«الحِيرة» عاصمة المناذرة
الأصل والتسمية
يُجمِع المؤرخون على أن قوماً من بني تنوخ، وهم من عرب الجنوب، اتجهوا بعد مكوثهم فترة طويلة في البحرين إلى العراق، واستقروا على ضفاف نهر الفرات في الحيرة والأنبار. ولا عجب أن تتضارب روايات الإخباريين في ذكر الفترة الأولى لحكم اللخميين، حيث تختلط الأسطورة بالحقيقة، فتسود الخرافة على أغلب سطور التاريخ. إلا أننا نكاد نستخلص من تلك الروايات أنّ أول حاكم تنوخي هو مالك بن فهم، وعقبه أخوه عمرو بن فهم، ثم جاء بعدهما مؤسس الدولة جذيمة الوضّاح (الأبرش)، وهاتان الصفتان أُطلقتا عليه مهابة وإجلالاً لإصابته بالبرص، وهو الذي كان على رأي الطبري: «من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغارا، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزماً، وأول من استجمع له المُلْك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش».
ويضيف الطبري قصة الصراع بين جذيمة واللخميين التي انتهت بالوفاق وزواج عدي بن نصر من أخت جذيمة، ذلك الزواج الذي كُلل بإنجاب عمرو بن عدي، الذي أصبح ملكاً على عرب الحيرة، بعد مقتل جذيمة على يد الزبّاء ملكة تدمر، أو قيل أيضاً: على يد إحدى بناتها، تُدعى مارية، على حدّ زعم أبي حنيفة الدينوري. وقد ثأر عمرو
بن عدي ممن قتل خاله بخطة أحكمها له أحد رجال جذيمة المخلصين، وتلك قصة يؤكدها لنا كل من اليعقوبي في تاريخه ويشرحها الدينوري مفصَّلة في كتابه «الأخبار الطوال». طال زمن حكم جذيمة إلى ستين عاماً، ثم انتقل المُلْك إلى عمرو الذي اتخذ من الحيرة عاصمة لدولته، وكان «منفرداً بملكه، مستبداً بأمره، يغزو ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول... وقد اتبع سياسة خاله جذيمة في التحالف مع الفرس، فساعده هذا على تقوية نفوذه على القبائل النازلة في العراق». مات عمرو عن عمر يناهز المائة والعشرين عاماً، وكان ملكه خمساً وخمسين سنة، فجاء بعده ابنه امرؤ القيس، وهو أول من تنصّر من ملوك الحيرة، واستطاع أن يُخضع القبائل العربية لسلطانه. ثم ورث عمرو
بن امرئ القيس الحكم بعد أبيه، وتوالت بعده سلسلة من الملوك لم يتفق على أسمائهم المؤرخون. وما بين الأسماء غير المؤكدة والتواريخ المبعثرة، تأتي فترة غامضة من فترات تاريخ المناذرة، لتستقر في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلاديين، على اسم الملك النعمان بن امرئ القيس، الذي امتد حكمه من 390-418م. هذا الملك الذي بنى جيشاً جرَّاراً اشتهر بكتائبه الخمس: الدوسر والشهباء والرهائن والصنائع والوضائع، وبذلك سُمِّي الجيش بعدها عند العرب «الخميس». وفي عهده بُني قصر «الخورنق»، الذي اعتبره المؤرخون آية من الآيات المعمارية والهندسية، جمالاً وإتقاناً. وهو القصر الذي بناه البنّاء الرومي «سنمّار»، الذي ما إن انتهى من بنائه حتى صرّح بأن لو كان يعلم بأنّه سوف يؤتى أجره على هذا البناء لبناه بناء يدور مع دوران الشمس. ولما سمع الملك النعمان بما قاله سنمار، أمر برميه من أعلى القصر فقتله. وعلى هذه القصة جرى المثل عند العرب: «جزاء سنمار». ثم اعتلى سدّة الملك المنذر بن النعمان، الذي قوّى أواصر علاقته بالفرس، فصار حليفاً استراتيجياً لهم، الأمر الذي دعا كسرى يزدجرد إلى تكريمه وتشريفه بحكم جميع أرض العرب. ثم