«كتاب ولاية العهد» تقليد فريد في العهد الأموي المتأخر

«كتاب ولاية العهد» تقليد فريد  في العهد الأموي المتأخر

هو‭ ‬أحد‭ ‬أربعة‭ ‬تقلدوا‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الأموي‭ ‬لسبع‭ ‬سنوات‭ ‬قبل‭ ‬سقوطه،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يتعد‭ ‬الشهور‭ ‬في‭ ‬منصبه‭. ‬ثلاثة‭ ‬لاقوا‭ ‬حتفهم‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬والأخير‭ ‬هزم‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬‮«‬الزاب‮»‬‭ (‬123هـ‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬أعقابها‭ ‬قتل‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ومعه‭ ‬كانت‭ ‬النهاية‭ ‬المرتقبة‭ ‬لدولة‭ ‬شكّلت‭ ‬تحالفاتها‭ ‬القبلية‭ ‬أحد‭ ‬عناصر‭ ‬استقرارها،‭ ‬كما‭ ‬أبرز‭ ‬عوامل‭ ‬انهيارها‭.‬

لم‭ ‬يكن،‭ ‬النظام‭ ‬الوراثي‭ ‬أقل‭ ‬خطورة‭ ‬في‭ ‬انعكاساته‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬الخلافة،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬ملك‮»‬‭ ‬أخلّ‭ ‬بالمعادلة‭ ‬السائدة،‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الراشدي‭. ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬بني‭ ‬مروان‭ ‬الذين‭ ‬تداولوا‭ ‬السلطة‭ ‬جلّ‭ ‬سني‭ ‬الحكم‭ ‬الأموي،‭ ‬ابتدعوا‭ ‬صيغة‭ ‬كانت‭ ‬عبئا‭ ‬عليهم‭ ‬نتيجة‭ ‬التنافس‭ ‬بين‭ ‬الإخوة،‭ ‬وذلك‭ ‬بتسميتهم‭ ‬اثنين‭ ‬لولاية‭ ‬العهد،‭ ‬فلا‭ ‬يكاد‭ ‬الأول‭ ‬يتبوأ‭ ‬الخلافة،‭ ‬حتى‭ ‬يخطط‭ ‬لاستبعاد‭ ‬الثاني‭ ‬وإحلال‭  ‬ابنه‭ ‬مكانه‭. ‬ولم‭ ‬يخرق‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة،‭ ‬سوى‭ ‬بيعة‭ ‬سليمان‭ ‬بن‭ ‬عبدالملك‭ ‬لابن‭ ‬عمه‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬دابق،‭ ‬يتابع‭ ‬أخبار‭ ‬حملته‭ ‬على‭ ‬القسطنطينية،‭ ‬وابنه‭ ‬الوريث،‭ ‬وهو‭ ‬بين‭ ‬قادتها،‭ ‬بعيد‭ ‬عنه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إغفال‭ ‬دور‭ ‬الفقيه‭ ‬رجاء‭ ‬بن‭ ‬حيوة‭ ‬المقرب‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬عليه،‭ ‬وسوى‭ ‬انقلاب‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬محمد،‭ ‬منصّبًا‭ ‬نفسه‭ ‬خليفة‭ ‬بدعم‭ ‬من‭ ‬القبائل‭ ‬القيسية‭.‬

وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭  ‬سارت‭ ‬الخلافة‭ ‬المروانية‭ ‬في‭ ‬تداول‭ ‬السلطة،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬آلت‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬هشام‭ ‬بن‭ ‬عبدالملك،‭ ‬بدا‭ ‬أن‭ ‬متغيرات‭ ‬ستأخذ‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬منعطف‭ ‬خطر‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬عهده،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬محاولاته‭ ‬الحثيثة‭ ‬للخروج‭ ‬منه،‭ ‬فقد‭ ‬تمتع‭ ‬هذا‭ ‬الخليفة‭ ‬بكفاءة‭ ‬عالية‭ ‬وشخصية‭ ‬قوية،‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬فهو‭ ‬أحد‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬الكبار،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬معاوية‭ ‬وعبدالملك‭ ‬والوليد،‭ ‬امتدت‭ ‬فترات‭ ‬حكمهم‭ ‬إلى‭ ‬سبعين‭ ‬عامًا،‭ ‬بينما‭ ‬العشرة‭ ‬الآخرون‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حظهم‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬ما‭ ‬يتعدى،‭ ‬إلا‭ ‬قليلا،‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬الأعوام‭. ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬يعنينا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬من‭ ‬قصدناه‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬أي‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬يزيد‭ ‬بن‭ ‬عبدالملك،‭ ‬أول‭ ‬الأحفاد‭ ‬من‭ ‬خلفاء‭ ‬الأسرة‭ ‬المروانية،‭ ‬وكان‭ ‬هشام‭ ‬لا‭ ‬ينفكّ‭ ‬دءوبا‭ ‬على‭ ‬التشهير‭ ‬به،‭ ‬والترويج‭ ‬لمثالبه،‭ ‬بغية‭ ‬استبعاده‭ ‬عن‭ ‬ولاية‭ ‬العهد،‭ ‬ولكن‭ ‬محاولاته‭ ‬لم‭ ‬تفلح‭ ‬حين‭ ‬تضافر‭ ‬القيسيون‭ ‬لدعم‭ ‬الوليد،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬لليمنيين‭ ‬تلك‭ ‬السطوة‭ ‬التي‭ ‬اعتادوها‭ ‬في‭ ‬العهود‭ ‬السالفة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬هشامًا‭ ‬كان‭ ‬ميالا‭ ‬بصورة‭ ‬ما‭ ‬إلى‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬سياساته‭ ‬القبلية،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تهتز‭ ‬علاقته‭ ‬مع‭ ‬الاتجاه‭ ‬اليمني‭.‬

 

كتاب‭ ‬غير‭ ‬مألوف

بيد‭ ‬أن‭ ‬الوليد‭ ‬حالفه‭ ‬سوء‭ ‬الحظ،‭ ‬فقد‭ ‬تولى‭ ‬منصبه‭ (‬125هـ‭) ‬بعد‭ ‬خليفة‭ ‬قوي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬حجمه،‭ ‬وربما‭ ‬أُسقط‭ ‬عليه‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬سلوك‭ ‬أبيه،‭ ‬بل‭ ‬فاقه‭ ‬في‭ ‬مجونه،‭ ‬وفقا‭ ‬للروايات‭ ‬التاريخية‭.‬

