«كتاب ولاية العهد» تقليد فريد في العهد الأموي المتأخر
هو أحد أربعة تقلدوا الخلافة في العهد الأموي لسبع سنوات قبل سقوطه، ومنهم من لم يتعد الشهور في منصبه. ثلاثة لاقوا حتفهم في الصراع على السلطة، والأخير هزم في معركة «الزاب» (123هـ)، وفي أعقابها قتل في مصر، ومعه كانت النهاية المرتقبة لدولة شكّلت تحالفاتها القبلية أحد عناصر استقرارها، كما أبرز عوامل انهيارها.
لم يكن، النظام الوراثي أقل خطورة في انعكاساته السلبية على الخلافة، حيث أصبحت أقرب إلى «ملك» أخلّ بالمعادلة السائدة، من قبل، في العهد الراشدي. يضاف إلى ذلك أن بني مروان الذين تداولوا السلطة جلّ سني الحكم الأموي، ابتدعوا صيغة كانت عبئا عليهم نتيجة التنافس بين الإخوة، وذلك بتسميتهم اثنين لولاية العهد، فلا يكاد الأول يتبوأ الخلافة، حتى يخطط لاستبعاد الثاني وإحلال ابنه مكانه. ولم يخرق هذه القاعدة، سوى بيعة سليمان بن عبدالملك لابن عمه عمر بن عبدالعزيز، في وقت كان الأول في دابق، يتابع أخبار حملته على القسطنطينية، وابنه الوريث، وهو بين قادتها، بعيد عنه، من دون إغفال دور الفقيه رجاء بن حيوة المقرب منه في التأثير عليه، وسوى انقلاب مروان بن محمد، منصّبًا نفسه خليفة بدعم من القبائل القيسية.
وعلى هذا النحو سارت الخلافة المروانية في تداول السلطة، حتى إذا آلت الأخيرة إلى هشام بن عبدالملك، بدا أن متغيرات ستأخذ بها إلى منعطف خطر في نهاية عهده، على الرغم من محاولاته الحثيثة للخروج منه، فقد تمتع هذا الخليفة بكفاءة عالية وشخصية قوية، إلى ذلك فهو أحد أربعة من الكبار، إلى جانب معاوية وعبدالملك والوليد، امتدت فترات حكمهم إلى سبعين عامًا، بينما العشرة الآخرون لم يكن حظهم من السلطة ما يتعدى، إلا قليلا، العشرين من الأعوام. ولعل ما يعنينا في هذا السياق، من قصدناه في البداية، أي الوليد بن يزيد بن عبدالملك، أول الأحفاد من خلفاء الأسرة المروانية، وكان هشام لا ينفكّ دءوبا على التشهير به، والترويج لمثالبه، بغية استبعاده عن ولاية العهد، ولكن محاولاته لم تفلح حين تضافر القيسيون لدعم الوليد، في وقت لم تعد لليمنيين تلك السطوة التي اعتادوها في العهود السالفة، ولاسيما أن هشامًا كان ميالا بصورة ما إلى التوازن في سياساته القبلية، ولكن من دون أن تهتز علاقته مع الاتجاه اليمني.
كتاب غير مألوف
بيد أن الوليد حالفه سوء الحظ، فقد تولى منصبه (125هـ) بعد خليفة قوي لم يكن في حجمه، وربما أُسقط عليه شيء من سلوك أبيه، بل فاقه في مجونه، وفقا للروايات التاريخية.
وليس على المؤرخ الدخول طرفا في المنافحة عن شخصية ما، أو التعريض بها، ولكن من شأنه أساسًا أن يواجه بالمنطق، الحدث، فلا ينقاد إليه أو يستعيد بشوائبه ومغالطاته في عملية سردية عقيمة. وإذا كنت غير معني هنا بصورة الوليد، مشوهة أو غير ذلك، فإن ما يهمني في هذا الصدد، هو «الكتاب» الخاص بولاية العهد المنسوب إليه، وقد بدا في غير موقعه مكانا وزمانا، وغير مألوف في التقاليد الأموية بصدد هذه المسألة.
