هل يشيخ الكون؟
تقدر حياة النجوم بمئات وآلاف السنين، ولكنها ليست خالدة، وليس من الضروري أن تكون من البارزين في علم الفلك لتعرف هذه المسألة البديهية، والنجوم سواء كبر عمرها أو صغر لابد أن تمر بمراحل تطور كخلايا تمايزية عملاقة... فهل يموت الفضاء؟ وإلى أين يذهب إذن لو فني؟ ما هو غياب الغياب؟ وإذا كانت للكون بداية يعلم الله وحده متى كانت، ونهاية يعلم الله وحده متى تكون؛ فهل يعني ذلك بطبيعة الحال أن الكون يتعرَّض لعلامات الشيخوخة وتقدم العمر؟
دعنا نستخدم النجوم كنقاط ارتكاز للبحث عن إجابة. تضم مجموعات النجوم طوائف عمرية؛ فهناك النجوم الشابة، وهي التي يتراوح عمرها بين 10و25 مليون سنة، وهناك المجموعة المعمرة، وبينهما مجموعات ذات أعمار متوسطة، وهي كذلك متوسطة الحجم والإضاءة. وعندما ظهر نجم واحد مثل الجوزاء، كانت كتلته حوالي 30 مرة قدر كتلة شمس مجموعتنا، ويوجد مع الجوزاء وحده ما يزيد على مائتي ألف شمس مثل شمسنا، تصاحبها ملايين عدة من نجوم أقل حجماً، وخلال سنوات ضوئية عدة، ماتت أربع شموس وتحولت مادتها إلى نجوم قزمية. بعض النجوم توجد معها شموس شديدة الحماس، تستهلك مادتها بإسراف شديد، لذلك هي تدخل مرحلة الشيخوخة أسرع من غيرها؛ وينطبق هذا الوصف على «الشمس الزرقاء» شديدة الضياء، التي تموت بسرعة ولا تعمِّر طويلاً. أما شمسنا، فتنتمي إلى مجموعات النجوم الحُمر الصغيرة التي تموت بسرعة.
الغبار الكوني... لا غبار عليه
لقد اتضح خطأ نظرية أن الغبار الكوني يتكوّن وحده في انفجارات نجمية هائلة، إذ يوحي دليل حديث بأن مقادير كبيرة للغاية من الغبار قد تكونت بسبب شيخوخة نجوم كربونية، ولأن الغبار الكوني هو لبنات البناء لتكوين الكواكب، تكون شيخوخة النجوم أول مصدر لحياة الكوكب، وتبعاً لهذه النظرية التي تسود الوسط العلمي الآن، فالغبار الكوني يولد من رحم صيحات الموت الدرامي المثير للنجوم هائلة الحجم عندما تشيخ، ويتكاثر بشدة عند انفجارها، بالرغم من أن بعض العلماء يشكّون في أن مثل هذه الآلية قد تُدمّر غباراً أكثر مما تنتج من غبار. علاوة على ذلك، فقد وجدت النجوم الكربونية بعد خمسين مليون عام من تكوّن النجوم الأولى، ما يعني أنها تشكّلت بعد خمسمائة مليون عام تقريباً بعد الانفجار الكبير. لقد قاد البروفيسور ألبيرت زيجلسترا Albert Zijlstra من مركز بنك جودريل للعلوم الفلكية التابع لجامعة مانشستر، فريقاً دوليّا من علماء الفلك في مشروع تليسكوبي ضخم ليستخدم مقراب الأجرام الفضائية «سبتزر» التابع لوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) لملاحظة تكوّن الغبار حول نجم يشيخ أو يحتضر في مجرة قريبة، والنجم الذي وقع عليه الاختيار هو نجم كربوني اسمه ماج 2q يقع على بعد 280 ألف سنة ضوئية في مجرة صغيرة قريبة هي القزم النّحات، وهي حافلة بالكربون والعناصر الثقيلة التي تكونت جميعها من غاز الهيليوم بعد الانفجار الكبير، وبالنظر إلى مجرات قريبة للمقارنة من أجل الحصول على منظر قريب عن كيفية حياة النجوم في أعوامها الأخيرة، كأنك تتأمل بعض الشباب يلهون في حديقة دار للمسنّين. ويتضح لفريق زيجلسترا أن الغبار قد ملأ الكون في وقت مبكر للغاية، وفي الغالب أنه يختلف عن الغبار الموجود الآن في مجرتنا، فنجوم درب التبانة الكربونية ليست غنية بالمعادن إلى هذا الحد!
خريف العمر وعواصف داخلية
عندما يقترب مخزون الهيليوم في الجوف النجمي إلى نصف القدر من كتلته (النسبة لم تصل إلى الربع بالنسبة لشمسنا)، تزداد درجة حرارة جوف النجم شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى ما يقرب المائة وعشرة ملايين درجة مئوية، وهنا تبدأ مراحل الشيخوخة على مستواها النجمي، فيتعرض النجم إلى حالة جديدة عليه؛ فتنشأ في داخله سلسلة من التفاعلات النووية كمفاعل أصابه الخبال. الطبيعي أن يعتمد النجم على التهام الهيدروجين وتحويله إلى هيليوم خامل في مركزه، وفي ضوء الحرارة شديدة الارتفاع الآن، يبدأ هذا الهيليوم في طرد الكسل والخمول وينتقل إلى حالة من النشاط المفاجئ، وهنا يبدأ مركز النجم في التخلص من أكوام الهيليوم المخزونة في باطنه لآلاف السنين من دون فائدة واضحة، وكأننا حيال رجل مفرط البدانة وقع في الحب فجأة، فبدأ يحرق أكوام الشحم والدهن في جوفه ليناسب الظرف الطارئ بحيوية جديدة عليه!
وتتحول نواتج الحرق هذه إلى مصدر جديد للطاقة بفعل درجة الحرارة العالية والضغط الشديد، وهنا تبدأ ذرات النجم في الاقتراب والدخول في عملية تلاحم ينتج عنها تكوين نووي مثير أعقد في التركيب وأكثر ثقلاً مثل الكربون والنيون، بروابط بين ثلاث وأربع وخمس أنوية من الهيليوم، وتنطلق طاقة حرارية إشعاعية مهولة وتكون النتيجة هي ارتفاع درجة حرارة المحتوى الجوفي أكثر كمرجل يغلي من الداخل فيحدث الانفجار الحتمي، لكن العناصر الثقيلة والنفايات تندفع إلى الطبقات الخارجية بعيداً عن المركز، وتمتص صدمة الانفجار الداخلي وتحافظ على النجم من التفكك، الأمر يُشبه محاولة إسعاف مُسن شارف على الموت، بالتأكيد تلفت أجهزة حيوية عدة داخل جسمه، لكنه حي على الأقل. هنا تبدأ عمليات إصلاح داخلية خلال فترة النقاهة, ويتحوّل الهيدروجين إلى هيليوم أثقل ويهبط إلى جوف النجم ويستقر الباطن لتبدأ المرحلة الثانية للشيخوخة بعد استقرار العناصر الثقيلة في المركز، إذ إنها في هذه الحالة تكون تحت ضغط هائل من مليارات الأطنان من العناصر فوقها. وتعاود الكرة عندما ترتفع درجة حرارتها من جديد حتى يتولّد تفاعل آخر لتكوين عناصر أكثر تعقيداً، ويظهر عنصر ثقيل جديد هو الماغنسيوم، الذي يتكدّس هو الآخر في المركز، وهذا يفوق طاقة النجم العجوز على الاحتمال؛ فتنطلق العناصر الأثقل من الجوف لتختلط بالعناصر الخفيفة في الطبقات الخارجية بعملية شبيهة بما سبق.
انتحار العملاق الأحمر
عندما تصل درجة الحرارة من 800 مليون درجة مئوية إلى 1500 مليون درجة، ندخل المرحلة الثالثة للشيخوخة، حيث تعود المزيد من العناصر إلى القلب، وتظهر عناصر أثقل مثل النيكل والزنك والحديد والكروم والنحاس والكوبالت عندما ترتفع درجة حرارة جوف النجم إلى 2500 مليون درجة مئوية، وعند هذه النقطة يكون النجم قد بلغ من الكبر عتيّا، فيبدأ العد التنازلي والاستعداد لحسن الختام؛ وذلك مع ظهور الأغلال النووية ونفاد محتواه الهيدروجيني بالتدريج في عملية أشبه بسحب الرصيد البنكي على المكشوف؛ حتى تأتي اللحظة التي لا مفر منها عندما ينفجر من جوفه ويتفتق ويتمدد ويتضخم ويتعملق بشكل مخيف وهنا نسميه «العملاق الأحمر»، وهو اسم على مسماه فعلاً، إذ إنه يكون في هذه الحالة أشبه بعملاق هائج أحمر اللون كأنه في ثورة غضب بسبب النهاية المفجعة كبطل خارق في قصة مصورة؛ ويحدث أن يصب ما في قلبه من طاقة إشعاعية وحرارية في الفراغ المحيط به لتحيط به كمدار مشع أخير في لحظة الوداع، وتبدأ بعدها البرودة الأبدية وانكماش حجمه واكفهرار وجهه وتضاؤل بنيانه كجثة تضمحل إلى رفات حتى تختفي من الوجود الحي وتتوارى عن الأنظار. حالات الانتحار واردة كذلك، فكما ييأس المُسن في سنوات عمره الأخيرة، ويقدم على مأساة إنهاء حياته بنفسه تخلصاً من آلام الشيخوخة وملل الأيام، تُقدم بعض النجوم على هذه الفعلة الشنيعة لتموت فجأة من دون أن تدخل مرحلة «العملاق الأحمر»، خصوصاً تلك النجوم التي تختزن في «قلبها» كميات أكبر من نفايات حياتها من عناصر أثقل وأثقل وتكون النتيجة الطبيعية هي أن الضغط يولّد الانفجار. هذا الموت السريع يجعل الرفات تتطاير وتنتشر شظاياها في الفراغ الكوني بسرعة جنونية (سوبر نوفا)، لتغدق على الوجود ملايين من الأشعة الكونية الحاوية لمليارات المليارات من نوى الذرات الأخف كالهيليوم، التي لا يحمينا من بطشها سوى الغلاف الهوائي الرقيق الذي ظللنا به الله عز وجل .!