وليس‭ ‬على‭ ‬المؤرخ‭ ‬الدخول‭ ‬طرفا‭ ‬في‭ ‬المنافحة‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬ما،‭ ‬أو‭ ‬التعريض‭ ‬بها،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أساسًا‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬بالمنطق،‭ ‬الحدث،‭ ‬فلا‭ ‬ينقاد‭ ‬إليه‭ ‬أو‭ ‬يستعيد‭ ‬بشوائبه‭ ‬ومغالطاته‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬سردية‭ ‬عقيمة‭. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬غير‭ ‬معني‭ ‬هنا‭ ‬بصورة‭ ‬الوليد،‭ ‬مشوهة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يهمني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬الخاص‭ ‬بولاية‭ ‬العهد‭ ‬المنسوب‭ ‬إليه،‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬موقعه‭ ‬مكانا‭ ‬وزمانا،‭ ‬وغير‭ ‬مألوف‭ ‬في‭ ‬التقاليد‭ ‬الأموية‭ ‬بصدد‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭.‬

ومن‭ ‬غير‭ ‬المألوف‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬أدبيات‭ ‬الخلافة،‭ ‬أن‭ ‬يتوجه‭ ‬والٍ‭ ‬بتهنئة‭ ‬الخليفة،‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬ينوّه‭ ‬بالأخير‭ ‬ويشيد‭ ‬بخلاله،‭ ‬كذلك‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ (‬آخر‭ ‬الخلفاء‭ ‬لاحقا‭) ‬إلى‭ ‬الوليد‭ ‬مهنئا‭ ‬بالبيعة‭ ‬له‭. ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬بارك‭ ‬الله‭ ‬لأمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أصاره‭ (‬صار‭) ‬إليه‭ ‬من‭ ‬ولاية‭ ‬عباده،‭ ‬ووراثة‭ ‬بلاده‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬تغشّى‭ ‬غمرة‭ ‬سكرة‭ ‬الولاية،‭ ‬ما‭ ‬حمل‭ ‬هشامًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حاول‭ ‬من‭ ‬تصغير‭ ‬ما‭ ‬عظّم‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬ورام‭ ‬من‭ ‬الأمر‭ ‬المستصعب‭ ‬عليه،‭ ‬الذي‭ ‬أجابه‭ ‬إليه‭ ‬المدخولون‭ (‬من‭ ‬دخل‭ ‬عقله‭ ‬الفساد‭) ‬في‭ ‬آرائهم‭ ‬وأديانهم،‭ ‬فوجد‭ ‬ما‭ ‬طمع‭ ‬فيه‭ ‬مستصعبًا،‭ ‬وزاحمته‭ ‬الأقدار‭ ‬بأشد‭ ‬مناكبها‭. ‬وكان‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬بمكان‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬حاطه‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬أزّره‭ ‬بأكرم‭ ‬مناطق‭ ‬الخلافة،‭ ‬فقام‭ ‬بما‭ ‬أراه‭ ‬الله‭ ‬له‭ ‬أهلا‮»‬‭. ‬ويضيف‭ ‬أخيرًا‭: ‬‮«‬وقد‭ ‬بسطت‭ ‬يدي‭ ‬لبيعتك،‭ ‬فجددتها‭ ‬ووكدتها‭ ‬بوثائق‭ ‬العهود‭ ‬وترداد‭ ‬المواثيق‭ ‬وتغليظ‭ ‬الأيمان‭. ‬فكلهم‭ ‬حسنت‭ ‬إجابتهم،‭ ‬فأثبهم‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬آتاك،‭ ‬فإنك‭ ‬أجودهم‭ ‬وأبسطهم‭ ‬يدا‭..‬‮»‬‭ (‬الطبري‭ ‬ج7‭ ‬ص216‭ - ‬217‭).‬

 

تعاطف‭ ‬وبيعة

وبصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الصياغة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الكتب،‭ ‬أو‭ ‬الخطب،‭ ‬أو‭ ‬المراسلات،‭ ‬وما‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬شكوك،‭ ‬لبعد‭ ‬الزمن‭ ‬عن‭ ‬أصحابها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬المصنفين‭ ‬في‭ ‬تدبيجها،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يلفتنا‭ ‬هو‭ ‬الموقف‭ ‬المتعاطف‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬مروان‭ ‬مع‭ ‬الخليفة‭ ‬الجديد،‭ ‬والمسارعة‭ ‬إلى‭ ‬بيعته،‭ ‬منددًا‭ ‬بمحاولة‭ ‬هشام‭ ‬لتصغير‭ ‬شأن‭ ‬الوليد‭ ‬وعدم‭ ‬أهليته‭ ‬للخلافة،‭ ‬بما‭ ‬يتيح‭ ‬له‭ ‬تجريده‭ ‬من‭ ‬ولاية‭ ‬العهد‭. ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬كان‭ ‬مروان‭ ‬مسهبا‭ ‬في‭ ‬تقريض‭ ‬الوليد،‭ ‬ليس‭ ‬إعجابًا‭ ‬به،‭ ‬ولكنه‭ ‬رأى‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يمهد‭ ‬له‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الحكم،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬الاثنين‭ ‬يجمعهما‭ ‬التحزّب‭ ‬للاتجاه‭ ‬القيسي‭.‬

