«الحِيرة» عاصمة المناذرة

«الحِيرة» عاصمة المناذرة

الأصل‭ ‬والتسمية

يُجمِع‭ ‬المؤرخون‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬قوماً‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬تنوخ،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬عرب‭ ‬الجنوب،‭ ‬اتجهوا‭ ‬بعد‭ ‬مكوثهم‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬إلى‭ ‬العراق،‭ ‬واستقروا‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬نهر‭ ‬الفرات‭ ‬في‭ ‬الحيرة‭ ‬والأنبار‭. ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬تتضارب‭ ‬روايات‭ ‬الإخباريين‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬الفترة‭ ‬الأولى‭ ‬لحكم‭ ‬اللخميين،‭ ‬حيث‭ ‬تختلط‭ ‬الأسطورة‭ ‬بالحقيقة،‭ ‬فتسود‭ ‬الخرافة‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬سطور‭ ‬التاريخ‭. ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬نكاد‭ ‬نستخلص‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬أنّ‭ ‬أول‭ ‬حاكم‭ ‬تنوخي‭ ‬هو‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬فهم،‭ ‬وعقبه‭ ‬أخوه‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬فهم،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬بعدهما‭ ‬مؤسس‭ ‬الدولة‭ ‬جذيمة‭ ‬الوضّاح‭ (‬الأبرش‭)‬،‭ ‬وهاتان‭ ‬الصفتان‭ ‬أُطلقتا‭ ‬عليه‭ ‬مهابة‭ ‬وإجلالاً‭ ‬لإصابته‭ ‬بالبرص،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬الطبري‭: ‬‮«‬من‭ ‬أفضل‭ ‬ملوك‭ ‬العرب‭ ‬رأياً،‭ ‬وأبعدهم‭ ‬مغارا،‭ ‬وأشدهم‭ ‬نكاية،‭ ‬وأظهرهم‭ ‬حزماً،‭ ‬وأول‭ ‬من‭ ‬استجمع‭ ‬له‭ ‬المُلْك‭ ‬بأرض‭ ‬العراق،‭ ‬وضمّ‭ ‬إليه‭ ‬العرب،‭ ‬وغزا‭ ‬بالجيوش‮»‬‭. ‬

