نازك الملائكة.. قرارة الموجة اللامتناهية

نازك الملائكة.. قرارة الموجة اللامتناهية
        

          سبب من أسباب اختياري لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الكويت كي يكون طريقي نحو الشهادة الجامعية.. نازك الملائكة.

          كنت أعرف أنها مدرِّسة في ذلك القسم منذ سنوات عدة، بل لعلها كانت آنذاك الأستاذة الجامعية الأكثر شهرة، ليس في قسم اللغة العربية أو كلية الآداب وحسب، بل في الجامعة أو في الجامعات العربية كلها، باعتبارها الشخصية الأهم في أي منهج يمكن أن يدرسه طلاب اللغة العربية عن الشعر الحديث. وكنت أعلم أنها كانت قد انسحبت من المشهد الشعري اليومي منذ تلك السنوات ربما، لكنني لم أكن أعلم أنها استقالت من جامعة الكويت، وودّعت عالم التدريس ، وربما العالم كله ، قبل أن ألج بوابة القسم بقليل.

          كانت مازالت موجودة في الحرم الجامعي باعتبارها زوجة لأحد أهم أساتذة قسم اللغة العربية د.عبد الهادي محبوبة، «فليكن هو بوابتي للتعرف عليها إذن».. قلت لنفسي وأنا أضع المادة التي يدرسها في جدولي لأصير فيما بعد تلميذته المفضلة، وسمّاعته أيضًا، فقد كنت أجلس في الصف الأول لأنقل له ما لم تقوَ أذنه الواهنة والمثقلة بسماعة طبية على التقاطه من أسئلة الطلبة وإجاباتهم أيضًا..، ولكن كل «خدماتي» لم تشفع لي عنده بالموافقة على زيارة زوجته، فقد اعتذر لي بصوته الواهن ورقّته العجيبة قائلاً: «إنها مريضة.. لا تريد زيارة أحد على الإطلاق... لا تلوميها يا ابنتي.. لقد تعبت». ولم يشرح لي ممّا تعبت. لكنها ظلت «مريضة ولا تريد رؤية أحد على الإطلاق» لفترة طويلة.. بل طويلة جدًا بعد ذلك، أي حتى وفاتها مساء العشرين من يونيو من العام 2007 في القاهرة التي اتخذتها مكانًا للإقامة منذ أن تركت الكويت في بداية تسعينيات القرن الماضي.

          لقد كانت نازك الملائكة عرّابة القصيدة العربية الحديثة، بالرغم من كثرة المنازعين لها والمؤيدين لهم، الذين استكثروا عليها كامرأة أن تنفرد بهذا الحدث المزلزل في تاريخ الشعر العربي كله. وكانت على أية حال آخر من بقي من أولئك الكبار الذين تنازعوا ذلك «المجد» الذي لم يتكرر كثيرًا بعد ذلك في سجل إنجازات القصيدة العربية المعاصرة تحديدًا. فقد رحل قبلها بدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري وغيرهم من شعراء كلية المعلمين في بغداد خلال الأربعينيات أولئك الذين أقاموا دنيا الشعر العربي منذ ذلك الوقت ولم يقعدوها حتى الآن، وفقًا لأوزانهم الحرة وقوافيهم العفوية، وملأوا دنيا العرب الثقافية صخبًا ما بين مؤيد ومعارض لثورتهم على عمود الشعر وأوزان الخليل.

          لكن نازك التي اعتبرت نفسها الأحق بالانفراد بمجد الثورة تلك التي أعلنت عنها من خلال نشر قصيدتها «الكوليرا» في العام 1947 قبل أن تعود لتثور عليها ثورة مضادة في العام 1967 عندما أعلنت أنها «على يقين بأن تيار الشعر الحر سيتوقف، وسيرجع الشعراء الى الأوزان»، تألّمت من أولئك الرفاق الذين حاولوا سحب بساط الأقدمية من تحت قدميها. وربما كان غيابها في أحد وجوهه الغامضة، حتى الآن، يعود إلى تلك المحاولات الجاحدة كما كانت تراها في سبيل إقصائها عن «مكتسبات الثورة» التي يبدو أنهم رأوا أنها لا تليق بالنساء! على أن هذا لا ينفي أن نقادًا كثرًا أشاروا إلى أهمية نازك الملائكة الاستثنائية في تعزيز قيمة القصيدة العربية الجديدة، ليس كشاعرة رائدة وحسب، بل  كناقدة وكمنظِّرة لهذه القصيدة أيضًا، وخصوصًا في كتابها المهم جدًا «قضايا الشعر المعاصر»، والذي صار فيما بعد أهم المراجع العربية في بابه.

          وُلدت نازك الملائكة في بغداد عام 1923 لأسرة مثقفة ينتمي لها أكثر من شاعر معروف، وتخرّجت في كلية دار المعلمين عام 1944، ثم سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة اللغة اللاتينية في إحدى جامعاتها، ولم تكتف بتلك اللغة في الدراسة بل أضافت لها دراسة الإنجليزية والفرنسية فصارت تسبح في بحار تلك اللغات بسلاسة أدبية بارعة مكّنتها من دراسة الأدب المقارن والتخصص فيه وعادت إلى بغداد لتدرسه في كلية التربية ببغداد عدة سنوات قبل أن تهاجر إلى بيروت ثم تعود مرة أخرى إلى العراق، ثم إلى الكويت، التي بقيت فيها حتى اعتزلت حياة التدريس والنشر تمهيدًا لاعتزال الحياة كلها. وهو الاعتزال الذي سبقته إرهاصات واضحة بنكوص شاعرة الحداثة عن حداثتها التي ابتكرت صيغتها الشعرية العربية ونظرت لها بمعنى أو آخر.

          لنازك الملائكة العديد من المجموعات الشعرية منها: «عاشقة الليل»، و«شظايا ورماد»، و«قرار الموجة»، و«شجرة القمر»، و«مأساة الحياة» و«أغنية الإنسان»، «يغير ألوانه البحر»، و«للصلاة والثورة»، بالإضافة إلى مجموعة قصصية عنوانها «الشمس التي وراء القمة» صدرت لها في القاهرة قبل عشر سنوات من رحيلها وهي مما نشرته في سنوات متفرقة من قصص قصيرة. أما على الصعيد البحثي والنقدي فقد تركت وراءها العناوين التالية: «قضايا الشعر الحديث»، و«التجزيئية في المجتمع العربي»، و«سيكولوجية الشعر».. والكثير من علامات الاستفهام حول حياة شاعرة عربية استثنائية حرّكت المياه الراكدة في بحر الشعر العربي قبل أن تركد هي نفسها في قرارة الموجة اللامتناهية من القصيدة.

 

سعدية مفرح