الاقتباس من المحكي الروائي إلى المحكي الفيلمي

الاقتباس من المحكي الروائي إلى المحكي الفيلمي

للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬تحيلنا‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬اقتباس‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬نص‭ ‬أصلي،‭ ‬ونص‭ ‬آخر‭ ‬مأخوذ‭ ‬عنه،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬النص‭ ‬الأول‭ ‬مكتوباً‭ ‬أو‭ ‬مصوراً،‭ ‬طويلاً‭ ‬أو‭ ‬قصيراً‭. ‬لكن‭ ‬الناقد‭ ‬والباحث‭ ‬السينمائي‭ ‬المغربي‭ ‬حمادي‭ ‬كيروم‭ ‬يتعمق‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الاقتباس‭ ‬من‭ ‬المحكي‭ ‬الروائي‭ ‬إلى‭ ‬المحكي‭ ‬الفيلمي‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬الفن‭ ‬السابع‭ (‬107‭)‬،‭ ‬ليأخذنا‭ ‬إلى‭ ‬أدغال‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭.   ‬ففي‭ ‬الفصل‭ ‬الأول،‭ ‬يتناول‭ ‬المؤلف‭ ‬جماليات‭ ‬الاقتباس،‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬حيرة‭ ‬كاتب‭ ‬وسيناريست‭ ‬فرنسي‭ ‬كبير،‭ ‬هو‭ ‬جان‭ ‬كلود‭ ‬كاريير،‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬نص‭ ‬أدبي،‭ ‬ومدى‭ ‬حق‭ ‬أو‭ ‬حرية‭ ‬المخرج‭ ‬أو‭ ‬كاتب‭ ‬السيناريو‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الاقتباس‭:‬

‮«‬إذا‭ ‬كتب‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست‭ ‬أن‭ ‬دوقة‭ ‬كيرمونت‭ ‬كانت‭ ‬شقراء‭ ‬ولها‭ ‬أنف‭ ‬أقني،‭ ‬وتتحدث‭ ‬بطريقة‭ ‬خاصة،‭ ‬فهل‭ ‬لنا‭ ‬‮«‬الحق‮»‬‭ - ‬وبما‭ ‬أننا‭ ‬نستعمل‭ ‬اسمه‭ - ‬أن‭ ‬نتصورها‭ ‬سمراء‭ ‬وتتكلم‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى؟‮»‬‭.‬

زاوية‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الاقتباس‭ ‬يطرحها‭ ‬الكاتب‭ ‬والمخرج‭ ‬باولو‭ ‬بازوليني،‭ ‬وهي‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬السينما‭ ‬يطرح‭ ‬مسألة‭ ‬تقنية‭ ‬وأسلوبية؟‭ ‬لأننا‭ ‬بهذا‭ ‬ننتقل‭ ‬من‭ ‬لسان،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬وطنية،‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬غير‭ ‬وطنية،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬المسألة‭ ‬هنا‭ ‬تتعلق‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬تقنية‭ ‬عامة،‭ ‬عالمية،‭ ‬وكونية،‭ ‬أي‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬لغة‭ ‬‮«‬إسبرنتو‮»‬‭ ‬يفهمها‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬وتتجاوز‭ ‬الحدود‭ ‬الوطنية‭ ‬والجغرافية‭.‬

 

الاقتباس‭ ‬الحرفي‭ ‬والاقتباس‭ ‬الحر‭ ‬

وطبقا‭ ‬للمؤلف،‭ ‬فإن‭ ‬أغلب‭ ‬الدراسات‭ ‬تستخدم‭ ‬‮«‬الاقتباس‮»‬‭ ‬في‭ ‬مجالي‭ ‬‮«‬الاقتباس‭ ‬السينمائي‮»‬‭ ‬و«الاقتباس‭ ‬المسرحي‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬وجهين‭ ‬للمصطلح‭ ‬يتمثلان‭ ‬في‭ ‬الاقتباس‭ ‬الحرفي‭ (‬الاقتباس‭ ‬الأمين‭) ‬والاقتباس‭ ‬الحُر‭ (‬الاقتباس‭ ‬غير‭ ‬الأمين‭).‬

