شوقي... بين المبرَّد وابن خلدون

شوقي... بين المبرَّد وابن خلدون

رحم الله أحمد شوقي, فقد كان شعره منهلا عذبا، يُريح النفس ويُعمل العقل، وهو القائل:
أنا من بدّل بالكتب الصحابا
لم أجد لي وافياً إلا الكتابا
لم تكن مكتبة شوقي أو مكتبات مثقفي عصره أفضل ولا أجزل من مكتباتنا اليوم، فلا تزال الكتب التي قرأها هو وأقرانه بين أيدينا، وقد زادتنا الأيام مثيلاتها وكتباً أكثر منها أقدم وأحدث. إنّما كان تفوقه على معاصريه ومن تلاهم بأنّه كان يختار ماذا يقرأ، ويعرف كيف يقرأ:
تجدُ الكُتْبَ على النقدِ كما
تجدُ الإخوانَ صِدقا وكِذَابا
فَتَخَيَّرْها كما تختاره
وادّخِر في الصَّحْبِ والكُتْبِ اللبابا

كان يقرأ بروح طالب العلم والمعرفة وبتذوق الفنان العاشق وبصيرة الناقد المنصف، ثم يستند إلى حصيلته الفكرية، فيكتب بشعره فنونا لم تخلُ من العظة والاستذكار والإلهام وتدوين التاريخ بشكل قصيدة تُغنّى أو قصة تُروى أو مسرحية تُمثَّل. كان مفكرا وأديبا وشاعرا فنانا يصبو بفنّه إلى الأفضل والأكمل، فارتقى بإبداعه مكانة الأمير «أمير الشعراء». لقد أيقن شوقي أنّ المعرفة بعلم التاريخ أساس بناء ثقافة الأمة، ومَن لا يعي تاريخه لا يستطيع بناء مستقبله:
مَثَلُ القَوْمِ نَسُوا تاريخَهُم
كلقيطٍ عَيَّ في الناس انتسابا
أو كمغلوبٍ على ذاكِرةٍ
يشتكي من صِلةِ الماضي انقِضابا
كما دعا إلى التمسك باللغة العربية الفصحى، فبها تتأكد هوية الأمة وتنال مكانتها الرفيعة بين الأمم:
إنّ للفصحى زِمَامًا ويَدًا
تَجنِب السهلَ وتقتادُ الصِّعابا
لغةُ الذِّكْرِ لِسانُ المُجتَبى
كيفَ تعْيا بالمُنادينَ جوابا
لا يزعم شوقي بأنَّه أول من دعا إلى الاهتمام باللغة والتاريخ، لكنه يذكر أن هذا الاهتمام جاء من قراءته لكتابي «الكامل في اللغة والأدب» للمُبَرّد، و«العِبَر وديوان المبتدأ والخَبَر» الشهير بتاريخ ابن خلدون. 
لغة «الكامل» في استرساله 
و«ابن خلدون» إذا صحَّ وصابا
هكذا كان شوقي يوثق في شعره ما استند إليه من رأي ورؤية، ولكن لماذا اصطفى شوقي كتاب «الكامل»، وكتاب «تاريخ ابن خلدون» دون كلّ ما توافر لديه من كتب الأدب والتاريخ؟ هل بُهِر شوقي بالاثنينِ أم كان يوجه الأجيال لقراءة الكتابين فأبقى لهما في شِعْرِهِ ذِكْرا؟! 
قيل إن ركائز الأدب العربي أربعة دواوين، وما سواها فتَبَعٌ لها وفروع عنها: «الكامل في اللغة والأدب» للمبرّد، و«البيان والتبيين» للجاحظ، و«أدب الكاتب» لابن قتيبة، و«النوادر» لأبي علي القالي. عُني محمد بن يزيد الشهير بالمبرّد (توفي 285هـ) في كتابه بجمع ما رآه أفضل النصوص في الشعر والنثر، وقام بشرح المشكلات اللغوية والنحوية التي تثيرها تلك النصوص. وقال المبرّد في مقدمته للكتاب: 
«هذا كتاب ألفناه يجمع ضروباً من الآداب، ما بين كلام منثور، وشعر مرصوف، ومثل سائر، وموعظة بالغة، واختيار من خطبة شريفة ورسالة بليغة. والنية أن نفسر كل ما وقع في هذا الكتاب من كلام غريب أو معنى مستغلق، وأن نشرح ما يعرض فيه من الإعراب شرحاً شافياً، حتى يكون الكتاب بنفسه مكتفياً، وعن أن يُرجع إلى أحد في تفسيره مستغنياً». 
لم يكن المبرد جامعا للنصوص، بل كان مؤصلا مدرسة أدبية لقواعد أساسية في أدب الكتابة وكتابة الأدب، فاختار نماذجه المنتقاة وقام بشرحها ثم نقدها، ولولا جمعه لها لضاعت صفحات من تراث الأدب العربي وتاريخ الإسلام. ولعل ما أعجب شوقي بكتاب «الكامل»  قول المبرّد: «فزيادة المنطق على الأدب خدعة، وزيادة الأدب على المنطق هجنة». 
أما إعجاب شوقي بابن خلدون (ت 808 هـ) فيأتي من أنّ الأخير قد وضَعَ منهجا جديدا لكتابة التاريخ يقوم أساسا على فحص الرواية والخبر وتحليلهما ومن ثم نقدهما، مع التركيز على ربط الأسباب بالنتائج. لقد بدأ مقدمة كتابه بنقد كثير من الروايات التي ذكرها بعض من المؤرخين في كتبهم، وتناقلها الناس على أنها حقائق تاريخية، فكان أوّل من صحح التاريخ بمنهج علمي دقيق. كان ابن خلدون ينبه القارئ مرارا وتكرارا لعدم الإيمان بالخرافات والأكاذيب التي شاعت بين الناس، وكان سبب شيوعها أنها ذُكِرَت في كتاب. كان يشير إلى ذلك بقوله: «وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة، عريقة في الوهم والغلط، وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة»... «فلا تَثِقَنَّ بما يُلقى إليك من ذلك، وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة يَقَعْ لك تمحيصُها بأحسنِ وجه». ويَعُدُّ ابن خلدون المبالغة في العدد كَذِبا، في حين كانت تلك المبالغة عند مؤرخي عصره ضربا من ضروب البلاغة، كأن يقول: «أعطاه ألف ألف دينار»، فالدينار من ذهب وفيه مائة وستة وثلاثون درهما، حين كان الدرهم من فضة، فإذا كانت الأسرة متوسطة الحال في منتصف المائة الثانية للهجرة تعيش على خمسة وأربعين درهما في الشهر، فإنّ تلك الأعطية أو المكافأة التي حازها شاعر مادح مثلا كانت تعادل ميزانية جيش آنذاك. كما كانت المبالغة في عدد الرجال، وخاصة في الجيوش، مبالغة ممجوجة، وعلى زعم ابن خلدون، فإنّ المدققين لتلك الأحاديث لو تحققوا أكثر من تلك الأرقام لوجدوها كذبا... «فإذا استكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم، واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم، واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم، فلن تجد معشار ما يَعُدّونَه». أعاد ابن خلدون كتابة التاريخ على ضوء معطيات عصره، وحاول جاهدا تنقية التاريخ الإسلامي من الشوائب التي علقت به، وحث القارئ على التمحيص والتدقيق في النصوص التي تناقلتها الكتب، ووضع منهجا علميا لبناء ثقافة الفرد والمجتمع والدولة. ففي مقدمة كتابه، يشرح خطط بناء الدولة: الخلافة والوزارة وديوان المظالم والقضاء والحسبة وديوان الجند والشرطة والبريد. كما يضع التوصيف الوظيفي لكل القائمين على تلك المؤسسات، حقوقهم وواجباتهم، ويورد أمثلة على الفساد الإداري في تلك المؤسسات، كيف يتفشى وسُبل العلاج. ونراه يناقش الفكر المجتمعي، داحضا البدع والخرافات التي سادت بين أفراد المجتمع باسم الدين. ويشرح في