ترف الموائد التاريخية

لعل من أشد مظاهر الحضارة في المجتمع العباسي، تعدد الألوان التي كانت تهيأ من الأطعمة، وقد كان معظم هذه الأصناف من أصل فارسي، وحصل ذلك نتيجة طبيعية للتأثيرات الفارسية في المجتمع، وشيوع البذخ والتأنق في الطعام، والميل إلى العيش المرفّه.
وقد أولى البغداديون عناية خاصة لموائدهم، انعكست على ما ألفوا من كتب كثيرة في «الطبخ»، وقد ذكر النديم في «كتاب الفهرست» بعض من ألّف في الطبخ، ومنهم إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم بن العباس الصولي، ويوحنا بن ماسويه، وجميعهم من رعيل القرنين الثاني والثالث للهجرة (الثامن والتاسع للميلاد)، وهذه التآليف تعكس مدى اهتمام البغداديين بتحسن أطعمتهم، ولكن من المؤسف أن جميع هذه المؤلفات لم تصلنا، لذا اعتمدت في إعداد هذا البحث على نتف وإشارات متناثرة في بطون المصادر الأدبية والتاريخية.
وقد عثرت على عدد من الإشارات التي تتحدث عن موائد الطعام التي غصت بها منازل التجار والموسرين من أبناء المجتمع البغدادي المترف، الذين أسرفوا في صنع موائدهم التي زخرت بشتى أنواع الأطعمة والأشربة التي يتناولونها، فالمائدة مصنوعة كما يذكر الطبري في «تاريخه» من الخشب المرصع بالأبنوس واللؤلؤ وأنواع الصدف، بينما يشير إلى مائدة أخرى مصنوعة من الخولنج الخراساني، وقوائمها من الذهب وعليها صحاف من الذهب والفضة، وأطباق من الصيني والبلور، فيها مختلف أنواع الأطعمة، ما يدل على كثرة أفانين الطهاة في الأطعمة، فكان الطهاة يطهون للخليفة هارون الرشيد ثلاثين لوناً من الطعام، وبشهادة المسعودي في «مروج الذهب»، كان ينفق على طعامه في كل يوم عشرة آلاف درهم. ويذكر ابن طيفور في «تاريخ بغداد» أن مائدة الخليفة المأمون ضمت ذات يوم ثلاثمائة لون، وكان ينفق على طعامه يومياً ستة آلاف دينار، أما وزيره أحمد بن أبي خالد، فكان ينفق على طعامه يومياً ألف درهم، وهو المبلغ نفسه الذي كان ينفقه المغني إبراهيم الموصلي يومياً على طعامه وطيبه، وفق كتاب «الأغاني». وقد تعجّب الأصمعي من كثرة ما رآه على مائدة الفضل بن يحيى البرمكي من ألوان الطعام، وما غسل به الحضور أيديهم بعد الأكل من ألوان الطيب الغالية والعنبر، وهذا دليل على كثرة إنفاق كبار القوم على الأطعمة، في الوقت الذي كان فيه عامة الشعب يعيشون في فاقة وعوز.
أنواع الأطعمة
يتجلى الإسراف بوضوح في المجتمع البغدادي من خلال استعراض أنواع الأطعمة التي كانت تقدم على موائد طبقة الخاصة، ومَن يمت إليهم بصلة من الأثرياء، فكانت أشهى الأكلات العباسية هي: شحوم الدجاج بالبصل والبيض والجبن والزيتون والجوز، هذا بشهادة الطبري، وكذلك المخ المعقود بالسكر والعسل، وألسنة السمك، وفق رواية المسعودي، بالإضافة إلى المشويات، كاللحم والدجاج وبخاصة الفراخ، التي كان يفضلها الوزير يحيى البرمكي، وكذلك الكباب، و«السكباج» (وهو مرق يُحضّر من اللحم والخل)، ويعتبر من أفضل أنواع الأطعمة عند العباسيين، وكان يقال فيه: «إنه سيد المرق وشيخ الأطعمة وزين الموائد»، وفق ما جاء في كتاب «طبقات الأطباء»، وبشهادة الجهشياري في كتاب «الوزراء والكتّاب» فقد اشتهى يحيى البرمكي هذا النوع من الطعام وهو في سجن الرشيد.