ويضيف‭ ‬الطبري‭ ‬قصة‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬جذيمة‭ ‬واللخميين‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬بالوفاق‭ ‬وزواج‭ ‬عدي‭ ‬بن‭ ‬نصر‭ ‬من‭ ‬أخت‭ ‬جذيمة،‭ ‬ذلك‭ ‬الزواج‭ ‬الذي‭ ‬كُلل‭ ‬بإنجاب‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬عدي،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬ملكاً‭ ‬على‭ ‬عرب‭ ‬الحيرة،‭ ‬بعد‭ ‬مقتل‭ ‬جذيمة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الزبّاء‭ ‬ملكة‭ ‬تدمر،‭ ‬أو‭ ‬قيل‭ ‬أيضاً‭: ‬على‭ ‬يد‭ ‬إحدى‭ ‬بناتها،‭ ‬تُدعى‭ ‬مارية،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬زعم‭ ‬أبي‭ ‬حنيفة‭ ‬الدينوري‭. ‬وقد‭ ‬ثأر‭ ‬عمرو‭ ‬
بن‭ ‬عدي‭ ‬ممن‭ ‬قتل‭ ‬خاله‭ ‬بخطة‭ ‬أحكمها‭ ‬له‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬جذيمة‭ ‬المخلصين،‭ ‬وتلك‭ ‬قصة‭ ‬يؤكدها‭ ‬لنا‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬اليعقوبي‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬ويشرحها‭ ‬الدينوري‭ ‬مفصَّلة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الأخبار‭ ‬الطوال‮»‬‭. ‬طال‭ ‬زمن‭ ‬حكم‭ ‬جذيمة‭ ‬إلى‭ ‬ستين‭ ‬عاماً،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬المُلْك‭ ‬إلى‭ ‬عمرو‭ ‬الذي‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬الحيرة‭ ‬عاصمة‭ ‬لدولته،‭ ‬وكان‭ ‬‮«‬منفرداً‭ ‬بملكه،‭ ‬مستبداً‭ ‬بأمره،‭ ‬يغزو‭ ‬ويصيب‭ ‬الغنائم،‭ ‬وتفد‭ ‬عليه‭ ‬الوفود‭ ‬دهره‭ ‬الأطول‭... ‬وقد‭ ‬اتبع‭ ‬سياسة‭ ‬خاله‭ ‬جذيمة‭ ‬في‭ ‬التحالف‭ ‬مع‭ ‬الفرس،‭ ‬فساعده‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬تقوية‭ ‬نفوذه‭ ‬على‭ ‬القبائل‭ ‬النازلة‭ ‬في‭ ‬العراق‮»‬‭. ‬مات‭ ‬عمرو‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬يناهز‭ ‬المائة‭ ‬والعشرين‭ ‬عاماً،‭ ‬وكان‭ ‬ملكه‭ ‬خمساً‭ ‬وخمسين‭ ‬سنة،‭ ‬فجاء‭ ‬بعده‭ ‬ابنه‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس،‭ ‬وهو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬تنصّر‭ ‬من‭ ‬ملوك‭ ‬الحيرة،‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬يُخضع‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬لسلطانه‭. ‬ثم‭ ‬ورث‭ ‬عمرو‭ ‬
بن‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬الحكم‭ ‬بعد‭ ‬أبيه،‭ ‬وتوالت‭ ‬بعده‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬لم‭ ‬يتفق‭ ‬على‭ ‬أسمائهم‭ ‬المؤرخون‭. ‬وما‭ ‬بين‭ ‬الأسماء‭ ‬غير‭ ‬المؤكدة‭ ‬والتواريخ‭ ‬المبعثرة،‭ ‬تأتي‭ ‬فترة‭ ‬غامضة‭ ‬من‭ ‬فترات‭ ‬تاريخ‭ ‬المناذرة،‭ ‬لتستقر‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬وبداية‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬الميلاديين،‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬الملك‭ ‬النعمان‭ ‬بن‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬الذي‭ ‬امتد‭ ‬حكمه‭ ‬من‭ ‬390‭-‬418م‭. ‬هذا‭ ‬الملك‭ ‬الذي‭ ‬بنى‭ ‬جيشاً‭ ‬جرَّاراً‭ ‬اشتهر‭ ‬بكتائبه‭ ‬الخمس‭: ‬الدوسر‭ ‬والشهباء‭ ‬والرهائن‭ ‬والصنائع‭ ‬والوضائع،‭ ‬وبذلك‭ ‬سُمِّي‭ ‬الجيش‭ ‬بعدها‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬‮«‬الخميس‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬عهده‭ ‬بُني‭ ‬قصر‭ ‬‮«‬الخورنق‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬اعتبره‭ ‬المؤرخون‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬الآيات‭ ‬المعمارية‭ ‬والهندسية،‭ ‬جمالاً‭ ‬وإتقاناً‭. ‬وهو‭ ‬القصر‭ ‬الذي‭ ‬بناه‭ ‬البنّاء‭ ‬الرومي‭ ‬‮«‬سنمّار‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬انتهى‭ ‬من‭ ‬بنائه‭ ‬حتى‭ ‬صرّح‭ ‬بأن‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يعلم‭ ‬بأنّه‭ ‬سوف‭ ‬يؤتى‭ ‬أجره‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬البناء‭ ‬لبناه‭ ‬بناء‭ ‬يدور‭ ‬مع‭ ‬دوران‭ ‬الشمس‭. ‬ولما‭ ‬سمع‭ ‬الملك‭ ‬النعمان‭ ‬بما‭ ‬قاله‭ ‬سنمار،‭ ‬أمر‭ ‬برميه‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬القصر‭ ‬فقتله‭. ‬وعلى‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬جرى‭ ‬المثل‭ ‬عند‭ ‬العرب‭: ‬‮«‬جزاء‭ ‬سنمار‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬اعتلى‭ ‬سدّة‭ ‬الملك‭ ‬المنذر‭ ‬بن‭ ‬النعمان،‭ ‬الذي‭ ‬قوّى‭ ‬أواصر‭ ‬علاقته‭ ‬بالفرس،‭ ‬فصار‭ ‬حليفاً‭ ‬استراتيجياً‭ ‬لهم،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬كسرى‭ ‬يزدجرد‭ ‬إلى‭ ‬تكريمه‭ ‬وتشريفه‭ ‬بحكم‭ ‬جميع‭ ‬أرض‭ ‬العرب‭. ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬فترة‭ ‬أخرى‭ ‬يسود‭ ‬فيها‭ ‬الغموض‭ ‬ويتتابع‭ ‬فيها‭ ‬الملوك،‭ ‬وهي‭ ‬الفترة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬462‭ ‬و512م،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬فيها‭ ‬المؤرخون‭ ‬سوى‭ ‬قائمة‭ ‬بأسماء‭ ‬ملوك‭ ‬الحيرة‭. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬يأتي‭ ‬ذِكر‭ ‬المنذر‭ ‬بن‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬الشهير‭ ‬باسم‭ ‬المنذر‭ ‬بن‭ ‬ماء‭ ‬السماء،‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬أمه‭ ‬مارية‭ ‬بنت‭ ‬عوف‭ ‬الخزرجي،‭ ‬التي‭ ‬لُقبت‭ ‬بماء‭ ‬السماء‭ ‬لحسنها‭ ‬وجمالها‭. ‬امتدت‭ ‬دولة‭ ‬المناذرة‭ ‬أقصى‭ ‬امتداد‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬المنذر‭ ‬بن‭ ‬ماء‭ ‬السماء،‭ ‬الذي‭ ‬مدَّ‭ ‬سلطانه‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحكمها‭ ‬بيزنطة،‭ ‬مما‭ ‬دعا‭ ‬الإمبراطور‭ ‬البيزنطي‭ ‬إلى‭ ‬التفاوض‭ ‬معه‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬كسرى‭. ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬الفتنة‭ ‬المزدكية‭ ‬والاضطرابات‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬كيان‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الفارسية‭ ‬إثر‭ ‬ذلك،‭ ‬قد‭ ‬انعكستا‭ ‬على‭ ‬دولة‭ ‬المناذرة،‭ ‬حتى‭ ‬طلب‭ ‬‮«‬قباذ‮»‬،‭ ‬كسرى‭ ‬الفرس،‭ ‬من‭ ‬المنذر‭ ‬أن‭ ‬يعتنق‭ ‬المزدكية‭. ‬وعند‭ ‬رفض‭ ‬المنذر‭ ‬أمر‭ ‬كسرى،‭ ‬عُزِل‭ ‬عن‭ ‬مُلْكِ‭ ‬الحيرة‭. ‬