وكأن‭ ‬مروانا،‭ ‬وهو‭ ‬حفيد‭ ‬مروان‭ ‬الأول،‭ ‬مؤسس‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬أسرته،‭ ‬قد‭ ‬أوحى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬بوجوب‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لموقع‭ ‬الخلافة،‭ ‬وترسيخ‭ ‬التقاليد‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انسيابية،‭ ‬لم‭ ‬يعكرها‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬ولاية‭ ‬العهد،‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬هشام‭ ‬الذي‭ ‬شن‭ ‬حملة‭ ‬شرسة‭ ‬على‭ ‬الوليد‭. ‬ومن‭ ‬الراجح‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تَخْلُ‭ ‬من‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬مماثلة‭ ‬في‭ ‬جبهة‭ ‬الوليد‭ ‬القيسية،‭ ‬إلى‭ ‬نخب‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬المتعاطفين‭ ‬معه،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬موضوع‭ ‬الخلافة،‭ ‬وذلك‭ ‬بتحصينها‭ ‬مما‭ ‬يمس‭ ‬ثوابت‭ ‬النظام‭. ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬تبقى‭ ‬ولاية‭ ‬العهد‭ ‬أسيرة‭ ‬أمزجة‭ ‬الخلفاء،‭ ‬بادر‭ ‬الوليد‭ ‬مستعينا‭ ‬بفقهائه،‭ ‬إلى‭ ‬صياغة‭ ‬نظرية‭ ‬بشأنها،‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الطاعة‭ ‬لأمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬الحاكم‭ ‬بإرادة‭ ‬الله‭ ‬ومشيئته،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يكسب‭ ‬الخلافة‭ ‬قدسية‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬سالف‭ ‬الأحقاب‭ ‬الأموية‭. ‬وقد‭ ‬تزامنت‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الوثيقة‮»‬‭ ‬مع‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬البيعة‭ ‬لابني‭ ‬الوليد‭ (‬الحَكَم‭ ‬وعثمان‭) ‬بولاية‭ ‬العهد،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كانت‭ ‬الخلافة‭ ‬تعاني‭ ‬أزمات‭ ‬حادة‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬فإن‭ ‬الإسراع‭ ‬في‭ ‬تعميمها‭ ‬على‭ ‬الأمصار،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬يرمي‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬تأهيل‭ ‬المعادلة،‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬ذروتها‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬هذه‭ ‬المحاولة،‭ ‬حينذاك،‭ ‬ضربًا‭ ‬من‭ ‬المحال‭.‬

 

الطبري‭ ‬ينفرد

هذه‭ ‬‮«‬الوثيقة‮»‬‭ ‬انفرد‭ ‬بتصنيفها‭ ‬الطبري،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬ترد‭ ‬في‭ ‬‮«‬كامل‮»‬‭ ‬ابن‭ ‬الأثير‭ ‬الذي‭ ‬اقتبس‭ ‬غالب‭ ‬رواياته‭ ‬عنه‭. ‬وثمة‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬أن‭ ‬شيخ‭ ‬المؤرخين،‭ ‬خلافا‭ ‬لطريقته‭ ‬في‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬الأسانيد،‭ ‬يكاد‭ ‬يغفلها‭ ‬عن‭ ‬الوثيقة،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬عابرة،‭ ‬مثل‭ ‬قوله‭: ‬حدثني‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬زهير‭.. ‬وقد‭ ‬يكتفي‭ ‬لصفحات‭ ‬عدة‭ ‬بذكر‭ ‬الاسم‭ ‬الأول‭ (‬أحمد‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬الوليد،‭ ‬فقد‭ ‬أخذ‭ ‬الطبري‭ ‬معظم‭ ‬أخباره‭ ‬عنه،‭ ‬كما‭ ‬رجع‭ ‬إليه‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬ولاية‭ ‬العهد‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬الخليفة‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬عينها‭ ‬لولايته‭ (‬125هـ‭)‬،‭ ‬عاقدا‭ ‬البيعة‭ ‬لابنيه‭ ‬السالفين،‭ ‬واحدا‭ ‬بعد‭ ‬الآخر،‭ ‬ثم‭ ‬أبلغ‭ ‬بذلك‭ ‬الولاة‭ ‬في‭ ‬الأمصار،‭ ‬بدءا‭ ‬بيوسف‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬الثقفي‭ (‬العراق‭)‬،‭ ‬فكتب‭ ‬هذا‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬نصر‭ ‬بن‭ ‬سيار‭ (‬خراسان‭) ‬لنشر‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬ولايته‭: ‬‮«‬من‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬إلى‭ ‬نصر‭ ‬بن‭ ‬سيار،‭ ‬أما‭ ‬بعد‭ ‬فإني‭ ‬بعثت‭ ‬إليك‭ ‬نسخة‭ ‬كتاب‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭. ‬فإذا‭ ‬فرغت‭ ‬فقم‭ ‬بقراءة‭ ‬الكتاب،‭ ‬وائذن‭ ‬لمن‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بخطبة،‭ ‬ثم‭ ‬بايع‭ ‬الناس‭ ‬لهما‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬الله‭ ‬وبركته،‭ ‬وخذ‭ ‬عليهم‭ ‬العهد‭ ‬والميثاق‮»‬‭.‬

وليست‭ ‬مصادفة‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬الخليفة‭ ‬بتعميم‭ ‬وصيته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجهات،‭ ‬حيث‭ ‬مركز‭ ‬الثقل‭ ‬في‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬،‭ ‬عدا‭ ‬أن‭ ‬وجود‭ ‬عاملين‭ ‬بارزين،‭ ‬مارسا‭ ‬الإدارة‭ ‬بكفاءة‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬هشام،‭ ‬وكلاهما‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الاتجاه‭ ‬القيسي،‭ ‬ما‭ ‬يساعده‭ ‬على‭ ‬تثبيت‭ ‬النفوذ‭ ‬الأموي،‭ ‬الآخذ‭ ‬في‭ ‬التصدع‭ ‬حينئذ،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬خراسان‭.‬

 

 

نبرة‭ ‬تفخيمية

لقد‭ ‬صيغ‭ ‬الكتاب‭ - ‬الوصية‭ ‬بأسلوب‭ ‬غير‭ ‬معهود‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الأموية،‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬النبرة‭ ‬التفخيمية،‭ ‬والنمط‭ ‬الترشيدي‭ ‬المباشر،‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬سائغا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬أو‭ ‬معبِّرا‭  ‬عنها‭. ‬ولعل‭ ‬فريقا‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬انكبوا‭ ‬عليه،‭ ‬وتعمدوا‭ ‬إظهاره‭ ‬مفعما‭ ‬بنفَس‭ ‬قرآني،‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬لا‭ ‬يكتنه‭ ‬بُعدها‭ ‬سوى‭ ‬الراسخين‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬العقيدة،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المنهج‭ ‬الانسيابي‭ ‬والمصطلحات‭ ‬الدقيقة‭.‬

