تشارلــي... فسيولوجيا الإنسان الأول

تشارلــي...  فسيولوجيا الإنسان الأول

آمل أن يوافقني القارئ، بعد قراءة هذه الملاحظات التأملية، عن بعض السمات الاجتماعية والقيمية والفسيولوجية (والفسيولوجيا هي علم وظائف الأعضاء) لشخصية المتسكع تشارلي، التي ابتكرها الفنان الكبير تشارلز تشابلن، أن يوافقني على أن ما يُعبِّر عنه تشارلي من قيم، وما يأخذ به نفسه من عادات وسلوك، هو وجه لعملة كوميدية ليس وجهها الآخر تافهاً على الإطلاق، وأن جزءاً كبيراً من دوام المتعة في أفلامه إنما يدين بالفضل للجهد المتبصر المحقون فيها.

مبدئياً إن حاولنا تصنيف تشارلي اجتماعياً لوجدنا أنه لا ينتمي إلى أي طبقة اجتماعية من أي نوع، فهو مستقل عن الطبقات ولا يحتاج إلى سند اجتماعي. إن تشارلي يحسن السير وحيداً، ومسلك الاستقلال هو غريزته الغالبة التي تفرض قانونها على بقية غرائزه. إن امتلاكه لفرديته واضح دائماً حتى في تسكعه وسط الزحام، فلا يمكن لزحام مدينة كبرى أن يمتص فرديته، ووعيه المكثف بذاته يجعله مخلوقاً شخصياً على الدوام وعلى النحو الذي لا يمكن اعتباره جزءاً من كتلة الجماهير، ولذلك تأتي مشاركته في التظاهرة في «العصر الحديث» من باب اللبس وسوء التفاهم لا من باب القصدية والعمد.
ولذلك أيضاً تصبح مَشاهد سكان المدينة الشاحبين، الضجرين، المهتاجين، سريعي التأذي، ضرورية في أفلامه، لأنها هي الخلفية التي تَبرز فوقها قسمات فرادته أكثر وضوحاً وتميزاً، وهي التي تُشعرنا بأن الأمر يتطلب منه مزاجاً بطولياً كي يحيا في ظل تلك الشروط محافظاً على فرديته من دون عزوف أو استسلام. إن تشارلي ينقذ الكلب الوحيد في «حياة كلب» من مجتمع الكلاب الشرسة العدوانية، لأنه هو صنوه وشبيهه، وللسبب نفسه نجده دائماً في عداء مع رجال الشرطة ممثلي القانون والنظام والمجتمع.

عزيمة لا تلين
مسلك الفردية نلاحظه حتى في ردائه الذي لا يخضع للموضة، بل يؤكد استقلاله عن كتلة الجماهير. إن رداء تشارلي يتمتع بجمال شعري خاص، وهو نتاج لخيال واسع، ويلبي متطلباته هو لا متطلبات الموضة: فهو واسع ورخو ليتمتع داخله بالحرية وسهولة الحركة، وحذاءاه يشبهان قدمي طائر أكثر من كونهما لبشر، ويتيحان له المشي بسذاجة طائر يجوب شوارع المدينة بحثاً عن غنيمة من الطعام. إن إصرار تشابلن على أن تكون مشية تشارلي أقرب إلى السذاجة ليس من باب إظهاره بمظهر الخراقة (فهو ليس عبيط القرية)، ولكن لحرصه على أن تكون تلك السذاجة مظهراً من مظاهر اندماج تشارلي مع الطبيعة لا مع المدنية الحديثة. وختاماً لهذه الملاحظة، لا يمكن أن تكون أقدام تشارلي إلا مفلطحة: لأنها أقدام الإرادة الثابتة والعزيمة التي لا تلين.
دائماً ما يحاول تشارلي ابتداع قيم جديدة تأكيداً لفرديته، الأمر الذي يلاحَظ مثلاً في استعماله أدوات المائدة؛ ففي كل أفلامه نلاحظ إصراره على رفض استخدام أدوات المائدة كما نستعملها نحن أبناء المجتمع الملتزمين بآداب المائدة التقليدية؛ هو لا يرفض استخدامها في حد ذاتها، بل يبتدع لها وظائف جديدة غير تلك المستقرة في الأذهان. 
