ ‬والعنكبوت‭ ‬فكل‭ ‬منهما‭ ‬بإمكانه‭ ‬العيش‭ ‬منفصلاً‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬أفراد‭ ‬قطيعه‭ ‬أو‭ ‬جماعته‭.‬

وحديــــثــنـــا‭ ‬اليـــوم‭ ‬عن‭ ‬مملكة‭ ‬النمل‭ ‬أو‭ ‬إن‭ ‬شئت‭ ‬أمة‭ ‬النمل،‭ ‬وهي‭ ‬أمة‭ ‬مثلنا‭ ‬خلقت‭ ‬لحكمة‭ ‬ولها‭ ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬الحياة‭ ‬شأن‭. ‬ولعلك‭ ‬كنت‭ ‬تتساءل‭ ‬أو‭ ‬مازلت‭ ‬تتساءل‭: ‬لم‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬النمل؟‭ ‬وأقول‭: ‬خلقه‭ ‬كي‭ ‬يكون‭ ‬أداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬التوازن‭ ‬البيولوجي‭ ‬بين‭ ‬المخلوقات‭ ‬الحية‭. ‬تقول‭: ‬كيف؟‭ ‬وأقول‭:‬‭ ‬إن‭ ‬النمل‭ (‬ويوجد‭ ‬منه‭ ‬18000‭ ‬نوع‭) ‬يقضي‭ ‬سنويًا‭ ‬على‭ ‬ملايين‭ ‬الأطنان‭ ‬من‭ ‬الحشرات‭ ‬والتي‭ ‬لولاه‭ ‬لفتكت‭ ‬بالكثير‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬نباتات‭ ‬الأرض،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يشكّل‭ ‬غذاء‭ ‬لبعض‭ ‬الحيوانات،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬فوائد‭ ‬أخر‭: ‬فهو‭ ‬يهوى‭ ‬التربة‭ ‬ويسمّدها‭ ‬ويغذيها‭ ‬ويلقح‭ ‬الأزهار‭ ‬ويسهم‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬انتثار‭ ‬البذور‭.‬

والنمل‭ ‬أمة‭ ‬مثلنا‭ ‬له‭ ‬سلوكه‭ ‬وله‭ ‬لغته‭. ‬وفي‭ ‬مقالنا‭ ‬هذا‭ ‬نقدم‭ ‬لك‭ ‬فكرة‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬أنماط‭ ‬السلوك‭ ‬في‭ ‬تلكم‭ ‬الحشرات‭ ‬الغريبة‭ ‬العجيبة‭:‬

فنحن‭ ‬ندفن‭ ‬موتانا‭ ‬والنمل‭ ‬يدفن‭ ‬موتاه‭! ‬فالنمل‭ ‬مثلنا‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬إكرام‭ ‬الميت‭ ‬دفنه‭. ‬ومدافن‭ ‬النمل‭ ‬مقابر‭ ‬جماعية،‭ ‬إذ‭ ‬عندما‭ ‬تموت‭ ‬نملة‭ ‬فإنها‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬وفاتها‭ ‬بمادة‭ ‬كيميائية‭ ‬معينة‭ ‬تفرزها‭ ‬فتعلم‭ ‬بقية‭ ‬أقرانها‭ ‬بالخبر‭ ‬فتهرع‭ ‬لسحبها‭ ‬خارج‭ ‬المملكة‭ ‬وتدفنها‭ ‬في‭ ‬مدافن‭ ‬النمل‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬موكب‭ ‬جنائزي‭ ‬له‭ ‬طقوسه‭!‬

ونحن‭ ‬نزرع‭ ‬والنمل‭ ‬يزرع‭! ‬إنه‭ ‬يزرع‭ ‬الفطر‭ ‬وينمّيه‭ ‬ويربّيه‭ ‬ويحميه‭ ‬من‭ ‬الميكروبات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تفتك‭ ‬به‭! ‬ونحن‭ ‬نستخدم‭ ‬المبيدات‭ ‬الكيميائية‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬مزروعاتنا،‭ ‬وللنمل‭ ‬كذلك‭ ‬مبيداته،‭ ‬إذ‭ ‬يفرز‭ ‬مواد‭ ‬كيميائية‭ ‬مضادة‭ ‬للأحياء‭ ‬الضارة‭ ‬التي‭ ‬تهاجم‭ ‬مزروعاته‭!‬