كذلك‭ ‬امتاز‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬،‭ ‬بإسهابه‭ ‬إذ‭ ‬بلغ‭ ‬نحوًا‭ ‬من‭ ‬ست‭ ‬صفحات،‭ ‬أحاطت‭ ‬بالموضوع،‭ ‬وفي‭ ‬صميمه‭ ‬ولاية‭ ‬العهد،‭ ‬معززا،‭ ‬بالقرائن‭ ‬والمسوّغات،‭ ‬مما‭ ‬سيرد‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬المناقشة‭ ‬لهذه‭ ‬الوثيقة‭ ‬الفريدة‭:‬

‮«‬أما‭ ‬بعد،‭ ‬فإن‭ ‬الله‭ ‬تباركت‭ ‬أسماؤه،‭ ‬وجل‭ ‬ثناؤه،‭ ‬وتعالى‭ ‬ذكره،‭ ‬اختار‭ ‬الإسلام‭ ‬دينا‭ ‬لنفسه‭ ‬وجعله‭ ‬دين‭ ‬خيرته‭ ‬من‭ ‬خلقه،‭ ‬ثم‭ ‬اصطفى‭ ‬من‭ ‬الملائكة‭ ‬رسلا‭ ‬ومن‭ ‬الناس،‭ ‬فبعثهم‭ ‬به‭ ‬وأمرهم‭ ‬به،‭ ‬وكان‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬مضى‭ ‬من‭ ‬الأمم،‭ ‬وخلا‭ ‬من‭ ‬القرون‭ ‬قرنا‭ ‬فقرنا،‭ ‬يدعون‭ ‬إلى‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أحسن،‭ ‬ويهدون‭ ‬إلى‭ ‬صراط‭ ‬مستقيم،‭ ‬حتى‭ ‬انتهت‭ ‬كرامة‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬نبوته‭ ‬إلى‭ ‬محمد‭ ‬صلوات‭ ‬الله‭ ‬عليه‭.. ‬ثم‭ ‬استخلف‭ ‬خلفاءه‭ ‬على‭ ‬منهاج‭ ‬نبوته‭.. ‬فتتابع‭ ‬خلفاء‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أورثهم‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬أنبيائه‭ ‬واستخلفهم‭ ‬عليه‭ ‬منه،‭ ‬لا‭ ‬يتعرض‭ ‬لحقهم‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬صرعه‭ ‬الله،‭ ‬ولا‭ ‬يفارق‭ ‬جماعتهم‭ ‬أحد،‭ ‬إلا‭ ‬أهلكه‭ ‬الله،‭ ‬ولا‭ ‬يستخف‭ ‬بولايتهم،‭ ‬ويتهم‭ ‬قضاء‭ ‬الله‭ ‬فيهم‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬أمكنهم‭ ‬الله‭ ‬منه‭.. ‬وجعله‭ ‬نكالا‭ ‬وموعظة‭ ‬لغيره،‭ ‬وكذلك‭ ‬صنع‭ ‬الله‭ ‬بمن‭ ‬فارق‭ ‬الطاعة‭ ‬التي‭ ‬أمر‭ ‬بلزومها‭ ‬والأخذ‭ ‬بها‭.. ‬قال‭ ‬الله‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى‭: ‬‭{‬ثُمَّ‭ ‬اسْتَوَى‭ ‬إِلَى‭ ‬السَّمَاء‭ ‬وَهِيَ‭ ‬دُخَانٌ‭ ‬فَقَالَ‭ ‬لَهَا‭ ‬وَلِلْأَرْضِ‭ ‬اِئْتِيَا‭ ‬طَوْعًا‭ ‬أَوْ‭ ‬كَرْهًا‭ ‬قَالَتَا‭ ‬أَتَيْنَا‭ ‬طَائِعِينَ‭}‬‭ (‬11‭) ‬سورة‭ ‬فصلت‭.‬

ولعل،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سلف،‭ ‬تمهيدًا،‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬إسلامي،‭ ‬لتعاقب‭ ‬الأنبياء،‭ ‬إنقاذًا‭ ‬للبشرية‭ ‬من‭ ‬الظلم‭ ‬والفساد،‭ ‬وهديا‭ ‬لها‭ ‬إلى‭ ‬الصراط‭ ‬المستقيم،‭ ‬حتى‭ ‬آل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬محمد‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬في‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام،‭ ‬دينا‭ ‬ونظاما‭ ‬متكاملين،‭ ‬ثم‭ - ‬وهو‭ ‬المراد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التوطئة‭ - ‬‮«‬استخلف‭ ‬خلفاءه‭ ‬على‭ ‬منهاج‭ ‬نبوته‮»‬‭. ‬أما‭ ‬الإشكالية‭ ‬المحورية‭ ‬فتتجلى‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الخلافة،‭ ‬بنيانًا‭ ‬ثابتًا‭ ‬لإقامة‭ ‬سنته‭ (‬الرسول‭)‬،‭ ‬والعدل‭ ‬في‭ ‬العباد،‭ ‬والإصلاح‭ ‬في‭ ‬البلاد‮»‬‭.‬

ليس‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن،‭ ‬سوى‭ ‬تنظير‭ ‬للخلافة،‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬الرسول‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬والتي‭ ‬سار‭ ‬فيها‭ ‬شوطا‭ ‬الخلفاء‭ ‬الراشدون‭. ‬فهي‭ ‬الصورة‭ ‬المثالية،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ،‭ ‬لمنظومة‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تطبيقها‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬لا‭ ‬يتّسم‭ ‬بالواقعية،‭ ‬ولا‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬القول‭ ‬عن‭ ‬تتابع‭ ‬خلفاء‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أورثهم‭ ‬الله‭ ‬عليه‭. ‬ولم‭ ‬يدّع‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬السلف‭ ‬بأنه‭ ‬خليفة‭ ‬الله،‭ ‬سوى‭ ‬أبي‭ ‬جعفر‭ ‬المنصور،‭ ‬ومن‭ ‬قبل‭ ‬اكتفى‭ ‬أبوبكر‭ ‬بلقب‭ ‬خليفة‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬ثم‭ ‬اختار‭ ‬عمر‭ ‬أن‭ ‬يُسمى‭ ‬بأمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬الذي‭ ‬عُرف‭ ‬به‭ ‬أيضا‭ ‬عثمان،‭ ‬امتدادا‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬الخلفاء،‭ ‬مع‭ ‬غلبة‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬الإمام‮»‬‭ ‬على‭ ‬الخليفة‭ ‬الراشدي‭ ‬الرابع‭ (‬علي‭).‬