فهو مثلاً: يستعمل الشاكوش لكسر البيض في «المتشردة»، والفرن الساخن لكيِّ بدلته في «حلبة التزلج»، وملاحات الطعام كمنظار مُقرِّب في «المهاجر»، وإبريق الشاي كرضَّاعة للطفل، وعلبة السردين كعلبة سجائر في «الطفل»، ويخرم الخبز بمثقاب ليحشو فيه إصبع السجق ويُحكم حشره بدقة بالشاكوش في «يوم تسلُّم الراتب»، ويصمم رقصة للبانتومايم بشوكتين مغروستين في قطعتي خبز في «حُمى الذهب»، ويستعمل بضع قطرات من النبيذ كعطر يضعه خلف أذنيه في «أضواء المدينة» ... إلخ.
إن استعمالات تشارلي أدوات المائدة هي استعمالات ناقدة ومتجاوزة للمتعارف عليه منذ عصر التنوير الأوربي، وكأنه يقول إن الحضارة الغربية ليست كونية، وإن يقينها بشأن الطبيعة الإنسانية ليس إلا أسطورة متعالية من أساطيرها. وهل من رمز للتراث الحداثي الأوربي أفضل من أدوات المائدة، كي يعمل على تجاوزه، وهدمه، وإبداعه في شكل جديد؟ إن أكثر المَشاهد التي يبدو فيها تشارلي ناجحاً ومتوافقاً مع طبيعته، هي تلك التي يُفعِّل فيها فلسفته هذه؛ فيستعمل أدوات المائدة لغير الأغراض التي نستعملها نحن لها.
لكن في الأوقات القليلة - لحسن حظنا - التي يحاول فيها التوافق مع المجتمع، واتباع آداب المائدة التقليدية، يلحقه الفشل الذريع. فهو مثلاً: يُغرق أكمام سترته في طبق الحساء وهو يأكل، ويلسع نفسه بالقهوة الساخنة في «المهاجر»، ويسكب الحساء على سرواله، ويفشل في استعمال الشوكة والسكين، والفضيحة الكبرى تقع عندما يُعهد إليه القيام بمهمة جرسون المطعم في «حلبة التزلج».
إن فشل تشارلي يحدث في الأوقات التي يقلد فيها الجماعة، ويتكرر ذلك باستمرار في كل أفلامه: في «أضواء المدينة»، يدخل المطعم الفاخر مرتدياً بدلة رسمية أنيقة برفقة صديقه الثري ذي الميول الانتحارية، ويفشل في مجاراته في استخدام أدوات المائدة أو في التصرفات الاجتماعية اللائقة. وفي ما بعد، أثناء الحفل الذي يقام في فيلا صديقه، يكون مجرد وجوده وسط المدعوين سبباً في ارتباكه للدرجة التي يبتلع فيها الصفارة التي كان من المفروض أن يلهو بها، وفي «المهاجر» يُصاب بالفواق لمجرد جلوسه بجوار راكب مصاب به، في حين كان هو الوحيد بين ركاب الباخرة الذي نجح من قبل - وقت عزلته - في الحفاظ على توازنه ولم يُصبه دوار البحر، وفي «العصر الحديث» نسمع صوت معدته - التي هي في العادة تهضم الحديد- تهمهم وتغمغم بعد محاولته تقليد زوجة الوزير وتناول الشاي مثلها، والحركة الوحيدة غير الرشيقة والخائبة تحدث له في «السيرك» عندما يحاول تقليد منافسه متصدياً للمشي على الحبال ومدعياً ما لا يستطيعه لإثارة إعجاب حبيبته، حتى أنه يتخلى في هذا المشهد عن ملابسه التي نعرفها ويرتدي ملابس تشبه ملابس غريمه، ولذلك تهاجمه القرود - أكثر الكائنات التي تذكرنا بالطبيعة الأولى للإنسان- وتجرِّده من ملابسه وهو على الحبال، لترده إلى طبيعته.

قيم الجماعة
إن محاولة تشارلي تقليد الجماعة وتبني قيمها تكون نتيجة رغبة طارئة في أن يصبح مثل الأشخاص «العاديين» في المجتمع؛ ويكون الدافع إليها في الغالب وقوعه في الحب، أو شعوره بغيرة مفاجئة، لكن النتيجة تكون هي الخيبة والفشل في كل مرة: فيفشل في إضحاك الجمهور بسبب شعوره بالغيرة من زميله لاعب الأكروبات في «السيرك»، ويفشل في الحفاظ على توازنه وهو يتزلج على الجليد عندما يتقمص شخصية برجوازية لينال إعجاب حبيبته في «حلبة التزلج»، ويلازمه سوء الحظ عندما يراقص حبيبته في «حُمى الذهب»، فيسقط سرواله أولاً، ويحاول ربطه بحبل يجده على المائدة، فيتضح أن الحبل هو طوق لكلب كبير نائم، ويزيد الطين بلة عندما تدخل قطة إلى حلبة الرقص فيلاحقها الكلب المربوط معه تشارلي.