ونحن‭ ‬نستدر‭ ‬الحليب‭ ‬من‭ ‬مواشينا،‭ ‬والنمل‭ ‬يستدر‭ ‬الحليب‭ ‬من‭ ‬مواشـــيه‭! ‬فهو‭ ‬يمـــتـــلك‭ ‬قطعانًا‭ ‬من‭ ‬الحشرات‭ (‬تسمى‭ ‬من‭ ‬المزروعات‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬كقطعان‭ ‬الماشية‭ ‬بالنـســـبة‭ ‬لنا،‭ ‬يسوقــها‭ ‬إلى‭ ‬المراعي‭ ‬ويــــدافع‭ ‬عنـــها‭ ‬ضد‭ ‬أعدائها‭ ‬من‭ ‬الحشرات‭ ‬ويـــؤمِّن‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬احتياجاتها‭ ‬من‭ ‬مأكل‭ ‬ومشرب‭ ‬ومسكن،‭ ‬مقابل‭ ‬أن‭ ‬تمـــده‭ ‬بحلـــيبها‭ ‬وهو‭ ‬مادة‭ ‬سكرية‭ ‬يستدرها‭ ‬بقرون‭ ‬استشعاره‭!‬

والإنسان‭ ‬يــــمارس‭ ‬الاسترقاق،‭ ‬والنمل‭ ‬يــمارس‭ ‬الاسترقاق‭! ‬إذ‭ ‬يشــن‭ ‬حربًا‭ ‬على‭ ‬أنـــواع‭ ‬أخر‭ ‬من‭ ‬النمل،‭ ‬فيقتل‭ ‬منها‭ ‬الشغالات‭ ‬والحارسات‭ ‬المدافعات،‭ ‬ثم‭ ‬يحمل‭ ‬يرقاتــها‭ ‬إلى‭ ‬مملكته‭ ‬غصبًا،‭ ‬ويتعهد‭ ‬بتربيتها‭ ‬إلى‭ ‬طــور‭ ‬البلوغ،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يسخّرها‭ ‬في‭ ‬خدمته‭ ‬والعـــمـــل‭ ‬لحسابه‭!‬

والإنسان‭ ‬يعمد‭ ‬إلى‭ ‬الادخار،‭ ‬والنمل‭ ‬يعمد‭ ‬إلى‭ ‬الادخار‭! ‬ففي‭ ‬حياة‭ ‬كل‭ ‬أمة‭ ‬فترات‭ ‬رخاء‭ ‬وأيام‭ ‬عجاف،‭ ‬كذلك‭ ‬أمة‭ ‬النمل،‭ ‬فهي‭ ‬تحتاط‭ ‬بعناية‭ ‬لأيام‭ ‬القحط‭ ‬وشح‭ ‬الغذاء‭. ‬فعند‭ ‬المسبغة‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬النحسات‭ ‬تتدلى‭ ‬جماعة‭ ‬منه‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬الخازنات‮»‬‭ ‬من‭ ‬مخزن‭ ‬بيت‭ ‬النمل‭ ‬لتوزع‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬رفاقها‭ ‬الشغالات‭ ‬رحيق‭ ‬العسل‭ ‬الذي‭ ‬تخزنه‭ ‬في‭ ‬بطونها‭ ‬تحسبًا‭ ‬لتلكم‭ ‬الأيام‭!‬

والإنسان‭ ‬يمارس‭ ‬الحياكة‭ ‬والنمل‭ ‬يحيك‭ ‬أعشاشه‭! ‬إذ‭ ‬يبني‭ ‬النمل‭ ‬الإفريقي‭ ‬أعشاشه‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬الشجر‭ ‬التي‭ ‬يخيطها،‭ ‬نعم‭ ‬يخيطها‭ ‬بخيوط‭ ‬حريرية‭ ‬لزجة‭ ‬تفرزها‭ ‬يرقاته،‭ ‬فتحملها‭ ‬الشغالة‭ ‬بين‭ ‬فكيها‭ ‬وتمرر‭ ‬كل‭ ‬خيط‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬الأوراق‭ ‬فيجمعها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬تمامًا‭ ‬مثلما‭ ‬يفعل‭ ‬الحائك‭!‬