 

السلطة‭ ‬والطاعة

وكان‭ ‬الوليد‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬الخلافة‭ ‬تقاذفتها‭ ‬الأهواء‭ ‬وضعضعتها‭ ‬الصراعات،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬محصّنة‭ ‬من‭ ‬النقد،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬حلفائها‭ ‬التقليديين‭. ‬وفي‭ ‬ضوء‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬التشديد‭ ‬على‭ ‬‮«‬الطاعة‮»‬،‭ ‬فرضا‭ ‬من‭ ‬الله،‭ ‬ووجوبًا‭ ‬بالالتزام‭ ‬بها،‭ ‬إذ‭ ‬عليها‭ ‬تستقيم‭ ‬أمور‭ ‬السلطة،‭ ‬وعلى‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬دونها‭ ‬تتهاوى‭ ‬وتؤول‭ ‬إلى‭ ‬السقوط‭. ‬وقد‭ ‬أعطى‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬حيزا‭ ‬واسعا‭ ‬لهذه‭ ‬المسألة،‭ ‬لكونها‭ ‬مرتبطة‭ ‬عضويا‭ ‬بالخلافة،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬النص‭: ‬‮«‬فبالخلافة‭ ‬أبقى‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬أبقى‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬عباده،‭ ‬وإليها‭ ‬صيّره،‭ ‬وبطاعة‭ ‬من‭ ‬ولاه‭ ‬إياها‭ ‬سعد‭ ‬من‭ ‬ألهمها‭ ‬ونصرها،‭ ‬فإن‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬علم‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬قوام‭ ‬لشيء،‭ ‬ولا‭ ‬صلاح‭ ‬له،‭ ‬إلا‭ ‬بالطاعة‭ ‬التي‭ ‬يحفظ‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬حقه‭ ‬ويمضي‭ ‬بما‭ ‬أمره‭. ‬فمن‭ ‬أخذ‭ ‬بحظه‭ ‬منها‭ ‬كان‭ ‬لله‭ ‬وليا،‭ ‬ولأمره‭ ‬مطيعا،‭ ‬ولرشيده‭ ‬مصيبا،‭ ‬ومن‭ ‬رغب‭ ‬عنها‭ ‬أضاع‭ ‬نصيبه‭ ‬وعصى‭ ‬ربه‭ ‬وخسر‭ ‬دنياه‭ ‬وآخرته‮»‬‭.‬

ولا‭ ‬ينفك‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬يشج‭ ‬عضويا،‭ ‬بين‭ ‬الخلافة‭ ‬والطاعة،‭ ‬لتصبح‭ ‬الأخيرة‭ ‬آلة‭ ‬الأولى‭ ‬وأسّ‭ ‬وجودها‭ ‬وضمانة‭ ‬استقرارها‭. ‬ولطالما‭ ‬تكررت‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬ثناياه،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭: ‬‮«‬الطاعة‭ ‬رأس‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬وذروته‭ ‬وسنامه‭ ‬وملاكه‭ ‬وزمامه‭. ‬وبالطاعة‭ ‬نال‭ ‬المفلحون‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬منازلهم‭ ‬واستوجبوا‭ ‬عليه‭ ‬ثوابهم،‭ ‬وفي‭ ‬المعصية‭ ‬ما‭ ‬يحل‭ ‬بغيرهم‭ ‬نقماته‭ ‬ويصيبهم‭ ‬عليه،‭ ‬ويحق‭ (‬ينزل‭) ‬من‭ ‬سخطه‭ ‬وعذابه،‭ ‬ويترك‭ ‬الطاعة‭  ‬والإضاعة‭ ‬لها‭ ‬بالخروج‭ ‬منها‭ ‬والإدبار‭ ‬عنها‭ ‬والتبذل‭ ‬بها،‭ ‬أهلك‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬ضل‭ ‬وعتا‭ ‬وعمى‭ ‬وغلا‭ ‬وفارق‭ ‬مناهج‭ ‬البر‭ ‬والتقوى‮»‬‭.‬

وترتفع‭ ‬نبرة‭ ‬التشديد‭ ‬على‭ ‬الطاعة‭ ‬من‭ ‬التوجيه،‭ ‬إلى‭ ‬الأمر،‭ ‬والتحذير‭ ‬من‭ ‬عواقب‭ ‬خرقها،‭ ‬لأن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تهديدًا‭ ‬للأمة،‭ ‬مقترنًا‭ ‬بمعصية‭ ‬الله،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬من‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭: ‬‮«‬فالزموا‭ ‬طاعة‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬عراكم‭ ‬ونالكم‭ ‬وألمّ‭ ‬بكم‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬وناصحوها‭ ‬واستوثقوا‭ ‬عليها،‭ ‬وسارعوا‭ ‬إليها‭ ‬وخالصوها،‭ ‬وابتغوا‭ ‬القربة‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬بها،‭ ‬فإنكم‭ ‬قد‭ ‬رأيتم‭ ‬مواقع‭ ‬الله‭ ‬لأهلها‭ ‬في‭ ‬إعلائه‭ ‬إياهم‭.. ‬ودفع‭ ‬باطل‭ ‬من‭ ‬حادهم‭ ‬وناوأهم‭ ‬وساماهم،‭ ‬وأراد‭ ‬إطفاء‭ ‬نور‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬معهم‮»‬‭. ‬هذا‭ ‬بالنسبة‭ ‬للطائعين،‭ ‬أما‭ ‬المخالفون‭ (‬أهل‭ ‬المعصية‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬ضرب‭ ‬بهم‭ ‬الله‭ ‬مثلا‭ ‬حين‭ ‬آل‭ ‬‮«‬أمرهم‭ ‬إلى‭ ‬تبار‭ ‬وصَغَار‭ ‬وذلة‭ ‬وبوار‮»‬‭.‬