تأتي فترة أخرى يسود فيها الغموض ويتتابع فيها الملوك، وهي الفترة ما بين عامي 462 و512م، التي لا يذكر فيها المؤرخون سوى قائمة بأسماء ملوك الحيرة. بعد ذلك يأتي ذِكر المنذر بن امرئ القيس، الشهير باسم المنذر بن ماء السماء، نسبة إلى أمه مارية بنت عوف الخزرجي، التي لُقبت بماء السماء لحسنها وجمالها. امتدت دولة المناذرة أقصى امتداد لها في عهد المنذر بن ماء السماء، الذي مدَّ سلطانه على حساب الأراضي التي كانت تحكمها بيزنطة، مما دعا الإمبراطور البيزنطي إلى التفاوض معه مباشرة من دون الرجوع إلى كسرى. إلا أنّ الفتنة المزدكية والاضطرابات التي أصابت كيان الإمبراطورية الفارسية إثر ذلك، قد انعكستا على دولة المناذرة، حتى طلب «قباذ»، كسرى الفرس، من المنذر أن يعتنق المزدكية. وعند رفض المنذر أمر كسرى، عُزِل عن مُلْكِ الحيرة.
لجأ المنذر إلى قبائل الصحراء، وظل لاجئاً حتى توفي قباذ وجاء أنوشروان، فأعاد المُلْك إلى المنذر. وبوفاة المنذر عام 554م، خلفه ابنه عمرو، الشهير باسم أمه: عمرو بن هند. ولعمرو بن هند شهرة في كتب الأدب، فقد كان مضيافاً للشعراء، جزلاً في عطاياه. أما نهايته فكانت على يد شاعر أيضاً، وهو عمرو بن كلثوم عام 574م. يروي لنا أبوالفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني، نقلاً عما رواه الإخباريون، قصة مقتل عمرو
بن هند، فيقول: سأل عمرو بن هند جلساءه في يوم من الأيام: هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟ فقيل له عـــمـــرو بن كلثوم التغلبي، وأمه ليلى بنت المهلهل بن ربيعة. فاستضاف عمرو بن هند عمراً بن كلثوم وأمه، وقبلا الدعوة، وأثناء جلوس السيدات على مأدبة الطعام أشارت هند بنت الحارث الكندي إلى جفنة وقالت: يا ليلى ناوليني تلك الجفنة. فردت ليلى بنت المهلهل: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. ولما أصرَّت هند على طلبها، صرخت ليلى: «واذلاه». وفي وقتها قام عمرو بن كلثوم واستلَّ سيفاً كان معلقاً على الحائط، فضرب به عمرو بن هند فقتله. ومن شِعر عمرو بن كلثوم في هذه الحادثة، معلقته التي قال فيها:
أبا هندٍ فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبّرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا
ونصدرهن حمرا قد روينا
***
ألا لا يجــهلـــن أحــــــــــــــد عــــــلينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بأي مشيئة عمرو بن هند
نكون لقيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمرو بن هند
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
***
ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
***
إذا بلغ الفطام لنا صبيٌّ
تخرّ له الجبابر ساجدينا
وبعد مقتل عمرو بن هند، تولى الحُكم أخوه قابوس (574-578م)، ثم أخوهما المنذر بن المنذر (578-583م)، الذي جاء من بعده أشهـــر ملـــك فـي تاريخ الحيرة: النعــــمـــان بن المنذر (583-605م). كان النعمان مقرباً من كسرى الفرس، لما له من فضل في صد الروم والقبائل العربية الموالية لهم عن حدود دولة فارس. ولقد كان النعمان بن المنذر صاحب فضل وسلطة على قبائل شرق الجزيرة العربية والحجاز، فصار مقصداً لشعرائهم، كالنابغة الذبياني والمنخل اليشكري وطرفة
بن العبد وعنترة بن شداد وحسان بن ثابت.