أما بخصوص المشروبات، فقد غلب شرب النبيذ، والشراب المصنوع من التمر والتين والجوز، ومنه الجلّاب وهو شراب ممزوج بماء الورد، وكانت تقدم مع الطعام المشهيّات ويسمّونها النقل، وهي تتألف من أشياء حرّيفة مثل البندق والجوز واللوز والفستق، وكانوا يكثرون من الفاكهة، مثل التين والموز والكمثرى والخوخ والرمان والأجاص والسفرجل والتفاح، وكثر لديهم البطيخ حتى نسبوا إليه سوق الفاكهة، فسمّوه باسم سوق البطيخ، ودار البطيخ، ومن أصناف الحلوى التي كانت شائعة في ذلك المجتمع، الفطائر والرقاق، ومنها اللوزينج، وكان يتخذ من اللوز والدقيق والفستق ويرش بماء الورد، ومنها الفالوذج، وهو حلو يُعمل من النشاء وعسل النحل والسمن، والخشكنانج، وهو كعك يُحشى بالجوز والسكر.
موائد الخلفاء العباسيين
من الواضح أن كل خليفة من خلفاء بني العباس كان يستطيب لوناً من ألوان الطعام، فكان المنصور والمهدي يستطيبان المخ المعقود بالسكر والعسل، وكان المهدي يحب من الطيور الحمام، ويرى المسعودي في «مروجه» والغزولي في «مطالع البدور...»، أن هارون الرشيد كان يفضل الهريسة بدهن الدجاج، وهي تحضّر من لحم وماء وسميذ، كما كان يحب تناول ألبان الظباء، والأرز الذي قال فيه، إنه «غذاء صحيح»، وجاء في «المستطرف...» للأبشيهي أنه كان يفضل تناول السميذ، وخبز الأرز النقي من خبز التنور، وقد شوهد، وفق رواية الطبري، وجارية على رأسه وفي يدها صحيفة، وهي تلعقه أولاً فأولاً طعاماً أبيض رقيقاً، ولما سئل عنه قال: «هو جشيش الأرز والحنطة وماء نخالة السميد، وهو نافع للأطراف المعوجة، وتشنج الأعصاب، ويذهب الكلف، ويسمن البدن»، وكان يفضل من الفاكهة السفرجل والتفاح، كما يقول الطبري والمسعودي، ويستطيب من الحلوى «الفالوذج» بدهن الفستق، كما كان يحب تناول «اللوزينـــج».
وتشير المصادر إلى أن هؤلاء الخلفاء كانوا لا يقدمون على هذه المآكل إلا بعد مشورة أطبائهم، ولا يتناولونها إلا بحضورهم، وبشهادة ابن أبي أصيبعة في كتاب «طبقات الأطباء»، كانت مائدة الرشيد لا تُعد إلا بعد مشورة طبيبه الخاص جبرائل بن بختيشوع، ولم يكن يتناول طعامه إلا بحضوره، لكي لا يلحق به أي أذى إذا تناول ما لا يوافق صحته من المآكل الدسمة، وذكر التنوخي في «الفرج بعد الشدة» أنه لما سئل الطبيب جبرائل عن موقف الرشيد من الأكل والشراب قال: «كان الرشيد رجلاً كثير الأكل والشرب، فأكل في بعض الأيام أشياء خلط فيها، ودخل المستراح فغشي عليه فيه»، وكان الخليفة الأمين كأبيه الرشيد لا يأكل ولا يشرب إلا بإذن ابن بختيشوع، وكان بعض بني هاشم لا يتناولون أطعمتهم إلا بحضرة يوحنا بن ماسويه.