وحتى عندما يحاول إسعاد حبيبته العمياء في «أضواء المدينة» فيتقمص شخصية رجل غني، لا تكون محاولته تلك إلا مصدراً للآلام والمنغصات، والنهاية التراجيدية للفيلم -عندما تبصر الفتاة- تؤكد استحالة العلاقة بينهما. إن الأوقات التي يُصاب فيها تشارلي بالمرض هي الأوقات التي يندمج فيها مع المجتمع: فيصبح مخموراً ويخرج عن طبيعته عندما يجاري المليونير في شرب الخمر في «أضواء المدينة»، أو عندما يستنشق الكوكايين بالخطأ أثناء تناوله الطعام مع زملائه في السجن في «العصر الحديث».
نستطيع أن ندرك الآن لماذا يتجه تشارلي في مشهد النهاية في أفلامه إلى الأفق المتسع الخالي الذي يشبه خواء الصحراء، ولماذا يدير ظهره للمجتمع الحديث ويتجه إلى البرية، بل ولماذا يُفضل سكنى «البدرومات والعليات»، والخرائب والأماكن المهجورة، بل وحتى زنزانة السجن في «العصر الحديث»: إنه يخشى المجتمع المريض أن يصيبه بالعدوى.
من الطريف ملاحظة أن بيت تشارلي يظل نظيفاً على الدوام، حتى في أقصى حالات جوعه وشقائه، وحرصه الشديد على النظافة، وعلى نحو متعال، يجعل من المستحيل ضبطه متلبساً بانتهاج أساليب مقززة للتصعيد الكوميدي، وتصل كياسته السينمائية إلى درجة تجعله يختفي عن أنظارنا ويدخل المنزل في «الطفل»، ليتأكد من نوعية المولود، قبل أن يخرج ليصرح بأنه ذكر اسمه جون.
من المفهوم أن تكون قيم الرقي والطيبة والنبالة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً لدى تشارلي بقيمة النظافة؛ كما كانت لدى البشرية الأولى: فوجهه نظيف ومشرق، وملابسه وقبعته نظيفتان دائماً، ويرتدي قفازات في يده كسيِّد متأنق، ويحرص على غرس قيمة التشدد في النظافة الشخصية في سلوك الطفل الذي يتبناه في «الطفل»، ويشتري بآخر قروش لديه وردة يضعها في عروة الجاكت في «أضواء المدينة». 

هوايات تشارلي
أما الديكور الداخلي لبيته، واللوحات والتحف التي يحرص على تزيين جدرانه الأربعة بها، فهي غالباً من نفايات المدينة التي يجمعها أثناء ساعات تجواله الطويل. إن تشارلي هاوٍ لجمع النفايات، وهو يسبغ عليها قيمتها الفنية من ذوقه هو فقط. إنه يُمجِّد النفاية التي تتخلص منها المدنية الحديثة وتعتبرها زائدة على الحاجة. والنفاية لديه تكتسب هذه الأهمية، لأنه إذا كانت قيمة السلعة تتحدد بوقت العمل اللازم لإنتاجها، فإن قيمة النفاية بالنسبة له تتحدد بوقت التسكع اللازم للعثور عليها. إن تشارلي قادر على التمتع بالنفاية كما يتمتع الفلاح بثمار جهده في الأرض، وساعات تبطُّله التي يقضيها متسكعاً في الشوارع هي ساعات عمله، وهو يأخذها بالجدية نفسها التي يأخذ بها الفلاح عمله في الحقل. وفي هذه الحال لابد أن يكون الفضول أثناء التسكع هو من أدوات عمله، كالفأس بالنسبة للفلاح. إن الفضول حاضر دائماً في أفلامه منذ أعماله الأولى؛ وفيلمه المبكر «سباق فينيسيا لسيارات الأطفال» أكبر شاهد على ذلك.
