ترف الموائد التاريخية

ترف الموائد التاريخية

لعل‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬مظاهر‭ ‬الحضارة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العباسي،‭ ‬تعدد‭ ‬الألوان‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تهيأ‭ ‬من‭ ‬الأطعمة،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الأصناف‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬فارسي،‭ ‬وحصل‭ ‬ذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬طبيعية‭ ‬للتأثيرات‭ ‬الفارسية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وشيوع‭ ‬البذخ‭ ‬والتأنق‭ ‬في‭ ‬الطعام،‭ ‬والميل‭ ‬إلى‭ ‬العيش‭ ‬المرفّه‭.‬

وقد‭ ‬أولى‭ ‬البغداديون‭ ‬عناية‭ ‬خاصة‭ ‬لموائدهم،‭ ‬انعكست‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ألفوا‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطبخ‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬ذكر‭ ‬النديم‭ ‬في‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الفهرست‮»‬‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬ألّف‭ ‬في‭ ‬الطبخ،‭ ‬ومنهم‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬بن‭ ‬العباس‭ ‬الصولي،‭ ‬ويوحنا‭ ‬بن‭ ‬ماسويه،‭ ‬وجميعهم‭ ‬من‭ ‬رعيل‭ ‬القرنين‭ ‬الثاني‭ ‬والثالث‭ ‬للهجرة‭ (‬الثامن‭ ‬والتاسع‭ ‬للميلاد‭)‬،‭ ‬وهذه‭ ‬التآليف‭ ‬تعكس‭ ‬مدى‭ ‬اهتمام‭ ‬البغداديين‭ ‬بتحسن‭ ‬أطعمتهم،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬المؤسف‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬هذه‭ ‬المؤلفات‭ ‬لم‭ ‬تصلنا،‭ ‬لذا‭ ‬اعتمدت‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬على‭ ‬نتف‭ ‬وإشارات‭ ‬متناثرة‭ ‬في‭ ‬بطون‭ ‬المصادر‭ ‬الأدبية‭ ‬والتاريخية‭.‬

وقد‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬موائد‭ ‬الطعام‭ ‬التي‭ ‬غصت‭ ‬بها‭ ‬منازل‭ ‬التجار‭ ‬والموسرين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬المجتمع‭ ‬البغدادي‭ ‬المترف،‭ ‬الذين‭ ‬أسرفوا‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬موائدهم‭ ‬التي‭ ‬زخرت‭ ‬بشتى‭ ‬أنواع‭ ‬الأطعمة‭ ‬والأشربة‭ ‬التي‭ ‬يتناولونها،‭ ‬فالمائدة‭ ‬مصنوعة‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬الطبري‭ ‬في‭ ‬‮«‬تاريخه‮»‬‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬المرصع‭ ‬بالأبنوس‭ ‬واللؤلؤ‭ ‬وأنواع‭ ‬الصدف،‭ ‬بينما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬مائدة‭ ‬أخرى‭ ‬مصنوعة‭ ‬من‭ ‬الخولنج‭ ‬الخراساني،‭ ‬وقوائمها‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬وعليها‭ ‬صحاف‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬والفضة،‭ ‬وأطباق‭ ‬من‭ ‬الصيني‭ ‬والبلور،‭ ‬فيها‭ ‬مختلف‭ ‬أنواع‭ ‬الأطعمة،‭ ‬ما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬كثرة‭ ‬أفانين‭ ‬الطهاة‭ ‬في‭ ‬الأطعمة،‭ ‬فكان‭ ‬الطهاة‭ ‬يطهون‭ ‬للخليفة‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬ثلاثين‭ ‬لوناً‭ ‬من‭ ‬الطعام،‭ ‬وبشهادة‭ ‬المسعودي‭ ‬في‭ ‬‮«‬مروج‭ ‬الذهب‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬ينفق‭ ‬على‭ ‬طعامه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬درهم‭. ‬ويذكر‭ ‬ابن‭ ‬طيفور‭ ‬في‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬أن‭ ‬مائدة‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬ضمت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬لون،‭ ‬وكان‭ ‬ينفق‭ ‬على‭ ‬طعامه‭ ‬يومياً‭ ‬ستة‭ ‬آلاف‭ ‬دينار،‭ ‬أما‭ ‬وزيره‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬خالد،‭ ‬فكان‭ ‬ينفق‭ ‬على‭ ‬طعامه‭ ‬يومياً‭ ‬ألف‭ ‬درهم،‭ ‬وهو‭ ‬المبلغ‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينفقه‭ ‬المغني‭ ‬إبراهيم‭ ‬الموصلي‭ ‬يومياً‭ ‬على‭ ‬طعامه‭ ‬وطيبه،‭ ‬وفق‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الأغاني‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬تعجّب‭ ‬الأصمعي‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬ما‭ ‬رآه‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬الفضل‭ ‬بن‭ ‬يحيى‭ ‬البرمكي‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬الطعام،‭ ‬وما‭ ‬غسل‭ ‬به‭ ‬الحضور‭ ‬أيديهم‭ ‬بعد‭ ‬الأكل‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬الطيب‭ ‬الغالية‭ ‬والعنبر،‭ ‬وهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬كثرة‭ ‬إنفاق‭ ‬كبار‭ ‬القوم‭ ‬على‭ ‬الأطعمة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬عامة‭ ‬الشعب‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬فاقة‭ ‬وعوز‭.‬