والنوع‭ ‬الأول‭ - ‬كما‭ ‬حددته‭ ‬مبادئ‭ ‬المؤسسة‭ ‬الهوليوودية‭ - ‬يحترم‭ ‬فيه‭ ‬السيناريست،‭ ‬أو‭ ‬المخرج‭ ‬المقتبس‭ ‬المعطى‭ ‬الروائي،‭ ‬ويقتصر‭ ‬دوره‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬كلمات‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬صور‭ ‬الفيلم،‭ ‬وعدم‭ ‬التدخل‭ - ‬قدر‭ ‬المستطاع‭ - ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الأصلي،‭ ‬كما‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يبتكر‭ ‬أحداثاً‭ ‬قد‭ ‬تحرِّف‭ ‬الفيلم‭ ‬عن‭ ‬الخط‭ ‬الذي‭ ‬رسمته‭ ‬الرواية‭.‬

وتركز‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬السردية‭ ‬السينمائية‭ ‬الهوليوودية‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬الصراع‭ ‬المركزي‭ ‬بين‭ ‬الأبطال،‭ ‬وقد‭ ‬ظهــــرت‭ ‬كصيــــغة‭ ‬عمل‭ ‬اختيارية‭ - ‬في‭ ‬البداية‭ - ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬قانون‭ ‬ملزم‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الاقتباس‭ ‬الحر،‭ ‬فقد‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الكتابات‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اختزالها،‭ ‬لأنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬تطابق‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والفيلم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يعد‭ ‬أنصار‭ ‬هذا‭ ‬المذهب‭ ‬الاقتباسَ‭ ‬تشخيصاً‭ ‬دالاً‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬المعنى‭.‬

ويستشهد‭ ‬المؤلف‭ ‬بقول‭ ‬المخرج‭ ‬أوجست‭ ‬سترينبرج‭ ‬إن‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬بهدف‭ ‬اقتباسه‭ ‬هي‭ ‬بمنزلة‭ ‬قراءة‭ ‬لنوتة‭ ‬موسيقية،‭ ‬فهي‭ ‬مهارة‭ ‬صعبة‮»‬‭. ‬

والصعوبة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬مرحلة‭ ‬اختبار،‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬وإجابات،‭ ‬وحذَّر‭ ‬المخرج‭ ‬ستلانسلافسكي‭ ‬من‭ ‬الانطباع‭ ‬الأولي‭ ‬لدى‭ ‬المخرج‭ ‬المقتبِس،‭ ‬لأنه‭ ‬انطباع‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التسطيح،‭ ‬وفضل‭ ‬اعتماد‭ ‬رؤية‭ ‬عميقة‭ ‬ومتروية‭ ‬مشبّعة‭ ‬بالاجتهاد‭.‬

ويُعرِّف‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬فصله‭ ‬الثاني‭ (‬ضمن‭ ‬المبحث‭ ‬الأول‭) ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬المحكي‭ ‬الفيلمي‮»‬‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الاصطلاحات‭ ‬تبدأ‭ ‬مع‭ ‬السينما‭ ‬المبكرة،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬السينما‭ ‬بدأت‭ ‬بفيلم‭ ‬‮«‬وصول‭ ‬القطار‭ ‬إلى‭ ‬المحطة‮»‬‭ ‬للأخوين‭ ‬لوميير‭ ‬عام‭ ‬1895م،‭ ‬بمشهد‭ ‬بدا‭ ‬حقيقياً‭ ‬وجعل‭ ‬المشاهدين‭ ‬يهربون‭ ‬من‭ ‬القطار‭ ‬القادم‭ ‬نحوهم،‭ ‬فإن‭ ‬آندريه‭ ‬تاركوفسكي،‭ ‬شاعر‭ ‬وفيلسوف‭ ‬السينما‭ ‬السوفييتية،‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬ولادة‭ ‬‮«‬الفن‭ ‬السينمائي‮»‬‭ ‬تمت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬بالذات،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بوجود‭ ‬تقنية‭ ‬سينمائية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬بولادة‭ ‬مبدأ‭ ‬جمالي‭ ‬جديد‭. ‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬يعني‭ - ‬بالنسبة‭ ‬لتاركوفسكي‭ -‬‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬تمكن،‭ ‬ولأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الثقافة‭ ‬والفن،‭ ‬من‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬يمكنه‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬تسجيل‭ ‬الزمن‭ ‬المرئي‭ ‬وتخزينه،‭ ‬وإمكان‭ ‬إعادة‭ ‬عرضه‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭. ‬

في‭ ‬المبحث‭ ‬الثاني،‭ ‬وتحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬مادة‭ ‬تعبير‭ ‬المحكي‭ ‬الفيلمي‮»‬،‭ ‬يحدد‭ ‬المؤلف‭ ‬مجموعة‭ ‬عناصر‭ ‬أساسية‭ ‬تساعد‭ ‬الوسيط‭ ‬السينمائي‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬السرد،‭ ‬وهي‭ ‬جهاز‭ ‬السينماتوغراف،‭ ‬الذي‭ ‬يخلق‭ ‬طقوس‭ ‬العرض،‭ ‬ويتحكم‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التلقي‭/ ‬الإدراك،‭ ‬للصورة‭ ‬والصوت‭. ‬ثم‭ ‬جهاز‭ ‬الشاشة،‭ ‬منبع‭ ‬الانسياب‭ ‬البصري،‭ ‬
وأخيراً‭ ‬النجومية،‭ ‬التي‭ ‬تغري‭ ‬المشاهد‭ ‬وتستدرجه‭ ‬إلى‭ ‬التماهي‭ ‬مع‭ ‬ممثله‭ ‬المفضل،‭ ‬ولولا‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬لما‭ ‬أخذ‭ ‬أشخاص‭ ‬أمثال‭ ‬فالنتينو‭ ‬وجيمس‭ ‬دين‭ ‬ومارلين‭ ‬مونرو‭ ‬وكلارك‭ ‬جيبل‭ ‬وعمر‭ ‬الشريف‭ ‬وفاتن‭ ‬حمامة‭ ‬أبعاداً‭ ‬اسطورية‭ ‬جعلتهم‭ ‬خالدين‭ ‬في‭ ‬متخيل‭ ‬الجماهير‭.‬

في‭ ‬الفصل‭ ‬الثالث،‭ ‬يتناول‭ ‬المؤلف‭ ‬مكونات‭ ‬المحكي‭ ‬السينمائي،‭ ‬الذي‭ ‬ينقل‭ ‬التلفظ‭ ‬إلى‭ ‬السرد،‭ ‬والمكتوب‭ ‬إلى‭ ‬المشاهد‭ ‬المتتابعة،‭ ‬ويحدد‭ ‬أركان‭ ‬الفيلم‭ ‬السردية‭ ‬بالراوي‭ ‬الظاهر‭ ‬والمصور‭ ‬الأكبر،‭ ‬والمحكي‭ ‬الشفوي،‭ ‬عندما‭ ‬تحكي‭ ‬الشخصيات،‭ ‬والمحكي‭ ‬السمعي‭ ‬البصري،‭ ‬عندما‭ ‬يظهر‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الصور‭ ‬المتحركة‭ ‬والأنغام‭ ‬المتدفقة‭ ‬ما‭ ‬يكمل‭ ‬المحكي‭ ‬الأول،‭ ‬حين‭ ‬تتلاشى‭ ‬صورة‭ ‬الراوي،‭ ‬ليصبح‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬مجسداً‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭. ‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬السينما،‭ ‬شكلاً،‭ ‬خليطاً‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬التعبيرية،‭ ‬فإن‭ ‬الركن‭ ‬الأساس‭ ‬للمحكي‭ ‬الفيلمي‭ ‬غير‭ ‬موحد‭. ‬لذلك‭ ‬تأتي‭ ‬اللغة‭ ‬السينمائية‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭ ‬مجموعات،‭ ‬أيقونية‭ ‬ولفظية‭ ‬وموسيقية،‭ ‬تؤسس‭ ‬معاً‭ ‬الخطاب‭ ‬الفيلمي‭.‬