وهكذا،‭ ‬فبالطاعة‭ ‬هدى‭ ‬الله‭ ‬الأمة‭ ‬إلى‭ ‬الأفضل،‭ ‬فتنعم‭ ‬حينئذ‭ ‬بالوحدة‭ ‬والاستقرار‭ ‬والرخاء‭ ‬والعدل‭ ‬وحقن‭ ‬الدماء‭. ‬يريد‭ ‬بذلك‭ ‬صاحب‭ ‬الكتاب‭ ‬أو‭ ‬محرره،‭ ‬تكريس‭ ‬الخلافة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬هي‭ ‬خلافة‭ ‬الله،‭ ‬و«العهد‭ ‬الذي‭ ‬ألهم‭ ‬الله‭ - ‬والقول‭ ‬له‭ - ‬خلفاءه‭ ‬توكيده‭ ‬والنظر‭ ‬للمسلمين‭ ‬في‭ ‬جسيم‭ ‬أمرهم‭ ‬ليكون‭ ‬لهم‭ ‬عندما‭ ‬يحدث‭ ‬بخلفائهم‭ ‬ثقة‭ ‬في‭ ‬المفزع‭ ‬وملتجئا‭ ‬في‭ ‬الأمر‭.. ‬وتثبيتا‭ ‬لأرجاء‭ ‬الإسلام‮»‬‭. ‬وثمة‭ ‬ما‭ ‬يؤخذ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬ليس‭ ‬تكرار‭ ‬مفردة‭ ‬الطاعة‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬توتر‭ ‬الأفكار‭ ‬عينها‭ ‬في‭ ‬محاسن‭ ‬الطاعة‭ ‬ومساوئ‭ ‬المعصية‭. ‬فالمطيعون‭ ‬هم‭ ‬جماعة‭ ‬الله،‭ ‬والعاصون‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يريهم‭ ‬ربهم‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ساءهم‮»‬‭ ‬وفاقًا‭ ‬لما‭ ‬ورد‭ ‬فيه‭. ‬وما‭ ‬يلفت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تدرّج‭ ‬الأفكار‭ ‬من‭ ‬أطروحة‭ ‬الخلافة،‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬شأن‭ ‬إسلامي‭ ‬عام،‭ ‬إلى‭ ‬نمط‭ ‬آخر‭ ‬يجري‭ ‬إلباسه‭ ‬أفكارا‭ ‬مفتعلة‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬الأولى،‭ ‬لإكسابه‭ ‬شرعية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬متناوله‭ ‬حينذاك‭. ‬وليست‭ ‬مصادفة‭ ‬إثارة‭ ‬هذه‭ ‬المسألة،‭ ‬بالتزامن‭ ‬مع‭ ‬إعلان‭ ‬ولاية‭ ‬العهد،‭ ‬مدخلا‭ ‬إلى‭ ‬تظهير‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬الإلهي،‭ ‬ما‭ ‬يستدعي‭ ‬الرضوخ‭ ‬المعبَّر‭ ‬عنه‭ ‬بالطاعة‭ ‬الملزمة‭.‬

 

ترويج‭ ‬مبالغ‭ ‬به

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬كان‭ ‬الترويج‭ ‬المبالغ‭ ‬فيه‭ ‬للخلافة،‭ ‬بما‭ ‬يوائم‭ ‬تلك‭ ‬الهالة‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬المناسبة،‭ ‬وهي‭ ‬حينئذ‭ ‬في‭ ‬أمسّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تحسين‭ ‬صورتها‭ ‬أمام‭ ‬الرعية‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬جاء‭ ‬الكتاب،‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬الخليفة،‭ ‬بمنزلة‭ ‬رسالة‭ ‬تحذير‭ ‬إلى‭ ‬الرعية‭ ‬المنقسمة،‭ ‬وبعضها‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬التمرد،‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬التوكيد‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الطاعة‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬محور‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭. ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬رأت‭ - ‬أي‭ ‬النخبة‭ - ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬العهد،‭ ‬سبيلا‭ ‬إلى‭ ‬تدارك‭ ‬الأخطار‭ ‬قبل‭ ‬وقوعها،‭ ‬ما‭ ‬يتطابق‭ ‬مع‭ ‬القول‭ ‬الآتي‭: ‬‮«‬فأمر‭ ‬هذا‭ ‬العهد‭ ‬من‭ ‬تمام‭ ‬الإسلام،‭ ‬وكمال‭ ‬ما‭ ‬استوجب‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬أهله‭ ‬من‭ ‬المنن‭ ‬العظام،‭ ‬ومما‭ ‬جعل‭ ‬الله‭ ‬فيه‭ ‬لمن‭ ‬أجراه‭ ‬على‭ ‬يديه،‭ ‬وقضى‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬لسانه،‭ ‬ووفّقه‭ ‬لمن‭ ‬ولاّه‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬عنده‭ ‬أفضل‭ ‬الذخر،‭ ‬وعند‭ ‬المسلمين‭ ‬أحسن‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يؤثر‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬منفعته‭.. ‬ويستندون‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬عزه‭.. ‬ويحرزهم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مهلكة،‭ ‬ويجمعهم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬فرقة،‭ ‬ويقمع‭ ‬به‭ ‬أهل‭ ‬النفاق‭ ‬ويعصمهم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬اختلاف‭ ‬وشقاق‮»‬‭.‬

ومما‭ ‬يلحظ‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬،‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬فلا‭ ‬تكاد‭ ‬عبارة‭ ‬تخلو‭ ‬منه،‭ ‬وكأنه‭ ‬الراعي‭ ‬لهذا‭ ‬‮«‬العهد‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬أمره‭ ‬‮«‬من‭ ‬تمام‭ ‬الإسلام‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬سبقت‭ ‬الإشارة،‭ ‬والخليفة‭ - ‬وفق‭ ‬الرواية‭ - ‬إنما‭ ‬أقدم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البيعة،‭ ‬بوحي‭ ‬من‭ ‬الله‭: ‬‮«‬ثم‭ ‬إن‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬منذ‭ ‬استخلفه‭ ‬الله‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭ ‬أشد‭ ‬اهتمامًا‭ ‬وعناية‭ ‬بهذا‭ ‬العهد،‭ ‬لعلمه‭ ‬بمنزلته‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬المسلمين،‭ ‬وما‭ ‬أراهم‭ ‬الله‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬يغتبطون‭ ‬بها‮»‬‭.‬