 

أنواع‭ ‬الأطعمة

يتجلى‭ ‬الإسراف‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬البغدادي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استعراض‭ ‬أنواع‭ ‬الأطعمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬على‭ ‬موائد‭ ‬طبقة‭ ‬الخاصة،‭ ‬ومَن‭ ‬يمت‭ ‬إليهم‭ ‬بصلة‭ ‬من‭ ‬الأثرياء،‭ ‬فكانت‭ ‬أشهى‭ ‬الأكلات‭ ‬العباسية‭ ‬هي‭: ‬شحوم‭ ‬الدجاج‭ ‬بالبصل‭ ‬والبيض‭ ‬والجبن‭ ‬والزيتون‭ ‬والجوز،‭ ‬هذا‭ ‬بشهادة‭ ‬الطبري،‭ ‬وكذلك‭ ‬المخ‭ ‬المعقود‭ ‬بالسكر‭ ‬والعسل،‭ ‬وألسنة‭ ‬السمك،‭ ‬وفق‭ ‬رواية‭ ‬المسعودي،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬المشويات،‭ ‬كاللحم‭ ‬والدجاج‭ ‬وبخاصة‭ ‬الفراخ،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يفضلها‭ ‬الوزير‭ ‬يحيى‭ ‬البرمكي،‭ ‬وكذلك‭ ‬الكباب،‭ ‬و«السكباج‮»‬‭ (‬وهو‭ ‬مرق‭ ‬يُحضّر‭ ‬من‭ ‬اللحم‭ ‬والخل‭)‬،‭ ‬ويعتبر‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬أنواع‭ ‬الأطعمة‭ ‬عند‭ ‬العباسيين،‭ ‬وكان‭ ‬يقال‭ ‬فيه‭: ‬‮«‬إنه‭ ‬سيد‭ ‬المرق‭ ‬وشيخ‭ ‬الأطعمة‭ ‬وزين‭ ‬الموائد‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬الأطباء‮»‬،‭ ‬وبشهادة‭ ‬الجهشياري‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الوزراء‭ ‬والكتّاب‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬اشتهى‭ ‬يحيى‭ ‬البرمكي‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬الرشيد‭.‬

