لغتنا العربية.. تحديات معاصرة
إن لغتنا العربية.. تعد من أقدم اللغات في العالم.. وهي اللغة الوحيدة التي استمرت منذ أن استقرت بكل مقوماتها في الجزيرة العربية، وقد حفظها الله سبحانه بنزول القرآن الكريم، حيث أنزل بلسان عربي مبين، وكل ما أنتجه العقل العربي والإسلامي في عصور ازدهار الحضارة العربية، كان باللسان العربي الناطق والمعبر عن فكر الأمة وتراثها وعلومها التجريبية والفلسفية، والتشريعية والأدبية.. وأصبحت لغة عالمية يفتخر بها كل من أراد أن يتعرف على حضارة العرب والمسلمين، ولكنها في ظل هذا الماضي العريق يخشى عليها من المستقبل الغريق، والحاضر القلق الذي يهدد وجودها، في ظل التطورات والتقنيات الحديثة التي تتجدد دائما ولابد للغة العربية من مواكبة التطور العالمي حتى لا تصبح أثرا بعد عين.
عن أهمية اللغة العربية في ضوء البعد الديني.. والبعد الحضاري للأمة الإسلامية ترد نصوص كثيرة، حيث روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من تكلم العربية فهو عربي، ومن أدرك له اثنان في الإسلام فهو عربي».
وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد.. أيها الناس.. فإن الرب رب واحد، والأب أب واحد، والدين دين واحد، وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، إنما هي لسان، فمن تكلم العربية فهو عربي».
وقال تعالى {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (192 - 195) سورة الشعراء.
وقال سبحانه {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (27 -28) سورة الزمر.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «تعلموا العربية، فإنها من دينكم».
أسبق من ثقافة اليونان والعبريين
يقول العقاد: هذه حقيقة من حقائق التاريخ الثابت، الذي لا يحتاج إلى عناء طويل في إثباته، ولكنها على ذلك حقيقة غريبة تقع عند الكثيرين من الأوربيين والشرقيين، بل عند بعض العرب المحدثين، موقع المفاجأة التي لا تزول بغير المراجعة والبحث المستفيض، ومن البراهين على صدق هذه الحقيقة:
أ - الأبجدية اليونانية عربية بحروفها وبمعاني تلك الحروف وأشكالها، وهي منسوبة إلى قدموس الفينيقي.. وهو في كتاب مؤرخهم الأكبر «هيرودوت» أول من علمهم الصناعات، وأسماء الحروف وأشكالها ومعانيها شاهدة على انتقالها من المصادر العربية: سواء كانت فينيقية أو آرامية أو عربية من الجنوب.
ب - سفر التكوين وسفر الخروج صريحان في تعليم الصالحين من العرب لكل من إبراهيم وموسى عليهما السلام، فإبراهيم تعلم من ملكي صادق، وموسى تعلم من يثرون إمام مدين، وشاعت في السفرين رسالة «الآباء» قبل أن يعرفوا باسم الأنبياء، لأن العبرانيين عرفوا كلمة «النبي» بعد وصولهم إلى أرض كنعان واتصالهم بأئمة العرب بين جنوب فلسطين، وشمال الحجاز.
ج - إن الآرامية كما يقول العقاد ذ هي عربية ذ تلك الأيام في مواطنها زمن انتشار اللغة الآرامية، وأصبحت اللغة الآرامية هي اللغة الدولية في ذلك العهد، وأصبحت على عهد الدولة الأخمينية الفارسية إحدى اللغات الرسمية في الإمبراطورية، ولسانا عاما يتكلم به التجار من مصر إلى آسيا الصغرى في الهند، وإن الآرامية.. قريبة جدا من اللغة العربية بعد تطورها نحو ثلاثة آلاف سنة، فالثقافة الآرامية عربية في لغتها ونشأتها ونسبتها إلى عنصرها... وكل ما استفاده العالم من جانبها فهو من فضل هذه الأمة العربية على الثقافة العالمية (انظر العقاد في كتابه «الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين»).
