الخرافات التعليمية
في عام 2002 أكّد تقرير صادر عن مشروع «الدماغ والتعليم» العائد لمنظمة التعاون للتنمية الاقتصادية (OECD)، أن هناك انتشاراً واسعاً لمعتقدات خاطئة متعلقة بعمل الدماغ في أوساط المختصين في الحقل التعليمي. وفي أكتوبر عام 2014، نشرت مجلة «الطبيعة تستعرض علم الأعصاب» Nature Reviews Neuroscience دراسة حديثة أعادت التأكيد على انتشار مثل هذه المعتقدات الخاطئة في الحقل التعليمي. وقد تم تعريف هذه المغالطات أو المعتقدات الخاطئة، بكونها أيَّ «معتقد نابع من سوء فهم أو سوء تفسير أو سوء اقتباس لحقائق مثبتة علمياً (من قبل أبحاث الدماغ) يتم تطبيقها في مجال التعليم ومجالات أخرى».
وعلى الرغم من أن تلك المغالطات تعتمد على حقائق علمية ناقصة أو غير واضحة، فإنه يمكن أن تكون لها آثار سلبية على العملية التعليمية، لأنها تؤدي إلى هدر المال والوقت والمجهود في ممارسات لا جدوى منها. ومن أهم هذه المغالطات أن الإنسان لا يستخدم سوى 10 في المائة من قدراته العقلية. وفي الدراسة التي نشرت بعنوان «الطبيعة تستعرض علم الأعصاب» يكشف البروفيسور في علم الأعصاب والتعليم، بول هوارد جونز، الانتشار المقلق لهذه النظرية في الصفوف التعليمية في جميع أنحاء العالم. وفي الواقع، استقطب هذا الاعتقاد اهتماماً كبيراً أخيراً بشكل واسع بسبب ظهوره في عديد من البرامج التلفزيونية والأفلام السينمائية.
وبمناسبة تلك الأفلام، علّق عالم الأعصاب والكاتب في مدوّنة الجمعية البريطانية لعلم النفس قائلاً: «بالتأكيد ليس هناك أي صحّة في الاعتقاد الذي يقول إننا نستخدم فقط 10 في المائة من الخلايا العصبية الدماغية»، وأظهرت نماذج المسح الدماغي الحديثة أن «النشاط الدماغي يمتد في جميع أنحاء خلايا الدماغ حتى عندما نكون مستريحـين»، وأن عـــمــلية الــتـــعــلُّم تحدث من خلال عملية الترابط بين وجوه النشاط الدماغية المختلفة، وليس من خلال تنشيط مناطق دماغية «رمادية» ليست موجودة أصلاً.
وفي دراسة د. هوارد جونز، تبيّن أن 93 في المائة من الأساتذة في بريطانيا يعتقدون بأن «الأشخاص يتعلمون بشكل أفضل عندما يتلقون المعلومات من خلال الأسلوب التعليمي المفضل لديهم، سواء كان الأسلوب المرئي أو المسموع أو الحركي». وبالتالي عمد بعض المختصين إلى تصنيف الأطفال وتعليمهم بالأسلوب التعليمي المناسب لهم. ولا شك في أن هذا الاعتقاد له أساس في أبحاث علمية صحيحة، أكّدت أن المعلومات المرئية والمسموعة والحركية تعالج في مناطق دماغية مختلفة. ولكنّ هذه المناطق الدماغية مترابطة بشكل كبير، وهناك تفعيل عميق وانتقال للمعلومات بين الطرائق الحسيّة المختلفة، وبالتالي من الخطأ الافتراض أن هناك طريقة حسيّة واحدة تفعّل في معالجة المعلومات. وعلى عكس ذلك، أظهرت الأبحاث السيكولوجية أن بعض الطلاب يستفيدون أكثر عند تلقي المعلومات بالطريقة التي لا يبدون أيّ تفضيل لها.
ومن الخرافات التعليمية الأخرى الاعتقاد الذي يقول إن ما يتعلمه الطفل قبل سن الثلاث سنوات هو أهم استثمار في حياته، ويكون له المفعول الأكبر في مسيرته التعليمية اللاحقة. ومما لا شك فيه أن تلك المرحلة مهمة، ولكن ذلك لا يعني أن قدرات الطفل تتحدّد في هذه السن المبكرة، بينما تكون رحلته التعليمية، في الواقع، قد بدأت حينها. يقول جون بروير المختص بعلم الأعصاب الإدراكي وصاحب كتاب «خرافة الثلاث سنوات الأولى» إن هناك عديداً من الأهالي والمدرسين ووكالات الدعم الحكومية يرون أن سنوات الطفل الثلاث الأولى هي فرصتهم الحقيقية لتكوين مستقبل ناجح له. ويؤكد بروير أن هنالك الكثير من الأبحاث العلمية الجدية التي تدعم وجود فترات محددة في حياة الطفل أكثر أهمية من غيرها لتطوّره العقلي، ولكنه يؤكد في الوقت ذاته أن هذه الأبحاث ذاتها تفيد بأن الإدراك والتطور الفكري يحدثان خلال كل سنوات الطفولة، وبالفعل، طوال فترات العمر. وبذلك فإن إعطاء أهمية زائدة لفترة الثلاث سنوات الأولى من عمر الطفل قد يأتي على حساب المسؤوليات التعليمية الطويلة الأمد، وإنه في حال حُرم الطفل من المحفزات الفكرية المهمة في سنواته الأولى، فمن الممكن التعويض عنها في سنواته اللاحقة.