أما‭ ‬بخصوص‭ ‬المشروبات،‭ ‬فقد‭ ‬غلب‭ ‬شرب‭ ‬النبيذ،‭ ‬والشراب‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬التمر‭ ‬والتين‭ ‬والجوز،‭ ‬ومنه‭ ‬الجلّاب‭ ‬وهو‭ ‬شراب‭ ‬ممزوج‭ ‬بماء‭ ‬الورد،‭ ‬وكانت‭ ‬تقدم‭ ‬مع‭ ‬الطعام‭ ‬المشهيّات‭ ‬ويسمّونها‭ ‬النقل،‭ ‬وهي‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬أشياء‭ ‬حرّيفة‭ ‬مثل‭ ‬البندق‭ ‬والجوز‭ ‬واللوز‭ ‬والفستق،‭ ‬وكانوا‭ ‬يكثرون‭ ‬من‭ ‬الفاكهة،‭ ‬مثل‭ ‬التين‭ ‬والموز‭ ‬والكمثرى‭ ‬والخوخ‭ ‬والرمان‭ ‬والأجاص‭ ‬والسفرجل‭ ‬والتفاح،‭ ‬وكثر‭ ‬لديهم‭ ‬البطيخ‭ ‬حتى‭ ‬نسبوا‭ ‬إليه‭ ‬سوق‭ ‬الفاكهة،‭ ‬فسمّوه‭ ‬باسم‭ ‬سوق‭ ‬البطيخ،‭ ‬ودار‭ ‬البطيخ،‭ ‬ومن‭ ‬أصناف‭ ‬الحلوى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع،‭ ‬الفطائر‭ ‬والرقاق،‭ ‬ومنها‭ ‬اللوزينج،‭ ‬وكان‭ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬اللوز‭ ‬والدقيق‭ ‬والفستق‭ ‬ويرش‭ ‬بماء‭ ‬الورد،‭ ‬ومنها‭ ‬الفالوذج،‭ ‬وهو‭ ‬حلو‭ ‬يُعمل‭ ‬من‭ ‬النشاء‭ ‬وعسل‭ ‬النحل‭ ‬والسمن،‭ ‬والخشكنانج،‭ ‬وهو‭ ‬كعك‭ ‬يُحشى‭ ‬بالجوز‭ ‬والسكر‭.‬

 

موائد‭ ‬الخلفاء‭ ‬العباسيين

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬خليفة‭ ‬من‭ ‬خلفاء‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬كان‭ ‬يستطيب‭ ‬لوناً‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬الطعام،‭ ‬فكان‭ ‬المنصور‭ ‬والمهدي‭ ‬يستطيبان‭ ‬المخ‭ ‬المعقود‭ ‬بالسكر‭ ‬والعسل،‭ ‬وكان‭ ‬المهدي‭ ‬يحب‭ ‬من‭ ‬الطيور‭ ‬الحمام،‭ ‬ويرى‭ ‬المسعودي‭ ‬في‭ ‬‮«‬مروجه‮»‬‭ ‬والغزولي‭ ‬في‭ ‬‮«‬مطالع‭ ‬البدور‭...‬‮»‬،‭ ‬أن‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬كان‭ ‬يفضل‭ ‬الهريسة‭ ‬بدهن‭ ‬الدجاج،‭ ‬وهي‭ ‬تحضّر‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬وماء‭ ‬وسميذ،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬تناول‭ ‬ألبان‭ ‬الظباء،‭ ‬والأرز‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬فيه،‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬غذاء‭ ‬صحيح‮»‬،‭ ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬‮«‬المستطرف‭...‬‮»‬‭ ‬للأبشيهي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يفضل‭ ‬تناول‭ ‬السميذ،‭ ‬وخبز‭ ‬الأرز‭ ‬النقي‭ ‬من‭ ‬خبز‭ ‬التنور،‭ ‬وقد‭ ‬شوهد،‭ ‬وفق‭ ‬رواية‭ ‬الطبري،‭ ‬وجارية‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬وفي‭ ‬يدها‭ ‬صحيفة،‭ ‬وهي‭ ‬تلعقه‭ ‬أولاً‭ ‬فأولاً‭ ‬طعاماً‭ ‬أبيض‭ ‬رقيقاً،‭ ‬ولما‭ ‬سئل‭ ‬عنه‭ ‬قال‭: ‬‮«‬هو‭ ‬جشيش‭ ‬الأرز‭ ‬والحنطة‭ ‬وماء‭ ‬نخالة‭ ‬السميد،‭ ‬وهو‭ ‬نافع‭ ‬للأطراف‭ ‬المعوجة،‭ ‬وتشنج‭ ‬الأعصاب،‭ ‬ويذهب‭ ‬الكلف،‭ ‬ويسمن‭ ‬البدن‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يفضل‭ ‬من‭ ‬الفاكهة‭ ‬السفرجل‭ ‬والتفاح،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الطبري‭ ‬والمسعودي،‭ ‬ويستطيب‭ ‬من‭ ‬الحلوى‭ ‬‮«‬الفالوذج‮»‬‭ ‬بدهن‭ ‬الفستق،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬تناول‭ ‬‮«‬اللوزينـــج‮»‬‭.‬