ومن غير المألوف أيضا في أدبيات الخلافة، أن يتوجه والٍ بتهنئة الخليفة، في كتاب ينوّه بالأخير ويشيد بخلاله، كذلك الصادر عن مروان بن محمد (آخر الخلفاء لاحقا) إلى الوليد مهنئا بالبيعة له. وقد جاء فيه «بارك الله لأمير المؤمنين في ما أصاره (صار) إليه من ولاية عباده، ووراثة بلاده. وكان من تغشّى غمرة سكرة الولاية، ما حمل هشامًا على ما حاول من تصغير ما عظّم الله من حق أمير المؤمنين، ورام من الأمر المستصعب عليه، الذي أجابه إليه المدخولون (من دخل عقله الفساد) في آرائهم وأديانهم، فوجد ما طمع فيه مستصعبًا، وزاحمته الأقدار بأشد مناكبها. وكان أمير المؤمنين بمكان من الله حاطه فيه حتى أزّره بأكرم مناطق الخلافة، فقام بما أراه الله له أهلا». ويضيف أخيرًا: «وقد بسطت يدي لبيعتك، فجددتها ووكدتها بوثائق العهود وترداد المواثيق وتغليظ الأيمان. فكلهم حسنت إجابتهم، فأثبهم يا أمير المؤمنين من مال الله الذي آتاك، فإنك أجودهم وأبسطهم يدا..» (الطبري ج7 ص216 - 217).
تعاطف وبيعة
وبصرف النظر عن الصياغة، سواء في الكتب، أو الخطب، أو المراسلات، وما يحيط بها من شكوك، لبعد الزمن عن أصحابها، وبالتالي عن دور المصنفين في تدبيجها، فإن ما يلفتنا هو الموقف المتعاطف جدا من مروان مع الخليفة الجديد، والمسارعة إلى بيعته، منددًا بمحاولة هشام لتصغير شأن الوليد وعدم أهليته للخلافة، بما يتيح له تجريده من ولاية العهد. وفي المقابل كان مروان مسهبا في تقريض الوليد، ليس إعجابًا به، ولكنه رأى فيه ما يمهد له الطريق إلى الحكم، ولاسيما أن الاثنين يجمعهما التحزّب للاتجاه القيسي.
وكأن مروانا، وهو حفيد مروان الأول، مؤسس الخلافة في أسرته، قد أوحى في كتابه بوجوب إعادة الاعتبار لموقع الخلافة، وترسيخ التقاليد التي ظلت في حالة انسيابية، لم يعكرها الصراع على ولاية العهد، حتى كان ذلك الموقف من هشام الذي شن حملة شرسة على الوليد. ومن الراجح أنها لم تَخْلُ من ردة فعل مماثلة في جبهة الوليد القيسية، إلى نخب من الفقهاء المتعاطفين معه، الأمر الذي أدى إلى طرح موضوع الخلافة، وذلك بتحصينها مما يمس ثوابت النظام. وحتى لا تبقى ولاية العهد أسيرة أمزجة الخلفاء، بادر الوليد مستعينا بفقهائه، إلى صياغة نظرية بشأنها، ترتكز على مبدأ الطاعة لأمير المؤمنين، الحاكم بإرادة الله ومشيئته، على نحو يكسب الخلافة قدسية لم تصل إليها في سالف الأحقاب الأموية. وقد تزامنت هذه «الوثيقة» مع الدعوة إلى البيعة لابني الوليد (الحَكَم وعثمان) بولاية العهد، في وقت كانت الخلافة تعاني أزمات حادة. ومن هذا المنظور، فإن الإسراع في تعميمها على الأمصار، ربما كان يرمي إلى إعادة تأهيل المعادلة، التي بلغت ذروتها في عهد عمر بن الخطاب، وإن بدت هذه المحاولة، حينذاك، ضربًا من المحال.
الطبري ينفرد
هذه «الوثيقة» انفرد بتصنيفها الطبري، حتى أنها لم ترد في «كامل» ابن الأثير الذي اقتبس غالب رواياته عنه. وثمة ما يلفت أن شيخ المؤرخين، خلافا لطريقته في الإكثار من الأسانيد، يكاد يغفلها عن الوثيقة، إلا من إشارات عابرة، مثل قوله: حدثني أحمد بن زهير.. وقد يكتفي لصفحات عدة بذكر الاسم الأول (أحمد)، وفي ما يخص الوليد، فقد أخذ الطبري معظم أخباره عنه، كما رجع إليه أيضا في كتاب ولاية العهد الصادر عن الخليفة في السنة عينها لولايته (125هـ)، عاقدا البيعة لابنيه السالفين، واحدا بعد الآخر، ثم أبلغ بذلك الولاة في الأمصار، بدءا بيوسف بن عمر الثقفي (العراق)، فكتب هذا بدوره إلى نصر بن سيار (خراسان) لنشر الكتاب في أرجاء ولايته: «من يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار، أما بعد فإني بعثت إليك نسخة كتاب أمير المؤمنين. فإذا فرغت فقم بقراءة الكتاب، وائذن لمن أراد أن يقوم بخطبة، ثم بايع الناس لهما على اسم الله وبركته، وخذ عليهم العهد والميثاق».