 

فضاء‭ ‬المحكي‭ ‬السينمائي

إن‭ ‬الفضاء‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬الأوربــــي‭ ‬أو‭ ‬الأمــــريكي‭ ‬اللاتيني‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬حقــيقة‭ ‬فيـــزيقــــية،‭ ‬ولكــــنه‭ ‬نتــــاج‭ ‬تكوين‭ ‬وتشكيل‭ ‬جغرافي‭ ‬واقـــتصادي‭ ‬وســــكاني‭ ‬وســـياسي‭ ‬وأنثروبــــــولوجــي،‭ ‬لذلــــك‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يعرضه‭ ‬الفيلم‭ ‬هـــو‭ ‬عبارة‭ ‬عــــن‭ ‬أمكــــنة‭ ‬تسعى‭ ‬سماتها‭ ‬التكوينيـــة‭ ‬إلى‭ ‬تمــــثيل‭ ‬وتشخيــــص‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬يظل‭ ‬دائماً‭ ‬افتراضياً،‭ ‬فالســـيــنما‭ ‬عليها‭ ‬ألا‭ ‬تكتفي‭ ‬بعرض‭ ‬الأمكنة‭ ‬الواقعيــــة،‭ ‬وإنــــما‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬فضاء‭ ‬تخييلياً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اختزاله‭ ‬في‭ ‬مقاطع‭ ‬سمعية‭ ‬ومرئية‭ ‬عدة،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬متكامل‭ ‬يسمى‭ ‬فضاء‭ ‬المحكـــي‭ ‬السينمائي‭.‬‭ ‬

لهذا‭ ‬تتجـــلى‭ ‬أهـــميــة‭ ‬بناء‭ ‬الديكــــورات‭ ‬لخـــــلق‭ ‬هذا‭ ‬العالـــم‭ ‬الجديد،‭ ‬الذي‭ ‬يستلهمه‭ ‬صنَّاع‭ ‬السينما‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬النص‭ ‬المكتوب،‭ ‬وتاريخ‭ ‬المكان‭ ‬المختار‭ ‬لرواية‭ ‬النص‭ ‬السينمائي‭ ‬الجديد‭.‬

في‭ ‬المبحث‭ ‬الرابع،‭ ‬وضمن‭ ‬الفصل‭ ‬الثالث،‭ ‬يختار‭ ‬المؤلف‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الزمنية‭ ‬السردية،‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬تعبر‭ ‬عنها‭ ‬ثنائية‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الحكاية‭ ‬وزمن‭ ‬الفاعل‮»‬‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الفوتوغرافيـــا‭ ‬تقدم‭ ‬لنا‭ ‬شيئا‭ ‬حدث،‭ ‬فإن‭ ‬السينما‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬تعطي‭ ‬الإحساس‭ ‬بالواقع‭ ‬الحي‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الهُنا‭ ‬الحي‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬تعبير‭ ‬كريستيان‭ ‬مـــيتـــز،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬السينما‭ ‬إلا‭ ‬الزمن‭ ‬الحاضر،‭ ‬لأن‭ ‬الصورة‭ ‬السينمائيــة‭ ‬تقدم‭ ‬‮«‬الآن‮»‬‭ ‬ما‭ ‬اختارته‭ ‬مما‭ ‬‮«‬حدث‭ ‬في‭ ‬الماضي‮»‬‭.‬