وتشير‭ ‬المصادر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الخلفاء‭ ‬كانوا‭ ‬لا‭ ‬يقدمون‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المآكل‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬مشورة‭ ‬أطبائهم،‭ ‬ولا‭ ‬يتناولونها‭ ‬إلا‭ ‬بحضورهم،‭ ‬وبشهادة‭ ‬ابن‭ ‬أبي‭ ‬أصيبعة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬الأطباء‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬مائدة‭ ‬الرشيد‭ ‬لا‭ ‬تُعد‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬مشورة‭ ‬طبيبه‭ ‬الخاص‭ ‬جبرائل‭ ‬بن‭ ‬بختيشوع،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يتناول‭ ‬طعامه‭ ‬إلا‭ ‬بحضوره،‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬يلحق‭ ‬به‭ ‬أي‭ ‬أذى‭ ‬إذا‭ ‬تناول‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يوافق‭ ‬صحته‭ ‬من‭ ‬المآكل‭ ‬الدسمة،‭ ‬وذكر‭ ‬التنوخي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الفرج‭ ‬بعد‭ ‬الشدة‮»‬‭ ‬أنه‭ ‬لما‭ ‬سئل‭ ‬الطبيب‭ ‬جبرائل‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬الرشيد‭ ‬من‭ ‬الأكل‭ ‬والشراب‭ ‬قال‭: ‬‮«‬كان‭ ‬الرشيد‭ ‬رجلاً‭ ‬كثير‭ ‬الأكل‭ ‬والشرب،‭ ‬فأكل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأيام‭ ‬أشياء‭ ‬خلط‭ ‬فيها،‭ ‬ودخل‭ ‬المستراح‭ ‬فغشي‭ ‬عليه‭ ‬فيه‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬الخليفة‭ ‬الأمين‭ ‬كأبيه‭ ‬الرشيد‭ ‬لا‭ ‬يأكل‭ ‬ولا‭ ‬يشرب‭ ‬إلا‭ ‬بإذن‭ ‬ابن‭ ‬بختيشوع،‭ ‬وكان‭ ‬بعض‭ ‬بني‭ ‬هاشم‭ ‬لا‭ ‬يتناولون‭ ‬أطعمتهم‭ ‬إلا‭ ‬بحضرة‭ ‬يوحنا‭ ‬بن‭ ‬ماسويه‭.‬

 

هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬على‭ ‬موائد‭ ‬علية‭ ‬القوم