لكن تسكع تشارلي وفضوله ينبغي ألا يُفهما على أنهما مظاهر لطبيعة كسولة، لأن المجهود الذي يبذله في انتزاع لقمة عيشه لا يقل عن المجهود الذي كان يبذله المصارع في الأزمة القديمة، فحروبه اليومية هي حروب ضد الجوع، كالإنسان الأول، ولذلك ينخرط حرفياً في مباراة للملاكمة من أجل لقمة العيش في «أضواء المدينة». إن هذا المشهد بالذات هو من أجمل مشاهد تشارلي الكوميدية، والإيقاع فيه يُعد أرقى إنجازات تشابلن في إيقاع المشاهد الكوميدية، وليس غريباً أن يكون للمشهد نفسه بذور في أفلامه السابقة، وإن لم يصل في أي منها إلى كمال الإيقاع وروعة الرشاقة في «أضواء المدينة».
الديناميكية البدنية التي يمتاز بها تشارلي هي نقيض الوعي الذهني المسرف الذي يعشق الفروق الدقيقة بين الكلمات، والذي يعشق -بخاصة- الغوص في الماضي والذكريات؛ اللذين لا يقودان إلا إلى الألم والتعاسة.
إن النسيان يلعب دوراً أساسياً في طبيعة تشارلي، والمشاعر السلبية عنده: كالحقد والانتقام، تُستنفد فوراً في شكل رد فعل انفعالي لحظي، فلا تبقى ولا تتراكم في القلب، وبالتالي لا تُسمم نفسه كأولئك الذين تظل نفوسهم تغلي بالحقد من دون أن ينفجر الحقد لديهم على الإطلاق. إن غيرة تشارلي من منافسه في «السيرك»، تُستنفد سريعاً ويعود إلى طبيعته الأولى، فيعطيه خاتمه ليقدمه لحبيبته ويصبح هو عراب زواجهما. إن تشارلي يتميز بعلامة فارقة لكل طبع قوي؛ فهو لا يحمل أعداءه ولا مصائبه محمل الجد طويلاً، بل ينساهم سريعاً، وتَمتعه بمَلَكة النسيان يجعله موهوباً في التخلص بحركة واحدة من كل طفيليات الحقد وسموم الكراهية التي تعشش عند غيره. إن حركة الركل الشهيرة بقدمه -وهي حركة دائماً إلى الوراء- تستودع كل الخيبات الماضوية، وهي المكافئ لعلامة النصر التي يرفعها المنتصر، وانتصاره يكمن في أنه نجح في تجاوز مآسيه. وتصبح تلك طبيعة أساسية من طبائعه؛ فهو يستعمل قدمه في رفس الماضي، كما يستعمل الثور قرنيه، وكما يستعمل الأسد فكيه.
من طبائعه أيضاً: رباطة الجأش في أحلك الظروف وأصعبها، للدرجة التي يبدو فيها وكأنه يملك درعاً واقية مجهزة بتركيبة سحرية للحماية من المثيرات (حتى لو حُبس في قفص واحد مع الأسد في «السيرك»). إن مخزونه الخاص من القيم الأقرب إلى القيم اليونانية - الرومانية، يُمكنه من تحويل الطاقات السلبية الخارجية بعيداً عن اختراق وعيه.
إن تشارلي يهضم حوادث حياته كما يهضم طعامه، وحتى لو ابتلع قطعة صلبة، فإن معدته القوية تساعده على هضمها: إن معدته قادرة على هضم مادة الحذاء في «حُمى الذهب»، والصواميل المعدنية التي تحشرها آلة الطعام في فمه في «العصر الحديث». وهذه القدرة الفائقة على الهضم تقيه من الإصابة بحالة القرف من الحياة، فيظل صلب العود لا يجتاحه مزاج الضجر أو الخواء أو العدم كالإنسان المعاصر، ويظل دائماً يملك القدرة على التمتع براحة البال التي نادى بها أبيقورس بوصفها الخير الأسمى، فيحيا بشكل يبدو وكأنه خال من الأزمات، ويبدو العالم بالنسبة له وكأنه مكان للمتعة والسعادة، وتلك السعادة لا يمكن إدراكها من دون الرقص والموسيقى، تماماً كالأيام البائدة للإنسان الأول؛ أيام الحلبات والمهرجانات والرقص.