وليست مصادفة أن يبدأ الخليفة بتعميم وصيته في هذه الجهات، حيث مركز الثقل في «الدولة»، عدا أن وجود عاملين بارزين، مارسا الإدارة بكفاءة منذ عهد هشام، وكلاهما ينتمي إلى الاتجاه القيسي، ما يساعده على تثبيت النفوذ الأموي، الآخذ في التصدع حينئذ، ولاسيما في خراسان.
نبرة تفخيمية
لقد صيغ الكتاب - الوصية بأسلوب غير معهود في الأدبيات الأموية، وخصوصا في النبرة التفخيمية، والنمط الترشيدي المباشر، مما لا يبدو سائغا في تلك المرحلة أو معبِّرا عنها. ولعل فريقا من الفقهاء انكبوا عليه، وتعمدوا إظهاره مفعما بنفَس قرآني، إلى رؤية لا يكتنه بُعدها سوى الراسخين في علوم العقيدة، بما في ذلك المنهج الانسيابي والمصطلحات الدقيقة.
كذلك امتاز «الكتاب»، بإسهابه إذ بلغ نحوًا من ست صفحات، أحاطت بالموضوع، وفي صميمه ولاية العهد، معززا، بالقرائن والمسوّغات، مما سيرد في ضوء المناقشة لهذه الوثيقة الفريدة:
«أما بعد، فإن الله تباركت أسماؤه، وجل ثناؤه، وتعالى ذكره، اختار الإسلام دينا لنفسه وجعله دين خيرته من خلقه، ثم اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، فبعثهم به وأمرهم به، وكان بينهم وبين من مضى من الأمم، وخلا من القرون قرنا فقرنا، يدعون إلى التي هي أحسن، ويهدون إلى صراط مستقيم، حتى انتهت كرامة الله في نبوته إلى محمد صلوات الله عليه.. ثم استخلف خلفاءه على منهاج نبوته.. فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله من أمر أنبيائه واستخلفهم عليه منه، لا يتعرض لحقهم أحد إلا صرعه الله، ولا يفارق جماعتهم أحد، إلا أهلكه الله، ولا يستخف بولايتهم، ويتهم قضاء الله فيهم أحد إلا أمكنهم الله منه.. وجعله نكالا وموعظة لغيره، وكذلك صنع الله بمن فارق الطاعة التي أمر بلزومها والأخذ بها.. قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (11) سورة فصلت.
ولعل، في ما سلف، تمهيدًا، من منظور إسلامي، لتعاقب الأنبياء، إنقاذًا للبشرية من الظلم والفساد، وهديا لها إلى الصراط المستقيم، حتى آل الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، دينا ونظاما متكاملين، ثم - وهو المراد من هذه التوطئة - «استخلف خلفاءه على منهاج نبوته». أما الإشكالية المحورية فتتجلى في موضوع الخلافة، بنيانًا ثابتًا لإقامة سنته (الرسول)، والعدل في العباد، والإصلاح في البلاد».
ليس في ما ورد في الكتاب بهذا الشأن، سوى تنظير للخلافة، انطلاقا من تجربة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتي سار فيها شوطا الخلفاء الراشدون. فهي الصورة المثالية، من حيث المبدأ، لمنظومة السلطة في الإسلام، إلا أن تطبيقها على أرض الواقع لا يتّسم بالواقعية، ولا يتفق مع القول عن تتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه. ولم يدّع أحد من السلف بأنه خليفة الله، سوى أبي جعفر المنصور، ومن قبل اكتفى أبوبكر بلقب خليفة رسول الله، ثم اختار عمر أن يُسمى بأمير المؤمنين الذي عُرف به أيضا عثمان، امتدادا إلى بقية الخلفاء، مع غلبة لقب «الإمام» على الخليفة الراشدي الرابع (علي).
