إشكالية التأصيل والهوية في المسرح العربي
تشكل الهوية المسرحية مصدر قلق للمشتغلين بالفن المسرحي في الوطن العربي، على الرغم من أنه بدا مقلداً للغرب بصيغة «ذهب إفرنجي مسبوكاً عربياً»، تأصيله، هويته، خصوصيته، تلك المشكلة التي تؤرقنا، منذ تعرفنا إلى المسرح من بيت مارون النقاش، إلى الآن، ومشكلة «التأصيل» هذه تؤرق الغرب، ولم تكن معضلة عندهم، لأن الغرب اهتم بكيفية إيجاد الوسائل والطرائق لتطوير المسرح.
طرح د. علي عقلة عرسان رأياً مفاده أن المصريين هم أول من عرف المسرح قبل اليونانيين، مؤكداً أن النشأة الأولى والريادة كانتا على أيدي المصريين، لكن اكتمال بنيانه وترسيخ هويته تما على يد الإغريق، يقول: «أما المسرح كفنّ له تقاليد وأعراق ومميزات خاصة، له فعالية معينة تتم بأساليب أداء محددة، فلم تبدأ بعض ظواهره الموفقة إلا عند المصريين القدماء، ولم تكتمل هويته ويتكامل بناء نصوصه الدرامية، إلا عند الإغريق، على الرغم مما يوجد من انفصال بين النشأتين».
لكننا إذا عدنا إلى بدايات المسرح الإغريقي، فسنجد أن الإغريق لم يتحدثوا عن شيء اسمه المسرح، إلا من خلال التراجيديات، وكان هناك حديث عن طقوس على شكل احتفالات دينية وعقائدية، تقدم فيها القرابين للآلهة، ومن
ثم بدأنا نتلمس المسرح مع ثسبس الإيكاري.
بمعنى أن التطور الطبيعي للطقس هو ما رسَّخ المسرح، بعد انتقاله من صيغة الاحتفال العفوي، إلى الشكل المسرحي الذي
وصلنا، وهذا ما لا ينطبق على ما جاء به عرسان.
يأتينا رأي مغاير تماما لما جاء به عرسان، وهو للباحث العراقي فوزي رشيد، الذي أثبت مستعيناً بالوثائق والدلائل أن مهد المسرح لا هو مصري ولا إغريقي، بل عراقي، إذ يذكر أن «اليونانيين اقتبسوه من العراق القديم، وأن الأسطورة الشهيرة المكتشفة في العراق (نزول إينانا إلى العالم السفلي) هي أول نص مسرحي مكتشف حتى الآن في العالم، ولم يكن للقراءة فقط وإنما للتمثيل أيضاً». وأضاف أنه اكتشف نصاً مسمارياً في مدينة آشور يعود إلى 800 عام قبل الميلاد، وهو تمثيلية أخرى بطلها «الإله مردوخ»، وهذا كله قبل أن يعرف اليونانيون المسرح.
ومع عرسان ورشيد، يتأكد الأرق العربي المستمر، حول الدهشة الأولى للمسرح، لكن هل هذا هو المهم؟ لأنه إذا صحت أطروحات الاثنين، فلماذا إذن لم تكن هناك تراجيديات حقيقية، كما هي الحال عند الإغريق؟
التمسرح والاستقرار
هذا في الحضارات، ولكن أين المسرح في الإسلام وما قبل الإسلام؟ وهل عرف الإسلام والعرب المسرح ومارسوه، أم أن الدين رفضه ومنعه، من ضمن رفضه التصوير ومن ثم التمثيل؟
عزا زكي طليمات سبب عدم تعرُّف الإسلام على المسرح إلى حياة البداوة والترحال قبل الإسلام، وعدم استقرارهم في مكان، وهذا ساهم كثيراً في عدم استقرار التمسرح، الذي يحتاج إلى بيئة مستقرة، واستمرارية، حتى يتشكل ويتطور، لكن هذا الرأي غير دقيق، وقد ينطبق على أسلوب الحياة ما قبل الإسلام، لكن بعد الإسلام، كان هناك استقرار، وكانت دمشق في زمن معاوية عاصمة كبرى، والشيء نفسه يقال عن بغداد في زمن العباسيين، التي كانت مركزاً ثقافياً مهماً، وأيضاً كانت هناك التعازي الحسينية، التي تحمل كثيراً من الحمولات الدرامية، ويتجسد فيها كثير من العناصر التراجيدية كحدث مأساوي، إذن لماذا أجهضت؟
هل كان الإسلام هو السبب، أم الإسلاميون؟ هل لأن الدين - كما ذكرنا - قد منع التصوير ومن ثم التمثيل؟ لكن هذا ما لا يؤكده القرآن الكريم، الذي نصَّ على تحريم العبادة الوثنية، أم يعزى السبب لغياب الصراع مع الآلهة كما هو عند الإغريق؟
عرفت الحياة العربية كثيراً من الأحداث والصراعات التي كان من الممكن أن تخلق تراجيديات عربية تضاهي التراجيديات الإغريقية لو استثمرت بالشكل الصحيح، من خلال توظيفها درامياً، ومن ثم تجسيدها معارك المسلمين وغزواتهم، من أجل ترسيخ الدعوة الإسلامية، وكانت ستصبح مادة مهمة لخلق منجز تراجيدي مهم.
كتاب فن الشعر لأرسطو الذي - وكما يشير د. عبدالرحمن بدوي - «ظل مهملا في خزائن الدولة البيزنطية عصوراً مديدة حتى اكتشفه العرب في القرن العاشر الميلادي، وقام بترجمته المترجم السيرياني متى بن يونس القنائي إلى العربية»، ولم يفهم العرب أطروحاته ودلالاته إلا في القرن التاسع عشر. هل كان ذلك سببا في عدم تطور المسرح العربي أيضا، أم أن الجسد العربي وعدم تحرره، والنظر إليه كـ«تابو»، هو السبب؟ أم أن المجتمع رسَّخ ذلك المفهوم الـ«تابو»؟ أو أن الإسلاميين كما يسميهم المفكر محمد أركون، قد غالوا في أطروحاتهم الإسلامية، ما بين المقدَّس والمدنس، ومن ثم أصبح المجتمع برمته تحت تلك السيطرة الفكرية، التي تُحرِّم الفن، لكونه ينشر الفسوق كما حدث مع أبي خليل القباني؟
المسرح والإسلام
لاقت الدعوة الإسلامية مقاومة شرسة من القوى التي تؤمن بتعدد الآلهة وبعبادة الأصنام. هذه القوى كانت تستعمل الموروث اللاشعوري القديم، بعبادتها للآلهة، وأيضا إيمانها بتعدد تلك الآلهة، مثل إله الخصب، إله العشق، إله الحرب، وغيرها من الآلهة. هذا الموروث هو الرابط الحقيقي لأبناء الجزيرة العربية، ومنبع ارتباطهم الحياتي بالآلهة، فهي التي تسير لهم أمورهم، يستشيرونها في تجارتهم، سفرهم، وفي حلّهم وترحالهم، وفي كل شيء يُقدمون عليه.
الدعوة الإسلامية جاءت لمحاربة هذا السلوك والموروث، من خلال التعريف بالإله الواحد الأحد، ومحاربة الوثنية، لهذا سعت بقوة لتهديم كل تلك المظاهر وإلغائها، وكل من يقف في وجه هذا التغيير (الدعوة)، فتمَّ الهدم، وضربت بلا هوادة من أجل ذلك التغيير والدعوة التي جاء بها الإسلام.
هُدمت الأصنام، الآلهة المزيفة المعبودة، هدمت المعابد، ولم يبق لها أثر، وطالبت الدعوة الجميع بعبادة الواحد الأحد، باعتبار أنه ليس هناك معبود سواه، وكل ما عدا ذلك هو إشراك.
بعدها حلت الممارسات الإسلامية محل الممارسات الأسطورية، التي كان يمارسها أهل الجزيرة، و«إذا كان الإسلام قد قضى على الأوثان والمعابد، وحطَّم الأصنام وطهَّر الجزيرة العربية من مراكز عبادتها، فقد قضى على الأساطير المتعلقة بهذه العبادات، والطقوس المصاحبة لهذه الأساطير، التي كانت تمارس داخل المعابد بصفة جماعية، أو داخل المنازل بصفة ذاتية»، كما يقول فاروق خورشيد في كتابه «الجذور الشعبية للمسرح العربي»، وبهذا ضاعت علينا فرصة التعرف إلى تلك الأساطير والطقوس، وتحولت الكعبة بكل رمزها الوثني القديم، إلى رمز إسلامي جديد، تستمد معناها من أصولها الجديدة، الإسلامية، وتكرّس نسيان كل مرجعيتها وما تحمله من أساطير وطقوس، طالما أنها تتعارض مع الدعوة الإسلامية.