وبهذه‭ ‬الرؤية‭ ‬الذائبة‭ ‬في‭ ‬الله،‭ ‬‮«‬رأى‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ - ‬والقول‭ ‬موجه‭ ‬إلى‭ ‬الرعية‭ - ‬أن‭ ‬يعهد‭ ‬لكم‭ ‬عهدا‭ ‬بعد‭ ‬عهد‭ (‬المقصود‭ ‬هنا‭ ‬البيعة‭ ‬للحكم‭ ‬ثم‭ ‬لعثمان‭) ‬تكونون‭ ‬فيه‭ ‬مثل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬قبلكم،‭ ‬في‭ ‬مهلة‭ ‬من‭ ‬انفساح‭ ‬الأمل‭ ‬وطمأنينة‭ ‬النفس‭ ‬وصلاح‭ ‬ذات‭ ‬البين‭.. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬الله‭ ‬لأهله‭ ‬عصمة‭ ‬ونجاة‭ ‬وصلاحا‭ ‬وحياة،‭ ‬ولكل‭ ‬منافق‭ ‬وفاسق‭ ‬يحب‭ ‬تلف‭ ‬هذا‭ ‬الدين‭ ‬وفساد‭ ‬أهله،‭ ‬وقْما‭ ‬وخسارًا‭ ‬وقَدْعًا‮»‬‭.‬

وينتهي‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬بدعاء‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬وتضرعه،‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ ‬عاقبته‭ ‬عافية‭ ‬وسرورًا‭ ‬وغبطة‭. ‬ثم‭ ‬تعقب‭ ‬ذلك‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬محرر‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ (‬سمال‭)‬،‭ ‬مؤرخًا‭ ‬يوم‭ ‬الثلاثاء‭ ‬لثمان‭ ‬بقينَ‭ ‬من‭ ‬رجب‭ ‬سنة‭ ‬خمس‭ ‬وعشرين‭ ‬ومائة‮»‬‭.‬

إن‭ ‬ثمة‭ ‬أسئلة‭ ‬كثيرة‭ ‬تواجه‭ ‬المؤرخ‭ ‬بعد‭ ‬إتمامه‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الفريد‭ ‬في‭ ‬بابه،‭ ‬فالمرويات‭ ‬لم‭ ‬توثّق‭ ‬عادة‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬لولاية‭ ‬العهد،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬معاوية،‭ ‬على‭ ‬حراجة‭ ‬موقفه‭ - ‬رائدا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ - ‬مهّد‭ ‬لها‭ ‬بالتشاور‭ ‬مع‭ ‬كبار‭ ‬أعوانه،‭ ‬ولم‭ ‬يسقط‭ ‬عليها‭ ‬هالة‭ ‬دينية،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بحاجة‭ ‬إليها،‭ ‬حاجة‭ ‬الوليد‭ ‬إلى‭ ‬مثلها‭. ‬كذلك‭ ‬الخلفاء‭ ‬المروانيون‭ ‬الذين‭ ‬أرسوا‭ ‬ثنائية‭ ‬ولاية‭ ‬العهد،‭ ‬كان‭ ‬التداول‭ ‬بهذا‭ ‬التقليد،‭ ‬يتم‭ ‬تلقائيا،‭ ‬وإن‭ ‬شابه‭ ‬اعتراض‭ ‬فلا‭ ‬يتعدى‭ ‬الاحتجاج‭. ‬ولطالما‭ ‬طعن‭ ‬هشام‭ ‬بكفاءة‭ ‬الوليد‭ ‬الثاني‭ - ‬موضوع‭ ‬دراستنا‭ - ‬واتهمه‭ ‬بكل‭ ‬قبيح،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬خلعه،‭ ‬وربما‭ ‬استبطنت‭ ‬حملته،‭ ‬عليه،‭ ‬تشويهًا‭ ‬مقصودًا‭ ‬ظل‭ ‬يتداعى‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬خصومه‭ ‬حتى‭ ‬الثورة‭ ‬عليه‭ ‬وقتله،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬التأسيس‭ ‬لتضخيم‭ ‬مثالبه‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬التاريخية،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬عادة‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬مدخول‭ ‬أو‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه‭.‬

 

الشخصية‭ ‬النافرة

بيد‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬الحائر‭ ‬والمثير،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الوليد،‭ ‬الشخصية‭ ‬‮«‬النافرة‮»‬‭ ‬في‭ ‬المرويات،‭ ‬قد‭ ‬صاغ‭ ‬تلك‭ ‬الوثيقة‭ ‬أو‭ ‬أمر‭ ‬بها،‭ ‬وهو‭ ‬أبعد‭ ‬الخلفاء‭ ‬عن‭ ‬مضمونها،‭ ‬والسؤال‭ ‬قد‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬ثناياه‭ ‬الجواب،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الأسئلة،‭ ‬غالبا،‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تراه‭ ‬الأجوبة‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬التاريخي،‭ ‬ومما‭ ‬يمكن‭ ‬استحضاره‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬خاصة‭ ‬بالوليد،‭ ‬ولكنها‭ ‬استشرت‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬الخلافة،‭ ‬حتى‭ ‬مركزها‭ ‬في‭ ‬الشام‭ ‬أخذ‭ ‬يرهص‭ ‬بانقسامات‭ ‬قبلية،‭ ‬إلى‭ ‬صراعات‭ - ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬إلى‭ ‬العلن‭ ‬حينذاك‭ - ‬كانت‭ ‬تتفاعل‭ ‬داخل‭ ‬الأسرة‭ ‬الحاكمة‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬المرحلة‭ ‬تنذر‭ ‬بالخطر،‭ ‬و«الدولة‮»‬‭ ‬تفتقد‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬القوة‭ ‬والمناعة،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬هشام‭ ‬يغالب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬للحفاظ‭ ‬عليها‭ ‬وإقرار‭ ‬السلام‭ ‬فيها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬ولاياتها‭ ‬البعيدة‭.‬