من المستحيل أن نشاهده إلا وينتابنا الإحساس بالخفة والرشاقة، حتى في أيسر حركاته، ويبدو أنه قد أدرك السر وراء يُسر الحركة وسهولتها، ألا وهو: أن تقوم كل حركة بتحضير نفسها للحركة التي تليها. ومن النادر أن نضبطه متلبساً بحركة مهتزة غير رشيقة، من تلك الحركات التي تكتفي بنفسها ولا تُعلن عن التي تليها، لأنه يُفضل الحركة في منحنيات لا في خطوط حادة منكسرة؛ فالخط المنحني، وهو يُغيِّر من وجهته، يشير إلى الوجهة الجديدة التي سيسلكها، وبالتالي فإن الإحساس بالرشاقة هنا ينبع من لذة توقع الحركة التالية، أي من دمج المستقبل في الحاضر، أو إن شئت: من لذة إيقاف الزمن، ومن التخلص المؤقت من وسواس الزمن. 

ضد آلة العصر الحديث
ولذلك تصبح الحركة الميكانيكية الخطية هي ألد أعدائه. إن الحِدَّة الصارمة للآلة شديدة التعقيد تسحق تشارلي في «العصر الحديث»، والمشاهد في المصنع مصوغة بطريقة تذكرنا بالمجتمع الحديث خارج المصنع وتستدعيه إلى الذهن، والمتاهة التي يجد تشارلي نفسه فيها داخل الآلة الميكانيكية، هي أيضاً متاهة المجتمع الحديث الذي تمثله الآلة أصدق تمثيل. ويمنح تشابلن الكثير من العناية للقطات الأولى المؤسسة للفيلم: لقطات الخراف المسوقة، والخروف الأسود الشاذ بينها، الذي لن يستمر انسياقه مع المجموعة طويلاً.
في بداية «العصر الحديث»، يظهر تشارلي خلف سير ناقل الحركة بالمصنع، ويبدو ارتكابه الأخطاء المتتالية نتيجة قيامه بالحركة الآلية التي يتطلبها الإنتاج الكبير في الاقتصاد الحديث. حركة تثبيت الصواميل بالمفكات تستمر يداه في تكرارها حتى في أوقات الراحة بعد أن تتوقف الآلات عن العمل وتزول علة القيام بالحركة: تلك هي من الأوقات القليلة التي نرى فيها تشارلي بعيداً عن حالته العفوية.
إن الفعل الآلي تلو الفعل الآلي الذي يقوم به يحوِّله إلى روبوت، ويشغل وعيه ولا يترك له أي فسحة صغيرة للذات، حتى أن أقل حركة عفوية يقوم بها «كالهرش أو العطس» تُهدد سلاسة العمل في المصنع. يشبه الأمر هنا حالة العبيد ومجدفي السفن في العصور القديمة، وحالة الطاعة الحَرْفية المُطلقة (والخاملة أيضاً) التي كانوا يخضعون لها، وتكرار الفعل الواحد نفسه إلى الأبد، والاستنزاف الكامل للوقت، واتباع انضباط مفروض في اتجاه خطي - من أعلى إلى أسفل - ينكر الذات إنكاراً تاماً. 
من المتع المهمة في حياته: متعة تناول الطعام، والجزء الأكبر من نشاطه يدور حول الحصول على الطعام، وسرقاته المتكررة له من دكاكين الباعة ليس من باب اللصوصية، ولكن لأن الطعام بالنسبة له هو كالثمار على الشجر، أو حيوانات الصيد في البرية بالنسبة للإنسان الأول، وإن دققنا في مَشاهد أحلامه فسنجدها تتمحور أيضاً حول الطعام (كحلمه بالمنزل السعيد الزاخر بالطعام الوافر في «العصر الحديث»). 
لكن حتى هذه المتعة البسيطة البريئة يحاول المصنع تجريدها منه باختراع آلة جديدة تُحوِّل تناول الطعام إلى فعل آلي خال من المتعة. ومن الذكاء أن يُصمم تشابلن آلة الطعام لتظهر أشبه ما تكون بكرسي الكشف لدى طبيب الأسنان. إن تشارلي الذي لا تكفيه كلتا يديه في العادة -ولذلك يستخدم عصاه كيدٍ ثالثة- يتم تقييد يديه في هذا المشهد بينما تطعمه الآلة قسراً، وهي آلة لا تفرق بين قطعة الكعك والصامولة المعدنية.