كما أن هناك انتشاراً واسعاً للاعتقاد الذي يقول إن المشكلات التعليمية وراثية، ولا يمكن تغييرها، ما يؤدي إلى تخلي المدرسين عن مساعدة الطلاب الذين يواجهون مشكلات تعليمية، وقد ذكر د. بول هوارد جونز أن الدراسات حول المدرسين البريطانيين والصينيين أظهرت أن هؤلاء المدرسين الذين كانوا يعتقدون بوجود تأثير وراثي جيني قوي على النتيجة التعلمية، وبالتالي وجود حدود بيولوجية لما يستطيع الطلاب أن ينجزوه، كانوا يؤثرون عدم التدخل بشكل كبير لمساعدة طلابهم على تجاوز مشكلاتهم التعلمية، وبمجرد أن صور المسح الدماغي للأطفال ذوي الإعاقات التعلمية تظهر اختلافاً عن صور الأطفال الذين لا يعانون أي مشكلات تعلمية فلا يعني ذلك أن تلك الإعاقة غير ممكنة للشفاء، وذلك لأن هناك عديداً من الدراسات التي أظهرت أن الدماغ مثل قطعة البلاستيك الطيّعة يمكن تغيير عملها وبنيتها والترابط في ما بين خلاياها مع وجود محفزات خارجية ملائمة.
كما أن هناك عديداً من المصطلحات التي تستخدم في علم الأعصاب تخدع المدرسين وتدفعهم للترويج لأدوات يعتقدون بفعاليتها، ولكنها، في الواقع، هي غير ذلك. فعندما أجريت دراسة على الأغلفة الملوّنة التي تستخدم لمساعدة الأطفال المصابين بعسر القراءة أو الـ dyslexia، أظهرت عدم جدواها، وذلك لأن مشكلة عسر القراءة ليست مشكلة بصرية، لكنها متعلقة بمشكلات دماغية أكثر تعقيداً. لذلك، لا تمكن معالجتها بتراكب الألوان، ومع ذلك مازالت تلك الأغلفة تستخدم حتى الآن من قبل عديد من المدرسين. كما أن حوالي 39 في المائة من المدرسين في بريطانيا مازالوا يستخدمون ما يسمى بالـ Brain Gym أو الرياضة الدماغية، وهي وسيلة تعليمية تستخدم تقنيات، مثل تفعيل ما يسمى «مفاتيح الدماغ» عبر تدليك مناطق معينة من الجسم، لتنشيط مناطق دماغية مختلفة وزيادة تدفق الدم والأكسجين إليها، ولكن كل تلك التقنيات تسهم في إهدار الوقت والمال اللذين يمكن أن نستخدمهما في أساليب تعليمية مجدية.
وأكثر من أي مشكلة أخرى، يعكس تفشّي هذه المعتقدات الخاطئة الهوّة الثقافية بين مجالين من النشاط الإنساني المهمين، اللذين من المفترض أن يكونا مترابطين، ولكنهما يواجهان صعوبة في التواصل في ما بينهما. وذلك لأن علماء الأعصاب والمدرسين يتحدثون لغة مختلفة ولديهم مفاهيم مختلفة حول عملية التعلُّم وأولويات مهنية مختلفة. وكل ذلك يؤدي إلى نوع من الفراغ ، حيث يزدهر سوء التفاهم وتسود الاعتقادات الخاطئة. ويعود ذلك إلى أن عملية تحضير المدرسين التي تشمل مختلف مجالات العلوم والإنسانيات، تتجاهل تدريس علم الأعصاب على الرغم من أهميته، بالإضافة إلى أن المدرسين يجدون صعوبة في الوصول إلى المعلومات الصحيحة في العلوم العصبية، لأنها لا تظهر إلا في المجالات العلمية المتخصصة.
يقول د. جونز إن هناك حاجة لوجود مجال علمي جديد يدمج المفاهيم من كلا المجالين، التعليمي والعصبي، بطريقة ملائمة. وبالفعل بدأ مثل هذا المجال في الظهور، وذلك من خلال اتجاه بعض مراكز الأبحاث للاهتمام بمواضيع مثل «علم الأعصاب التعلُّمي»، أو «الدماغ، العقل والتعليم»، وهو مجال حديث جداً ولم تستقر عليه تسمية ثابتة بعد .