دمعة على خد الزمن

دمعة على خد الزمن

بين‭ ‬الستينيات‭ ‬والسبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬انفرجت‭ ‬هدب‭ ‬عيون‭ ‬الكويت‭ ‬على‭ ‬علوم‭ ‬الحداثة‭ ‬وفنونها‭.‬

بيننا،‭ ‬كان‭ ‬شاب‭ ‬تتفجّر‭ ‬منه‭ ‬ينابيع‭ ‬الفنون،‭ ‬مهندس‭ ‬مبدع‭ ‬وليد‭ ‬حضارتين،‭ ‬الشرق‭ ‬الهندية،‭ ‬حيث‭ ‬إقامة‭ ‬والده‭ ‬وأعمامه،‭ ‬ثم‭ ‬الغرب‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬بريطانيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬حيث‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬المتحضّر‭.‬

أسس‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬حينها‭ ‬داراً‭ ‬صغيرةً‭ ‬للفنون‭ ‬تحت‭ ‬مسمّى‭ ‬‮«‬غاليري‭ ‬سلطان‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬أعجب‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬الفنون‭ ‬العربية،‭ ‬وكذلك‭ ‬الفنانين‭ ‬العرب‭ ‬وانتقاء‭ ‬إبداعاتهم‭ ‬وجذبها‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الكويت‭ ‬الضيق‭.‬

هناك‭ ‬كنت‭ ‬أحضر‭ ‬أحد‭ ‬معارضه،‭ ‬وكانت‭ ‬المفاجأة‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬استحضار‭ ‬المشاهير‭ ‬حينها‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬العرب،‭ ‬وكان‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬اقتناء‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬اقتناؤه‭ -‬‭ ‬حسب‭ ‬إمكاناتنا‭ ‬المادية‭ ‬المحدودة‭ - ‬ولأنني‭ ‬كنت‭ ‬ومازلت‭ ‬دمشقية‭ ‬الهوى،‭ ‬وقفتُ‭ ‬أمام‭ ‬لوحة‭ ‬للفنان‭ ‬الكبير‭ ‬غياث‭ ‬الأخرس‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬الليثوغراف‭ ‬تحت‭ ‬رقم‭ ‬2‭ ‬من‭ ‬12‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬دمشق‮»‬‭. ‬وما‭ ‬اخترتها‭ ‬لمجرد‭ ‬المسمّى،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬لكونها‭ ‬‮«‬ليثوغراف‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬مقبولة‭ ‬الثمن‭ ‬تستطيع‭ ‬واحدة‭ ‬مثلي‭ ‬شراءها‭ ‬بخُمس‭ ‬راتبها‭ ‬الشهري‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬أي‭ ‬ثمانية‭ ‬عشر‭ ‬ديناراً‭.‬

مازالت‭ ‬اللوحة‭ ‬عندي‭ ‬تسعدني‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬وتختتم‭ ‬سعادتي‭ ‬بدمعة‭ ‬تذكّرني‭ ‬بالمرحومة‭ ‬‮«‬سعاد‭ ‬محمد‮»‬‭ ‬وأغنيتها‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬دمعة‭ ‬على‭ ‬خد‭ ‬الزمن‭ ‬ودمعة‭ ‬على‭ ‬خدي‮»‬،‭ ‬ومازالت‭ ‬دمشق‭ ‬تتربّع‭ ‬في‭ ‬خاطري‭.‬

لقد‭ ‬بدأت‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬بمعية‭ ‬كل‭ ‬عربي‭ ‬تجري‭ ‬دماء‭ ‬العروبة‭ ‬في‭ ‬شرايينه‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬ومنذ‭ ‬بدء‭ ‬الزحف‭ ‬الشيطاني‭ ‬الأسود‭ ‬على‭ ‬جبين‭ ‬جميلة‭ ‬الجميلات،‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬حجب‭ ‬جمالها‭ ‬عني،‭ ‬لكنه‭ ‬مازال‭ ‬يفشل‭.‬

أما‭ ‬موضوع‭ ‬الصورة،‭ ‬فإنني‭ ‬أحتاج‭ ‬لخيال‭ ‬القارئ‭ ‬هنا‭ ‬حتى‭ ‬يتصوّرها‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الحسّ‭ ‬الوطني‭ ‬العروبي‭ ‬النظيف‭.‬

إنها‭ ‬بساطٌ‭ ‬يحاول‭ ‬الطيران،‭ ‬فتحرقه‭ ‬الشمس‭ ‬من‭ ‬منتصفه‭ ‬وتأتي‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬طرفيه‭ ‬الأيمن‭ ‬والأيسر،‭ ‬لتتآكل‭ ‬الخيوط‭ ‬التي‭ ‬نُسج‭ ‬منها‭ ‬ذاك‭ ‬البساط،‭ ‬ما‭ ‬يعرّض‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬الجميلة‭ ‬إلى‭ ‬الذوبان‭... ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الشيطان‭.‬

آه‭ ‬يا‭ ‬دمشق‭... ‬يا‭ ‬وطن‭ ‬الجمال‭ .