المفارقة هنا أن معدة تشارلي تستطيع هضم حتى الصواميل المعدنية التي تحشرها الآلة في فمه، بينما الآلة الكبيرة في المصنع لا تستطيع أن تهضم تشارلي، فتلفظه خارجها عندما يدخل في جوفها، كما تلفظه سيارات الشرطة أيضاً وتقذفه خارجها بقوة أثناء ترحيله. إن تروس «معدة» الآلات «والنظام في المجتمع» لا تستطيع هضم الطبيعة الأولية القوية لتشارلي، لذلك غالباً ما تصاب الآلات التي يقترب منها تشارلي بالعطب. 

تمرّد
في نهاية الجزء الأول من «العصر الحديث» يتمرد تشارلي، ويتوقف عن القيام بالحركة الآلية المستمرة التي يتطلبها العمل، ويشرع في الرقص داخل المصنع وخارجه، مستعيداً حالته الفطرية الأولى، فيظن الجميع أن لوثة قد أصابت عقله، فيستدعون له الإسعاف... خوفاً بالتأكيد من أن تنتقل العدوى إلى بقية زملائه. ومن الطريف ملاحظة أنه، وهو يستعيد حالته العفوية الراقصة اللاعبة، يقوم برش زملائه العمال ورجال الإدارة بالزيت الملين للماكينات، وكأن فطرته تخبره بأنه إزاء آلات تحتاج إلى التزييت لتصبح أكثر سلاسة، أو كأنه يدين العمال بإطعامهم بالزيت الذي هو طعام الآلة الميكانيكية. 
إن المبالغة في ردود أفعال تشارلي في هذا الجزء لازمة، لكي يثبت لنفسه استعادته طبيعته الأولية. وبعد أن يتعافى من الانهيار العصبي ويخرج من المستشفى، نراه لأول مرة في الفيلم بملابسه وهيئته اللتين نعرفهما. نلاحظ هنا أخيراً أن الانهيار العصبي الذي يصيب تشارلي يصيبه عقب إجباره على الأكل (الطعام مرة أخرى!) على نحو آلي ميكانيكي.
وعلينا أن نلاحظ أن تمرده على الآلية والتشيؤ هو نتيجة لانتصار طبيعته الأولى العفوية، وليس نتيجة لتفكير عميق أو تأمل طويل. إن تشارلي عادة لا يتأمل (على عكس بطل تاركوفسكي وبرجمان مثلاً)، والحياة الفاعلة بالنسبة له تتناقض مع الحياة التأملية. إنه «إنسان الفعل» لا «إنسان الفكر»، حتى أن صفاته هي نقيض صفات «رجل الفكر» في صورته النمطية: فهو لا يتصف بالخمول، ولا بشرود الذهن، ولا بالجبن، ولا بالتردد، وعالمه أدفأ كثيراً من عوالم رجال الفكر. 
إن تشارلي ليس ذا فكر قوي، بل ذا نفس قوية، وليس لديه إلا حب للحياة (ولأنه يحب الحياة ويتمتع بها، فإنه بحاجة إلى يد ثالثة، بالإضافة إلى يديه الاثنتين، ولذلك لا يتخلى عن عصاه)، وانغماس في اللحظة الآنية، وقدر لا ينضب من التفاؤل، يجعله هادئ البال غير مبالٍ بشأن الأفكار الكبيرة، وأصيلاً (أي بعيداً عن الزيف) على طريقته الخاصة. إن الحياة بالنسبة له تستحق عناء أن تُعاش، وهو لا يتوق إلى ما وراء الحياة، ولا إلى الخلود، ولا حتى إلى العدم (كأبطال أوزو، أو أنطونيوني، أو ملفيل)، ونفسه لا تحمل انقسامات ثنائية (كبطل ديفيد لينش مثلاً)، ولذلك ينجح في الخروج من متاهة المرايا التي يدخلها في «السيرك» والتي تقسم صورته إلى نُسَخ متعددة.
ونتيجة لذلك السلام النفسي، تحمل طبيعة تشارلي القدرة على الجمع بين المتناقضات وهضم المتعارضات، من دون أن يسبب له ذلك أي مشكلة؛ فالأضداد تتحد في نفسه ويحل بينها السلام والوئام. إن تشارلي قادر على إجراء الحسابات بدقة، وفي الوقت نفسه على الحلم أيضاً، يُخرج ساعته من جيبه لينظر فيها، لكنه يملك كل وقت العالم، يحتال للحصول على لقمة العيش، لكنه ذو نفس عزيزة وكبرياء قوية، ينفر من المجتمع، ويتمتع بالنفايات التي يلفظها المجتمع، بائس ومفلس، لكنه متعالٍ متأنق. إنه يجمع بين البراعة والسذاجة، وبين الكسل والحماسة، وبين ردود الأفعـــال السريعـــة المترافقة مع تعبيرات وجه مسترخيـــــــة ومتوانية. وما يُدهشُ المرءَ أكثر من اتحاد الأضداد لديه، هو قدرته على الجمع بينها في تناغم وانسجام وهارمونية.