ولعل‭ ‬هشاما‭ ‬حين‭ ‬تصدى‭ ‬للوليد،‭ ‬آخذا‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬لاستبعاده‭ ‬عن‭ ‬ولاية‭ ‬العهد،‭ ‬كانت‭ ‬تتفاعل‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬الهواجس‭ ‬حول‭ ‬مصير‭ ‬الخلافة،‭ ‬والوليد‭ ‬أيضا‭ ‬كان‭ ‬يدرك‭ ‬ذلك،‭ ‬فلم‭ ‬يدّخر‭ ‬فرصة‭ ‬في‭ ‬استمالة‭ ‬قبائل‭ ‬الشام،‭ ‬مركز‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬،‭ ‬فأجزل‭ ‬لها‭ - ‬ربما‭ ‬وفاقا‭ ‬لنصيحة‭ ‬مروان‭ ‬السالفة‭ - ‬وزاد‭ ‬في‭ ‬أعطياتها‭ ‬أضعافا‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬سلفه،‭ ‬كما‭ ‬ثبّت‭ ‬واليي‭ ‬العراق‭ ‬وخراسان‭: ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬عمر،‭ ‬ونصر‭ ‬بن‭ ‬سيار،‭ ‬متفاديا‭ - ‬لحين‭ - ‬أحقاده‭ ‬الشخصية‭. ‬كما‭ ‬نسب‭ ‬له‭ ‬توجيه‭ ‬أخيه‭ (‬الغمر‭) ‬في‭ ‬حملة‭ ‬إلى‭ ‬قبرص،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬أخبارها‭ ‬ملتبسة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬تفاصيلها‭ ‬ونتائجها‭ (‬الطبري‭ ‬ج7‭ ‬ص227‭). ‬ولعله‭ ‬حين‭ ‬شعر‭ ‬أنه‭ ‬أمسك‭ ‬بزمام‭ ‬السلطة‭ ‬اشتط‭ ‬في‭ ‬التطرف،‭ ‬وأخذت‭ ‬به‭ ‬غرائزه‭ ‬إلى‭ ‬ارتكابات‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭ ‬أساءت‭ ‬إليه،‭ ‬كقتله‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬القسري‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬رجالات‭ ‬اليمن‭ ‬الكبار،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬شغل‭ ‬لوقت‭ ‬طويل‭ ‬ولاية‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬هشام،‭ ‬ثم‭ ‬اعتزل‭ ‬في‭ ‬داره‭ ‬بعد‭ ‬تنحيته،‭ ‬مما‭ ‬جر‭ ‬عليه‭ ‬نقمة‭ ‬الجمهور‭ ‬اليمني،‭ ‬ورواج‭ ‬أخبار‭ ‬مسيئة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬خصومه‭.‬

ومن‭ ‬الراجع‭ ‬أن‭ ‬وثيقة‭ ‬ولاية‭ ‬العهد،‭ ‬إنما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬الدفاع‭ ‬عنه،‭ ‬وليست‭ ‬اقتناعًا‭ ‬من‭ ‬الخليفة‭ ‬بحيثياتها‭ ‬التي‭ ‬توائم‭ ‬شخصية‭ ‬ملتزمة‭ ‬مثل‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭. ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تنسب‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬لسانه،‭ ‬مكثرًا‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬لقب‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬فذلك‭ ‬أمر‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬نقاش‭ ‬طويل،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬حاسمة‭. ‬والمؤرخ‭ ‬في‭ ‬المحصلة‭ ‬في‭ ‬أساس‭ ‬مهمته‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬النص،‭ ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬آخر‭ ‬له،‭ ‬ولكنه‭ ‬ليس‭ ‬محكومًا‭ ‬بالمطلق‭ ‬بتفاصيله‭. ‬فكم‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مدخول،‭ ‬ومن‭ ‬المؤرخين،‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬المصنفين،‭ ‬قد‭ ‬‮«‬توهموا‭ ‬الصدق‮»‬،‭ ‬وغفلوا‭ ‬عن‭ ‬اكتناه‭ ‬الخبر‭ ‬في‭ ‬مناخه،‭ ‬وتفاعلاته‭ ‬في‭ ‬الاجتماع‭ ‬الإنساني،‭ ‬كما‭ ‬أوصى‭ ‬بذلك‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يقول‭ ‬أسد‭ ‬رستم‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬ضاعت‭ ‬الأصول‭ ‬ضاع‭ ‬التاريخ‮»‬،‭ ‬ولكنه‭ ‬القائل‭ ‬أيضا‭: ‬‮«‬شك‭ ‬المؤرخ‭ ‬رائد‭ ‬حكمته‮»‬‭. ‬والخبر‭ ‬التاريخي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬مرجعية‭ ‬المؤرخ،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قراءة‭ ‬ثاقبة‭ ‬تُعقْلِن‭ ‬الخبر،‭ ‬اهتداء‭ ‬بالمقولتين‭ ‬السالفتين،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أدوات‭ ‬خاصة‭ ‬بالمؤرخ‭ ‬تقوده‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬تقارب‭ ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية‭. ‬ولعل‭ ‬تلك‭ ‬‮«‬الوثيقة‮»‬،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مدخولة،‭ ‬فهي‭ ‬طارئة‭ ‬على‭ ‬عهد،‭ ‬مغتربة‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬مغترب‭ ‬عنها،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الشك‭ ‬حاضر‭ ‬فيها‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬النبرة‭ ‬الدينية‭ ‬الطاغية‭ ‬إلى‭ ‬أطروحة‭ ‬الطاعة‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬حيزا‭ ‬واسعا‭ ‬فيها،‭ ‬وهي‭ ‬القمينة‭ ‬بتعزيز‭ ‬موقع‭ ‬الخليفة،‭ ‬وتظهير‭ ‬صورته‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬شائبة‭. ‬وقد‭ ‬جاءت‭ ‬‮«‬الوثيقة‮»‬‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬الحكم‭ ‬الأموي‭ ‬غارقا‭ ‬في‭ ‬أزماته،‭ ‬فلم‭ ‬ينج‭ ‬منها‭ ‬الوليد‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يطل‭ ‬عهده‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬وبضعة‭ ‬شهور،‭ ‬لتصبح‭ ‬الطاعة‭ ‬وهما‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬الأموي‭ ‬الذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تداعى‭ ‬أمام‭ ‬ثورة‭ ‬دموية،‭ ‬كادت‭ ‬تجتثّ‭ ‬الأسرة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬شاءت‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬ينبت‭ ‬لها‭ ‬فرع‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬الأندلس،‭ ‬امتد‭ ‬زمانًا‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثة‭ ‬أضعاف‭ ‬العمر‭ ‬الذي‭ ‬عاشته‭ ‬الدولة‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬‭.