البنوك الحيوية
لماذا أُصبت أنا من بين الآخرين من حولي؟ سؤال يقلق المرضى عند تشخيص مرض وخيم لديهم، وبالمقابل، لطالما تساءل الأطباء والباحثون لماذا يعاني بعض الأشخاص دون غيرهم من أمراض معينة؟ وهل سيصبح بإمكانهم يوماً ما أن يتوقعوا الأمراض التي ستصيب كل شخص قبل وقت كافٍ من إصابتهم بها؟ والحق أن العلماء قد بذلوا جهوداً مضنية من أجل فهم أسباب الأمراض الشائعة التي تهدد الحياة، والتوصل إلى كيفية الوقاية منها، فقادتهم خطاهم إلى البنوك الحيوية.
نعم! لقد أنشئت البنوك الحيوية Biobanks للإجابة عن هذه التساؤلات، ولتعزيز وحفظ صحة الناس، ولتزويد الأطباء بأسلحة يدفعون بها عن مرضاهم مخاطر الأمراض، فهي منصات الانطلاق التي تتيح الفرص للباحثين لإجراء البحوث الصحية الواسعة النطاق، فيجمعون فيها العينات والنماذج من عدد كبير من أفراد المجتمع، ويختزنونها مرتبطة بالمعلومات ذات الصلة بالصحة وبأنماط الحياة لكل فرد منهم.
ارتبط ظهور البنوك الحيوية باكتمال العمل على التعرُّف على تفاصيل الوحدات المكوِّنة لجينوم الإنسان (خريطة الجينات البشرية)، وما رافق ذلك من تطورات متسارعة الخطى لاستخدام المعلومات التي تكتنزها جينات كل فرد، والسمات الحيوية والوراثية لديه، في توقع الأخطار الصحية التي تتربص به، والعمل على تلافيها وتفادي الوقوع ضحية لها، أو على أقل تقدير، التخفيف من وطأتها، وتحديد ما يناسب من وسائل العلاج والوقاية.
ليس هذا فحسب، بل إن البنوك الحيوية تعطي لكل فرد على حدة موقع الصميم في الخدمات الطبية، فمنه تستمد المعلومات والنماذج، وإليه تتوجه بالخدمات التي تناسب تكوينه الفريد، ولم يكن مستغرباً بعد ذلك أن نسمع بعض الأطباء يطلقون على هذا النمط من الممارسة الطبية المستَجدَّة «الطب الشخصي» Personalized medicine، أو «طب الدِّقَّة» Precision medicine. إذ هو ترجمة دقيقة للاكتشافات العلمية الجديدة إلى طب يهتم بالتفاصيل الشخصية ويلبي احتياجات كل شخص على حدة، ويوفِّر له معالجات تناسب أنسجته وخلاياه أكثر من غيره، ولكن ضمن توجهات عامة للوقاية من الأمراض التي قد تصيب أي فرد آخر ممن حوله.
البنوك المالية والبنوك الحيوية
جوانب للتشابه ومجالات للتمايز
إذا كانت البنوك المالية تعمل على جمع وتخزين وحفظ واستثمار الأصول والأموال، وتوزيع ما يعود منها من مرابح ومنافع على المساهمين المباشرين فيها بشكل خاص، إلى جانب بعض المنافع التي تعود على المجتمع بكامله، فإن الأصول التي تجمعها البنوك الحيوية وتختزنها عشرات السنوات، وفي درجات منخفضة جداً تصل إلى 100 تحت الصفر، هي النماذج والعينات الحيوية من الدم واللعاب والأنسجة والبول، مقترنة بمعلومات عما لدى الفرد الذي أسهم بها من جينات، ونتائج القياسات والواسمات الحيوية وتحليل رموز الجينات وفكها والتعرف على المتتاليات فيها، وتأتي تلك الأصول في أغلب الأحيان من متبرعين متطوعين، يحرصون على التقيد بإجراءات متابعة حالاتهم الصحية طوال عشرات السنوات المقبلة.
أما توظيف الأصول التي يجمعها البنك الحيوي، فيتم في إجراء أنواع متعددة من البحوث، فبعضها بحوث ذات معالم محدَّدة سلفاً، مثل تحليل هذه العينات للتعرف على مدى انتشار الأمراض الشائعة بين الأفراد في المجتمع، مثل أمراض القلب والسرطان والسكري والشيخوخة وأمراض الدم الوراثية، والتنبؤ بالأمراض الأخرى التي يمكن أن يزداد شيوعها في المستقبل، ويطلق العلماء على ذلك اسم بحوث المسح والتحرِّي Survey and screening. وبعض البحوث تدرس النتائج التي تسفر عنها متابعة المتطوعين المساهمين في البحوث على مدى عقود من الزمن، ويسميها العلماء البحوث الاستقبالية Prospective، وهناك بحوث أخرى تتبلور الحاجة لإجرائها في المستقبل، ولاسيما من أجل ابتكار الأدوية والمناهج العلاجية الجديدة.
وإذا كانت البنوك التقليدية تستخدم الخزائن الحديدية لتخزين الأموال والوثائق والأصول، فإن البنوك الحيوية تستخدم الثلاجات العملاقة لتخزين الملايين من عينات الدم والبول واللعاب والأنسجة بأمان وكفاءة عشرات السنوات، وبدرجات حرارة شديدة الانخفاض (100 تحت الصفر)، ودون أي انقطاع، إلى جانب قواعد البيانات العملاقة التي تتضمن توصيفاً دقيقاً لأصحاب تلك النماذج والعينات، وترتبط بها دون أي احتمال للبس أو الخطأ، مع ضمان القدرة على استرجاعها بسرعة.
وعلى غرار البنوك المالية، التي يتبع بعضها القطاع العام، وبعضها القطاع الخاص، فإن من البنوك الحيوية ما يتبع القطاع الخاص، ليقدم خدماته في إطار استثماري محض، ومنها، وهو الأكثر ضخامة وسعة، ما يتبع القطاع العام، فيستمد أصوله من المجتمع بكامله، ويتيح خدماته لكل فرد من أفراده حتى تسمى بحق «شعبية» Population-based، لأنها كثيراً ما تتيح ما لديها من قواعد البيانات للباحثين الطبيين في جميع أنحاء العالم، دون مقابل، ما دامت غايتهم جلب المصلحة العامة للناس.
وكما يصعب على المرء في أيامنا الحاضرة أن يتخيل انفراد بنك مالي في عمله، فإن البنوك الحيوية أدركت أنه لا يمكن لأي منها أن يحرز تقدماً ملموساً دون أن يبني الجسور ويوطِّد أواصر التعاون مع غيره من البنوك في شتى البلدان، فظهرت الشراكات الفاعلة بين البنوك الحيوية عبر الشبكات والجمعيات والرابطات والتحالفات التي تنشط متخطيةً الحدود الوطنية. حتى إن أحدها، في مؤسسة الدراسات الأوربية الاستقبالية حول السرطان والمواد الغذائية، التي تسمى اختصاراً EPIC، زاد عدد المساهمين فيه بالعينات والنماذج عن نصف مليون شخص، تم تجميعهم من 26 مركزاً، توزعت في 10 بلدان أوربية، كما أن لدى «البنك الحيوي في المملكة المتحدة» UK BIOBANK بيانات طبية وجينية ومعلومات عن نمط الحياة، وعينات من دم ولعاب وأنسجة نصف مليون متبرع من الأفراد المقيمين في بريطانيا، ممن تتراوح أعمارهم بين 40 و69 سنة.
وإذا كانت البنوك المالية التقليدية تعتمد على إجراءات محددة مثل فتح حساب فيها، والإيداع والسحب والتحويل والحصول على تقارير دورية حول العمليات المنفذة فيها، فإن البنوك الحيوية تعتمد على فتح ملفات للمساهمين المتطوعين، وتزودهم ببطاقات تمكِّنهم من سحب الفوائد التي تتمثل في سُبُل توقِّي أمراض القلب التاجية والسكتة الدماغية وارتفاع ضغط الدم وقصور القلب الاحتقاني وأمراض الشرايين الطرفية والأورام والأمراض العصبية والنفسية المزمنة، والكشف عنها مبكراً ومعالجتها على أفضل ما يمكن.
ومن المعروف أن بعض البنوك المالية التقليدية يتخصص في مجال محدد، مثل الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو العقارات، فكذلك من البنوك الحيوية ما هو متخصص، فيقتصر اهتمامه على الدم أو الحيوانات المنوية أو البيوض أو الأعضاء أو الأنسجة.
كيف يُسهِم كلٌّ منّا في البنوك الحيوية؟
سيتلقى كل منا قريباً، كما تلقى البعض بالفعل، دعوة للمساهمة في البنك الحيوي الأقرب إلى موقع سكنه، ولا ريب في أن تلك الدعوة جديرة بالاهتمام، وفرصة للإسهام في الفائدة العامة، ولإغناء المعلومات الصحية الشخصية، ولتعزيز الالتزام بنمط الحياة الصحية، وتقويم ما اعتراه من اعوجاج، وسيتلو ذلك السير في الخطوات التالية:
< التواصل مع البنك الحيوي لتأكيد الاستجابة للدعوة والتعرف على الموعد المناسب لزيارته.
< الحصول على معلومات حول متطلبات نجاح الزيارة (عدد ساعات الصيام، الوثائق الشخصية المطلوبة،...).
< الحضور في الموعد المحدد، أو قبله بقليل، مع تفريغ وقت إضافي إذا تطلب الأمر.
< التفاعل بإيجابية مع الطبيب أو الممرضة المتخصصة والعاملين الصحيين المكلفين بالتعامل معك، وهم يقدمون التعريف بالمشروع، ويعرضون وثيقة الموافقة على الاشتراك في المشروع لتوقيعها بعد الاطلاع على مضمونها والحصول على إجابات واضحة منهم عن أي استفسار. ويطلق الأطباء على هذه الوثيقة «الموافقة المستنيرة» Informed consent، لأنك لن توقع عليها إلا بعد معرفة مضمونها.
< استكمال الاستبيان Questionnaire الذي يتضمن أسئلة تدور حول نمط الحياة، والعادات الصحية وغير الصحية، والسوابق الشخصية والأسرية، والتدخين، والمهنة، والمشي والنشاط البدني، والحالة النفسية.
< إجراء الفحوصات السريرية المقرَّرة، التي تتضمن قياس ضغط الدم، والنبض، وقساوة الشرايين، وقوة العضلات، ومحيط الجسم عند الخصر وعند الوركين، وتخطيط (رسم) كهربية القلب، والتنفس، وتصويراً بالموجات فوق الصوتية للشريان السباتي (أعلى العنق)، وقياس كثافة العظم، وقياس ضغط العين وتصوير الشبكية العينية، واختبار للجهد بالمشي على بساط متحرك.
< إعطاء نماذج وعينات من الدم واللعاب والبول لقياس عدد كبير من الواسمات الحيوية قد يزيد على 60، أبرزها المعادن، والجلوكوز (سكر الدم)، والأنسولين، وخلايا الدم، والكوليسترول، ودهون الدم، ووظائف الكبد، ووظائف الكلية، والهرمونات الجنسية، وهرمونات غدة الدرق، والإنزيمات...
< تسلُّم بطاقة عضوية البنك، وتكرار الزيارات وفحوصات المتابعة الدورية السنوية...
مرابح البنوك الحيوية
يأمل الباحثون والأطباء أن يجني المجتمع والأفراد كثيراً من المرابح من البنوك الحيوية، وقد بدأت بشائر تلك الفوائد في الظهور، مثل التعرُّف على المكوِّن الوراثي في السكري من النمط الثاني، وتراكم الدهون في الجسم، وطول ووزن المولود وقت ولادته، ودور الهرمونات الجنسية، واستقلاب (أيض) الدهون (الليبيدات)، وأمراض القلب والأوعية، وتصلب الشرايين، واحتشاء عضلة القلب، وأمراض الأوعية، والبدانة، والاكتئاب، والخرف، والأورام.
كما يأمل العلماء أن يتمكنوا يوماً من إدخال بعض التعديلات على الجينات من أجل إعادة برمجة الخلايا الجسدية لتصبح منتجة للأنسولين، وتعديل مسار الخلايا الجذعية السرطانية البشرية، والخلايا الجذعية البشرية المتعددة القدرات والمحفَّزة، وذات التحكم الرفيع المستوى.
القضايا الأخلاقية
وتثير البنوك الحيوية، قضايا أخلاقية، فإذا كانت البنوك المالية المعتادة تهتم بالحفاظ على سرية وخصوصية المساهمين، فإن البنوك الحيوية تولي ذلك أهمية أكبر، وتبذل احتياطات أكبر لتفادي إساءة استخدام بيانات الأفراد المشاركين في البحوث العلمية والعينات والمعلومات الخاصة بهم، ومنع إفشاء المعلومات، وحماية حقوق المشاركين المتطوعين، وتحرص على توضيح حقوقهم في الانسحاب من الدراسة في أي وقت، وتسمع لرأيهم حول السماح للمشروع بمواصلة الاستفادة من النماذج والعينات الحيوية التي تبرعوا بها والمعلومات التي أدلوا بها، أو التخلص منها، أو إتاحتها لباحثين في مجال محدد. ثم إن للأديان أحكاماً شرعية ومتطلبات تشترط تحقيقها في عديد من المسائل التي تتطرق إليها البنوك الحيوية، لاسيما بنوك الحيوانات المنوية، وبنوك البيوض، وبنوك اللبن (الحليب).
البنوك الحيوية في البلدان العربية
أنشئت بنوك حيوية في عديد من البلدان العربية مثل المملكة العربية السعودية، ومصر، وتونس، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، حيث يعمل العلماء والباحثون فيها على جمع عينات من متبرعين متطوعين لدراستها وتحليلها، بحيث تكون أساساً للأبحاث التي تجرى حول الأمراض الشائعة في المنطقة. وسيشهد المستقبل القريب مزيداً من البنوك الحيوية، ومزيداً من إقبال الناس أفراداً وجماعات على الإسهام فيها، وسيزيد ذلك في المحصلة من اهتمام الطب بصحة كل فرد على حدة قدر اهتمامه بصحة المجتمعات، وتحري الدقة في اختيار خطة علاجية تتوافق مع البنية الجينية للفرد .