وفي مدحه قال النابغة في شعره:
أتاني أبيتَ اللعْن أنك لُمتني
وتلكَ التي أهتمُّ منها وأَنصبُ
حلفتُ فلم أتركْ لنَفسكَ ريبةً
وليس وراء الله للمَرء مذهبُ
لئن كنتَ قد بُلغتَ عني وشايَةً
لمُبلغُك الواشي أغشُّ وأكذبُ
ولكنني كنت امرأً لي جانبٌ
من الأرض فيه مسترادٌ ومذهبُ
كفعلكَ في قوم أراكَ اصْطنَعتهمْ
فلَمْ ترهُم في شكرِ ذلكَ أذنبوا
فلا تتركنِّي بالوعيدِ كأنني
إلى الناس مَطليٌّ به القارُ أجربُ
ألَمْ تَرَ أن الله أعطاك سورة
ترى كلَّ مَلْك دُونها يتذبذبُ
فإنّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ
إذا طلعت لم يبْدُ مِنهُن كوكبُ
ولست بمُستَبق أخاً لا تلمُّهُ
على شعثٍ أيّ الرجالِ المهذبُ
فإن أكُ مظلوماً فَعبْدٌ ظلَمْتَهُ
وإن تكُ ذا عُتبى فمثلك يُعتبُ
لم تدم علاقة الحلفاء، العرب والفرس، من دون أن تعكرها أجواء السياسة والمُلك، ومع اختلاف الأسباب، فقد أرسل كسرى إلى النعمان يأمره بالحضور، فأوجس النعمان في نفسه خيفة جعلته يجول ويطوف بقبائل العرب يستنجدهم، فرفضوا خوفاً من كسرى، حتى نزل بذي قار يطلبهم الحماية، فآووه وأسرته سراً. ثم مضى إلى مصيره المحتوم إلى كسرى، حيث سُجن مهاناً حتى مات، أو قيل قُتل. وجاء كسرى العلم بأنّ بني شيبان بذي قار قد آووه وأسرته، فأعدّ كسرى لهم جيشاً لتأديبهم. وعندما التقى الفريقان كان النصر المؤزَّر للعرب ضد الفرس، وهو أول نصر للعرب ضد خصمهم الفارسي، وما كان هذا النصر لولا أنّ القبائل العربية اتفقت على عدوها، وصارت تحت راية واحدة، متناسية الخلافات والثارات التي كانت بينها، وكل ذلك كان من أجل العزة والكرامة.
لقد بنى المناذرة في الحيرة حضارة سادت بفضل التنوع الثقافي، الفارسي والعربي والسرياني والرومي، وكان أهل الديار في أغلبهم من المسيحيين، الذين تقبلوا الأديان الأخرى، كالمجوسية والوثنية واليهودية والصابئية. وقد ارتقى التعليم والطب، اللذان كانت مراكزهما في الأديرة والكنائس. وكان لهم خط يكتبون به، وهو «الخط الحيري»، الذي هو أصل الخط الكوفي. ونشطت تجارتهم التي كانت بينهم وبين الهند والصين وعمان والبحرين والحجاز وتدمر وحوران. وتشير الدلائل التاريخية والأثرية إلى أن مستوى المعيشة ورقي الحياة الاجتماعية يعكسان استعمالهم لأواني الذهب والفضة في الطعام، وأنهم قد افترشوا الحرير وارتدوه ملابس، وتعطروا بالطيب والبخور، وتفوقوا في صناعة السلاح والمنسوجات والحلي وأدوات الزينة والعطور.
كما نراهم في ميدان العمارة قد بنوا القصور والكنائس والأديرة بأسلوب هندسي ينم عن قدرة فنية في مجال العمارة. وازدهرت الحيرة بالإضافة إلى كونها مركزاً طبياً، فقد أصبحت مركزاً إشعاعياً للترجمة العلمية عن لغات أخرى غير العربية، كالفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية. فقصدها طالبو العلم والتجارة والمترفون، ليجدوا فيها فوق مرادهم الأنس والطرب واللهو والغناء والراحة على نهرها وأراضيها الغنّاء .