السلطة والطاعة
وكان الوليد يدرك أن الخلافة تقاذفتها الأهواء وضعضعتها الصراعات، ولم تعد محصّنة من النقد، حتى من أقرب حلفائها التقليديين. وفي ضوء ذلك كان التشديد على «الطاعة»، فرضا من الله، ووجوبًا بالالتزام بها، إذ عليها تستقيم أمور السلطة، وعلى العكس من دونها تتهاوى وتؤول إلى السقوط. وقد أعطى «الكتاب» حيزا واسعا لهذه المسألة، لكونها مرتبطة عضويا بالخلافة، كما جاء في سياق النص: «فبالخلافة أبقى الله من أبقى في الأرض من عباده، وإليها صيّره، وبطاعة من ولاه إياها سعد من ألهمها ونصرها، فإن الله عز وجل، علم أن لا قوام لشيء، ولا صلاح له، إلا بالطاعة التي يحفظ الله بها حقه ويمضي بما أمره. فمن أخذ بحظه منها كان لله وليا، ولأمره مطيعا، ولرشيده مصيبا، ومن رغب عنها أضاع نصيبه وعصى ربه وخسر دنياه وآخرته».
ولا ينفك «الكتاب» يشج عضويا، بين الخلافة والطاعة، لتصبح الأخيرة آلة الأولى وأسّ وجودها وضمانة استقرارها. ولطالما تكررت بهذا المعنى في ثناياه، ومن ذلك: «الطاعة رأس هذا الأمر وذروته وسنامه وملاكه وزمامه. وبالطاعة نال المفلحون من الله منازلهم واستوجبوا عليه ثوابهم، وفي المعصية ما يحل بغيرهم نقماته ويصيبهم عليه، ويحق (ينزل) من سخطه وعذابه، ويترك الطاعة والإضاعة لها بالخروج منها والإدبار عنها والتبذل بها، أهلك الله من ضل وعتا وعمى وغلا وفارق مناهج البر والتقوى».
وترتفع نبرة التشديد على الطاعة من التوجيه، إلى الأمر، والتحذير من عواقب خرقها، لأن في ذلك تهديدًا للأمة، مقترنًا بمعصية الله، كما جاء في هذا المقطع من «الكتاب»: «فالزموا طاعة الله في ما عراكم ونالكم وألمّ بكم من الأمور وناصحوها واستوثقوا عليها، وسارعوا إليها وخالصوها، وابتغوا القربة إلى الله بها، فإنكم قد رأيتم مواقع الله لأهلها في إعلائه إياهم.. ودفع باطل من حادهم وناوأهم وساماهم، وأراد إطفاء نور الله الذي معهم». هذا بالنسبة للطائعين، أما المخالفون (أهل المعصية)، فقد ضرب بهم الله مثلا حين آل «أمرهم إلى تبار وصَغَار وذلة وبوار».
وهكذا، فبالطاعة هدى الله الأمة إلى الأفضل، فتنعم حينئذ بالوحدة والاستقرار والرخاء والعدل وحقن الدماء. يريد بذلك صاحب الكتاب أو محرره، تكريس الخلافة على أنها هي خلافة الله، و«العهد الذي ألهم الله - والقول له - خلفاءه توكيده والنظر للمسلمين في جسيم أمرهم ليكون لهم عندما يحدث بخلفائهم ثقة في المفزع وملتجئا في الأمر.. وتثبيتا لأرجاء الإسلام». وثمة ما يؤخذ على هذا الكتاب، ليس تكرار مفردة الطاعة فحسب بل توتر الأفكار عينها في محاسن الطاعة ومساوئ المعصية. فالمطيعون هم جماعة الله، والعاصون «لا يريهم ربهم إلا ما ساءهم» وفاقًا لما ورد فيه. وما يلفت في هذا السياق، تدرّج الأفكار من أطروحة الخلافة، بما هي شأن إسلامي عام، إلى نمط آخر يجري إلباسه أفكارا مفتعلة من وحي الأولى، لإكسابه شرعية لم تكن في متناوله حينذاك. وليست مصادفة إثارة هذه المسألة، بالتزامن مع إعلان ولاية العهد، مدخلا إلى تظهير الخلافة في بعدها الإلهي، ما يستدعي الرضوخ المعبَّر عنه بالطاعة الملزمة.