ولا شك في أن خطوة التجاوز تلك، لم تتح الفرصة لممارسات احتفالية تعيد الطقسيات الأسطورية، وما بقي منها ليس سوى طقوس ومظاهر لا تخرج عن إطار ما يسمح به الدين الإسلامي ودعوته، كما تحول الفكر في الجزيرة العربية، من فكر جاهلي يؤمن بتعدد الآلهة، ويجلها ويعدها المخلص، وإليها يرجع بكل ضروراته الدنيوية، إلى فكر الألوهية الوحدانية، الإله الواحد الأحد، وكان من اليسير احتواء المظاهر برأي الناقد فاروق خورشيد: «من السهولة تحويرها وتعديلها لتتلاءم مع الفكر الجديد، بحيث لا تتعارض مع العقيدة الموحدة الجديدة ولا تختلف معها، بل والتي يمكن توظيفها في خدمة هذه العقيدة، وفي غرس بذورها الأكيدة في نفوس المسلمين الجدد».
عرف العرب تلك الاحتــــــفالات ومارسوها كغيرهـــم مــــن الشـــعوب، على الرغــــم من اختلاف تسميات الآلهة القديمة في الثقـــافات الأخرى، لكن رمزها الدلالي الإلهي يبقى متشابها، فإننا نجد «بعل» البابلي الملقب بالسيد عند الكنعانيين، و«هبل» القرشي القديم، و«إيل» الأوغاريتي، و«يعلو» المعروف في سيناء و«رع» المصري القديم، و«ييل» عند الآرامين، تؤكد هذا التقارب في الرمز، فكل هذه أسماء لرب الأرباب أو سيد الآلهة {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (الصافات: 125)، إضافة إلى التشابه في الطقوس والاحتفالات والأعياد، وطقس تقديم القرابين، وتنصيب الملوك.
مع مجيء الدعوة الإسلامية وتهديم المعابد والأصنام، تهدم معها دور المعبد (القديم) في الحياة العربية، وهذا قوَّض فكرة التسلسل الطبيعي، الذي من المفترض أن تمر به الطقوس المعبدية، مثلما تطور عند الإغريق، ليتحول إلى الشكل المسرحي الذي وصلنا عن طريق التراجيديات، التي نظر إليها أرسطو، ووضع قواعدها وأصولها وسماتها في كتاب «فن الشعر». في مقابل الإرث الأسطوري العربي القديم الغزير بتفاصيله ما يجعله حاملاً لدراما عربية خالصة، أو تراجيديا عربية، مثلما حملت الطقوس اليونانية وجود الأدب المسرحي في اليونان، ولكن غياب التوثيق حجبها أو منع إيصالها إلينا بسبب ما تحدثت المصادر عنه في الإشارات السابقة.
الدعوة الإسلامية هدمت كل ما يمت للحياة الوثنية بصلة، ويؤكد خورشيد ذلك بقوله: «والانقطاع هنا حاسم ولا تردد فيه، فكل ما هو طقس وثني انتهت آثاره ودرست مبانيه، وامّحت معالمه، وهو إذا أفلت في بعض النقوش والبرديات القديمة في حالات نادرة، فإنه لا يعطينا صورة واضحة لمراحل التطور أو الاشتغال من العرض المعبدي الخالص إلى العرض المسرحي العام، وحتى هذا لم يتم إلا لبعض إشارات في متبقيات العبادات السومرية والفينيقية والمصرية القديمة».
هل حرَّم الإسلام الفن؟
فنَّد الباحث التونسي محمد عزيزة، كل الأطروحات التي مفادها أن الإسلام قد حرَّم الفن، وانتهى إلى أن التمجيد الذي يصل إلى حد العبادة هو ما أوصل هذا المفهوم، بالإضافة إلى عدم تلاؤم «بعض معالجات» الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص مع طبيعة الشريعة الإسلامية، والأحكام المنصوص عليها، هي التي أدت إلى عدم الارتباط بالمسرح أو القبول به، فالعقلية الإسلامية رفضت فكرة «موضوع» الصراع وحرية التفكير، بالشكل الذي كان عليه في المسرح الإغريقي، لأن حرية التفكير وأداة المسرح الرئيسة ممثلة بالصراع، هما ما قاد لولادة المسرح الإغريقي وتطوره، وبعكسه لكان توقف حاله حال مسرح «النو» الياباني، الذي جُمد في نشيد عاطفي واحد، فلو لم تفلت عواطف ميديا وبرومثيوس وأورست هادرة صارخة لشكا هؤلاء الأبطال التراجيديون الشهيرون من الشلل اليائس الذي أصاب زميليهم اليابانيين كاناني وزياجي، اللذين جمدتهما تقاليد سادت في المجتمع الياباني برجعيتها وبالروح المحافظ، حيث سيطرت عليه ثلاث قواعد مقدسة، هي:
- الهوكو: الاحترام من دون قيد أو شرط للأشياء العامة.
- اليتمان: الشرف.
- البونغن: العرش.
أما حرية التعبير في شكل الصراع، فلم نجدها في العقلية الإسلامية وممارساتها الحية، إذ يمكننا النظر في النص الديني المقدس إلى عديد من الشواهد لهذا الصراع، التي جابهت حظراً في التحول إلى ممارسة تعبيرية جمالية بسبب من الإسقاطات القدسية على أشكال الأداء خارج المسموح من رعاة النص الديني وليس من النص نفسه. لهذا لم يعرف الوضع العام في ظل الإسلام الدراما، لأنه لا يمكن للإنسان المسلم أن يضع حريته الشخصية في صراع مع إرادة الله بالصيغة الوثنية المعهودة سومرياً وفرعونياً وإغريقياً، لأن الله (في الديانات التوحيدية) هو القادر على كل شيء، فهو المسير والمخلص وهو الأول والآخر، فلا يمكن للعقلية الإسلامية أن تتخذ موقفاً مضاداً لتلك الإرادة الإلهية، ويذكر بقوله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (سورة الرحمن: 27)، هنا أطبق «فهم» الإرادة السماوية، على كل تفكير يمكن تفسيره متعارضا مع قدرة الله عز وجل، وبما أن الإسلام هو خاتم الأديان، فإنه نظم كل الأمور الحياتية والدنيوية، إن كانت للإفراد أو للمجموعة، وكل من يخرج عن ذلك النظام فإنه يموت كافرا ملحداً خارجاً على إرادة الله. على أن نتذكر دائماً أن من يقرر هذا هو مسلم وصي على المسلمين في سلطته وفي قراءة النص الديني المقدس.
لابد هنا من إلقاء نظرة على الصراع الذي نتحدث عنه كما هو متعارف عليه في التراجيديا الإغريقية، فهذا الصراع ينقسم إلى أربعة أنواع، هي:
الصراع العمودي: حيث تواجه الحرية البشرية الإرادة الإلهية، برومثيوس مقيداً بأغلال، كيف وقف بوجه الإرادة الإلهية وسرق النار ليجلبها إلى الأرض؟
الصراع الأفقي: حيث يواجه الفرد قوانين المجتمع والكيان الاجتماعي، الذي يجب أن يخضع له الجميع، أنتيجون مثالا، حين رفضت الانصياع لقانون كريون ودفن شقيقها «بولينيس».
الصراع الديناميكي: تقف العفوية البشرية في وجه الذي لا مفر منه، القدر، التاريخ المقدر، والمعيش دراميا، الأورستية لأسخيلوس مثالاً.
الصراع الداخلي: التناقضات الداخلية، داخل النفس البشرية، هذه التناقضــات التي نجدها تتجسد في شخصية أوديب، الذي كـان زوجاً لأمه وأبا لإخوته، صراعه الداخلي قاده للعيش في الجبال.
عندما يغيب الصراع تغيب الدراما، لذا لا يمكن للعقلية الإسلامية التي آمنت بالله الواحد الأحد الذي لا شريك له، فهو المخلص من كل الأدران ومسير كل الأمور، وهذا مترسخ بالعقلية الإسلامية، وبالتالي صعب على هكذا عقل أن يقف موقفا محتدم الصراع مع تلك القوى، بوصفها قضية محسومة ربانيا في العقلية الإسلامية. هذه العقلية لم تستسغ فكرة الصراع، فقاد هذا للتخلي عن فكرة المسرح، وبروز الشعر وبزوغه، لسهولة تداوله الشفاهي، وأيضاً كملاذ لعدم ارتكاب المعصيات والوقوف بوجه الإرادة الإلهية، ومن الأسباب الأخرى، زهد المسلمين في فن التمثيل، كما يذكر محمد كرد علي «لأنهم أمة لم تنقل عن غيرها إلا ما مس حاجتها وانطبق مع عاداتها وليس العرب أمة خيال بل أمة حس وحقيقة».
على الرغم من تأكيد محمد عزيزة أن العرب قد عرفوا الصراع عندما دخل المستعمر المنطقة العربية، وهبت الشعوب العربية لمقاومته، وكان هذا في القرن التاسع عشر، وهذا التاريخ هو البداية الحقيقية للمسرح العربي، بينما الباحثة الروسية تمارا ألكساندروفنا قد فندت ذلك بوصف المنطقة العربية عرفت كثيراً من الصراعات قبل دخول المستعمر إليها .