يخصص‭ ‬المؤلف‭ ‬مبحثه‭ ‬الخامس‭ ‬للشخصيات،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬الشخصية‭ ‬الفيلمية‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬نظيرتها‭ ‬الروائية،‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬مجرد‭ ‬كائن‭ ‬من‭ ‬ورق،‭ ‬نمطي،‭ ‬فإن‭ ‬الشخصية‭ ‬الفيلمية‭ ‬السينمائية‭ ‬‮«‬كائن‭ ‬أيقوني‮»‬،‭ ‬تشبه‭ ‬الشخصيات‭ ‬الحية‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬تحمل‭ ‬جسد‭ ‬الممثل،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬هي‭ ‬هجين‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مكتوب،‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مصور،‭ ‬بين‭ ‬الرواية،‭ ‬والشخصية‭ ‬الحقيقية‭ ‬للممثل‭. ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬النجوم‭ ‬حين‭ ‬يدخلون‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الفيلم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تجسيد‭ ‬شخصية‭ ‬معينة،‭ ‬فإنهم‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يمثلون‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬وكل‭ ‬الشخصيات‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬شخصوها‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬يحمل‭ ‬الممثل‭ ‬قدراً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬التناص،‭ ‬وتتغذى‭ ‬صورته‭ ‬حسب‭ ‬منطق‭ ‬النجوم‭ ‬بخطابات‭ ‬صحفية‭ ‬ولدى‭ ‬الجماهير‭. ‬

 

رواية‭/‬فيلم‭ ‬‮«‬بداية‭ ‬ونهاية‮»‬‭ ‬نموذج‭ ‬للاقتباس

في‭ ‬الباب‭ ‬الثاني،‭ ‬يبدأ‭ ‬المؤلف‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬كرونولوجيا‭ (‬تسلسل‭) ‬المشاهد،‭ ‬ففي‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬بداية‭ ‬ونهاية‮»‬،‭ ‬المأخوذ‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬هناك‭ ‬92‭ ‬فصلاً،‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬المكتوب،‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬سبعين‭ ‬مشهداً‭ ‬كتبها‭ ‬السيناريست‭ ‬صلاح‭ ‬عز‭ ‬الدين،‭ ‬وأخرجها‭ ‬صلاح‭ ‬أبوسيف،‭ ‬وصورها‭ ‬كمال‭ ‬كريم،‭ ‬وأعد‭ ‬لها‭ ‬الديكور‭ ‬حلمي‭ ‬عزب،‭ ‬ووضع‭ ‬موسيقاها‭ ‬فؤاد‭ ‬الطاهري،‭ ‬وقام‭ ‬بالمونتاج‭ ‬إميل‭ ‬بحري،‭ ‬وشخص‭ ‬الأدوار‭ ‬أمينة‭ ‬رزق،‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬الأم،‭ ‬وعمر‭ ‬الشريف،‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬حسنين،‭ ‬وفريد‭ ‬شوقي،‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬حسن،‭ ‬وحسين‭ ‬كمال‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬حسين،‭ ‬وسناء‭ ‬جميل،‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬الأخت‭ ‬نفيسة‭. ‬

ويوثق‭ ‬الكتاب‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بلقطة‭ ‬عامة‭ ‬لإحدى‭ ‬حارات‭ ‬القاهرة‭ ‬القديمة،‭ ‬مع‭ ‬عنوان‭ ‬1936،‭ ‬يحدد‭ ‬الحقبة‭ ‬التاريخية‭ ‬للرواية،‭ ‬وصولا‭ ‬للمشهد‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يصفع‭ ‬فيه‭ ‬حسنين‭ ‬شقيقته‭ ‬وهما‭ ‬يخرجان‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬قسم‭ ‬الشرطة،‭ ‬وتمنعه‭ ‬من‭ ‬قتلها،‭ ‬إشفاقاً‭ ‬عليه،‭ ‬يأخذها‭ ‬بسيارة‭ ‬أجرة‭ ‬إلى‭ ‬كوبري‭ ‬الزمالك‭ ‬حيث‭ ‬تلقي‭ ‬بنفسها‭ ‬في‭ ‬النيل،‭ ‬ويؤنبه‭ ‬ضميره‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬حيث‭ ‬يعرف‭ ‬حقيقة‭ ‬نفسه،‭ ‬ما‭ ‬يدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الانتحار‭ ‬بعدها‭ ‬مباشرة‭.‬

وفي‭ ‬الفصول‭ ‬التالية،‭ ‬يحلل‭ ‬الكاتب‭ ‬الفيلم‭ ‬نفسه،‭ ‬محدداً‭ ‬الراوي‭ ‬الفيلمي،‭ ‬والراوي‭ ‬الثانوي،‭ ‬والفضاء‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬بناؤه‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬بداية‭ ‬ونهاية‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬تأخذ‭ ‬الحارة‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وقد‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يكثف‭ ‬الوصف‭ ‬ويعطي‭ ‬العلامات‭ ‬المكانية‭ ‬والبصرية‭ ‬بدقة‭ ‬ليحدد‭ ‬هوية‭ ‬الحارة‭ ‬المصرية،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬أعاد‭ ‬المخرج‭ ‬بناء‭ ‬وتشخيص‭ ‬الحارة،‭ ‬معتمداً‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬الوصفي‭ ‬والسردي،‭ ‬لتنشأ‭ ‬حارة‭ ‬‮«‬بداية‭ ‬ونهاية‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وعيين‭: ‬وعي‭ ‬الكاتب‭ ‬ووعي‭ ‬المخرج‭.‬

ويتضح‭ ‬للمؤلف،‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬الكتاب،‭ ‬أن‭ ‬صلاح‭ ‬أبوسيف‭ ‬لم‭ ‬يخن‭ ‬الرواية‭ ‬ولم‭ ‬يخن‭ ‬السينما،‭ ‬لأن‭ ‬موهبته‭ ‬الإبداعية‭ ‬مكنته‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬نسق‭ ‬من‭ ‬التناظرات‭ ‬معادل‭ ‬لما‭ ‬استعملته‭ ‬الرواية‭.‬

ويشير‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬نـــــوع‭ ‬من‭ ‬التواطــــؤ‭ ‬الفكــري‭ ‬والفني،‭ ‬يجمع‭ ‬بيــــن‭ ‬حســــاسية‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬وحساسية‭ ‬صلاح‭ ‬أبوسيف،‭ ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬الرواية‭ ‬أصبحت‭ ‬رواية‭ ‬بسبب‭ ‬أدبيتها،‭ ‬وأصبح‭ ‬الفيلم‭ ‬فيلماً‭ ‬بفضل‭ ‬سينمائيته،‭ ‬أو‭ ‬سينماتوغرافيته‭.‬

ويخلص‭ ‬المؤلف‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الاقتباس‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكـــــون‭ ‬علــــماً‭ ‬قائماً‭ ‬بذاتـــه،‭ ‬يسميه‭ ‬Ldaptologie،‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬الاقتباس،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توضع‭ ‬له‭ ‬قواعد‭ ‬وقوانين‭ ‬إجرائية‭ ‬تحدد‭ ‬وضعه‭ ‬الاعتباري‭.‬

إن‭ ‬التعايش‭ ‬والتفاعل‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والسينما‭ ‬أصبحا‭ ‬ضروريين،‭ ‬لأن‭ ‬أحدهما‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬الآخر؛‭ ‬فعلى‭ ‬السينما‭ ‬أن‭ ‬تستفيد‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬سبقتها‭ ‬وفتحت‭ ‬عوالم‭ ‬وتجارب‭ ‬إنسانية‭ ‬عميقة،‭ ‬مما‭ ‬سيساعدها‭ ‬على‭ ‬الانعتاق‭ ‬من‭ ‬قــبضة‭ ‬المفهوم‭ ‬التجاري،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬السينما‭ ‬بدورها‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬خدمات‭ ‬مهمة‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الروائية‭ ‬التي‭ ‬أخرجتها‭ ‬من‭ ‬رفوف‭ ‬المكتبات‭ ‬وقدمتها‭ ‬لجمهور‭ ‬أوسع‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أبدا‭ ‬أن‭ ‬يقرأها،‭ ‬كما‭ ‬قدمت‭ ‬السينما‭ ‬تقنيات‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الحكي‭ ‬ساعدت‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬تجديد‭ ‬أسلوبها،‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تساير‭ ‬عصر‭ ‬الحكي‭ ‬السينمائي‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الفرجة‭ ‬المشهدية‭ ‬والإبهار‭ .