الفيتوري شاعر إفريقيا... جبلٌ شعريٌّ من طراز فريد

الفيتوري شاعر إفريقيا... جبلٌ شعريٌّ من طراز فريد

عن‭ ‬خمسة‭ ‬وثمانين‭ ‬عاماً‭ ‬رحل‭ ‬الشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬الليبي‭ ‬المصري‭ ‬محمد‭ ‬مفتاح‭ ‬الفيتوري،‭ ‬كانت‭ ‬جدته‭ ‬لأمه‭ ‬سودانية‭ ‬وأمه‭ ‬مصرية،‭ ‬وأبوه‭ ‬ليبياً،‭ ‬وصباه‭ ‬ونشأته‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭. ‬ومنحته‭ ‬هذه‭ ‬الأعراق‭ ‬الثلاثة‭ ‬موهبة‭ ‬شعرية‭ ‬استثنائية،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬لأمير‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬حين‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬لديوانه‭ ‬الشوقيات‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬إذن‭ ‬عربي،‭ ‬تركي،‭ ‬يوناني،‭ ‬جركسي‭. ‬أصول‭ ‬أربعة‭ ‬في‭ ‬فرع‭ ‬مجتمعة‮»‬‭. ‬وكانت‭ ‬عبقرية‭ ‬شوقي‭ ‬الشعرية‭ ‬حصيلة‭ ‬التزاوج‭ ‬والتفاعل‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأصول‭ ‬والأعراق‭. ‬

وكأنما‭ ‬كان‭ ‬الفيتوري‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬قدره‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬سيجعل‭ ‬منه‭ ‬شاعر‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وشاعر‭ ‬كل‭ ‬السود‭ ‬المضطهدين‭ ‬فيها،‭ ‬الحالمين‭ ‬بالحرية،‭ ‬وبالتحرر‭ ‬من‭ ‬الاستعمار،‭ ‬في‭ ‬مطالع‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬فأتيحت‭ ‬له‭ ‬الشهرة‭ ‬الشعرية‭ ‬المبكرة،‭ ‬والصوت‭ ‬الشعري‭ ‬البالغ‭ ‬التأثير،‭ ‬مقترنيْن‭ ‬بالدور‭ ‬الذي‭ ‬نذر‭ ‬نفسه‭ ‬للقيام‭ ‬به،‭ ‬منذ‭ ‬بواكير‭ ‬وعيه‭ ‬بقضايا‭ ‬الوطن‭ ‬والإنسان،‭ ‬والتفاته‭ ‬إلى‭ ‬مواكب‭ ‬النضال‭ ‬والكفاح‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬الإفريقية،‭ ‬وإصغائه‭ ‬الشعري‭ ‬إلى‭ ‬طبول‭ ‬القارة‭ ‬التي‭ ‬تستيقظ،‭ ‬ليصنع‭ ‬لها‭ ‬طبولاً‭ ‬شعرية‭ ‬موازية،‭ ‬في‭ ‬نبرة‭ ‬إفريقية‭ ‬عالية،‭ ‬وجيشان‭ ‬شعري‭ ‬صاخب،‭ ‬متدفق‭ ‬كنهر‭ ‬إفريقي‭ ‬عارم‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأحراش‭ ‬محملاً‭ ‬برواسب‭ ‬الغابات‭ ‬وأعشاب‭ ‬الماء‭ ‬وأنين‭ ‬المعذبين‭ ‬والمضطهدين‭.‬

في‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬أغاني‭ ‬إفريقيا‮»‬‭ (‬1955‭) ‬حقَّق‭ ‬الفيتوري‭ ‬انطلاقته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأولى،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تلقفت‭ ‬شعره‭ ‬الأسماع،‭ ‬وهو‭ ‬ينشده‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬والملتقيات‭ ‬على‭ ‬الألوف‭ ‬المؤمنة‭ - ‬مثله‭ - ‬بقضيته،‭ ‬والتفت‭ ‬إليه‭ ‬النقد‭ ‬المهتم‭ ‬بالظواهر‭ ‬الجديدة‭. ‬وكان‭ ‬الفيتوري‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يمثله‭ ‬شعراً‭ ‬ونبرةً‭ ‬وقضية،‭ ‬ظاهرة‭ ‬تحتشد‭ ‬لها‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬والشعرية،‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬

إفريقيا،‭ ‬إفريقيا،‭ ‬استيقظي

استيقظي‭ ‬من‭ ‬حلمك‭ ‬الأسودِ

قد‭ ‬طالما‭ ‬نِمْتِ‭ ‬ألم‭ ‬تسأمي؟

ألم‭ ‬تملّي‭ ‬قدم‭ ‬السيدِ؟

قد‭ ‬طالما‭ ‬استلقيت‭ ‬تحت‭ ‬الدجى

مجهدة‭ ‬في‭ ‬كوخكِ‭ ‬المجهدِ

مصفرّةَ‭ ‬الأشواق،‭ ‬معتوهةً

تبني‭ ‬بكفّيها‭ ‬ظلام‭ ‬الغدِ

جوعانة‭ ‬تمضغ‭ ‬أيامها

كحارس‭ ‬المقبرة‭ ‬المُقْعدِ

عريانة‭ ‬الماضي،‭ ‬بلا‭ ‬عزة‭ ‬

تتوّج‭ ‬الآتي‭ ‬ولا‭ ‬سؤدد‭!‬

‭* * *‬

إفريقيا،‭ ‬إفريقيا،‭ ‬استيقظي

استيقظي‭ ‬من‭ ‬ذاتك‭ ‬المظلمة

كم‭ ‬دارت‭ ‬الأرض‭ ‬حواليكِ،‭ ‬كم

دارت‭ ‬شموس‭ ‬الفَلك‭ ‬المُضْرَمَة

وشيّد‭ ‬الناقم‭ ‬ما‭ ‬هدّمه

وحقّر‭ ‬العابد‭ ‬ما‭ ‬عظمه

وأنت‭ ‬لا‭ ‬زلت‭ ‬كما‭ ‬أنتِ‭ ‬كالـ

جمجمة‭ ‬الملقاة،‭ ‬كالجمجمة

واعجبا،‭ ‬ألم‭ ‬تفجّر‭ ‬شَرَا

يينُكِ‭ ‬سخرياتهم‭ ‬يا‭ ‬أَمَةْ

وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬قوله‭:‬

إفريقيا،‭ ‬إفريقيا‭ ‬النائية

يا‭ ‬وطني،‭ ‬يا‭ ‬أرض‭ ‬أجداديه

إني‭ ‬أناديكِ‭ ‬ألم‭ ‬تسمعي؟

صراخ‭ ‬آلامي‭ ‬وأحقاديهَ

إني‭ ‬أناديكِ،‭ ‬أُنادي‭ ‬دمى

فيكِ،‭ ‬أنادي‭ ‬الأوجه‭ ‬البالية

والأعين‭ ‬الراكدة‭ ‬الكابية

فويْك‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تحضني‭ ‬صرختي

زاحفة‭ ‬من‭ ‬ظلمة‭ ‬الهاوية

عاصفةً‭ ‬بالأبيض‭ ‬المعتدي

عليكِ،‭ ‬يا‭ ‬إفريقيا‭ ‬الغالية

‭* * *‬

الطلقة‭ ‬الأولى‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬الفيتوري‭ ‬كما‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬أغاني‭ ‬إفريقيا‮»‬‭ ‬صنعت‭ ‬منه‭ ‬شاعر‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وأصبح‭ ‬إنشاد‭ ‬شعره‭ ‬مدوِّياً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التحرر‭ ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭. ‬وبدأ‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬تشخيص‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الشعرية‭ ‬إنسانيًّا‭ ‬وقوميًّا،‭ ‬وتحليل‭ ‬مكونات‭ ‬شخصيته‭ ‬المأزومة‭ ‬التي‭ ‬تفجرت‭ ‬بهذا‭ ‬البركان‭ ‬الشعري‭ ‬الثوري‭ ‬وهذه‭ ‬اللغة‭ ‬الزاعقة‭ ‬المدوية‭. ‬كتب‭ ‬الناقد‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭: ‬‮«‬من‭ ‬لون‭ ‬بشرته،‭ ‬ومن‭ ‬إحساسه‭ ‬العميق‭ ‬بالمرارة‭ ‬والحقد،‭ ‬ومن‭ ‬طبول‭ ‬الذكر،‭ ‬صاغ‭ ‬له‭ ‬وطناً‭ ‬بعيداً‭ ‬نائياً‭ ‬هو‭ ‬إفريقيا‭. ‬كان‭ ‬يدرك‭ ‬أنه‭ ‬بعيد‭ ‬ناءٍ،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬بقاء‭ ‬إحساسه‭ ‬بالغربة‭ ‬والفقد،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقته‭ ‬بهذا‭ ‬الوطن‭ ‬البعيد‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬علاقة‭ ‬انفعالية‭ ‬خالصة،‭ ‬فلقد‭ ‬انتقل‭ ‬إليه‭ ‬بكافة‭ ‬أدواته‭. ‬مشاعره‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬استعانته‭ ‬بعناصر‭ ‬محلية‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬المصري‭ ‬كالمحاريث‭ ‬والسواقي‭ ‬والمناجل‭. ‬كانت‭ ‬إفريقيا‭ ‬وطناً‭ ‬بعيداً‭ ‬نائياً،‭ ‬كانت‭ ‬طريقاً‭ ‬وهدفاً،‭ ‬فأخذ‭ ‬يلوّنها‭ ‬بلون‭ ‬مشاعره،‭ ‬ويوحّد‭ ‬تاريخه‭ ‬وتاريخها،‭ ‬ويخلع‭ ‬عليها‭ ‬مأساته‭ ‬الخاصة،‭ ‬ويُبشر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬بخلاصه‭ ‬المنشود‮»‬‭. ‬

ولم‭ ‬يصدر‭ ‬الفيتوري‭ ‬ديوانه‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬عاشق‭ ‬من‭ ‬إفريقيا‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ (‬1964‭)‬،‭ ‬انشغل‭ ‬فيها‭ ‬بالشهرة‭ ‬والمجد‭ ‬وذيوع‭ ‬الصيت‭ ‬والعمل‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انقطع‭ ‬عن‭ ‬دراسته‭ ‬الجامعية‭. ‬وعندما‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬كانت‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬هدأت،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬إفريقيا‭ - ‬في‭ ‬وجدانه‭ - ‬‮«‬طبولاً‭ ‬زاعقة‭ ‬أو‭ ‬تماثيل‭ ‬حاقدة،‭ ‬أو‭ ‬أغنيات‭ ‬متوفزة‮»‬‭. ‬وامتلأ‭ ‬شعره‭ ‬بفيض‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والرؤى‭ ‬التي‭ ‬تكاد‭ ‬تشرق‭ ‬من‭ ‬ثناياها‭ ‬ومضات‭ ‬التفاؤل،‭ ‬لقد‭ ‬تغير‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬وتغيرت‭ ‬صورة‭ ‬‮«‬قارع‭ ‬الطبول‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭:‬

عاريةٌ‭ ‬روحي،‭ ‬وعارٍ‭ ‬جسدي

كما‭ ‬تريْن

ساذجٌ‭ ‬منبسط‭ ‬اليدين

لا‭ ‬أخجلُ‭ ‬أن‭ ‬أقول‭:‬

يا‭ ‬زمني‭ ‬حتى‭ ‬الأسى‭ ‬شهوة

وقدمايَ‭ ‬تتلويان‭ ‬في‭ ‬الهوّة

لا‭ ‬أرهب‭ ‬أن‭ ‬أقول‭:‬

يا‭ ‬زمني‭ ‬تآكلت‭ ‬حوافر‭ ‬الخيول

والحوت‭ ‬في‭ ‬النهر‭ ‬يُعرِّي‭ ‬ظهره‭ ‬للشمس

والزراف‭ ‬يستريح‭ ‬في‭ ‬السهول

رائع‭ ‬هذا‭ ‬الدجى‭ ‬الأخضر

رائع‭ ‬صفاء‭ ‬الظلمة‭ ‬الجميل

رائعة‭ ‬رائحة‭ ‬الضباب‭ ‬والشجر

رائحةُ‭ ‬الجبال‭ ‬والمطر

رائحة‭ ‬السماء‭ ‬والنجوم

رائحة‭ ‬الأرض‭ ‬إذا‭ ‬تنفّست

وهي‭ ‬تعانق‭ ‬الغيوم

رائعة‭ ‬عيناكِ‭ ‬يا‭ ‬حبيبتي

أجنحةٌ‭ ‬مُحلّقاتٌ‭ ‬أبدا

يبرق‭ ‬فيهن‭ ‬الشعاع‭ ‬والنّدى

قوافل‭ ‬مسافرات‭ ‬أبدا

يبعدن،‭ ‬لا‭ ‬يتركن‭ ‬من‭ ‬ورائهنّ

إلا‭ ‬ظلالاً‭ ‬وصدى

رائعة‭ ‬هموم‭ ‬عينيك‭ ‬الصغيرتين

حين‭ ‬تسألان‭ ‬من‭ ‬يكون؟

ذلك‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬يكون

ذلك‭ ‬المغني‭ ‬الهمجيْ

ذلك‭ ‬المهرج‭ ‬الحزين

ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يصبغه‭ ‬الجلال‭ ‬والذهول

كلما‭ ‬انحنى‭ ‬على‭ ‬جراحه

وراح‭ ‬يقرع‭ ‬الطبول

هأنذا‭ ‬أقولُ

لو‭ ‬ركضتُ‭ ‬عاريا‭ ‬فهذا‭ ‬قدري

ولو‭ ‬مشيت‭ ‬فوق‭ ‬جسرٍ‭ ‬من‭ ‬خطايايَ

فهذا‭ ‬قدري

صوتيَ‭ ‬صوتُ‭ ‬زمني

وجهتي‭ ‬وجهُ‭ ‬قدري

فلا‭ ‬عجبْ

وُلدتُ‭ ‬فوق‭ ‬عتبات‭ ‬الصمت‭ ‬والغضب

أنا‭ ‬تمرُّدُ‭ ‬التعب

أنا‭ ‬تجسُّدُ‭ ‬الذهول

هأنذا‭ ‬أقول‭!‬

ثم‭ ‬جاء‭ ‬ديوانه‭ ‬الثالث‭ ‬‮«‬اذكريني‭ ‬يا‭ ‬إفريقيا‮»‬‭ (‬1966‭) ‬مسجلاً‭ ‬فيه‭ ‬استمرار‭ ‬انشغاله‭ ‬بالهم‭ ‬الإفريقي،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬كمن‭ ‬يهيئ‭ ‬نفسه‭ ‬لتحول‭ ‬شعري‭ ‬جذري،‭ ‬فكريًّا‭ ‬وفنيًّا‭ ‬وإيقاعيًّا،‭ ‬ولتطوير‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬أدواته‭ ‬التعبيرية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬‮«‬أكثر‭ ‬نضجاً‭ ‬وأصالة‮»‬‭. ‬وبدأت‭ ‬إيقاعاته‭ ‬الشعرية‭ ‬تمزج‭ ‬بين‭ ‬قصائد‭ ‬الشعر‭ ‬العمودي‭ ‬ومغامراته‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬التفعيلة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬يبسط‭ ‬ظلاله‭ ‬بشدة‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري،‭ ‬وبدأ‭ ‬الفيتوري‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬النقاد‭ ‬والشعراء‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الطليعة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية،‭ ‬التي‭ ‬ستصل‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬المزاوجة‭ ‬بين‭ ‬قالبيْ‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي‭ ‬والشعر‭ ‬المسرحي،‭ ‬عندما‭ ‬نشر‭ ‬مسرحيته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأولى‭: ‬‮«‬أحزان‭ ‬إفريقيا‭ - ‬سولارا‮»‬‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يسير‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الدرب،‭ ‬إذ‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬المرحلة‭ ‬النقدية‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬قوالب‭ ‬أسطورية‭ ‬ورمزية‭ ‬ممتلئة‭ ‬بدلالات‭ ‬شعبية‭ ‬وروح‭ ‬قومية‭ ‬عربية،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬دواوينه‭: ‬‮«‬سقوط‭ ‬دبشليم‮»‬،‭ ‬و«الثورة‭ ‬والبطل‭ ‬والمشنقة‮»‬،‭ ‬و«شاهد‭ ‬إثبات‮»‬،‭ ‬و«شرق‭ ‬الشمس‭ ‬غرب‭ ‬القمر‮»‬،‭ ‬و‮«‬يأتي‭ ‬العاشقون‭ ‬إليك‮»‬،‭ ‬و«نار‭ ‬في‭ ‬رماد‭ ‬الأشياء‮»‬،‭ ‬و«ابتسمي‭ ‬حتى‭ ‬تمرّ‭ ‬الخيل‮»‬‭. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتسع‭ ‬خواتيم‭ ‬رحلته‭ ‬الشعرية‭ ‬لمسرحيات‭ ‬شعرية‭ ‬ونثرية،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬‮«‬عمر‭ ‬المختار‮»‬،‭ ‬و‮«‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬تاشفين‮»‬،‭ ‬و«الشاعر‭ ‬واللعبة‮»‬‭. ‬

وعلى‭ ‬مدار‭ ‬الوقت،‭ ‬والإبحار‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬الشعر‭ ‬طيلة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬عاماً،‭ ‬كانت‭ ‬رحلات‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬إلى‭ ‬بلد،‭ ‬وإقامته‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العواصم‭ ‬العربية،‭ ‬تنعكس‭ ‬على‭ ‬شعره‭ ‬وفي‭ ‬مرايا‭ ‬وجدانه‭ ‬ألواناً‭ ‬وظلالاً‭ ‬ومواقف‭ ‬وأفراحاً‭ ‬وبكائيات،‭ ‬وهواجس‭ ‬مستمرة‭ ‬يطلقها‭ ‬شاعر‭ ‬أتاح‭ ‬له‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬السلك‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬والسودان‭ ‬وليبيا‭ ‬والقاهرة‭ - ‬منتهياً‭ ‬بالمغرب‭- ‬تجارب‭ ‬هائلة‭ ‬ومزلزلة،‭ ‬كانت‭ ‬وراءها‭ ‬مواقفه‭ ‬السياسية‭ ‬حيناً‭ ‬ونزعاته‭ ‬القلقة‭ ‬المتمردة‭ ‬حيناً‭ ‬آخر،‭ ‬وانشغالاته‭ ‬بطموحات‭ ‬الوظيفة‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬وتوجّه‭ ‬خطاه‭. ‬وفي‭ ‬ديوانه‭ ‬الشعري‭ ‬الفريد‭ ‬‮«‬معزوفة‭ ‬لدرويش‭ ‬متجول‮»‬‭ ‬تصوير‭ ‬شعري‭ ‬بارع‭ ‬للحالة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬وتقلب‭ ‬فيها‭ ‬وتمرد‭ ‬عليها‭ ‬طيلة‭ ‬أوقات‭ ‬ابتلعت‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬سنوات‭ ‬عمره،‭ ‬شاعراً‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬معنى‭ ‬للاستقرار‭ ‬أو‭ ‬الإقامة،‭ ‬وإنساناً‭ ‬تتزاحم‭ ‬فيه‭ ‬أصداء‭ ‬الحياة‭ ‬العاصفة‭ ‬التي‭ ‬اكتوى‭ ‬بنيرانها‭ ‬وتقلباتها،‭ ‬وذاق‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬مرارة‭ ‬انهيار‭ ‬الحلم‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬صاحب‭ ‬نكسة‭ ‬1967‭ ‬ومرارة‭ ‬الأيام‭ ‬والليالي‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬يجرجر‭ ‬قدميه‭ ‬المثقلتين‭ ‬ويدفع‭ ‬بكيانه‭ ‬الضئيل‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬العواصف‭ ‬الهوجاء،‭ ‬تقتلعه‭ ‬وتقذف‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭. ‬

لقد‭ ‬صدقت‭ ‬فيه‭ ‬نبوءة‭ ‬أبيه‭ ‬الشيخ‭ ‬الورع‭ ‬والصوفي‭ ‬الطيب‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأ‭ ‬طالعه‭ ‬في‭ ‬كفه‭: ‬إنك‭ ‬ستعيش‭ ‬متغرباً‭ ‬عن‭ ‬وطنك‭ ‬وأنت‭ ‬سعيد‭ ‬الحظ،‭ ‬وسيكون‭ ‬لك‭ ‬أعداء‭ ‬كثر،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لن‭ ‬يستطيعوا‭ ‬أن‭ ‬ينالوا‭ ‬منك‭. ‬إن‭ ‬نجمك‭ ‬ينتشر‭ ‬ولست‭ ‬أدري‭ ‬ما‭ ‬ستكون‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬حاكماً‭ ‬أم‭ ‬رجل‭ ‬دين‭ ‬أم‭ ‬شيئاً‭ ‬آخر؟‭ ‬

ويقول‭ ‬د‭. ‬منيف‭ ‬موسى‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬للمجلد‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬الشعرية‭ ‬معلقاً‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النبوءة‭ ‬المبكرة‭: ‬‮«‬ومحمد‭ ‬الفيتوري‭ ‬عرف‭ ‬الهجرة‭ ‬والغربة‭ ‬منذ‭ ‬طفولته،‭ ‬وصار‭ ‬شاعراً‭ ‬كبيراً‭ ‬وشريداً‭ ‬طريداً،‭ ‬لا‭ ‬يهدأ‭ ‬ولا‭ ‬يقرّ‭. ‬شاعراً‭ ‬يعيش‭ ‬متجولاً‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬تستقبله‭ ‬عاصمة‭ ‬عربية‭ ‬وتحتضنه،‭ ‬وتجلده‭ ‬عاصمة‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭ ‬وتطارده،‭ ‬فكأن‭ ‬نبوءة‭ ‬والده‭ ‬قد‭ ‬تحققت‭ !‬‮»‬

هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬المطارد‭ ‬يشبّه‭ ‬حاله‭ ‬بالدرويش‭ ‬المتجول‭ ‬أروع‭ ‬تصوير‭ ‬حين‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬حمل‭ ‬اسمها‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬معزوفة‭ ‬لدرويش‭ ‬متجول‮»‬‭: ‬

شحبت‭ ‬روحي،‭ ‬صارت‭ ‬شفقا

شعَّت‭ ‬غيما‭ ‬وسنا

كالدرويش‭ ‬المتعلق‭ ‬في‭ ‬قدميْ‭ ‬مولاه‭ ‬أنا‭ ‬

أتمرّغ‭ ‬في‭ ‬شجني

أتوهَّج‭ ‬في‭ ‬بدني

غيري‭ ‬أعمى،‭ ‬مهما‭ ‬أصغى‭ ‬لن‭ ‬يُبصرني

فأنا‭ ‬جسدٌ‭ ‬حجرٌ

شيء‭ ‬عبر‭ ‬الشارع

جُزُرٌ‭ ‬غرقى‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬البحرِ

حريقٌ‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الضائع

قنديلٌ‭ ‬زيتيٌّ‭ ‬مبهوت

في‭ ‬أقصى‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬بيروتْ

أتألق‭ ‬حينا،‭ ‬ثم‭ ‬أُرنّق،‭ ‬ثم‭ ‬أموتْ

‭* * *‬

ويحي،‭ ‬وأنا‭ ‬أتلعثم‭ ‬نحوك‭ ‬يا‭ ‬مولايَ

أُجسّدُ‭ ‬أحزاني

أتجردُ‭ ‬فيك

هل‭ ‬أنت‭ ‬أنا؟

يدك‭ ‬الممدودة‭ ‬أم‭ ‬يديَ‭ ‬الممدودة؟

صوتك‭ ‬أم‭ ‬صوتي؟

تبكيني‭ ‬أم‭ ‬أبكيك؟

‭* * *‬

في‭ ‬حضرة‭ ‬من‭ ‬أهوى

عبثتْ‭ ‬بي‭ ‬الأشواق

حدّقتُ‭ ‬بلا‭ ‬وجهٍ

ورقصتُ‭ ‬بلا‭ ‬ساق

وزحمتُ‭ ‬براياتي

وطُبولي‭ ‬الآفاق

عشقي‭ ‬يُفني‭ ‬عشقي

وفَنائي‭ ‬استغراق

مملوكك‭ ‬لكني‭ ‬

سلطان‭ ‬العشاق‭!‬

هذه‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية‭ ‬السابحة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الوجه‭ ‬الصوفي‭ ‬والنزعة‭ ‬الروحية،‭ ‬أصيلة‭ ‬في‭ ‬التكوين‭ ‬البعيد‭ ‬الغور‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬الفيتوري‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬الشيخ‭ ‬مفتاح‭ ‬رجب‭ ‬الشيخي‭ ‬الفيتوري،‭ ‬خليفة‭ ‬خلفاء‭ ‬الطريقة‭ ‬العروسية‭ ‬الشاذلية‭ ‬الأسمرية،‭ ‬الذي‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬قبائل‭ ‬البدو‭ ‬الليبية‭ ‬المعروفة‭ ‬بالتقوى‭ ‬والصلاح،‭ ‬من‭ ‬الدراويش‭ ‬المشهورين‭ ‬بالكرامات‭ ‬والمعجزات‮»‬‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يورده‭ ‬د‭. ‬منيف‭ ‬موسى‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬لديوان‭ ‬الفيتوري،‭ ‬كاشفاً‭ ‬عن‭ ‬الينابيع‭ ‬الروحية‭ ‬الصوفية‭ ‬في‭ ‬وجدانه‭ ‬وفي‭ ‬شعره،‭ ‬عندما‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬يمتلئ‭ ‬بالصلوات‭ ‬والأذكار‭ ‬والأوراد‭ ‬والإنشاد‭ ‬الديني،‭ ‬ويزدحم‭ ‬فيه‭ ‬الناس‭ ‬طمعاً‭ ‬في‭ ‬المشاركة‭ ‬أو‭ ‬التبرك‭. ‬إذن‭ ‬فهو‭ ‬عندما‭ ‬تلامس‭ ‬روحه‭ ‬هذا‭ ‬الأفق‭ ‬الشفيف،‭ ‬ويزدحم‭ ‬وجدانه‭ ‬بأصداء‭ ‬هذا‭ ‬الحفل‭ ‬الصوفي‭ ‬الصاخب‭ ‬وهذه‭ ‬الإيقاعات‭ ‬التي‭ ‬تجسّدها‭ ‬أجساد‭ ‬مرتطمة‭ ‬تهتز‭ ‬وتتصاعد‭ ‬اهتزازاتها‭ ‬كلما‭ ‬ارتقت‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬الوجد‭ ‬والتجلي،‭ ‬عندما‭ ‬يحدث‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬يصبح‭ ‬متجاوزاً‭ ‬وعي‭ ‬الصبي‭ ‬وحدود‭ ‬إدراكه،‭ ‬مستشرفاً‭ ‬بفطرته‭ ‬المتدينة‭ ‬حالات‭ ‬أخرى‭ ‬ستعتريه‭ ‬عندما‭ ‬يكبر،‭ ‬هو‭ ‬ينتظرها‭ ‬ويهيئ‭ ‬نفسه‭ ‬لاستقبالها،‭ ‬واستلهامها‭ ‬بعض‭ ‬أسرار‭ ‬فنه‭ ‬الشعري‭ ‬الأثير‭. ‬ها‭ ‬هو‭ ‬ذا‭ ‬ينفّسُ‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬مصوراً‭ ‬غربته‭ ‬وانكساره‭ ‬وتضاؤله‭ ‬بين‭ ‬الآخرين،‭ ‬ويقول‭:‬

فقير‭! ‬أجل،‭ ‬ودميم‭! ‬دميمْ

بلون‭ ‬الشتاء،‭ ‬بلون‭ ‬الغيوم

يسير‭ ‬فتسخرُ‭ ‬منه‭ ‬الوجوهُ

وتسخر‭ ‬حتى‭ ‬وجوه‭ ‬الهموم

فيحمل‭ ‬أحفاده‭ ‬في‭ ‬جمودٍ

ويحضن‭ ‬أحزانه‭ ‬في‭ ‬وجوم

ولكنه‭ ‬أبداً‭ ‬حالمٌ

وفي‭ ‬قلبه‭ ‬يقظاتُ‭ ‬النجوم

ثم‭ ‬ينحت‭ ‬لنفسه‭ ‬تمثالاً‭ ‬من‭ ‬الصخر،‭ ‬يصور‭ ‬به‭ ‬وجهه‭ ‬وقامته،‭ ‬ويقول‭:‬

فقير،‭ ‬فوجهٌ‭ ‬كأني‭ ‬به

دخانٌ‭ ‬تكثف‭ ‬ثم‭ ‬التحمْ

وعينان‭ ‬فيه‭ ‬كأرجوحتيْنِ

مُثقَّلتيْن‭ ‬بريح‭ ‬الألمْ

وأنف‭ ‬تحدّرَ‭ ‬ثم‭ ‬ارتمى

فبان‭ ‬كمقبرةٍ‭ ‬لم‭ ‬تتمّ

ومن‭ ‬تحتها‭ ‬شفةٌ‭ ‬ضخمة

بدائية‭ ‬قلّما‭ ‬تبتسم

وقامته‭ ‬لصقت‭ ‬بالتراب

وإن‭ ‬هزئت‭ ‬روحهُ‭ ‬بالقمم‭!‬

وسوف‭ ‬يتوقف‭ ‬من‭ ‬قرأوا‭ ‬شعر‭ ‬الفيتوري‭ ‬أو‭ ‬يعيدون‭ ‬قراءته‭ ‬الآن‭- ‬بقصد‭ ‬إعادة‭ ‬اكتشافه‭- ‬أنهم‭ ‬أمام‭ ‬جبل‭ ‬شعري‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬فريد،‭ ‬صخوره‭ ‬منحوتة‭ ‬بإزميل‭ ‬من‭ ‬كبرياء،‭ ‬وصوره‭ ‬الشعرية‭ ‬المدببة‭ ‬شبيهة‭ ‬بنتوءات‭ ‬الجبل‭ ‬وحوافه‭ ‬الحادّة،‭ ‬وقممه‭ ‬العارية‭ ‬تتدثر‭ ‬بأقنعة‭ ‬مختلفة،‭ ‬بعضها‭ ‬بقية‭ ‬شطْحٍ‭ ‬صوفي،‭ ‬وبعضٌ‭ ‬آخرُ‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تسري‭ ‬فيه‭ ‬روافد‭ ‬من‭ ‬عنف‭ ‬الغابة‭ ‬وعطش‭ ‬وحوشها‭ ‬المفترسة‭. ‬وثمة‭ ‬أبخرة‭ ‬وعطورٌ‭ ‬تتصاعد،‭ ‬وأصداء‭ ‬من‭ ‬صيحات‭ ‬مخيفة‭ ‬تتردد،‭ ‬وطقس‭ ‬استوائي‭ ‬يغلّف‭ ‬هذا‭ ‬كُلّه‭ ‬ويكسو‭ ‬هذا‭ ‬الجبل‭ ‬الشعري‭ ‬بما‭ ‬يليق‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جلال‭ ‬ومهابة،‭ ‬ولغة‭ ‬تنطلق‭ ‬طلقاتها‭ ‬كالقذائف‭ ‬البعيدة‭ ‬المدى‭.‬

ولقد‭ ‬أحبّ‭ ‬الفيتوري‭ - ‬على‭ ‬مدى‭ ‬حِلّه‭ ‬وترحاله‭ ‬وأسفاره‭ ‬وتنقلاته‭ - ‬مدناً‭ ‬وعواصم‭ ‬عربية‭ ‬عديدة‭ ‬آوته‭ ‬من‭ ‬صعلكة‭ ‬وتمرد،‭ ‬واتسعت‭ ‬لنزقه‭ ‬الإنساني‭ ‬وجنونه‭ ‬الشعري‭ ‬معاً‭. ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭: ‬القاهرة‭ ‬وبيروت‭ ‬والخرطوم‭ ‬وطرابلس‭ ‬غرّد‭ ‬في‭ ‬ساحاتها‭ ‬وأطلّ‭ ‬على‭ ‬جماهيره‭ ‬الحاشدة‭ ‬من‭ ‬شرفاتها‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يصله‭ ‬بدمشق،‭ ‬ويربطه‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أواصر‭ ‬العشق‭ ‬والائتناس‭ ‬والدهشة‭ ‬الملازمة،‭ ‬يجعل‭ ‬لها‭ ‬مساحة‭ ‬ذات‭ ‬مذاق‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬غور‭ ‬وجدانه‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬دمشق‭ ‬وعاشق‭ ‬الأميرة‭ ‬الجبلية‮»‬‭: ‬

ودمشق‭ ‬خيمة‭ ‬عاشق‭ ‬متغرب‭ ‬مثلي

تعيش‭ ‬الشمسُ‭ ‬تحت‭ ‬جفونه

وتضيء‭ ‬في‭ ‬فمهِ

وراية‭ ‬قاسيون،‭ ‬وسيفه‭ ‬العربي‭ ‬يبرق‭ ‬في‭ ‬السماء

كأنه‭ ‬قمر‭ ‬اللهيب

كأنه‭ ‬سيف‭ ‬السماءِ

دمشق‭ ‬يا‭ ‬حزني

وأنتِ‭ ‬مدينة‭ ‬الفرح‭ ‬التي‭ ‬أغفو‭ ‬على‭ ‬أسوارها

وأغوص‭ ‬في‭ ‬أحشائها‭ ‬أرضاً‭ ‬وأزمنة

وتصلبني‭ ‬طوابير‭ ‬الطغاة‭ ‬على‭ ‬مداخلها

وينبت‭ ‬في‭ ‬خرائب‭ ‬عصرهم‭ ‬وجهي‭ ‬وأيامي

‭* * *‬

دمشق‭ ‬أنتِ

لم‭ ‬تكن‭ ‬السماء‭ ‬عباءة‭ ‬منقوشة‭ ‬بالعاج‭ ‬والياقوت

كانت‭ ‬ثمة‭ ‬السحب‭ ‬القديمةُ

والطلاسم‭ ‬في‭ ‬تعاريج‭ ‬المرافئ

والرجال‭ ‬السود‭ ‬يحتضرون‭ ‬حول‭ ‬الكعبة‭ ‬السوداء

والصور‭ ‬التي‭ ‬تنهار‭ ‬فوق‭ ‬قواعد‭ ‬الصلبان

ثم‭ ‬أضاء‭ ‬برقك‭ ‬في‭ ‬الصخورِ

ففجّرت‭ ‬ألوانها،‭ ‬وامتدت‭ ‬الرؤيا‭ ‬على‭ ‬زمني

وعينيَّ‭ ‬المهاجرتينِ

إني‭ ‬كلْمة‭ ‬وحدي

وتلك‭ ‬حجارة‭ ‬التاريخ

والطير‭ ‬المحنط‭ ‬في‭ ‬المعاطفِ

والبغايا‭ ‬العاقرات،‭ ‬وغابة‭ ‬الشعراء

‭* * *‬

هذي‭ ‬ليلة‭ ‬القمر‭ ‬الذي‭ ‬صلبوه‭ ‬

‭(‬كانوا‭ ‬يعبدون‭ ‬ضياءه

حتى‭ ‬إذا‭ ‬اصطف‭ ‬الرماة‭ ‬جميعهم

وانهلّ‭ ‬نبع‭ ‬جراحه‭ ‬صلبوه‭)‬

ساعتها‭ ‬استحال‭ ‬الموج‭ ‬أعمدة‭ ‬من‭ ‬الكبريت

‭- ‬يا‭ ‬قمري‭ ‬يموت‭ ‬الضوء‭ ‬في‭ ‬شجر‭ ‬النهارِ

ويصبح‭ ‬البستان‭ ‬مزدهرا

وتُزهر‭ ‬فيه‭ ‬ثانية،‭ ‬وأولد‭ ‬فيكِ

‭* * *‬

هذي‭ ‬ليلة‭ ‬الطفل‭ ‬المقدس

‭(‬من‭ ‬سيذكره‭ ‬ويبكي‭) ‬كلُّ‭ ‬مرضعة‭ ‬سقته‭ ‬دماءها

خلعت‭ ‬مخالبها‭ ‬الأنيقة‭ ‬فجأةً

ورمت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬مقلتيه

‭- ‬أقول‭ ‬يا‭ ‬طفلي‭ ‬المقدس‭:‬

فوق‭ ‬تاج‭ ‬الحب،‭ ‬تاجُ‭ ‬الشعر

اخلعْهُ‭ ‬على‭ ‬دنياك‭ ‬مبتهلا

واحلم‭ ‬أنني‭ ‬أرضيك

واشتاقتك‭ ‬أيامي

ومازالت‭ ‬دمشق‭ ‬تمدّ‭ ‬خيمتها

ووجه‭ ‬العاشق‭ ‬المأخوذ‭ ‬يسألها‭ ‬وتسأله‭!‬

‭* * *‬

وعبر‭ ‬توهج‭ ‬الرؤيا

وعبر‭ ‬تدفق‭ ‬النظرات

قصر‭ ‬أميرة‭ ‬جبلية

تختار‭ ‬تحت‭ ‬الشمس‭ ‬مقعدها

وتسكب‭ ‬عطرها‭ ‬في‭ ‬روح‭ ‬عاشقها

وتشعل‭ ‬شمعة‭ ‬في‭ ‬القلب

ثم‭ ‬تعود‭ ‬حيث‭ ‬تنام‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬كلَّ‭ ‬مساء

‭* * *‬

ولسوف‭ ‬يبقى‭ ‬شعر‭ ‬الفيتوري‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬زمان‭ ‬للشعر‭ ‬والشعراء،‭ ‬فهل‭ ‬ستبقى‭ ‬لنا‭ ‬الأميرة‭ ‬الجبلية‭: ‬دمشق؟‭ .