هارون الرشيد على موائد علية القوم
ويشير أصحاب المصنّفات كالجاحظ في «كتاب الحيوان»، والرشيد بن الزبير في «الذخائر والتحف»، إلى أن هارون الرشيد كان يلبي دعوات الطبقة الخاصة، ويتناول الطعام على موائدهم، فحينما كان في البصرة لبى دعوة واليها سليمان بن علي الهاشمي، فأحضر له على المائدة كل حار وقار، وهيأ ألبان الظباء وزبدها، وسلاها ولباها، فاستطاب الرشيد جميع طعومها.
وحينما دعاه محمد بن يحيى البرمكي، أنفق على مائدته ستة عشر مليون درهم، وسحق له أربعة آلاف مثقال مسك، وطيّب به الدار، وأحضر رياحين البساتين، لئلا تقع يد الرشيد إلا على شيء مطيّب، ولا يشم إلا طيباً، وفق ما ورد في «الذخائر».
ويبدو أن الإسراف على الطعام لم يقتصر على الخليفة وحده، كما بيّنا سابقاً، بل تعدّاه إلى الأمراء وكبار رجال الدولة، فيذكر صاحب «مروج الذهب» أن إبراهيم بن المهدي لما استضاف أخاه الرشيد في الرقة اصطنع له أطعمة، من بينها طبق فيه ألسنة السمك، قدرت تكلفته بأكثر من ألف درهم. يظهر من خلال هذه الوليمة التي أعدها إبراهيم لأخيه الرشيد مدى الإسراف في ذلك المجتمع المترف، وبخاصة إذا ما علمنا أن الوعاء على مائدة إبراهيم بن المهدي كان ثمنه ألف درهم، ولعل معظم الأوعية على تلك المائدة كانت من هذا الطراز، فضلاً عن تكاليف مائدة محمد بن يحيى البرمكي، علماً بأنه كان بخيلاً.
ويظهر أن الرشيد كان يحب الدعابة وهو على مائدة الطعام، فكان يناقش زوجه وابنة عمه زبيدة في تفضيل بعض أصناف الحلوى، ومن طريف ما رواه صاحب «المستطرف...» أن الرشيد وزبيدة اختلفا في الفالوذج واللوزينج أيهما أطيب، فحضر أبو يوسف القاضي لحل النزاع، فسأله الرشيد عن ذلك، فقال: «إذا حضر الخصمان حكمت بينهما»، فقدما إليه فأكل منهما حتى انتهى، فقال له الرشيد: «احكم» فقال: «كلما أردت أن أقضي على أحدهما أدلى الآخر بحجته». فضحك الرشيد، وأمر له بألف دينار، وبلغ زبيدة ذلك فأمرت له بألف دينار إلا واحداً إجلالاً للخليفة.
وذكر المسعودي في «مروجه» نوعاً من هذا النقاش، حصل في مجلس الرشيد أيضاً، ودار الحوار فيه حول تفضيل السكر والمشان (هو من أطيب أنواع الرطب)، وفي تفضيل أنواع الفاكهة، ما يدل على أن الرشيد كان يولي الطعام أهمية كبيرة، بدليل أنه كان يخصص له جانباً من أحاديثه ومناظراته كما هو شأنه في شتى مجالسه الأدبية والفنية (الغناء والطرب).
موائد مجتمع طبقة العامة
ولكي تكتمل صورة المجتمع العباسي، يستحسن أن نستعرض أحوال موائد طبقة عامة الناس، لأن مجتمع طبقة الخاصة لا يمثل كل فئات المجتمع، فمجتمع الخاصة يشتمل وفق تصنيف الصابي في كتابه «رسوم دار الخلافة» على الخلفاء والوزراء والقادة والحجاب والكتَّاب والأشراف والقضاة ورجال الحاشية، وبالمقابل فإن مجتمع العامة يقسم بدوره إلى طبقتين، الأولى هي الطبقة الوسطى وتضم العلماء والأدباء والفقهاء والأطباء والمغنين وكبار التجار، والطبقة الثانية هي طبقة العامة، وينتمي إليها أرباب الحرف والصنّاع والزرّاع والجند والباعة والخدم، ثم يلحق بهم السفلة من الناس كالشطار والعيّارين واللصوص وغيرهم.
ويلاحظ ظهور الطبقة الوسطى منذ عهد هارون الرشيد، بدليل التقسيم الاجتماعي الذي اعتمده أبو يوسف القاضي في توزيعه الجزية على أهل الذمة فذكر: «الموسر، والوسط، والمحتاج».
ويظهر من خلال الولائم التي تحدثت عنها بعض المصادر ولاسيما «كتاب الأغاني» أن مائدة الطبقة الوسطى كانت لا تخلو من الرفه وسعة العيش، فيذكر الشاعر أبو العتاهية أن مخارق المغني دعاه إلى مائدته، فأدخله بيتاً نظيفاً فيه فرش وثير، ثم دعا له بمائدة عليها جدي مشوي، وسمك مشوي، وخبز سميذ، وخل وملح، ثم دعا بحلواء وفاكهة وريحان وألوان من الأنبذة، ويذكر صاحب كتاب «الوزراء والكتاب» أن أحدهم دُعي إلى منزل كاتب عامل الخراج، فجاءت الجارية بمائدة عليها رغفان وبقل وخل وملح وسكباج.
أما بخصوص مائدة طبقة العامة والفقراء، فكانت أطعمتهم بسيطة للغاية، ولا تخرج عن خبز الشعير والزبيب والرثيثة، والبقل والخضراوات مع شرب اللبن، هذا إلى جانب ما كان معروفاً من الأطعمة عند الأعراب، كالثريد والشواء والقديد، ومن الحلوى التمر والزلابية والعصيدة. أما طعام الزهّاد فنجده على مائدة سفيان الثوري، التي كانت تضم تمراً ولبناً فاتراً لا غير، ومن المؤسف أن المصادر لم تهتم كثيراً بالحديث عن موائد العامة، بل انشغلت بأخبار القصور ودور الموسرين ونمط معيشتهم وترف موائدهم، وما كان ينفق على تلك الموائد التي تزخر بالمآكل الطيبة والمشروبات اللذيذة، هذا إلى جانب سماع الغناء والاستمتاع بالجواري الحسان والندماء، وهذا ما يطلق عليه أبناء المجتمع الحالي «حياة ألف ليلة وليلة»، وقد أنفق على تلك المجالس إلى حد الإسراف في حين كان الفقراء يستجدون لقمة العيش.
آداب المائدة
قبل أن نختم الحديث عن موائد الطعام، تجدر الإشارة إلى أن المجتمع البغدادي عرف آداباً عُرفت بآداب المائدة، ومن أهم شروطها النظافة العامة، وغسل الأيدي قبل الطعام وبعده، ويكون غسل الأيدي في وعاء معين، وهو «الطشت» عادة، ويتولى رب البيت أمر البدء بالغسل قبل غيره، ليشجع المدعوّين على اتباعه، ثم يجلس الضيوف حول المائدة للبدء بالأكل، وقد حدّد كل من كشاجم في «أدب النديم» والغزولي في «مطالع البدور ... » آداب المائدة، وذكر ابن قتيبة في «عيون الأخبار» أن الأكل في السوق دناءة، والوضوء قبل الأكل ينفي الفقر، وقال: «إذا اجتمع للطعام أربع كَمُلَ، أن يكون حلالاً، وأن تكثر عليه الأيدي، وأن يفتح باسم الله، ويختم بحمد الله».
ومن آداب المائدة أيضاً، إلى جانب التسمية، الجلوس على الورك اليسرى، والأكل بثلاث أصابع، وتصغير اللقمة، والتقليل من النظر إلى الآخرين، ومن النصائح بما يختص بالطعام، فأفضله هو الذي لا يطعم إلا بعد الجوع، وإذا أطعم لا تمتلئ منه الضلوع، والمعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، وأصل كل داء البردة (يعني التخمة)، وأفضل الطعام الثريدة، وأفضل الأدم اللحم، ولاسيما لحم الضأن، وتجنّب القديد.
من خلال هذا البحث، والحديث عن الموائد وتنوّع ألوان الطعام وأشكاله، يتجلى مقدار رقي حاضرة العباسية، كما يتجلى رقي المجتمع من خلال التزام الناس بآداب المائدة عند حضورهم الولائم .