ترويج مبالغ به
وفي هذا الشأن، كان الترويج المبالغ فيه للخلافة، بما يوائم تلك الهالة التي رافقت المناسبة، وهي حينئذ في أمسّ الحاجة إلى تحسين صورتها أمام الرعية. ومن هذا المنظور جاء الكتاب، الصادر عن الخليفة، بمنزلة رسالة تحذير إلى الرعية المنقسمة، وبعضها على وشك التمرد، ما يفسر التوكيد على مبدأ الطاعة التي شكلت محور «الكتاب». إلى ذلك، رأت - أي النخبة - في ولاية العهد، سبيلا إلى تدارك الأخطار قبل وقوعها، ما يتطابق مع القول الآتي: «فأمر هذا العهد من تمام الإسلام، وكمال ما استوجب الله على أهله من المنن العظام، ومما جعل الله فيه لمن أجراه على يديه، وقضى به على لسانه، ووفّقه لمن ولاّه هذا الأمر عنده أفضل الذخر، وعند المسلمين أحسن الأثر في ما يؤثر بهم من منفعته.. ويستندون إليه من عزه.. ويحرزهم به من كل مهلكة، ويجمعهم به من كل فرقة، ويقمع به أهل النفاق ويعصمهم به من كل اختلاف وشقاق».
ومما يلحظ أيضا في «الكتاب»، الإكثار من ذكر الله تعالى، فلا تكاد عبارة تخلو منه، وكأنه الراعي لهذا «العهد» الذي وصف أمره «من تمام الإسلام»، كما سبقت الإشارة، والخليفة - وفق الرواية - إنما أقدم على هذه البيعة، بوحي من الله: «ثم إن أمير المؤمنين لم يكن منذ استخلفه الله بشيء من الأمور، أشد اهتمامًا وعناية بهذا العهد، لعلمه بمنزلته من أمر المسلمين، وما أراهم الله فيه من الأمور التي يغتبطون بها».
وبهذه الرؤية الذائبة في الله، «رأى أمير المؤمنين - والقول موجه إلى الرعية - أن يعهد لكم عهدا بعد عهد (المقصود هنا البيعة للحكم ثم لعثمان) تكونون فيه مثل الذي كان عليه من كان قبلكم، في مهلة من انفساح الأمل وطمأنينة النفس وصلاح ذات البين.. الأمر الذي جعله الله لأهله عصمة ونجاة وصلاحا وحياة، ولكل منافق وفاسق يحب تلف هذا الدين وفساد أهله، وقْما وخسارًا وقَدْعًا».
وينتهي «الكتاب» بدعاء أمير المؤمنين وتضرعه، بأن يجعل عاقبته عافية وسرورًا وغبطة. ثم تعقب ذلك إشارة إلى محرر «الكتاب» (سمال)، مؤرخًا يوم الثلاثاء لثمان بقينَ من رجب سنة خمس وعشرين ومائة».
إن ثمة أسئلة كثيرة تواجه المؤرخ بعد إتمامه قراءة هذا النص الفريد في بابه، فالمرويات لم توثّق عادة بهذه الطريقة لولاية العهد، حتى أن معاوية، على حراجة موقفه - رائدا في هذه المسألة - مهّد لها بالتشاور مع كبار أعوانه، ولم يسقط عليها هالة دينية، ما كان بحاجة إليها، حاجة الوليد إلى مثلها. كذلك الخلفاء المروانيون الذين أرسوا ثنائية ولاية العهد، كان التداول بهذا التقليد، يتم تلقائيا، وإن شابه اعتراض فلا يتعدى الاحتجاج. ولطالما طعن هشام بكفاءة الوليد الثاني - موضوع دراستنا - واتهمه بكل قبيح، ولكنه لم ينجح في خلعه، وربما استبطنت حملته، عليه، تشويهًا مقصودًا ظل يتداعى في وعي خصومه حتى الثورة عليه وقتله، فضلا عن التأسيس لتضخيم مثالبه في الروايات التاريخية، وهي لا تخلو عادة مما هو مدخول أو مبالغ فيه.
الشخصية النافرة
بيد أن السؤال الحائر والمثير، أن يكون الوليد، الشخصية «النافرة» في المرويات، قد صاغ تلك الوثيقة أو أمر بها، وهو أبعد الخلفاء عن مضمونها، والسؤال قد يحمل في ثناياه الجواب، إذ إن الأسئلة، غالبا، ترى ما لا تراه الأجوبة في البحث التاريخي، ومما يمكن استحضاره في هذا السياق، أن الأزمة لم تكن خاصة بالوليد، ولكنها استشرت في أرجاء الخلافة، حتى مركزها في الشام أخذ يرهص بانقسامات قبلية، إلى صراعات - وإن لم تظهر إلى العلن حينذاك - كانت تتفاعل داخل الأسرة الحاكمة. فقد كانت المرحلة تنذر بالخطر، و«الدولة» تفتقد كثيرًا من عناصر القوة والمناعة، والتي كان هشام يغالب من دون جدوى، للحفاظ عليها وإقرار السلام فيها، خصوصًا في ولاياتها البعيدة.
ولعل هشاما حين تصدى للوليد، آخذا بكل الوسائل لاستبعاده عن ولاية العهد، كانت تتفاعل في ذاته الهواجس حول مصير الخلافة، والوليد أيضا كان يدرك ذلك، فلم يدّخر فرصة في استمالة قبائل الشام، مركز القوة في «الدولة»، فأجزل لها - ربما وفاقا لنصيحة مروان السالفة - وزاد في أعطياتها أضعافا عما كان في عهد سلفه، كما ثبّت واليي العراق وخراسان: يوسف بن عمر، ونصر بن سيار، متفاديا - لحين - أحقاده الشخصية. كما نسب له توجيه أخيه (الغمر) في حملة إلى قبرص، وإن كانت أخبارها ملتبسة في ما يخص تفاصيلها ونتائجها (الطبري ج7 ص227). ولعله حين شعر أنه أمسك بزمام السلطة اشتط في التطرف، وأخذت به غرائزه إلى ارتكابات غير مبررة أساءت إليه، كقتله - على سبيل المثال - خالد بن عبدالله القسري وهو من رجالات اليمن الكبار، وكان قد شغل لوقت طويل ولاية العراق في عهد هشام، ثم اعتزل في داره بعد تنحيته، مما جر عليه نقمة الجمهور اليمني، ورواج أخبار مسيئة له على جبهة خصومه.
ومن الراجع أن وثيقة ولاية العهد، إنما كانت في معرض الدفاع عنه، وليست اقتناعًا من الخليفة بحيثياتها التي توائم شخصية ملتزمة مثل عمر بن عبدالعزيز. إما أن تنسب له أو جاءت على لسانه، مكثرًا من استخدام لقب أمير المؤمنين، فذلك أمر يحتاج إلى نقاش طويل، قد لا ينتهي إلى نتيجة حاسمة. والمؤرخ في المحصلة في أساس مهمته العودة إلى النص، ولا سبيل آخر له، ولكنه ليس محكومًا بالمطلق بتفاصيله. فكم من الأخبار ما هو مدخول، ومن المؤرخين، أو لنقل المصنفين، قد «توهموا الصدق»، وغفلوا عن اكتناه الخبر في مناخه، وتفاعلاته في الاجتماع الإنساني، كما أوصى بذلك ابن خلدون.
وفي هذا السياق، يقول أسد رستم: «إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ»، ولكنه القائل أيضا: «شك المؤرخ رائد حكمته». والخبر التاريخي من هذا المنظور، مرجعية المؤرخ، ولكن هذه لا تستقيم من دون قراءة ثاقبة تُعقْلِن الخبر، اهتداء بالمقولتين السالفتين، إضافة إلى أدوات خاصة بالمؤرخ تقوده إلى نتائج تقارب الحقيقة التاريخية. ولعل تلك «الوثيقة»، إن لم تكن مدخولة، فهي طارئة على عهد، مغتربة عنه أو مغترب عنها، كما أن الشك حاضر فيها سواء في النبرة الدينية الطاغية إلى أطروحة الطاعة التي اتخذت حيزا واسعا فيها، وهي القمينة بتعزيز موقع الخليفة، وتظهير صورته بعيدا عن أي شائبة. وقد جاءت «الوثيقة» في وقت كان الحكم الأموي غارقا في أزماته، فلم ينج منها الوليد الذي لم يطل عهده أكثر من سنة وبضعة شهور، لتصبح الطاعة وهما في ما تبقى من العهد الأموي الذي سرعان ما تداعى أمام ثورة دموية، كادت تجتثّ الأسرة الحاكمة، لولا أن شاءت الأقدار أن ينبت لها فرع جديد في الأندلس، امتد زمانًا نحو ثلاثة أضعاف العمر الذي عاشته الدولة الأم في المشرق .