ويشير‭ ‬أصحاب‭ ‬المصنّفات‭ ‬كالجاحظ‭ ‬في‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الحيوان‮»‬،‭ ‬والرشيد‭ ‬بن‭ ‬الزبير‭ ‬في‭ ‬‮«‬الذخائر‭ ‬والتحف‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬كان‭ ‬يلبي‭ ‬دعوات‭ ‬الطبقة‭ ‬الخاصة،‭ ‬ويتناول‭ ‬الطعام‭ ‬على‭ ‬موائدهم،‭ ‬فحينما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬البصرة‭ ‬لبى‭ ‬دعوة‭ ‬واليها‭ ‬سليمان‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬الهاشمي،‭ ‬فأحضر‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬المائدة‭ ‬كل‭ ‬حار‭ ‬وقار،‭ ‬وهيأ‭ ‬ألبان‭ ‬الظباء‭ ‬وزبدها،‭ ‬وسلاها‭ ‬ولباها،‭ ‬فاستطاب‭ ‬الرشيد‭ ‬جميع‭ ‬طعومها‭.‬

وحينما‭ ‬دعاه‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬يحيى‭ ‬البرمكي،‭ ‬أنفق‭ ‬على‭ ‬مائدته‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬مليون‭ ‬درهم،‭ ‬وسحق‭ ‬له‭ ‬أربعة‭ ‬آلاف‭ ‬مثقال‭ ‬مسك،‭ ‬وطيّب‭ ‬به‭ ‬الدار،‭ ‬وأحضر‭ ‬رياحين‭ ‬البساتين،‭ ‬لئلا‭ ‬تقع‭ ‬يد‭ ‬الرشيد‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬مطيّب،‭ ‬ولا‭ ‬يشم‭ ‬إلا‭ ‬طيباً،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬‮«‬الذخائر‮»‬‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الإسراف‭ ‬على‭ ‬الطعام‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الخليفة‭ ‬وحده،‭ ‬كما‭ ‬بيّنا‭ ‬سابقاً،‭ ‬بل‭ ‬تعدّاه‭ ‬إلى‭ ‬الأمراء‭ ‬وكبار‭ ‬رجال‭ ‬الدولة،‭ ‬فيذكر‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬مروج‭ ‬الذهب‮»‬‭ ‬أن‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬لما‭ ‬استضاف‭ ‬أخاه‭ ‬الرشيد‭ ‬في‭ ‬الرقة‭ ‬اصطنع‭ ‬له‭ ‬أطعمة،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬طبق‭ ‬فيه‭ ‬ألسنة‭ ‬السمك،‭ ‬قدرت‭ ‬تكلفته‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬درهم‭. ‬يظهر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الوليمة‭ ‬التي‭ ‬أعدها‭ ‬إبراهيم‭ ‬لأخيه‭ ‬الرشيد‭ ‬مدى‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬المترف،‭ ‬وبخاصة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬الوعاء‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬كان‭ ‬ثمنه‭ ‬ألف‭ ‬درهم،‭ ‬ولعل‭ ‬معظم‭ ‬الأوعية‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المائدة‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الطراز،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬تكاليف‭ ‬مائدة‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬يحيى‭ ‬البرمكي،‭ ‬علماً‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬بخيلاً‭.‬

ويظهر‭ ‬أن‭ ‬الرشيد‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬الدعابة‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬الطعام،‭ ‬فكان‭ ‬يناقش‭ ‬زوجه‭ ‬وابنة‭ ‬عمه‭ ‬زبيدة‭ ‬في‭ ‬تفضيل‭ ‬بعض‭ ‬أصناف‭ ‬الحلوى،‭ ‬ومن‭ ‬طريف‭ ‬ما‭ ‬رواه‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬المستطرف‭...‬‮»‬‭ ‬أن‭ ‬الرشيد‭ ‬وزبيدة‭ ‬اختلفا‭ ‬في‭ ‬الفالوذج‭ ‬واللوزينج‭ ‬أيهما‭ ‬أطيب،‭ ‬فحضر‭ ‬أبو‭ ‬يوسف‭ ‬القاضي‭ ‬لحل‭ ‬النزاع،‭ ‬فسأله‭ ‬الرشيد‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬حضر‭ ‬الخصمان‭ ‬حكمت‭ ‬بينهما‮»‬،‭ ‬فقدما‭ ‬إليه‭ ‬فأكل‭ ‬منهما‭ ‬حتى‭ ‬انتهى،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬الرشيد‭: ‬‮«‬احكم‮»‬‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬كلما‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أقضي‭ ‬على‭ ‬أحدهما‭ ‬أدلى‭ ‬الآخر‭ ‬بحجته‮»‬‭. ‬فضحك‭ ‬الرشيد،‭ ‬وأمر‭ ‬له‭ ‬بألف‭ ‬دينار،‭ ‬وبلغ‭ ‬زبيدة‭ ‬ذلك‭ ‬فأمرت‭ ‬له‭ ‬بألف‭ ‬دينار‭ ‬إلا‭ ‬واحداً‭ ‬إجلالاً‭ ‬للخليفة‭.‬