اللسان العربي
واكتمال جهاز النطق في الإنسان
إذا قيس اللسان العربي بمقاييس علم الألسنة فليس في اللغات لغة أوفى منه بشروط اللغة في ألفاظها وقواعدها، ويحق لنا أن نعتبر أنها أوفى اللغات جميعا بمقياس بسيط واضح لا خلاف عليه، وهو مقياس جهاز النطق في الإنسان.
فإن اللغة العربية تستخدم هذا الجهاز الإنساني على أتمه وأحسنه، ولا تهمل وظيفة واحدة من وظائفه كما يحدث ذلك في أكثر الأبجديات اللغوية، فلا التباس في حرف من حروفها بين مخرجين، ولا في مخرج من مخارجها بين حرفين، وقد تصححت فيها الحركات الصوتية الثلاث بين الفتح والضم والكسر.
فمضت فيها فصاحة النطق على إبطال الإمالة بين هذه الحركات وإخراجها كلها مستقيمة مميزة كما يشاء معنى الإفصاح، وهو في جوهره إزالة اللبس في الأصوات والحركات (انظر عباس العقاد ص12)، ولم يحدث لأبجدية أخرى غير الأبجدية العربية أنها جربت زمنا طويلا في كتابة اللغات من كل أسرة لسانية، فلم تقتصر في هذه التجربة على شأو الأبجديات الأخرى، إذ كتبت بها العربية والفارسية والتركية والأردية، والإسبانية، وهي تنتمي إلى الأصول السامية والطورانية، والهندية والجرمانية، وقد وجد فيها الكاتبون ما ينوب عن الحروف الملتبسة، ولم يوجد في الأبجديات المختلفة ما ينوب عن حروف العربية الصريحة في مخارجها، بما استوفته من جهاز النطق الإنساني في كل آلة من آلاته (العقاد ص37 «أشتات مجتمعات في اللغة والأدب»).
تحديات المستقبل
من العوائق التي تهدد مستقبل اللغة العربية.. وتلقي به في الطوفان (طوفان العولمة وطوفان الجهل، وطوفان التخلف، وطوفان الضياع).
1- الدعوة إلى العامية.. وجعلها اللغة الرسمية وتقسيم العالم العربي إلى خمس مناطق لغوية، وأول من حمل لواء هذه الدعوة «ولكوكس» ومضى في دعوته وألف وترجم الإنجليزية باللغة العامية وترجم شكسبير.. وألف كتبا في العامية المصرية، وجاء لمور أحد قضاة الاستئناف بالقاهرة ودعا إلى ما أسماه لغة القاهرة، ووضع لها قواعد، واقترح اتخاذها لغة التعليم والعلم والأدب، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية، وقال: لا معنى لأن توجد لغة للكتابة، ولغة أخرى للكلام.. وعلل بأن ذلك يعد حائلا كبيراً دون رقي الأمة، ولو استعملت لغة واحدة للحديث والكتابة لنهضت نهضة كبرى، والخطر الأدهى والأمر الذي يهدد مستقبل اللغة العربية أن يتشيع لهذه الدعوة المغرضة مفكرون ومثقفون، عرب ومنهم في الشام مارون غصن، وأنيس فريحة، وسعيد عقل، وفي مصر سلامة موسى وقاسم أمين، وكثير من الأدباء الذين يكتبون شعرهم باللهجة العامية، وبعضهم حاول كتابة الرواية والقصة بالعامية، ولكنها محاولات باءت بالفشل الذريع.
2 - الدعوة إلى هدم النحو العربي.. ومن الداعين إلى ذلك صاحب كتاب «جناية سيبويه».. الرفض التام لما في النحو من أوهام، وهو زكريا أوزون ويرى هذا المدعي.. أن النحو جناية على المتكلمين بالعربية، وعلى أجيال العربية عبر القرون المتعاقبة من سيبويه حتى الآن، ويقول: وما سيبويه وأساتذته وتلاميذه إلا جناة حقيقيون أورثوا الأجيال عبئا وعوائق حضارية وتطورية، ويرى كذلك: أن النحو وأفكاره وقواعده ما هي الا أوهام باطلة.
ومن دلائل تجني هذا الباحث أن من مؤلفاته في هذا الطريق الهدام كتاب «جناية الشافعي، وكتاب جناية البخاري.
وفي هذا الطريق يلقي شريف الشوباشي حجراً من الجهل والتجني على اللغة، فيكتب كتابه «لتحيا اللغة العربية.. يسقط سيبويه» (انظر هذه الكتب، وانظر مجلد اللغة العربية ومشروع الأمة الحضاري - مقالة صمود العربية أمام التحديات، طبع المجلس العالمي للغة العربية ببيروت).
3- تدني المستوى اللغوي لدى طلاب المراحل التعليمية من الابتدائي حتى الجامعة في مصر والعالم العربي، وإخفاق مدرسي اللغة العربية، والقائمين على وضع المناهج في حقول التربية والتعليم في اجتياز هذه الكبوة وتلك الفجوة اللغوية التي جعلت من اللغة مسخاً شائعاً، ومعلومات جافة، وقواعد يابسة تلقى في حصة مدرسية، أو محاضرة جامعية. وفي جامعاتنا لا يُقبل على قسم اللغة العربية إلا الطلاب الضعفاء الحاصلون على المجموع الأقل.. وفي جامعة الأزهر طلاب كليات اللغة العربية هم أقل الطلاب مجموعاً، وفي دول الخليج العربي ألغيت كثير من أقسام اللغة العربية، بحجة أن السوق لا تحتاج إلى هذا الصنف من الخريجين.. وهذا عجب عجاب، فالإعلام المقروء والمسموع يحتاج إلى من يتقن اللغة العربية أولا، ثم بعض اللغات الأخرى، والمذيعون كيف يتفوقون وهم لا يتقنون الأداء.. ولا ينطقون اللغة في صورتها الصحيحة، وكذلك المحامون والقضاة والقادة السياسيون كيف يؤدون خطبهم، ويواجهون الجماهير، وأعضاء مجلسي الشعب والشورى لابد أن يتسلحوا باللغة والفكر والثقافة والرؤى السياسية الواعية، ولكن هيهات، ففاقد الشيء لا يعطيه.
مطالب مجتمع المعرفة
إن الإصلاح اللغوي المطلوب لابد أن يتم بأقصى سرعة ممكنة، حتى لا تتسع الفجوة اللغوية التي تفصل بين العربية ولغات العالم المتقدم، وإن العربية كما يقول صاحب كتاب «الفجوة الرقمية» بين فكي رحى، بين عولمة تمارس عليها ضغوطا هائلة تفرض عليها أقصى درجات المرونة وسرعة الاستجابة للمتغيرات العالمية، وبين فصيل من الفكر اللغوي الأصولي المتجمد يعوق تقدمها تحت دعاوى مضللة ومفاهيم خاطئة للحفاظ على الطهارة اللغوية والأصالة الفكرية!
وقد فتحت علينا «الإنترنت» بوابات الفيضان، ولا عاصم اليوم إلا لغة عربية متطورة تكون درعاً لنا لمواجهة الإعصار المعلوماتي الجارف، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال مواقف صريحة وواضحة علينا أن نتخذها إزاء كثير من القضايا اللغوية التي عجزنا عن حسمها حتى الآن، مثل:
< ازدواجية الفصحى والعامية.. كيف يتم التوافق والتقريب؟
< تعريب التعليم.. كيف يتم وما الخطط والاستراتيجيات التي تؤهل لذلك؟
< ثنائية استخدام اللغة العربية بالتوازي مع اللغات الأجنبية (وتحديدا الإنجليزية والفرنسية).
< كيفية تعليم العربية للناطقين بها، وغير الناطقين بها (الفجوة الرقمية وعالم المعرفة د.نبيل علي، د.نادية حجازي).
التطور العلمي والمنهجي
من مظاهر هذا التغيير الذي جاء في المشروع الأمريكي الذي يقر بأنه على مدى أكثر من 600 دراسة وبحث متخصص تم إجراؤها منذ عام 2002م إلى 2004م انتهوا إلى أن موجة الكره العربي لأمريكا وإسرائيل والشعور بالبغض تجاه من يتكلمون الإنجليزية والفرنسية ترجع إلى صعوبة التقاء اللغة العربية مع اللغة الإنجليزية، ولذلك يريدون أن يتم الآتي لتطوير اللغة العربية:
1- إلغاء التنقيط.
2- التأكد من استقامة الحرف فما هو قائم في اللغة العربية..مثل عَِِ، وخً، وإلغاء ما يطلق عليه الحلقات المقفلة مثل هـ، أو ة التاء المربوطة.
3- إلغاء الخطوط المتعددة، والاكتفاء بشكل خطي واحد.
4- إلغاء تعدد أشكال ومواضع ورود الهمزات.. مثل أ، أو على الواو.. أو الياء أو المنفردة.
5- الاعتماد في الكتابة الجديدة للغة العربية على الأشكال الهندسية، مثل المثلث والمستقيم والدائرة، حيث إن المشكلة المعقدة في الأشكال الحالية للغة العربية هي أن أشكالها أو حركاتها تزيد على 90 شكلا أو حركة، وهذا هو الأساس الذي يجعلها من أصعب اللغات في التعليم، أو القدرة على فهم محتواها وتفاصيلها.
6- إن من أغراض نشر هذا المشروع الأمريكي هو نشر نسخة منقحة ومعدلة من القرآن الكريم بتلك اللغة الجديدة وبأشكالها المبتكرة، وستكون معتمدة أيضا داخل البلدان العربية والإسلامية، وإن هذه الأشكال كما يدعون ستتيح للمرة الأولى إدخال العديد من التعديلات على هذا الكتاب، الذي يتضمن العديد من المبادئ والأفكار التي تحض على عدم التعاون مع الآخرين ونشر العنف والكراهية وبئس ما يزعمون!! (انظر: «لماذا التآمر على اللغة العربية؟».. تأليف: محمد عبدالواحد حجازي).
كيف نحافظ على لغتنا العربية؟
1- وضع سياسة لغوية واضحة على الصعيد القومي وإصدار القرار السياسي اللازم لتطبيق هذه السياسة.
2- وضع خطة لغوية على الصعيدين القومي والعربي ينهض بها اتحاد المجامع اللغوية العربية.
3- وضع خريطة بحثية على المستوى القومي لمعالجة مشكلات تعليم اللغة العربية وتعلمها بالأساليب العلمية والتجارب الميدانية.
4- العمل الحثيث على زيادة المحتوى الرقمي العربي على شبكة «الإنترنت».
5- تعزيز دور مجامع اللغة العربية في تعريب العلوم، وكذلك تفعيل الجمعيات
الأهلية المهتمة باللغة العربية.. وتطورها..وتحديثها.
6- إيلاء الأهمية لاستعمال اللغة العربية السليمة في الإعلام العربي وفي الإعلان، والفضائيات الرسمية، والخاصة في جميع البلاد العربية.
7- تعزيز وتعضيد تحقيق التراث العلمي العربي، وكشف النقاب عن المحفوظات العلمية العربية.
8- ضرورة العناية باكتساب اللغات الأجنبية وإتقانها والترجمة من العربية إليها للغات الحية المتطورة.
يقول الشاعر العربي القديم:
بقدر لغات المرء يكثر نفـعه
وتلك له عند الشدائد أعوان
فبادر إلى حفظ اللغات مسارعاً
فكل لسان بالحقـيقة إنسان
يقول الشاعر حافظ إبراهيم:
وسعت كتاب الله لفظ وغايـــة
وما ضقت عن أي بــه وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أســماء لمخترعــات
أنا البحر في أحشائه الـدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