الآخر .. من منظور مقارن

الآخر .. من منظور مقارن
        

          يبدو، للوهلة الأولى، عنوان هذا المقال بعيد الصلة عن حقل «الأدب المقارن» من حيث هو حقل معرفي يهتم - بالدرجة الأولى - بدراسة علاقات التأثير والتأثر، أو علاقات «التثاقف»، أو التفاعل، بين نصوص تنتمي إلى آداب وحضارات - مختلفة، أو نصوص كتبت بلغات مختلفة. لكن دراسة «صورة الآخر في الرواية - أقصد إلى الرواية العربية، بصفة خاصة، في هذا السياق - مبحث راسخ من مباحث «الأدب المقارن» إذا وضعنا في اعتبارنا الفهم الحديث لعلم «الأدب المقارن» الذي يقدم نظرة شاملة للأدب ولعالم الكتابة ككل، أو هو «دراسة للبيئة البشرية ونظرة أدبية للعالم ورؤية شاملة ووافية للكون الثقافي»، حسب تعبير فرانسوا جوست Francois Jost.

          على الرغم من أن معظم الباحثين أو الدارسين لا يبدأون في دراساتهم انطلاقًا من مقولات الأدب المقارن، غالبًا، فإنهم قد ينتهون إليه بطريقة أو بأخرى، ومتجهين نحوه من نقاط بداية شتى، حين تكون الضرورة المنهجية دافعة إلى تجاوز حدود موضوع ضيق يتضمن بعض الإشارات أو العلامات أو الصور أو الاستعارات التي تدفع هذا الباحث أو ذاك إلى مراجعة نصوص غائبة تنتمي إلى ثقافات وحضارات متباينة. وعلى الرغم من مضيّ أكثر من قرن من الزمان على طرح بدايات التساؤل حول ماهية الأدب المقارن، فلا تزال التساؤلات القديمة نفسها تفرض حضورها بقوة، مستفيدة من الوضعية الجديدة للنظرية الأدبية المعاصرة وتحولاتها المتسارعة المواكبة لحركة التطور العلمي والدرس الفلسفي العالمي، وهي التساؤلات ذاتها التي سيحاول هذا المقال إضاءة بعض جوانبها، خصوصا فيما يتصل بمفهوم «صورة شعب من الشعوب عبر مخيّلة الآخر»، بوصفها صورة نصية بالأساس يشكّل مفرداتها الخطاب الروائي العربي الحديث والمعاصر. ويمكن إيجاز هذه التساؤلات كالتالي:

          ما الهدف المحدد لأية دراسة تقع في حقل الأدب المقارن؟ وكيف يمكن أن تكون المقارنة هي هدف أية دراسة على الإطلاق؟

          إذا كان لكل أدب معاييره الخاصة، فما المعايير التي تحكم الأدب المقارن؟ وكيف يمكن انتقاء النصوص لمقارنتها؟

          هل تعدّ دراسة الأدب المقارن دراسة أكاديمية قائمة بذاتها؟ أم هي محض مجال من مجالات الدراسات النقدية بالمعنى الأوسع؟ ما علاقة الأدب المقارن، فيما يتصل بالرواية، بالنقد الثقافي و«الدراسات البينية»؟

          ما علاقة الأدب المقارن بنقد - أو نظرية - الأدب «ما بعد الكولونيالي»؟ هل يمكن أن تعد دراسة «صورة الآخر» في الرواية - كصورة الآخر أو المنفِي أو المستعمَر مثلًا- مبحثًا من مباحث الأدب المقارن التي تندرج تحت عنوان «الهويات المقارنة في عالم ما بعد الاستعمار»؟ وما مدى جدية هذه الدراسة؟

الآخر المنفي أو المستعمر

          وسوف يمثّل السؤال الأخير اهتمامًا خاصًا يتأسس عليه الفرضية الأساسية التي يتحرك عليها هذا المقال، والتي يمكن من خلالها التعامل نقديا مع قطاع كبير من قطاعات الرواية العربية الحديثة التي تتناول صور الشعوب والحضارات المختلفة تجاه بعضها البعض، أقصد إلى قطاع رواية «المنفى» أو «الغربة» أو «الهجرة» أو  «الشرق والغرب» أو «صراع الحضارات»... إلخ.

          إذا كان لمصطلح «الأدب المقارن Comparative Literature» كثير من المدلولات والمعاني، فضلًا عن الجدل الدائر حول هذا الحقل حتى الآن، ماهيته وحدوده، فإن آفاق هذا العلم لا تزال مفتوحة لاستقبال كثير من الدراسات التي تتصل بتاريخ الأدب أو الأدب العام، جنبا إلى جنب الدراسات النصية المقارنة. وقد واكب هذا التنوع والانفتاح في حدود العلم تنوع مماثل في مناهج البحث ونظرياته، بدأ منذ الخمسينيات تقريبًا حيث تبلورت ملامح المدرستين «التاريخية/الفرنسية» و«النقدية/الأمريكية». وقبل تبلور أفكار هاتين المدرستين كانت هناك جهود كثيرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث كان لقيام الحركة الرومانتيكية في الأدب، إبداعًا وتنظيرًا، بالغ الأثر في إذكاء الروح العامة التي ساعدت على قيام «الأدب المقارن». ومن أهم هذه الجهود - في بدايات القرن التاسع عشر- كانت أفكار مدام دى ستال Mme de Staell (1766-1817)، حين اهتمت بفاعلية التبادل الثقافي بين الشعوب في كتابها الذي أسمته «عن ألمانيا De l Allemagne»، وجهود سانت بيف Sainte-Beuve ( 1804-1869) حين تحدث عن الإنتاج الأدبي والفصائل والأنواع، وجهود مؤرخ الأدب هيبوليت تين Hippolyte Taine (1828-1893) حين سعى إلى تفسير الظاهرة الأدبية من خلال ثلاثة أبعاد هي: الجنس (خصائص السلالات البشرية)، والبيئة (الخصائص المكانية)، والعصر (الخصائص الزمانية). وقبل أن نخوض في ملامح هذين الاتجاهين، الفرنسي والأمريكي، ثمة إرهاصات مماثلة نلقاها عند بعض الباحثين العرب، بدأت في وقت مبكر مع مقالات فخرى أبو السعود في مجلة «الرسالة» في الثلاثينيات، ثم محاولة غنيمي هلال الرائدة في التنظير لعلم «الأدب المقارن».

          لقد ظل محمد غنيمي هلال، أحد الروّاد الأُوَل المنظَّرين لعلم الأدب المقارن في الوطن العربي، وفيًا لمبادئ المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن، وذلك بحكم تلمذته على بول فان تيجم p.Van Tieghem ، ثم فرانسوا جويار M. Francois-Guyard، وهما صاحبا كتابين يحملان عنوان «الأدب المقارن». وعلى الرغم من أهمية  الدور الذي لعبه كتاب غنيمي هلال، وريادته لهذا الاتجاه، فإنه لا يعدو أن يكون إعادة نظر دقيقة وفاحصة في مادة الأدب العربي وغيره من الآداب. وإذا  أخذنا بتصور المدرسة الفرنسية لمصطلح «المقارن»- «أي تناول العلاقات التاريخية للأدب القومي بغيره من الآداب خارج نطاق اللغة القومية، واستبعاد ما يعقد من مقارنات بين آداب ليست بينها صلة تاريخية» مباشرة - تصبح مقالات فخري أبو السعود (1909-1940)، التي نشرها في مجلة  «الرسالة» منذ عام 1934 وحتى عام 1937، خارج نطاق الأدب المقارن. لكنها من ناحية أخرى، تكتسب مشروعية كاملة في انتمائها إلى حقل «الأدب المقارن» إذا أخذنا بمنطق المدرسة الأمريكية - أو النقدية - القائلة بإنسانية الأدب وعالميته، بعيدًا عن ضرورة الاتصال عبر وسائط أو مصادر مباشرة أو غير مباشرة، بصرية أو سمعية، مكتوبة أو شفاهية.

          لقد راج هذا المفهوم الأمريكي (النقدي) للأدب المقارن في أوج ازدهار المدرسة الفرنسية (التاريخية) التي كانت تعلي من شأن التاريخ والصلات المباشرة بين الآداب. ففرانسوا جويار يعرّف «الأدب المقارن» بأنه تاريخ العلائق الأدبية الدولية؛ إذ «يقف الباحث المقارن على الحدود اللغوية والقومية ويراقب مبادلات الموضوعات والفكر بين أدبين أو عدة آداب؛ ومن ثم فإن منهجه في البحث يجب أن يتطابق مع تباين بحوثه واختلافاتها».

الأدب العام والأدب المقارن

          وبالإضافة إلى هذه الصبغة القومية التي اصطبغ بها المفهوم الفرنسي للأدب المقارن، فهو مفهوم يعاني عدم التحديد الدقيق حتى بين الفرنسيين أنفسهم؛ إذ تحدّث فان تيجم عن «الأدب العام» وفرَّق بينه وبين «الأدب المقارن» الذي يدرس في الغالب العلاقات الثنائية؛ أي أنه يدرس العلاقة بين عنصرين فحسب، سواء أكان هذان العنصران كتابين أم كاتبين أم طائفتين من الكتب أو الكتاب أم أدبين كاملين. أما «الأدب العام» فيدرس علاقات مشتركة بين أكثر من أدبين، ويترتب على ذلك وجود فارق في طبيعة المنهج المستخدم ما بين دراسة تنتمي إلى حقل «الأدب المقارن» وأخرى تندرج تحت «الأدب العام».

          لقد عانى المفهوم الفرنسي، منذ نشأته، بعض القصور، مثل عدم التحديد الدقيق والخضوع للنزعة التاريخية، والولع بتفسير الظاهرة الأدبية على أساس من الواقع الفعلى، وعدم الاتساق بين المنطلق القومي (الفرنسي النزعة) والهدف العالمي (الكوني)؛ الأمر الذي دفع عددًا من النقاد الأمريكيين - على رأسهم رينيه ويليك Rene Wellek - إلى انتقاده بشدة. ومن قبل ويليك، كانت اعتراضات كل من «كالفن» و«براون»؛ إذ رأيا أن المفهوم الفرنسي (أو التاريخي) للأدب المقارن يتخذ من الأدب الفرنسي مركزًا للدراسة تدور حوله الأفكار والتحليلات والأبحاث، وهو إذ يفعل ذلك إنما يتجاهل باقي الآداب والثقافات والشعوب، كأنه يؤسس لمركزية الثقافة واللسان الفرنسيين، وهو الأمر الذي دفع أغلب النقاد الأمريكيين - ربما بوازع عنصري مماثل، وليس من منطلق علمي محض إلى خلخلة المركز الفرنسي الذي تدور حوله الدراسات المقارنة التي تنطلق من المفهوم الفرنسي، ومحاولة  تثبيت مفهوم «العالمية» بدلًا منه.

          أما بحث رينيه ويليك عن «أزمة الأدب المقارن»، فقد وجّه اعتراضه إلى صلب المنهج التاريخي (الفرنسي)، ذلك المنهج الذي يولى قدرًا كبيرًا من اهتمامه لمفهوم «الوسائط» والعلاقات التاريخية المباشرة بين أدب وآخر، باعتبار ذلك فرعًا من فروع «تاريخ الأدب». وهذا اعتبار يدفع إلى الاهتمام بالتاريخى على حساب الأدبي. وبناءً على ذلك، فكل نتاج أدبي أو فني لم تتضح فيه هذه الواسطة - حتى مع ظهور علامات تشابه وتأثر- سوف يعدّ خارجًا عن نطاق الأدب المقارن. فضلًا عن ذلك، فقد وجّه ويليك ثلاثة مآخذ أساسية ضد المفهوم الفرنسي، هي: عدم وجود تحديد دقيق لموضوع العلم (أي علم الأدب المقارن) ومناهجه، وعدم الاهتمام بـ«الأدبي» لمصلحة «التاريخي» (أو المرجعي)، والاندفاع بعوامل قومية، وليست علمية خالصة.

          إن فكرة «المصادر» أو «الوسطاء» هى الفكرة الرئيسية التي أقام عليها المنهج الفرنسى مفهومه للأدب المقارن؛ إذ لابد من وسيط بين أدبين أو حضارتين أو ثقافتين (أو نصين) حتى يمكن دراستهما من منظور مقارن. وتتعدد هذه المصادر ما بين مصادر بصرية (انطباعات بصرية أو سمعية أو مشاهدة)، أو مصادر شفوية (حكايات شعبية وأساطير وأمثال وأغانٍ ريفية مثلًا) أو مصادر مكتوبة (وثائق ومخطوطات ورسائل).

تطور الأدب المقارن

          لقد تطور موضوع «الأدب المقارن» تبعًا لتطور النظرية الأدبية المعاصرة، منذ مرحلة ما قبل البنيوية وحتى الآن فيما يعرف بمرحلة «ما بعد البنيوية» وظهور اتجاهات «التفكيكية»، و«ما بعد الكولونيالية»، «والنقد النسائي»، و«التاريخانية الجديدة»، و«الدراسات الثقافية»..إلخ.  وكان يبدو من المقبول، خلال فترة طويلة سابقة، تصور أن الأدب المقارن يتكون- بل ويجب أن يتكون أساسًا، كما يعلّق كلود بيشوا في كتابه - من دراسة الصلات الفعلية بين الآداب القومية. ولكن هذه الدوافع، وخاصة العملية منها، فقدت كثيرًا من ثقلها؛ فثمة أبحاث لم تكن بعد قد اكتملت وتبلورت مثل «تاريخ الأفكار» التي أصبحت الآن في أوج ازدهارها، وأبحاث أخرى مثل صورة بعض الشعوب عند بعضها الآخر من خلال آدابها، وهي أبحاث ودراسات تتخذ من الخطاب الروائي، أو السرود غالبًا، مادة للتحليل والتفسير والتأويل.

          لعل ما تمتلكه بعض الآداب من شيوع وانتشار جعلها تتجاوز خصوصيتها الإقليمية هو أنها آداب انبثقت من شكلها الخاص، بعيدًا عن تجربة الاستعمار، وتشبثت بنفسها من خلال مواجهة عدد كبير من القوى الإمبريالية، ومن خلال تأكيدها على ذواتها عبر تصديرها للقلق جنبًا إلى جنب القوة الإمبريالية، وبواسطة تأكيدها أيضًا على قيمة اختلافها عن مسلمات المركز الإمبريالي (الأوربي)، الأمر الذي يجعلها آدابًا ما بعد كولونيالية بحقّ، كما تقول أشكروفت. وأظن الأدب العربي المعاصر مطالب بالدخول إلى فضاء مثل هذه «الكتابة» التي تبحث عن مزيد من الحريات غير المشروطة.
----------------------------------
* ناقد وأكاديمي مصري.

 

محمد الشحات*