مقدمته أيضا كيف نشأت مدرسة النَقْل ومدرسة العقل في التاريخ الإسلامي، وفصَّل مزايا ومثالب المدرستين. هنا نقف على مقاصد ابن خلدون في طرح مثل هذا الموضوع، فمدرسة النَقْل تعتمد منهج «لا اجتهاد مع وجود النص»، وبذلك تُقدم النص القرآني فالحديث الشريف ثم الاجتهاد بالرأي؛ إجماعا وقياسا، وتؤطر بذلك أمور الدنيا والدين في إطار هذا المنظور، الأمر الذي أثقل القيود على الإبداع وحبس عقل العالم والمتعلم داخل إطار النصّ. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد عُدَّ الإبداع بدعة، وفهم غير المنقول نصًّا كفراً وإلحاداً. ظهرت هذه الإشكالية أول ما ظهرت بين الحنابلة والمعتزلة، وتفاقمت في عهد المأمون العباسي في ما سُمي بقضية «خَلْق القرآن»، فهل القرآن الكريم «أزلي قديم» كما يرى علماء مدرسة النقل، أم هو بزعم علماء الكلام وفلاسفة المسلمين «مخلوق» كسائر خلق الله؟ ولا يعنينا الخوض في تلك المسألة، فقد قُتِلت بحثا وتمحيصا، ولكن ما يعنينا حقا هو النتائج التي أدى إليها هذا الجدل حتى أصبح صراعا شقّ كيان الأمة الإسلامية عقديا وفكريا وسياسيا، وربما فاق هذا التصور فغدا كل فريق يتهم الآخر بالكفر والخروج عن الدين، وكل فريقٍ بما لديهم فرحون. لقد استغلت السلطة السياسية آنذاك هذا الصراع لكسب القواعد الشعبية، فكانت ترجح هذا على ذاك حينا، وترجح ذاك على هذا حينا آخر. لم نفهم حتى اليوم ما هي إشكالية مسألة «خلق القرآن»، لأنّ ما بأيدينا من النصوص والمقالات لا يعبر إلا عن رأي طرف واحد وهو «أهل النَقْل»، فما كتبه المعتزلة في هذه المسألة قد أحرقه خصومهم، ولم يبقَ من تراث المعتزلة الفكري إلا القليل، هذا القليل هُرِّبَ ونُقِلَ إلى طبرستان، ثم نُقِل جزء منه إلى اليمن مع قدوم الإمام يحيى بن حمزة مؤسس المذهب الزيدي في اليمن. 
ويذكر ابن خلدون في مقدمته أيضا، أنّ مدرسة توفيقية قامت على آراء أبي الحسن الأشعري، جمعت بين النقل والعقل وتوسطت بينهما. فإذا كانت قاعدة مدرسة العقل المعتزلية من نخبة مثقفي عصرهم، ممن درس أو قرأ الفلسفة وأحاط بأصولها وفروعها، فإنّ قاعدة مدرسة النقل كانت هي السواد الأعظم من الأمة آنذاك، ممن يطلب الخير في الدنيا والنجاة في الآخرة، فيتّبع أسهل السُبُل، سبيل النَقل عن الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) وفَهْمُ السَّلَفِ لذلك النصّ. وعندما انتشر الفِكْرِ الأشعري جذب بأطروحاته الفكرية معظم قواعد المدرستين والمنتمين لهما عقلا ونقلا وإبداعا واتباعا. لقد حوت مدرسة الأشاعرة في إطارها جمعاً من المذاهب الفقهية، وشرحت العقيدة الدينية بوسطية روح الإسلام، وضمت إليها المشارب بحكمة من أجل نصرة الدين. ولا تزال وسطية هذه المدرسة التوفيقية، شامخة بشموخ الأزهر الشريف، الذي أخذ على عاتقه مهمة التنوير الديني والدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ورفع راية الكفاح ضد العدوان على أرض العروبة والإسلام .