وذكر‭ ‬المسعودي‭ ‬في‭ ‬‮«‬مروجه‮»‬‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النقاش،‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الرشيد‭ ‬أيضاً،‭ ‬ودار‭ ‬الحوار‭ ‬فيه‭ ‬حول‭ ‬تفضيل‭ ‬السكر‭ ‬والمشان‭ (‬هو‭ ‬من‭ ‬أطيب‭ ‬أنواع‭ ‬الرطب‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬تفضيل‭ ‬أنواع‭ ‬الفاكهة،‭ ‬ما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الرشيد‭ ‬كان‭ ‬يولي‭ ‬الطعام‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة،‭ ‬بدليل‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يخصص‭ ‬له‭ ‬جانباً‭ ‬من‭ ‬أحاديثه‭ ‬ومناظراته‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬مجالسه‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية‭ (‬الغناء‭ ‬والطرب‭).‬

 

موائد‭ ‬مجتمع‭ ‬طبقة‭ ‬العامة

ولكي‭ ‬تكتمل‭ ‬صورة‭ ‬المجتمع‭ ‬العباسي،‭ ‬يستحسن‭ ‬أن‭ ‬نستعرض‭ ‬أحوال‭ ‬موائد‭ ‬طبقة‭ ‬عامة‭ ‬الناس،‭ ‬لأن‭ ‬مجتمع‭ ‬طبقة‭ ‬الخاصة‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬كل‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع،‭ ‬فمجتمع‭ ‬الخاصة‭ ‬يشتمل‭ ‬وفق‭ ‬تصنيف‭ ‬الصابي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬رسوم‭ ‬دار‭ ‬الخلافة‮»‬‭ ‬على‭ ‬الخلفاء‭ ‬والوزراء‭ ‬والقادة‭ ‬والحجاب‭ ‬والكتَّاب‭ ‬والأشراف‭ ‬والقضاة‭ ‬ورجال‭ ‬الحاشية،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬فإن‭ ‬مجتمع‭ ‬العامة‭ ‬يقسم‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬طبقتين،‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬وتضم‭ ‬العلماء‭ ‬والأدباء‭ ‬والفقهاء‭ ‬والأطباء‭ ‬والمغنين‭ ‬وكبار‭ ‬التجار،‭ ‬والطبقة‭ ‬الثانية‭ ‬هي‭ ‬طبقة‭ ‬العامة،‭ ‬وينتمي‭ ‬إليها‭ ‬أرباب‭ ‬الحرف‭ ‬والصنّاع‭ ‬والزرّاع‭ ‬والجند‭ ‬والباعة‭ ‬والخدم،‭ ‬ثم‭ ‬يلحق‭ ‬بهم‭ ‬السفلة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬كالشطار‭ ‬والعيّارين‭ ‬واللصوص‭ ‬وغيرهم‭.‬

ويلاحظ‭ ‬ظهور‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد،‭ ‬بدليل‭ ‬التقسيم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬اعتمده‭ ‬أبو‭ ‬يوسف‭ ‬القاضي‭ ‬في‭ ‬توزيعه‭ ‬الجزية‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬الذمة‭ ‬فذكر‭: ‬‮«‬الموسر،‭ ‬والوسط،‭ ‬والمحتاج‮»‬‭.‬

ويظهر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الولائم‭ ‬التي‭ ‬تحدثت‭ ‬عنها‭ ‬بعض‭ ‬المصادر‭ ‬ولاسيما‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الأغاني‮»‬‭ ‬أن‭ ‬مائدة‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الرفه‭ ‬وسعة‭ ‬العيش،‭ ‬فيذكر‭ ‬الشاعر‭ ‬أبو‭ ‬العتاهية‭ ‬أن‭ ‬مخارق‭ ‬المغني‭ ‬دعاه‭ ‬إلى‭ ‬مائدته،‭ ‬فأدخله‭ ‬بيتاً‭ ‬نظيفاً‭ ‬فيه‭ ‬فرش‭ ‬وثير،‭ ‬ثم‭ ‬دعا‭ ‬له‭ ‬بمائدة‭ ‬عليها‭ ‬جدي‭ ‬مشوي،‭ ‬وسمك‭ ‬مشوي،‭ ‬وخبز‭ ‬سميذ،‭ ‬وخل‭ ‬وملح،‭ ‬ثم‭ ‬دعا‭ ‬بحلواء‭ ‬وفاكهة‭ ‬وريحان‭ ‬وألوان‭ ‬من‭ ‬الأنبذة،‭ ‬ويذكر‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الوزراء‭ ‬والكتاب‮»‬‭ ‬أن‭ ‬أحدهم‭ ‬دُعي‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬كاتب‭ ‬عامل‭ ‬الخراج،‭ ‬فجاءت‭ ‬الجارية‭ ‬بمائدة‭ ‬عليها‭ ‬رغفان‭ ‬وبقل‭ ‬وخل‭ ‬وملح‭ ‬وسكباج‭.‬

أما‭ ‬بخصوص‭ ‬مائدة‭ ‬طبقة‭ ‬العامة‭ ‬والفقراء،‭ ‬فكانت‭ ‬أطعمتهم‭ ‬بسيطة‭ ‬للغاية،‭ ‬ولا‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬خبز‭ ‬الشعير‭ ‬والزبيب‭ ‬والرثيثة،‭ ‬والبقل‭ ‬والخضراوات‭ ‬مع‭ ‬شرب‭ ‬اللبن،‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬معروفاً‭ ‬من‭ ‬الأطعمة‭ ‬عند‭ ‬الأعراب،‭ ‬كالثريد‭ ‬والشواء‭ ‬والقديد،‭ ‬ومن‭ ‬الحلوى‭ ‬التمر‭ ‬والزلابية‭ ‬والعصيدة‭. ‬أما‭ ‬طعام‭ ‬الزهّاد‭ ‬فنجده‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬سفيان‭ ‬الثوري،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬تمراً‭ ‬ولبناً‭ ‬فاتراً‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬ومن‭ ‬المؤسف‭ ‬أن‭ ‬المصادر‭ ‬لم‭ ‬تهتم‭ ‬كثيراً‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬موائد‭ ‬العامة،‭ ‬بل‭ ‬انشغلت‭ ‬بأخبار‭ ‬القصور‭ ‬ودور‭ ‬الموسرين‭ ‬ونمط‭ ‬معيشتهم‭ ‬وترف‭ ‬موائدهم،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ينفق‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الموائد‭ ‬التي‭ ‬تزخر‭ ‬بالمآكل‭ ‬الطيبة‭ ‬والمشروبات‭ ‬اللذيذة،‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬سماع‭ ‬الغناء‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بالجواري‭ ‬الحسان‭ ‬والندماء،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬أبناء‭ ‬المجتمع‭ ‬الحالي‭ ‬‮«‬حياة‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬أنفق‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المجالس‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الفقراء‭ ‬يستجدون‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭.‬

 