غريزة الحياة
وربما لذلك كانت فسيولوجيا تشارلي وطبيعته تمثلان الإشارات الكبرى التي يمكن أن نقرأها بوضوح للإنسان الأول: المخلوق المتفتح الممتلئ بغريزة الحياة، الصحيح البدن، الفرح، القوي، الرشيق، الممتلئ بالأمل، والعزة، والجرأة، والرغبة، المتطلع للجمال، المتفائل، الذي لا يستسلم للإحباط، ولا للحقد، ولا يسبب الأذى لغيره، ولا يشعر بالخزي من نفسه؛ وهذا هو الأهم، كما قال الشيخ زوسيما لكارامازوف الأب في رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي: «إن الشعور بالخزي من الذات هو بعينه أصل البلاء».
وكلما فضل تشارلي الحياة بشكل أقرب إلى الإنسان الأول، صار ظهوره على الشاشة أكثر بهجة لنا؛ لأننا حينئذ نلتقي معه بالحيوات السابقة للإنسان الأول، ولعل هذا هو السبب في أننا لا نمل أبداً منه. إن ما يمنع تحقق الإشباع من تشارلي هو أن ظهوره يستحضر الماضي الإنساني من رحم الزمن، فتصبح رؤيته في كل مرة أشبه بالمشاركة في يوم عيد من أعياد الأوابد. لكن تظل المفارقة أنه كلما ظهر تشارلي أكثر قرباً من الإنسان الأول، بعد عنا نحن أكثر وأكثر؛ فالحياة كالإنسان الأول لا تعني تقريبه منا، بل إبعاده عنا أبعد وأبعد. وكلما بعدت المسافة بينه وبيننا، وكان على عيوننا أن تقطع مسافة أعمق لكي تراه، كلما تجلت عظمته مزيداً من التجلي، وكلما ارتدّت النظرة التي نلقيها عليه لتصبح أكثر سحراً.

فيلموجرافيا
عانى تشارلز سبنسر تشابلن (1889-1977) من طفولة قاسية في شوارع لندن، لكنه مع ذلك عُرف ككوميديان شاب في العروض المسرحية لبعض الفرق الإنجليزية. وفي أعقاب جولة فنية مع إحدى تلك الفرق في أمريكا، عرض عليه الكوميديان الأمريكي ماك سينيت البقاء والعمل معه، فوافق وانضم لشركة Keystone عام 1914، ليصنع فيلماً كوميدياً قصيراً كل أسبوع تقريباً. ابتكر شخصية «المتسكع تشارلي» في ثالث أفلامه «سباق فينيسيا لسيارات الأطفال»، وبدأت شعبيتها في الانتشار سريعاً، ما مكنه من المطالبة برفع أجره ومنحه حرية أكبر في صنع أفلامه وإخراجها بنفسه. انتقل من شركة إلى أخرى، لكن يظل عمله مع شركة «United Artists»، والفترة من 1924 إلى 1936، هي أهم الفترات التي صنع فيها أفلامه الطويلة الأكثر نضجاً وروعة. قدم تشابلن شخصية «المتسكع تشارلي» في حوالي 80 فيلماً كوميدياً قصيراً وطويلاً؛ من أهمها:

1 - سباق فينيسيا لسيارات الأطفال (1914).
2 - غاز الضحك (1914).
3 - المتسكع (1915).
4 - ليلة في المسرح (1915).
5 - البوليس (1916).
6 - رجل المطافئ (1916).
7 - المتشردة (1916).
8 - الشوارع الهادئة (1917).
9 - المهاجر (1917).
10 - حياة كلب (1918).
11 - الطفل (1921).
12 - يوم تسلم الراتب (1922).
13 - حُمى الذهب (1925).
14 - السيرك (1928).
15 - أضواء المدينة (1931).
16 - العصر الحديث (1936).
17 - الديكتاتور الكبير (1940).
18 - أضواء المسرح (1952) .