لجأ‭ ‬المنذر‭ ‬إلى‭ ‬قبائل‭ ‬الصحراء،‭ ‬وظل‭ ‬لاجئاً‭ ‬حتى‭ ‬توفي‭ ‬قباذ‭ ‬وجاء‭ ‬أنوشروان،‭ ‬فأعاد‭ ‬المُلْك‭ ‬إلى‭ ‬المنذر‭. ‬وبوفاة‭ ‬المنذر‭ ‬عام‭ ‬554م،‭ ‬خلفه‭ ‬ابنه‭ ‬عمرو،‭ ‬الشهير‭ ‬باسم‭ ‬أمه‭: ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬هند‭. ‬ولعمرو‭ ‬بن‭ ‬هند‭ ‬شهرة‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الأدب،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬مضيافاً‭ ‬للشعراء،‭ ‬جزلاً‭ ‬في‭ ‬عطاياه‭. ‬أما‭ ‬نهايته‭ ‬فكانت‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬شاعر‭ ‬أيضاً،‭ ‬وهو‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم‭ ‬عام‭ ‬574م‭. ‬يروي‭ ‬لنا‭ ‬أبوالفرج‭ ‬الأصفهاني‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الأغاني،‭ ‬نقلاً‭ ‬عما‭ ‬رواه‭ ‬الإخباريون،‭ ‬قصة‭ ‬مقتل‭ ‬عمرو‭ ‬
بن‭ ‬هند،‭ ‬فيقول‭: ‬سأل‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬هند‭ ‬جلساءه‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭: ‬هل‭ ‬تعلمون‭ ‬أحداً‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬تأنف‭ ‬أمه‭ ‬من‭ ‬خدمة‭ ‬أمي؟‭ ‬فقيل‭ ‬له‭ ‬عـــمـــرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم‭ ‬التغلبي،‭ ‬وأمه‭ ‬ليلى‭ ‬بنت‭ ‬المهلهل‭ ‬بن‭ ‬ربيعة‭. ‬فاستضاف‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬هند‭ ‬عمراً‭ ‬بن‭ ‬كلثوم‭ ‬وأمه،‭ ‬وقبلا‭ ‬الدعوة،‭ ‬وأثناء‭ ‬جلوس‭ ‬السيدات‭ ‬على‭ ‬مأدبة‭ ‬الطعام‭ ‬أشارت‭ ‬هند‭ ‬بنت‭ ‬الحارث‭ ‬الكندي‭ ‬إلى‭ ‬جفنة‭ ‬وقالت‭: ‬يا‭ ‬ليلى‭ ‬ناوليني‭ ‬تلك‭ ‬الجفنة‭. ‬فردت‭ ‬ليلى‭ ‬بنت‭ ‬المهلهل‭: ‬لتقم‭ ‬صاحبة‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬حاجتها‭. ‬ولما‭ ‬أصرَّت‭ ‬هند‭ ‬على‭ ‬طلبها،‭ ‬صرخت‭ ‬ليلى‭: ‬‮«‬واذلاه‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬وقتها‭ ‬قام‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم‭ ‬واستلَّ‭ ‬سيفاً‭ ‬كان‭ ‬معلقاً‭ ‬على‭ ‬الحائط،‭ ‬فضرب‭ ‬به‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬هند‭ ‬فقتله‭. ‬ومن‭ ‬شِعر‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة،‭ ‬معلقته‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬فيها‭: ‬

 

أبا‭ ‬هندٍ‭ ‬فلا‭ ‬تعجل‭ ‬علينا

وأنظرنا‭ ‬نخبّرك‭ ‬اليقينا

بأنا‭ ‬نورد‭ ‬الرايات‭ ‬بيضا

ونصدرهن‭ ‬حمرا‭ ‬قد‭ ‬روينا

‭***‬

ألا‭ ‬لا‭ ‬يجــهلـــن‭ ‬أحــــــــــــــد‭ ‬عــــــلينا

فنجهل‭ ‬فوق‭ ‬جهل‭ ‬الجاهلينا

بأي‭ ‬مشيئة‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬هند

نكون‭ ‬لقيلكم‭ ‬فيها‭ ‬قطينا

بأي‭ ‬مشيئة‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬هند

تطيع‭ ‬بنا‭ ‬الوشاة‭ ‬وتزدرينا

‭***‬

ونشرب‭ ‬إن‭ ‬وردنا‭ ‬الماء‭ ‬صفواً

ويشرب‭ ‬غيرنا‭ ‬كدراً‭ ‬وطيناً

‭***‬

إذا‭ ‬بلغ‭ ‬الفطام‭ ‬لنا‭ ‬صبيٌّ

تخرّ‭ ‬له‭ ‬الجبابر‭ ‬ساجدينا

 

وبعد‭ ‬مقتل‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬هند،‭ ‬تولى‭ ‬الحُكم‭ ‬أخوه‭ ‬قابوس‭ (‬574-578م‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬أخوهما‭ ‬المنذر‭ ‬بن‭ ‬المنذر‭ (‬578-583م‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬أشهـــر‭ ‬ملـــك‭ ‬فـي‭ ‬تاريخ‭ ‬الحيرة‭: ‬النعــــمـــان‭ ‬بن‭ ‬المنذر‭ (‬583-605م‭). ‬كان‭ ‬النعمان‭ ‬مقرباً‭ ‬من‭ ‬كسرى‭ ‬الفرس،‭ ‬لما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬فضل‭ ‬في‭ ‬صد‭ ‬الروم‭ ‬والقبائل‭ ‬العربية‭ ‬الموالية‭ ‬لهم‭ ‬عن‭ ‬حدود‭ ‬دولة‭ ‬فارس‭. ‬ولقد‭ ‬كان‭ ‬النعمان‭ ‬بن‭ ‬المنذر‭ ‬صاحب‭ ‬فضل‭ ‬وسلطة‭ ‬على‭ ‬قبائل‭ ‬شرق‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬والحجاز،‭ ‬فصار‭ ‬مقصداً‭ ‬لشعرائهم،‭ ‬كالنابغة‭ ‬الذبياني‭ ‬والمنخل‭ ‬اليشكري‭ ‬وطرفة‭ ‬
بن‭ ‬العبد‭ ‬وعنترة‭ ‬بن‭ ‬شداد‭ ‬وحسان‭ ‬بن‭ ‬ثابت‭. ‬

وفي‭ ‬مدحه‭ ‬قال‭ ‬النابغة‭ ‬في‭ ‬شعره‭:‬

 

أتاني‭ ‬أبيتَ‭ ‬اللعْن‭ ‬أنك‭ ‬لُمتني

وتلكَ‭ ‬التي‭ ‬أهتمُّ‭ ‬منها‭ ‬وأَنصبُ

حلفتُ‭ ‬فلم‭ ‬أتركْ‭ ‬لنَفسكَ‭ ‬ريبةً

وليس‭ ‬وراء‭ ‬الله‭ ‬للمَرء‭ ‬مذهبُ

لئن‭ ‬كنتَ‭ ‬قد‭ ‬بُلغتَ‭ ‬عني‭ ‬وشايَةً

لمُبلغُك‭ ‬الواشي‭ ‬أغشُّ‭ ‬وأكذبُ

ولكنني‭ ‬كنت‭ ‬امرأً‭ ‬لي‭ ‬جانبٌ

من‭ ‬الأرض‭ ‬فيه‭ ‬مسترادٌ‭ ‬ومذهبُ

كفعلكَ‭ ‬في‭ ‬قوم‭ ‬أراكَ‭ ‬اصْطنَعتهمْ

فلَمْ‭ ‬ترهُم‭ ‬في‭ ‬شكرِ‭ ‬ذلكَ‭ ‬أذنبوا

فلا‭ ‬تتركنِّي‭ ‬بالوعيدِ‭ ‬كأنني

إلى‭ ‬الناس‭ ‬مَطليٌّ‭ ‬به‭ ‬القارُ‭ ‬أجربُ

ألَمْ‭ ‬تَرَ‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬أعطاك‭ ‬سورة‭ ‬

ترى‭ ‬كلَّ‭ ‬مَلْك‭ ‬دُونها‭ ‬يتذبذبُ

فإنّك‭ ‬شمسٌ‭ ‬والملوكُ‭ ‬كواكبٌ

إذا‭ ‬طلعت‭ ‬لم‭ ‬يبْدُ‭ ‬مِنهُن‭ ‬كوكبُ

ولست‭ ‬بمُستَبق‭ ‬أخاً‭ ‬لا‭ ‬تلمُّهُ

على‭ ‬شعثٍ‭ ‬أيّ‭ ‬الرجالِ‭ ‬المهذبُ

فإن‭ ‬أكُ‭ ‬مظلوماً‭ ‬فَعبْدٌ‭ ‬ظلَمْتَهُ

وإن‭ ‬تكُ‭ ‬ذا‭ ‬عُتبى‭ ‬فمثلك‭ ‬يُعتبُ

 

لم‭ ‬تدم‭ ‬علاقة‭ ‬الحلفاء،‭ ‬العرب‭ ‬والفرس،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعكرها‭ ‬أجواء‭ ‬السياسة‭ ‬والمُلك،‭ ‬ومع‭ ‬اختلاف‭ ‬الأسباب،‭ ‬فقد‭ ‬أرسل‭ ‬كسرى‭ ‬إلى‭ ‬النعمان‭ ‬يأمره‭ ‬بالحضور،‭ ‬فأوجس‭ ‬النعمان‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬خيفة‭ ‬جعلته‭ ‬يجول‭ ‬ويطوف‭ ‬بقبائل‭ ‬العرب‭ ‬يستنجدهم،‭ ‬فرفضوا‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬كسرى،‭ ‬حتى‭ ‬نزل‭ ‬بذي‭ ‬قار‭ ‬يطلبهم‭ ‬الحماية،‭ ‬فآووه‭ ‬وأسرته‭ ‬سراً‭. ‬ثم‭ ‬مضى‭ ‬إلى‭ ‬مصيره‭ ‬المحتوم‭ ‬إلى‭ ‬كسرى،‭ ‬حيث‭ ‬سُجن‭ ‬مهاناً‭ ‬حتى‭ ‬مات،‭ ‬أو‭ ‬قيل‭ ‬قُتل‭. ‬وجاء‭ ‬كسرى‭ ‬العلم‭ ‬بأنّ‭ ‬بني‭ ‬شيبان‭ ‬بذي‭ ‬قار‭ ‬قد‭ ‬آووه‭ ‬وأسرته،‭ ‬فأعدّ‭ ‬كسرى‭ ‬لهم‭ ‬جيشاً‭ ‬لتأديبهم‭. ‬وعندما‭ ‬التقى‭ ‬الفريقان‭ ‬كان‭ ‬النصر‭ ‬المؤزَّر‭ ‬للعرب‭ ‬ضد‭ ‬الفرس،‭ ‬وهو‭ ‬أول‭ ‬نصر‭ ‬للعرب‭ ‬ضد‭ ‬خصمهم‭ ‬الفارسي،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬النصر‭ ‬لولا‭ ‬أنّ‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬اتفقت‭ ‬على‭ ‬عدوها،‭ ‬وصارت‭ ‬تحت‭ ‬راية‭ ‬واحدة،‭ ‬متناسية‭ ‬الخلافات‭ ‬والثارات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بينها،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العزة‭ ‬والكرامة‭.‬

لقد‭ ‬بنى‭ ‬المناذرة‭ ‬في‭ ‬الحيرة‭ ‬حضارة‭ ‬سادت‭ ‬بفضل‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي،‭ ‬الفارسي‭ ‬والعربي‭ ‬والسرياني‭ ‬والرومي،‭ ‬وكان‭ ‬أهل‭ ‬الديار‭ ‬في‭ ‬أغلبهم‭ ‬من‭ ‬المسيحيين،‭ ‬الذين‭ ‬تقبلوا‭ ‬الأديان‭ ‬الأخرى،‭ ‬كالمجوسية‭ ‬والوثنية‭ ‬واليهودية‭ ‬والصابئية‭. ‬وقد‭ ‬ارتقى‭ ‬التعليم‭ ‬والطب،‭ ‬اللذان‭ ‬كانت‭ ‬مراكزهما‭ ‬في‭ ‬الأديرة‭ ‬والكنائس‭. ‬وكان‭ ‬لهم‭ ‬خط‭ ‬يكتبون‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬الخط‭ ‬الحيري‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أصل‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭. ‬ونشطت‭ ‬تجارتهم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬الهند‭ ‬والصين‭ ‬وعمان‭ ‬والبحرين‭ ‬والحجاز‭ ‬وتدمر‭ ‬وحوران‭. ‬وتشير‭ ‬الدلائل‭ ‬التاريخية‭ ‬والأثرية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬ورقي‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬يعكسان‭ ‬استعمالهم‭ ‬لأواني‭ ‬الذهب‭ ‬والفضة‭ ‬في‭ ‬الطعام،‭ ‬وأنهم‭ ‬قد‭ ‬افترشوا‭ ‬الحرير‭ ‬وارتدوه‭ ‬ملابس،‭ ‬وتعطروا‭ ‬بالطيب‭ ‬والبخور،‭ ‬وتفوقوا‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬السلاح‭ ‬والمنسوجات‭ ‬والحلي‭ ‬وأدوات‭ ‬الزينة‭ ‬والعطور‭.‬

كما‭ ‬نراهم‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬العمارة‭ ‬قد‭ ‬بنوا‭ ‬القصور‭ ‬والكنائس‭ ‬والأديرة‭ ‬بأسلوب‭ ‬هندسي‭ ‬ينم‭ ‬عن‭ ‬قدرة‭ ‬فنية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العمارة‭. ‬وازدهرت‭ ‬الحيرة‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬كونها‭ ‬مركزاً‭ ‬طبياً،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬مركزاً‭ ‬إشعاعياً‭ ‬للترجمة‭ ‬العلمية‭ ‬عن‭ ‬لغات‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬العربية،‭ ‬كالفارسية‭ ‬والسريانية‭ ‬واليونانية‭ ‬واللاتينية‭. ‬فقصدها‭ ‬طالبو‭ ‬العلم‭ ‬والتجارة‭ ‬والمترفون،‭ ‬ليجدوا‭ ‬فيها‭ ‬فوق‭ ‬مرادهم‭ ‬الأنس‭ ‬والطرب‭ ‬واللهو‭ ‬والغناء‭ ‬والراحة‭ ‬على‭ ‬نهرها‭ ‬وأراضيها‭ ‬الغنّاء‭ .