آداب‭ ‬المائدة

قبل‭ ‬أن‭ ‬نختم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬موائد‭ ‬الطعام،‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬البغدادي‭ ‬عرف‭ ‬آداباً‭ ‬عُرفت‭ ‬بآداب‭ ‬المائدة،‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬شروطها‭ ‬النظافة‭ ‬العامة،‭ ‬وغسل‭ ‬الأيدي‭ ‬قبل‭ ‬الطعام‭ ‬وبعده،‭ ‬ويكون‭ ‬غسل‭ ‬الأيدي‭ ‬في‭ ‬وعاء‭ ‬معين،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬الطشت‮»‬‭ ‬عادة،‭ ‬ويتولى‭ ‬رب‭ ‬البيت‭ ‬أمر‭ ‬البدء‭ ‬بالغسل‭ ‬قبل‭ ‬غيره،‭ ‬ليشجع‭ ‬المدعوّين‭ ‬على‭ ‬اتباعه،‭ ‬ثم‭ ‬يجلس‭ ‬الضيوف‭ ‬حول‭ ‬المائدة‭ ‬للبدء‭ ‬بالأكل،‭ ‬وقد‭ ‬حدّد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كشاجم‭ ‬في‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬النديم‮»‬‭ ‬والغزولي‭ ‬في‭ ‬‮«‬مطالع‭ ‬البدور‭ ... ‬‮»‬‭ ‬آداب‭ ‬المائدة،‭ ‬وذكر‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬في‭ ‬‮«‬عيون‭ ‬الأخبار‮»‬‭ ‬أن‭ ‬الأكل‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬دناءة،‭ ‬والوضوء‭ ‬قبل‭ ‬الأكل‭ ‬ينفي‭ ‬الفقر،‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬اجتمع‭ ‬للطعام‭ ‬أربع‭ ‬كَمُلَ،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حلالاً،‭ ‬وأن‭ ‬تكثر‭ ‬عليه‭ ‬الأيدي،‭ ‬وأن‭ ‬يفتح‭ ‬باسم‭ ‬الله،‭ ‬ويختم‭ ‬بحمد‭ ‬الله‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬آداب‭ ‬المائدة‭ ‬أيضاً،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬التسمية،‭ ‬الجلوس‭ ‬على‭ ‬الورك‭ ‬اليسرى،‭ ‬والأكل‭ ‬بثلاث‭ ‬أصابع،‭ ‬وتصغير‭ ‬اللقمة،‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الآخرين،‭ ‬ومن‭ ‬النصائح‭ ‬بما‭ ‬يختص‭ ‬بالطعام،‭ ‬فأفضله‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يطعم‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬الجوع،‭ ‬وإذا‭ ‬أطعم‭ ‬لا‭ ‬تمتلئ‭ ‬منه‭ ‬الضلوع،‭ ‬والمعدة‭ ‬بيت‭ ‬الداء،‭ ‬والحمية‭ ‬رأس‭ ‬كل‭ ‬دواء،‭ ‬وأصل‭ ‬كل‭ ‬داء‭ ‬البردة‭ (‬يعني‭ ‬التخمة‭)‬،‭ ‬وأفضل‭ ‬الطعام‭ ‬الثريدة،‭ ‬وأفضل‭ ‬الأدم‭ ‬اللحم،‭ ‬ولاسيما‭ ‬لحم‭ ‬الضأن،‭ ‬وتجنّب‭ ‬القديد‭.‬

من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬البحث،‭ ‬والحديث‭ ‬عن‭ ‬الموائد‭ ‬وتنوّع‭ ‬ألوان‭ ‬الطعام‭ ‬وأشكاله،‭ ‬يتجلى‭ ‬مقدار‭ ‬رقي‭ ‬حاضرة‭ ‬العباسية،‭ ‬كما‭ ‬يتجلى‭ ‬رقي‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التزام‭ ‬الناس‭ ‬بآداب‭ ‬المائدة‭ ‬عند‭ ‬حضورهم‭ ‬الولائم‭ .