والإنسان‭ ‬يحتال‭ ‬لغذائه،‭ ‬وكذلكم‭ ‬النمل‭ ‬محتال‭! ‬فها‭ ‬هي‭ ‬جماعة‭ ‬منه‭ ‬تستشعر‭ ‬الجوع،‭ ‬لذا‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الطعام،‭ ‬وفجأة‭ ‬تلمح‭ ‬وجبة‭ ‬شهية‭ ‬من‭ ‬حشرات‭ ‬تحبها،‭ ‬ولكن‭ ‬الحشرات‭ ‬بعيدة‭ ‬المنال،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬فوق‭ ‬إحدى‭ ‬الأشجار‭. ‬ماذا‭ ‬تفعل‭ ‬جماعة‭ ‬النمل؟‭ ‬تحتال‭ ‬بأن‭ ‬تقسم‭ ‬نفسها‭ ‬بسرعة‭ ‬قسمين‭: ‬قسم‭ ‬يرابط‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬جذع‭ ‬الشجرة،‭ ‬وقسم‭ ‬يتسلق‭ ‬الجذع‭ ‬ليصعد‭ ‬للحشرات،‭ ‬وعندما‭ ‬يصلها‭ ‬يحكم‭ ‬الطوق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الطيران‭ ‬منها،‭ ‬وتسقط‭ ‬التي‭ ‬تنجو‭ ‬من‭ ‬الفريق‭ ‬المهاجم‭ ‬لتقع‭ ‬في‭ ‬شباك‭ ‬الفريق‭ ‬المتربص‭ ‬عند‭ ‬قاعدة‭ ‬الجذع‭! ‬والأغرب‭ ‬أنه‭ ‬يرافق‭ ‬النمل‭ ‬خلال‭ ‬عملية‭ ‬الاصطياد‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬العصافير‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬عصافير‭ ‬النمل‮»‬‭ ‬يقوم‭ ‬بالتهام‭ ‬بعض‭ ‬الحشرات‭ ‬التي‭ ‬تهرب‭ ‬من‭ ‬الفريق‭ ‬المهاجم‭. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يرافق‭ ‬النمل‭ ‬والعصافير‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الفراش‭ ‬فاقع‭ ‬لونه‭ ‬يتغذى‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬فضلات‭ ‬العصافير‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬آزوتية‭ ‬ضرورية‭ ‬لنمو‭ ‬بيضه‭! ‬والأشد‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬عصافير‭ ‬النمل‭ ‬تلكم‭ ‬لا‭ ‬تهاجم‭ ‬النمل‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬تهاجم‭ ‬الفراشات،‭ ‬لا‭ ‬تهاجم‭ ‬النمل‭ ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬يؤدي‭ ‬لها‭ ‬خدمة،‭ ‬ولا‭ ‬تهاجم‭ ‬الفراشات‭ ‬لمذاقها‭ ‬الكريه‭.‬

والإنسان‭ ‬يرتزق‭ ‬والنمل‭ ‬فيه‭ ‬المرتزق‭!! ‬إذ‭ ‬تنخرط‭ ‬بعض‭ ‬أفراده‭ ‬في‭ ‬جيش‭ ‬من‭ ‬يدفع‭ ‬الثمن،‭ ‬والذي‭ ‬يدفع‭ ‬الثمن‭ ‬هنا‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬يرقات‭ ‬الفراش،‭ ‬لتجلب‭ ‬المرتزقة‭ ‬من‭ ‬النمل‭ ‬لتدافع‭ ‬عنها‭ ‬ضد‭ ‬أعدائها‭ ‬من‭ ‬الزنابير‭ ‬وأمثالها‭. ‬والثمن‭ ‬مواد‭ ‬سكرية‭ ‬وبروتينية‭ ‬يستطيبها‭ ‬النمل‭ ‬وتفرزها‭ ‬اليرقات‭ ‬‭.