كــان مدينـة الأفـلام

في الجنوب الفرنسي تقع مدينة الأفلام (كان)، حيث يعتبر مهرجان كان للأفلام من أعرق المهرجانات إضافة، حيث بدأ العام 1930 وأصبح دوليا العام 1946 لتصبح جائزة السعفة الذهبية مبتغى السينمائيين. لذلك حين وصلت مدينة (كان)، قادما من نيس بالقطار وجدت تأثير المهرجان.
هنا فندق المهرجان، ومطعم المهرجان، بل حتى البيتزا لها نصيب، كيف لا وفي شهر مايو تكون (كان) ملتقى الممثلين والمصورين والإعلاميين «وكم أتوق ليوم من الأيام لأفوز بجائزة كان للأفلام الوثائقية طبعا لا بأس للأمنيات».
بدت (كان) هادئة في الشتاء فخلف شارع الكورنيش شارعان أحدهما يحتوي على محلات الحرف اليدوية والتذكارات التي تتشابه مع نظيراتها في الريفيرا حيث تكثر محلات العطور والصابون بروائح منعشة وألوان زاهية، والمنتوجات الخشبية والملابس والمناشف التي تحمل بصمة الريفيرا من التصميم أو الألوان، وقد زرت باريس أكثر من مرة، لكن هناك فرقا كبيرا جدا بين باريس ومدن الجنوب سواء في هيئات السكان، أو الأزياء والنمط المعماري حيث يبدو هنا التأثير الإيطالي بل وحتى العربي، ولا أقصد التأثير العربي الآتي من هجرات العرب من الجزائر وتونس بل هو تأثير أقدم من ذلك، فتجد البهارات بنكهاتها الشرقية موجودة في أسواق «كان» و«نيس»، بل إن المنطقة كانت تحت النفوذ العربي خصوصًا الأقرب من الأندلس كذلك أيام الدولة العثمانية حيث كان القائد البحري الجزائري خير الدين بربروسا يصول ويجول كيفما يشاء في البحر الأبيض المتوسط.
شاهدت تمثالا لخير الدين في مدينة كبتاش البحرية في أسطنبول عند المتحف البحري تكريما لدوره في خدمة الدولة العثمانيه التي حاصرت «نيس» أيضا، أما النمط المعماري لـ «كان» فيتسم بالأناقه والبساطه.
بعد أن انتهيت من التجول في أسواق «كان» دلتني صيحات طيور النورس للميناء الذي تحرسه قلعة على هضبة صعدتها بمهل لآخذ لقطات بانورامية للميناء مع المدينة ولاحظت وجود جزيرة ويقال إن قصة الأمير المسجون بالقناع الحديدي جرت أحداثها في سجن هذه الجزيرة، ويقال إنه أخ لملك فرنسا.
تكثر في مدينة «كان» مطاعم المأكولات البحريه فلم ينفك الصيادون بتزويد هذه المطاعم بالأسماك الطازجة الشهية، وكما نادتني طيور النورس للميناء رجعت للسوق لأسمع صوت عازف الأكورديون يعزف أعذب الألحان ليعطي الجو العام خلفيه موسيقيه رائعة.
من حسن الحظ وجود سوق الأنتيكات في إحدى الساحات المغطاة التي تستخدم لبيع الخضار في أيام أخرى، اصطفت اللوحات والتحف الفنيه الراقية إضافة لبعض الأدوات والتحف وكنت أتمنى أن أحصل على بوصلة بحرية قديمة أو سيف من الحقبة النابليونية التي بدا تأثيرها واضحًا في فرنسا قاطبة حيث جرّت حروب نابليون الويلات والبؤس للشعب الفرنسي حيث أبدع فكتور هوجو برواية البؤساء الذي صور معاناة المجتمع الفرنسي من بعد الثورة والحروب النابليونية من خلال شخصية كوزيت وأمها بالرواية الشهيرة.
وعلى ذكر الروايه تكثر إعلانات فيلم البؤساء الذي تزامن عرضه مع زيارتي للريفيرا ومع الأسف لم يكن الفيلم بالمستوى المطلوب خصوصا مع هذه الرواية الرائعة حاليا، فالجو العام في «كان» هو السعداء وليس البؤساء حيث الشمس الدافئة والأسواق العامرة والبحر الأبيض ورائحة القهوة الفوَّاحة حيث اجتمع السياح للتمتع بالجلوس ومراقبة الحركة الهادئة وقراءة الصحف. التقط فورا صورة ذلك الرجل الذي يقرأ الصحيفه بالمقهى حيث إنها من الصور الكلاسيكية فمع انتشار الأجهزة الحديثة ندر مَن يجلس بالمقهى ويطالع الصحف خصوصا في مقاهي الدول العربية التي اختفى الكلام بين السمار وكل تدور أنامله على جهازه.
قرَّبت أجهزة الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي البعيد وباعدت القريب، فقد يدردش شخص مع صديقه بقارة أخرى متناسيا مَن أتى معه بالطاولة نفسها، لذلك ابتعد في السفر قدر الإمكان عن هذه الأجهزة لكي لا تفوتي لحظة أو نسمة أو ابتسامة، وأبعد سماعات الأذن، كيف لا وأجمل سيمفونيه قد سمعتها في «كان»، أهدانيها النورس المايسترو والرجل صاحب الأكورديون يطرب مَن في السوق ومصلحي اليخوت وصيادي الأسماك.
في رحلة العودة إلى «نيس» بالقطار استغرقت الرحلة أقل من 40 دقيقة، ظللت متأملا طوالها لمعان البحر الأبيض المتوسط وأبراج قلاع الجنوب الفرنسي. هل زرت التاريخ؟ أم أنني اختلست فسحة زمنية من الحاضر؟ وداعًا «كان»! .
كأنها مشاهد سينمائية